عندما ينسج الطفل خيال ثياب مذكراته الطفولية، ويحيك بها وشاحًا من اللؤلؤ الأبيض، يبقى هنالك خيط مشع يلتصق بثنايا الروح، لعله الخيط الذي يربطني ببيت جدي.. البيت الذي تعانقت فيه أرواح وأجساد المحبين، بما غمرها من نشوة عشق الوصال، في مدارج السالكين.

كانت صبيحة عيد فطر، وهو العيد الذي نجتمع فيه في بيت جدي، حيث فضاء الغرف الممتدة الواسعة، والمزينة بمفارش متحفية، مزركشة بألوان فضّية، وأثاث ينطق بلقاء وتمازج الحضارات.. مزهرية سورية.. زربية تركية.. مفارش لبنانية.. ومرايا ولوحات من كل البلدان التي كان يجوبها جدي، ترحالا وعناقا روحيا…

جدي سيدي طلحة، المتصوف المحب لأهل الذكر، والزهد والورع، حفيد العالم المجاهد طلحة الدريج الأنصاري، جيش آلاف الجنود لغزو البرتغال، والدفاع عن حصن الإسلام بمنطقة سبتة ما بين 1426 و 1429م.

كنت أعشق اللعب بجوار النافورة، المنحوتة بفسيفساء أزرق، ممزوج طينه بصفار فاقع لونه، تظهر أشعة الشمس، بنسيج خطوطها الممتدة نحو الماء، تحيط بها نباتات وأشجار صغيرة من كل الزوايا، تعانقها الأزهار برائحة الفل والورد والياسمين، تسحرني بهدوء بركتها التي كنت أراها نهرا ممتدا.. أمرح، وألعب، وأسبح داخلها، كأنها لؤلؤة زمردية، تزين طوق فناء البيت. عند الشروق، كانت تغمرها أشعة الشمس، لتشرق معها آمال جديدة. وعند الغروب، كانت الشمس تودعها، وتودع من يحيط بها من نساء البيت، وهي تبتسم لي ابتسامة، تتلاشى شيئا فشيئا، من وراء ستائر الغيوم، على أمل اللقاء في اليوم القادم.

*           *           *

غرفة جدي كان فيها سر سحري، يلحق بمن يقترب منها، فيطير بمشاعره على أجنحة بساط سحري، لحن صوته تعانقه رنة الإخلاص.. الحب، الثقة، رشفة الذكر بمسبحته الكستائية، تحرك فيوضات روحه، فتنهمر الدموع، كما تتهاطل الأمطار مع غيوم سوداء.

كنت أسأل مرارا أمي عن سر بكاء جدي؟ فتجيبني “جدّك -بنيتي مريم- تسكن روحه محبة الجهاد والمجاهدة، الجهادُ بنيتي ورثه من أسرة أجدادك، من بني الدراج الذين استقروا بغرناطة، ومنها نزحوا إلى مدينة سبتة في بداية القرن السابع الهجري، حيث نصب جدك، العلامة أبو عبد الله الدراج، خطيبا وقاضيا لسبتة 693 هـ، وقد كان أحد الناجين من “المدينة المحتلة” ومن المذبحة الرهيبة التي أعقبت سقوطها في يد الصليبيين سنة 818 هـ – 1415م. أدى به حال المجازر الصليبية، إلى النزوح بثروته بعد وفاة والده، من سبتة إلى مدينة تطوان، ومن منطقة أنجرة الغربية بموضع ملوسة، حيث اختار خلوته، وسخر ثروته لشراء السلاح والعتاد، ووظف علمه وورعه، لشحذ همم المريدين. فانطلق فارسا موحدا في حملته العسكرية لملء فراغ الساحة الجهادية.

جدك طلحة الدريج السبتي مريم، نزح إلى تطوان أواسط القرن السابع الهجري، جراء التعذيب والشنق، الذي لقية المسلمون من مجازر محاكم التفتيش الصليبية. كان معاصرا لعبد الرحمن الجزولي، وأحمد بن سلام بن مرزوق المجكسي. وقد شاركا إلى جانبه في العديد من الغارات الجهادية بين 1420 و 1429 م. ومن تطوان تزعم فقيه وقاضي سبتة قيادة المقاومة بثلاث حملات جهادية. الحملة الأولى بنيتي في 1427م حيث عبأ فيها نحو أربعمائة من الفرسان، وآلافًا من المشاة، اقتحم بها ميدان سبتة في مقاومة الغزو الصليبي والوجود الأجنبي. والحملة الثانية، 1428م وزع فيها الطلائع السبعة من المجاهدين، على كتلة شبه جزيرة قصر أفراك، فتراجع البرتغاليون بقيادة بيدرو دي مينيسس، وتقدم المجاهدون إلى موضع “الميرة” (porto lameira)، حيث امتد زحفهم إلى برج المشنوقين (torre dos enforcados). وفي هذه الحملة وقع جدك -صغيرتي- في الأسر إلى أن افتداه الفقيه الفكاك مع خمسين من رفاق دربه في الجهاد. أما الحملة الثالثة عام 832هـ – 1429م فتمكن فيها من العودة بأتباعه من المريدين الجزوليين إلى ميدان سبتة.

في الحملة الثانية التي أسر فيها جدك، حدثت كرامات، لم يذكرها عن نفسه، وإنما حكاها لنا مجموعة من قيادات الجيش البرتغالي والإسباني، الذين جاءوا إلى مقامه لزيارته. قالوا لنا: إن أحد قادة الجيش البرتغالي حاول التعدي على جدك بتعذيبه أثناء الأسر، فخرجت طلقة بارودة لا يعلم مصدرها، ووجهت لصدره، فألقي صريعا على الأرض. هناك هلل مجموعة الجنود الذين شهدوا الحادثة، بصوت جماعي “ولي ولي” (santo.. santo). منذ ذلك الحين، يقصد العديد من أبناء وحفدة الجنود الإسبان ضريحه، ويقيمون له موسما سنويا”.

على صغر سني لم أستوعب كيف يقيمون له موسما، وهو من كان يجاهد ضدهم دفاعا عن أرضه، وصدا لغزواتهم الصليبية! فسألت أمي عن السبب. فأجابت أمي قائلة: “صغيرتي، أحسنت السؤال.. فالزوار الأوائل كانوا يعلمون حقا مكانة هذا المجاهد العظيم، ومنهم من حضر كراماته أثناء أسره في سبتة، على يد “ضون ضوارتي”. لكن بعد ذلك تعمدت سياسة الاستعمار الإسباني في الشمال، إقامة المواسم الاحتفالية بالأضرحة، مع نشر طقوس الشعوذة ومراسيم الذبائح، تخديرا لعقول أبناء المنطقة، ومحاولة للقضاء على مسار تاريخ المجاهدين وتحويله إلى مواسم طقوس احتفالية، تذبح فيها الذبائح وتقدم القرابين، وتعلق الأعلام، فتطمس بعد حين من الزمن حلقات من جهاد الأبطال، وتخلط سيرتها بشخصيات أسطورية خرافية، أقيمت لها أضرحة على أزمن متباعدة.. ألم أوضح لك الصيف الماضي، عندما كنا في زيارة قصر الحمراء، بغرناطة، أن هناك معالم إسلامية تتعمد السلطات الإسبانية محوها من ذاكرة المكان؟!”.

كنت أمعن النظر في ملامح وجهها، وأنا أردّد “نعم أمي أتذكر جيدا”.

أمي: “الله يرضي عليك يا مريم، هكذا أريدك أن تتذكري تاريخ مجد حضارتك. هكذا عاش أجدادك مريم بالجهاد والمجاهدة، مجاهدة العدو، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس.. فكيف تسأليني صغيرتي اليوم عن حال جدك مع البكاء؟ كيف تسأليني عن سر مجاهدته وهو سليل البيت الذي خرج من فنائه أبطال الجهاد؟! ففي هذا البيت عاش جدك المجاهد، زاهدا، مجاهدا، بماله وعلمه وعرفانه، إلى أن توفي به ودفن في الضريح المجاور له.. هنا بخندق الفرجة خارج باب النوادر، سفح جبل درسة حيث نجتمع اليوم صغيرتي”.

في مساء ذلك اليوم، تعرفت على تاريخ أجدادي، وشاءت الأقدار أن أسمع من جدي قصصا تصلني من مقام رباطه، إلى أرض رباط محمد الفاتح..

بعد مغادرة الوفود من ضيوف مباركة العيد، وتجديد ميثاق المحبة والوصال، أحس جدي أن أهل بيته من خدام الزاوية، أرهقهم التعب من كثرة الاستقبال، وخدمة الضيوف.. فدعا كل أبنائه وأحفاده لشرب الشاي، وسط عقد الدار، حيث النافورة الحبيبة، تداعبني عن بعد، وترسل لي إشارات القدوم إلى حوض مائها، لمؤانستها بعد غروب شمس يوم حافل بزيارات أبعدتني عن حضنها.

تربع جدي فوق اللحاف الأخضر المزركش بالطرز الرباطي الأصيل.. جلبابه الأبيض الناصح يزيده بهاءا ونورا.. وجهه المستدير، كدائرة القمر، يضيء فسحة الأمل في لقاء المحبين.

بدأ جدي حكيه عن رحلاته في طلب العلم، وحج بيت الله الحرام، بينما كنت ألتهي بدمية على شكل عروسة تطوانية، أحاول في شرود تام، إعادة عقد أقفال قفطانها، بعدما انسحب من خصرها.

يتابع جدي تفاصيل رحلاته من الجزائر إلى مصر إلى سوريا ولبنان، فعمان والأردن فأوروبا، ليستوقفني فقط حديثه عن تركيا.

كعادة الأطفال، عدم الدقة في التركيز لفترات طويلة، كنت ألهو وأمرح، وأقف للحظات قليلة، أحاول تتبع ما يحكي عن بلد أحسست أن لغة عشق غير عادية، تحرك أعماق جدي وهو يخبر الحاضرين، عن سحر أسراره، لدرجة توقعت معها أن تركيا سيدة حسناء فتنت جدي بسحر جمالها…

فجدي يتحدث عنها بلغة الهائم، بروحه ووجدانه.. يطوف بين جنبات فضاءاتها، ومساجدها، وتكاياها، يسرد تفاصيل لقاءاته، بأهل العلم والذكر والمحبة.. شدني أسلوب السرد والحكي، تربعت على ركبتي جدي.. حضنت بحنان دميتي، وأدركت أنني منخرطة، في حضرة جلال ما يحكي عن أهل تلك البلاد.

أخبرنا جدي عن أعمامي من بلد أبي أيّوب الأنصاري، ومحمد الفاتح، وعن لقاءاته المتكررة بأعلامهم في تكايا الذكر، ومجالس العلم والصحبة. كنت متحمسة لمواصلة سماع ما يحكي، مشدودة الانتباه، لتغير ملامح وجه جدي، وهو يحكي باتقاد مشاعر غير عادية، قصص ساعات طويلة، من العناق الروحي، والوجداني، بمشايخ العلم، والزهد والورع.

سألت جدي يومها ببراءة سؤال الطفولة: “جدّي أخبرْني من تكون تركيا؟”.

فأجابني بلطف، وهو يداعب ضفيرة شعري: “تركيا -يا صغيرتي- هي عزة الإسلام، وشموخ حضارته، ورقي عمرانه الإنساني..”. ويتابع: “كنت ذات يوم، وأنا في طريق حجي لبيت الله الحرام، أقيم في فندق قريب من مسجد أبي أيوب الأنصاري t، الصحابي الجليل، الذي شهد العقبة، وبدرًا، وأحدًا مع رسول الله ، الذي نزل ضيفا في بيته بعد هجرته من مكة إلى المدينة. توفى سنة 52هـ أثناء حصار يزيد بن معاوية للقسطنطينية، ودفن قرب هذا المكان، الذي كنت أعشق السكن كلما زرت بلاد الأناضول. في صباح اليوم الموالي لإقامتي في إسطنبول، نزلت أبحث في السوق عن محل لعلّي أجد فيه التين التركي، وأقتني منه بعض الحاجيات. وأنا واقف بباب الدكان بجلبابي المغربي الأبيض، سمعت صوتا يحدثني بالعربية:

– أأنت من الجزائر؟

جدي:

– مرحبا سيدي، أنا من المغرب، الذي آمل يوما أن يصبح مغربا كبيرا.

فقال:

– مرحبا بأهل المغرب، من أي مدينة أنت؟

جدي:

– أُصولي أندلسية عربية أمازيغية فاسية تطوانية؟

تبسم الرجل وقال:

– أهلا ومرحبا بأهل المغرب.. أعرف فاس، وتطوان، وقرأت عن الأمازيغ والأندلس بمن احتضنتهم من علماء جامعة القرويين.

الرجل التركي:

– مرحبا بك وبعلماء وشيوخ وزهاد المغرب في أرض الأتراك، هل تأذن لي سيدي في ضيافتك ببيتي هنا في إسطنبول، لكنه في الجهة الأسيوية؟

جدي: لم أتردد للحظة في قبول دعوة ضيافته. وهذه عادة أبناء دار الزاوية في المغرب، يرحبون بالغريب، ويقبلون ضيافته، إن دعاهم لبيته. ولكن رفيقي الحاج أحمد شدني برفق إلى زاوية الدكان، وهو يعاتبني بلطف، عن ثقتي، وقبولي دعوة رجل مجهول. أصرّ على منعي من الذهاب، تحسّبا من حدوث ما لا يحمد عقباه، ونبهني من احتمال الوقوع في فخ النصب. من دون أي التفاتة لرأي الحاج أحمد، قبلت دعوة الرجل وذهبت معه.

كنا نجوب شوارع إسطنبول الساحرة، ينقلني بين دروب وأزقة أحيائها التي زينت بيوتها بمنارات علامات قدوم الحجاج، وأساساتها بأروع وأجمل تصاميم هندسة الفن الإسلامي”.

الكل متابع بشوق تفاصيل أحداث القصة.. فيتابع جدي: “وصلنا إلى البيت، قدم الشيخ صلاح الدين واجب الضيافة، وأبى إلا أن يغسل يدي بماء ورد، صبه من إبريق نحاسي عثماني. ملأ المائدة بأصناف الحلوى وأطباق الأكلات التركية الشهية، ثم تركني لفترة غير قصيرة رفقة عمه الذي درس بالأزهر الشريف. تبادلنا أطراف الحديث عن أحوال الحجاز التي قدمت منها، ليعود صاحب البيت بعد حين صحبة عشرة أفراد، حيّوني بتحية السلام عليكم، مصحوبة بكلمات تركية، وكأنني أتذكر منها “شكالدز” أو “هُوشْ كَالْدِينِيزْ”، وهي تعني “مرحبا بكم”.

أخبرني أن جيرانه وبعض مريدي التكايا، جاءوا ليتبرّكوا بالجلوس في حضرة شيوخ وعلماء أهل المغرب. كان أغلبهم يتحدث اللغة العربية الفصحى.. تناولنا مواضيع كثيرة بالبحث والدرس والمذاكرة، وختمنا الجلسة بالذكر، والابتهال، والدعاء. كان الرجل فصيحا محدثا فقيها وأديبا، سألته عن مهنته، فأجابني بكل تواضع: “إمام مسجد صغير بهذا الحي”.

ونحن نودع بعضنا البعض، همس في أذني أحدهم ليخبرني بأن صاحب البيت، من كبار علماء وأهل الورع في تركيا. قبّلت رأسه وانحنيت إجلالا لتقبيل يديه، فسبقني بتقبيل يدي. تعانقت أرواحنا، وافترقنا على دموع المحبة والصفاء الوجداني، الذي سبر أغوار نفسي العميقة، فسجل ميثاق عهد، وبصمة حب، وتعلق واحترام، لتواضع حفدة أبطال التوحيد والعلم بتركيا”.

كنت أسمع وعلى صغر سني حكي جدي، الذي فهمت مقصده جيدا. ساعتها لم أتذكر اسم العالم التركي، ولا مؤلفاته، ولا عنوانه الذي وصفه جدي لأعمامي، وتلاميذه، ومريديه.. لكن الأيام كانت كفيلة بتعريفي بأبنائه وحفدته، ممن جسدوا لي واقعيا، حفاظهم على تقاليد وأصول أجدادهم العلماء.. هي نفسها صفة التواضع التي حكاها جدي عاينتُها في لغة ورقي الحفدة، خدمة وتفانيا في حسن استقبال، وإكرام أهل العلم والمعرفة.

يومها تيقنت أن حكي جدي معززا بحكي الأستاذ عبد القادر الإدريسي وشفيق الإدريسي، عن ورع وزهد، وتواضع الحفدة من ورثة أهل العلم والصلاح، كان حقيقة تاريخية، لمستها عن قرب بعد زيارتهم لي وترحابهم بقدومي، صبيحة يوم 30 يونيو 2010 في بهو فندق “جراند جواهر” إسطنبول، أي بعد وفاة جدي بأكثر من ربع قرن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مريم آيات أحمد، نداء الروح رحلة في عالم الفرسان، دار النيل، القاهرة