مما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب هو أن أفكار الأستاذ كولن قد انطلقت وجُرِّبت في تركيا ونجحت، رغم كل ما كان هذا الواقع يعرفه من تناقضات وصراعات أيديولوجية وسياسية. لقد كان شعار الأستاذ كولن دائما هو نبذ الخلاف. وفي شرح قوله تعالى ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾(الأنفال:46) يقول: “تُخاطب هذه الآية المؤمنين فتوصيهم قائلة لا تدخلوا في أي نزاع مادي أو معنوي، بل حاولوا الاتحاد حول نقطة مشتركة ولا تقعوا في نزاع حتى لو كان حول أمر إيجابي، ولا تدَعوا الحسد ولا التنافس ولا الغبطة أن تقودكم إلى النزاع، وإلا فشلتم وذهبت قوَّتكم. إنَّ ثمرة العمل الفردي تبقى في مستوى الفرد، أمَّا الأعمال المنفَّذة في ظلّ وحدة الجماعة فتكافأ برحمة الله تعالى، وهكذا يكتسب كلّ فرد ثوابَ جماعة كامِلَةٍ”.
إن القيمة المضافة للمدرسة هي إنشاء أجيال متعلمة مسلحة بالقيم والأخلاق معترفة بعلاقة الوجود بخالقه، ومسلحة في الوقت نفسه بالعلم.
بفضل هذا التصور الحركي المتميز استطاع فتح الله أن يجمع ما يستحيل جمعه. إذ لو تعلق الأمر برؤية تتعصب لذاتها وتنطلق من منطق المركزية لما استطاعت التجربة أن تحقق ما حققته من نجاح. ولذلك فإن نجاح التجربة محليا أعطاها المشروعية لتجرّب خارجيا. وهنا ينبغي الوقوف عند ملاحظة مهمة وهي الدعوة التي ووجها الأستاذ إلى المجتمع التركي وخاصة ما يطلق عليهم في اصطلاحات الخدمة “الأصناف” ورجال المال والاقتصاد بأن يتوجهوا إلى مختلف مناطق العالم من أجل نقل رسالة سامية هي رسالة القيم الأخلاقية الإنسانية السامية، وقيم الحب والتسامح والسلام. كان هؤلاء بمثابة العنصر الممهد لمرحلة أخرى زاهرة هي مرحلة وضع أسس بناء مجتمع إنساني متسامح.
يؤكد الأستاذ فتح الله أن موضوع التربية يتشكل من ثلاثة جوانب؛ الجانب الأول إنساني نفسي، والجانب الثاني وطني اجتماعي، والجانب الثالث جانب عالمي. ومن خلاله يعتبر الأستاذ أن الشرق المتشبع بثقافته الأصيلة والمتشبع بهويته الذاتية يستطيع تقديم قيمة إضافية للغرب الذي أعلن القطيعة منذ زمن بعيد مع الدين ومع القيم، وأعلن الولاء للأنانية الفردية، وأعلن المادية شعارا، والانفصام بين الدين والعلم مذهبا، واعتبر العلم قضية مادية صرفًا ليس للدين فيها أي دخل.
يعتبر الأستاذ أن الشرق المتشبع بثقافته الأصيلة والمتشبع بهويته الذاتية يستطيع تقديم قيمة إضافية للغرب الذي أعلن القطيعة منذ زمن بعيد مع الدين ومع القيم.
يؤمن الأستاذ بأن أهم ما يمكن للمسلمين بكل موضوعية تقديمه للغرب ولثقافته هو نظرة الإسلام للإنسان على أساس تكوينه المركب.فالقرآن الكريم باعتباره خطابا للناس لا يتعارض مطلقا مع العلم، وبعبارة أخرى كما يقول الأستاذ الوجود أو الكون هو قرآن واسع، وأما القرآن فهو من زاوية أخرى كون جرى ترميزه (أي تحويله إلى رموز كتبت) على الورق أو في المصحف.
كل هذا يؤكد بأن لا تعارض بين القرآن -أو الدين بصفة عامة- والعلم، ومن هنا يتأكد كذلك أن لا تعارض بين العلم والعقل. ولما كان العلم غير متعارض مع الدين، فإن الدين لا يتعارض مع العقل، بمعنى أن الحقيقة الدينية تساند الحقيقة العلمية وتدعمها. إضافة إلى أن الحقيقة العلمية إذا كانت سليمة فلن تكون متعارضة مع القرآن.
على هذا الأساس ينبغي أن تتأسس التربية ويتأسس التعليم والمدرسة.فكل من التربية والتعليم والمدرسة مطالبون عند الأستاذ بالأخذ بهذه الرؤية في القيام بمهمّتها المقدسة، أي بأن تجعل المؤسسة التعليمية بكافة مكوناتها القيم والأخلاق محركا لكل ما تمثله المدرسة، وأن تحرص في الوقت نفسه على جعل المتعلم يتذوق حقيقة العلاقة التي تربط الدين بصفة عامة بالعلم والمعرفة. ولهذا فإن القيمة المضافة للمدرسة هي إنشاء أجيال متعلمة مسلحة بالقيم والأخلاق معترفة بعلاقة الوجود بخالقه، ومسلحة في الوقت نفسه بالعلم.
القرآن الكريم باعتباره خطابا للناس لا يتعارض مطلقا مع العلم.
للمدرسة دور آخر مهم وهو دور نشر التسامح والتعايش وقبول الآخر. فهذه المدارس المنتشرة عبر مناطق مختلفة من العالم والتي يزيد عددها عن الألفي مدرسة، تراهن على التسماح والحوار. ويقوم بذلك إطار بشري ينظر للحياة نظرة إيجابة، ونظرة إصلاح وتصحيح. فهذا النموذج الإنساني نموذج يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويلغي ذاته في سبيل المجموع، بل مستعد لأن يهاجر في سبيل هذا الأمل، وهو قبل كل شيء متطوع من أجل إنجاز مهمته. وهنا تبرز بصورة قوية فلسفة التبليغ عند الأستاذ وعند النموذج الإنساني الذي تكوّن في المدرسة الفكرية لفتح الله كولن. هذا النموذج الإنساني يعلم جيدا بأنه مسؤول بمهمة سامية ونبيلة هي مهمة إصلاح العالم وحمل إكسير المحبة والأخوة الإنسانية إلى كل مكان. ولذلك فإن الأجر الحقيقي هو أن ينجح في مهمّته وأن ينال أجر خالقه. فكل مدرسة تُفتَح في أي مكان من العالم هي لبنة تضاف إلى هذا المشروع الإنساني النبيل الذي بدأ الأستاذ فتح الله يبني قواعده وأسسه منذ ما يزيد عن خمسين سنة.