إذا كانت الأسطورة من أبرز مقومات الوجدان الثقافي الأوروبي ومحددًا بارزًا في هويته الأدبية، يسترفدها من تراثه الإغريقي الروماني، ولا يزال يوظّفها في معارفه، فلا ريب أن الدين هو جوهر الهوية الإسلامية؛ إذ استطاع هذا الدين بألماسية محامده وكلية مقاصده، استيعاب ما في متَجَذِّرات وجدان الأقوام والأمم التي انبلج عليها فجر الإسلام، أو التي انتهى إليها نوره بعد ذلك، فجَبَّ منها ما متَّ للشرك بصلة، وسدَّد المقومات الكريمة، وجعلها تندمج في أسس كبرى لهويته الجامعة التي يشترك في حمل خصائصها المسلمون كافة. من هنا أضحى الإسلام بفضل فرائضه وعباداته، أكبر محركات العاطفة والوجدان في نفسية المسلم، وأقوى البواعث على الفعل والبناء.

 من أهم ما يؤسس عليه “كولن” رؤيته الحضارية: بعث روح الدين الحق، وتقويم القطاعات المدنية بقيم الروح، تخليصًا لما علق بالحياة المعاصرة من خبائث وأدران.

 الدين مقوم أساس من مقومات النهوض

الدين طاقة دائمة، وحافزية متجددة لا تسقط في الابتذال بتاتًا، عكس ما سواه من الحافزيات كما أسلفنا. فقابلية انبعاث الدين من رماد الردة أمر واقع، ولا مراء فيه، من هنا كان الدين يمثل أكبر مُقَدَّرات التجييش، وأنفس ذخائر التحشيد التي يمكن أن يرصدها الإنسان للرهانات الكبرى، والتحديات المصيرية.

تشبُّ الثوراتُ والوازع يحدو أصحابها العُزّل إلى التيقن من كسب النصر، مع أنهم لا يملكون من شروط المرابطة إلا الإيمان؛ ذلك لأن الإيمان يعتبر في كل عصر السلاح الذي لا يضاهيه سلاح في خوض المعارك.

 الدين الإسلامي بما هو مكوِّن تعبدي وسلوكي يومي، بات هو مَحْضن القيم، ومستزرعها، والنسيج العضوي الذي تنمو فيه، وتتشكل، وتأخذ صورها وألوانها.

فالثقافة في المجتمعات الإسلامية مرتبطة عضويًّا بالدين، ولا تكاد تغيب نواة الدين الإسلامي حتى في سلوك الفرد الملحد؛ لأن الوازع الديني فطرة في الإنسان عامة، لا يستطيع التجرد منها، ولأن الختم الذي يتركه الإسلام على من يظلهم ويمسّهم، لا يكاد يَمَّحي مهْما سعى الإنسان إلى استئصاله من أعماقه.

العلاقة بالدين قيمية وليست نفعية

لا ينبغي أن نُفَعِّل الدين ونعتبره مجرد وسيلة ووسيطًا يوصلنا إلى أهداف بعينها، ثم نتخلى عنه؛ إذ العلاقة بالدين تكون عندئذ واهنة، وغير صميمة، ومغرضة، وانتهازية، ومنافقة. إن مثل هذه العلاقة تصطنعها الأيديولوجيات، وتسوس بها الجموع، وتغافلهم، ثم لا تلبث ساعة الحقيقية أن تحين، فتتهاوى صروح الدجل أمام الأنظار، وتترنح أحلام الافتئات.

تَكتنز الثقافة وتتفتح في مواسم شحن القلوب بالإيمان، فالفرد الصادق في إيمانه، والجماعة المخلصة لعقيدتها، والمجتمع الذي تترجح فيه كفة الخيرين تغدو ثقافته مصطبغة بالعقيدة؛ لأن الصدر العامر بالتقوى، يفيض محبة واستقامة، ويزخر دينامية وسباقًا إلى الخيرات؛ ذلك لأن الثقافة هي البلازما التي تستوي فيها خلايا الإيمان، وإن القيم الثقافية تستمد من العقيدة طاقتها، فتضعف بضعفها، وتقوى بقوتها: “إن الثقافة بألوانها المختلفة -في المجتمع المستصلح- تحوم وتدور في محيط العقيدة، وتنهل من مناهلها، وتتغذى بغذائها، وتنمو بها، ثم تتحول بفضلها إلى حال فوق الزمان والمكان”.

 الدعوات الإصلاحية وهي تركز قيم الدين في نفوس الأفراد والجماعات، إنما تتوخى خلق مجال ثقافي تتعزز به دافعية الخير التي يستهدفها الدين.

بالباعث الثقافي حشدت الماوية (الصينية) الحشود، وساقتهم إلى الجبال والهضاب، فنضّدوها بأظافرهم، وبمثل ذلك أقحمت الهتليرية الأمم في الحروب، وخاضت الشيوعية معامع من دم وتضليل، وحسبت أنها تَنْفذ بالإنسان إلى الفردوس الأرضي، لكن ثقافة الحشر تلك، كانت ثقافة تدويخ وقتية، لا يمكنها أن تتجدد؛ لأن مرجعيتها هو الاجتهاد البشري؛ لأن الأجيال تتبدل، والفكر يتجدد، والأطوار تتعاقب، ويتجاوز بعضها بعضًا، إلا الدين، فإن جوهره مهيأٌ أبدًا لخلق ذات الشروط التجنيدية التي تستمد عصاميتها من المُثل العليا، من الخالق ذي الجلال.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:210-213، بتصرف

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.