مما تميزت به رؤية كُولن الدعوية، تجنّبها للمواجهات العنيفة، ومجافاتها للغلظة الإجرائية في المنهج الدعوي وفي الحياة التي تربي عليها الأجيال. فهي دعوة رزينة، متّزنة، بقدر ما حرصت على الدينامية والاستثمار الحاسم للوقت والفرص والإمكانات في بث الدعوة ونشر برامجها، بقدر ما هي حريصة على التوثق لخطاها والتثبّت لخططها، والتبصر لمشاريعها التبليغية والتكوينية. ذلك لأن كُولَن يرى أن الإسلام دين الله الذي لا تزحمه المواعيد ولا تربكه الرزنامات، فلا ميقات محددًا لانتشاره، ولا أجل مضبوطًا لاستتبابه على البسيطة، فهو دين ليس مرتبطا بجيل بعينه ملزم باستكمال نشره في الآفاق وبين العالمين، إنما الإسلام عقيدة هيّأتها المشيئة الإلهية لأن تكون دين الإنسانية. ولقد اقتضت السنن الإلهية أن الهداية الروحية تستقطب البشر كلما ازداد شعورهم بالحاجة والضياع واللّاأفق.

 الاستجابة لنداء الفطرة:

هناك يُقلِّبون النظر في الأرجاء، يتطلّعون لعل أن يسعفهم صوتٌ يضعهم على الجادة. وما أكثر ما يتوهّمون في الْتماعات السراب أدلّة وهداة، لكنها لا تلبث أن تتراءى لهم مجرّد أشباح لا حقيقة لها. عندئذ يهرعون إلى السماء، إلى تبني كمالات الشرع، والاستجابة إلى نداءاته. ولقد استقر الإسلام في البقاع التي دخلها، وتجذر بين الأمم التي ذاقت شَهْدَهُ، لأنها وجدته يجسد السقف الأعلى من المكارم والمثل التي تُكبرها الفطرة ويُؤْثِرها الحسُّ السليم. من هنا استمر تقديس هذه الأمم لدينها، لا تزيده الصروف والأطوار، مهما تردّت وقست، إلا تغلغلا في النفوس، وتمكنا في الضمائر.

 لقد استقر الإسلام في البقاع التي دخلها، وتجذر بين الأمم التي ذاقت شَهْدَهُ، لأنها وجدته يجسد السقف الأعلى من المكارم والمثل التي تُكبرها الفطرة ويُؤْثِرها الحسُّ السليم.

وإن الهزائم والتراجعات والتمحيصات التي ما فتئت الشعوب المسلمة تلقاها منذ قرون من الانحطاط، لا يجد لها المسلمون بمختلف مشاربهم وطبقاتهم تقريبا، من تبرير إلا في حيدتهم هم عن النهج الشرعي، ومجاوزتهم للقواعد والأسس التي وضعها الإسلام أرضية للحضارة ولدوام سعادة الإنسان.. فلا يزال المسلمون يُحمِّلون أنفسهم مسؤولية التخلّف والقعود على الهامش والعجز المخزي وافتقاد الكرامة الشنيع، وليس الإسلام الذي يوقنون أنه كفل لهم في الماضي السؤدد، وأن من شأن العودة إلى حظيرته، أن تعيدهم إلى السبيل القويم الذي أهّلهم إليه القدَر، باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتَنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

 التؤدة في العمل:

بهذه القناعة يرجح كولن النشاط الدعوي الهادئ الدؤوب، على العمل المنفعل المعرض للتقطع والتعطل.. فلئن تستمر في التقدم بثبات ومردودية، أفضل من أن تقفز بعجلة لكن بمجازفة ومن غير ما طائل. إن السداد في تنفيذ الخطط والبرامج يتعزز ويعطي نتائجه حين يترسخ في صورة حراكات متصاعدة الفعل، ووتائر متلاحقة الأداء، وتوسعات متزايدة المساحة، وقطاعات مترابطة الأواصر. فبذلك التواشج العضوي، والدأب المسترسل بلا هوادة ولا خلل، يتم البناء ويَطَّرد سبيلُه، ويضحى نهجا مدنيا تغتني به حياة الأفراد والمجتمع، وتكتسب صبغة الاحتسابية التي تضمّنتها الآية القرآنية في قوله تعالى موجّها الأمة إلى ما يحقق سعادتها في الدارَين ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ﴾(التَّوْبة:105).

 إن شرط الخلوص القلبي الذي يُمَعْيِرُ به كُولن الجهد والخدمة، هو الذي تغدو فيه رقابة الله للفعل الذي نؤديه، وللعمل الذي ننجزه، هي ما يحكمنا ويحدونا في مهامنا قبل أي رقابة أخرى تتابعنا أو تفتّش وراءنا.

يري “كُولن” أن الانخراط القلبي في تنفيذ المهام يجعل الفرد يعيش الإنجازات مخطوف الأعماق، إذ إن التمرّس بالإخلاص والتفاني في حسم ما نواجه من مأموريات الدعوة، وما يسند إلينا من واجبات، أو ما نرسمه من أهداف، يكسبنا تلك الخاصية الروحية التي نغدو بها على حالة من التجنيح العميق كلما باشرنا العمل وبادرنا إلى البذل. إنها نفسية المحارب الباسل حين يدخل المعركة، إذ يحياها بمواجد لا يعود يعي في خضمها شيئا من الوجود، إلا تحقيق النصر أو الظفر بالشهادة.

———————————–

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 169-171.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts