تركز المدارس على تحصيل المعارف باعتبارها خطوة أساسية في طريق بناء مستقبل مهني واعد، لكنها نادرًا ما تنتبه لتضمين الأخلاقيات والقيم في المنهج الدراسي. وقد تعرضت الولايات المتحدة ومدارسها إلى أزمة أخلاقية بسبب هذا الإهمال، المصحوب بنظرة مادية لمخرجات العملية التعليمية. ثم ظهرت حركة بناء الشخصية استجابة لهذه الأزمة في محاولة لغرس الفضيلة في نفوس الطلاب الأمريكيين. كما ظهرت حركة تعليمية أخرى؛ هي حركة فتح الله كولن. نجحت هذه الحركة في تأسيس مئات المدارس حول العالم، والتي تركز على الجانبين العلمي والروحي، بهدف تنشئة “الجيل الذهبي” الذي سيبني أفراده عالمًا من السلام والتناغم. تأثر المعلمون برؤية كولن ووضعوا هذا الهدف نصب أعينهم، وفضّلوا تعليم الأخلاق للطلاب من خلال ضرب المثل بدلاً من التلقين، لكيلا ينشأ أي صراع بين أفكارهم وتوقعات المجتمع. غير أنه في ثقافة تشيع فيها النزعة الفردية وفضائح سوق المال والسياسة، لا يتضح إن كانت القدوة الأخلاقية كافية وحدها لإلهام الطلاب الأمريكيين بوجه عام لمناقشة أسباب قيامهم بهذه السلوكيات، ناهيك عن تحولهم إلى “الجيل الذهبي”. لذلك تستقصي هذه الدراسة نتائج البحث التعليمي وكتابات فتح الله كولن، وتخلص إلى أنه في البيئة الأمريكية، يجب على الأقل على المعلمين المتأثرين بأفكار كولن التفكير في تضمين ممارسات ذات مغزى أخلاقي ونوايا وتصرفات يختارونها بأنفسهم في مدارسهم.
ما الغاية النهائية من العملية التعليمية؟ كانت إجابة أغلب الطلاب الذين طُرح عليهم هذا السؤال «الحصول على وظيفة جيدة وجمع المال». وأذكر كمعلّم أن طالبيْن أو ثلاثة طلاب فقط وجدوا المدرسة مكانًا يوفر لهم فرصة التعلم. بل إنني بدأت مؤخرًا أنظر إلى التعليم نظرة أوسع من مجرد وسيلة للحصول على وظيفة جيدة والاستمتاع بمستوى معيشة مرتفع.
لم تكن هذه نظرتي أنا وطلابي فحسب، فقد صدر تقرير عام 1983 بعنوان «أمة في خطر» جاء فيه «يبدو أن مجتمعنا ومؤسساته التعليمية قد نسيا أغراض التعليم المدرسي الأساسية». وهذه «الأغراض الأساسية» وفقًا لما ورد في التقرير هي بناء «يد عاملة ماهرة» للنهوض بالولايات المتحدة عقب «15 عامًا من تدهور الإنتاج الصناعي»، وإعادتها إلى سابق عهدها باعتبارها «دولة متفوقة في ابتكار الأفكار العظيمة وجلب المكاسب المادية للبشرية جمعاء». وتنتشر نظرة مشابهة في كندا؛ «يرى الاتحاد الوطني للأعمال في كندا أن المسؤولية الجوهرية للمدارس هي «تعليم المهارات الأساسية» (شاكر 1998). لدرجة أن بعض دعاة حركة بناء الشخصية -التي سنتناولها لاحقًا- يركزون على بناء الشخصية بقدر ما ستفيد عالم الأعمال. كما نشر كتيب التعليم الصادر في ولاية كارولينا عام 2002، عبارة لإينيز تنينباوم، مسؤولة التعليم في الولاية، تقول فيها: «ليست السمات الشخصية القوية، مثل الأمانة والنزاهة والمسؤولية، هي ما تنتظره الشركات من العاملين فيها فحسب، بل إنها السمات التي ستدفع المدارس والمجتمعات إلى تحقيق مستويات أعلى من النجاح والإنجاز في ولاية كارولينا الجنوبية وعلى الصعيد الدولي». وربما تكون هذه الرؤية متوقعة نظرًا لأن الاعتقاد السائد أن تركيز المدارس ينصب على تعليم القراءة والكتابة والرياضيات (قارن: «الطلاب الذين يتركون المدرسة يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة والرياضيات»).
وبالتالي من الطبيعي أن تحرص المدارس على تعليم الطلاب المهارات والمعارف التي تساعدهم على النجاح في مستقبلهم المهني. غير أن اقتصار «الأهداف الأساسية» للمدارس على هذه الأهداف دليل على قصر النظر. فهي تعكس رؤية مادية مفادها أن المدارس لا تعدو كونها مصانع، والطلاب ليسوا أكثر من منتجات. يؤيد بوستمان هذا الرأي (1995)، ويذكر أن المدارس تخدم اليوم أرباب المنفعة الاقتصادية، والاستهلاكية، والتكنولوجيا، وتهمل فلسفة ما وراء التعليم.
تحرص المدارس على تعليم الطلاب المهارات والمعارف التي تســاعدهم على النجاح في مســتقبلهم المهنــي. غـيـر أن اقتصــار “الأهداف الأساســية” للمدارس عــى هذه الأهداف دليل عـلى قصر النظر. فهي تعكس رؤية مادية مفادها أن المدارس لا تعدو كونها مصانع، والطلاب ليسوا أكثر من منتجات.
لا شك أن النظرة المادية لها تبعاتها، فقد بدأ العنف يتزايد في المدارس (بولاش 2002). وتقوم نسبة 75% من طلاب المدارس الثانوية بالغش في امتحان واحد على الأقل، ونسبة 40% بالسرقة من المتاجر، وتلجأ نسبة 40% إلى «الكذب للحصول على عمل جيد» (تقرير مدرسي صادر عام 2002 حول أخلاقيات الشباب الأمريكي، مشار إليه في ليكونا 2004، راجع أيضًا جودمان 1998). كما تتزايد نسبة الغش في الكليات، حيث بلغت النسبة 82% من طلاب كلية الهندسة منذ عشر سنوات. والأسوأ من ذلك أن أحد الأساتذة يقول: «لم يعد الأمر مخزيًا بالنسبة للطلاب» (سيلينجو 2004).
بالطبع تشير هذه الإحصاءات أيضًا إلى أن رُبع طلاب المدارس الثانوية لا يغشون، وأن الغالبية لا تسرق أو تكذب. وسيكون من المجحف أن نعزو المناخ الأخلاقي في أمريكا إلى النزعة المادية وحدها، بل إن تفاعل مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية قد أفرز بيئة تقلل من قيمة الأخلاق. ومع ذلك، لا يمكننا إغفال دور النزعة المادية في اضمحلال الأخلاق في الولايات المتحدة اليوم.
عندما أعدت التفكير في الغاية النهائية من العملية التعليمية، توصلتُ إلى أنه مع الاهتمام بإعداد الطلاب لمستقبلهم المهني، يجب إعدادهم لحياة تستحق أن تُعاش. وقد توصل آخرون إلى نفس النتيجة، فقد انتشرت حركة بناء الشخصية داخل الولايات المتحدة. وهناك حركة أخرى خارج الولايات المتحدة مستوحاة من كتابات وتعاليم فتح الله كولن؛ حركة تقدم رؤية من شأنها تغيير شكل التعليم وحياة الطلاب. تتناول هذه الدراسة هاتين الحركتين. فتبدأ أولاً باستقصاء حركة بناء الشخصية في الولايات المتحدة، ثم تتناول حركة فتح الله كولن. وأخيرًا تقدم بعض الاقتراحات حول طريقة تعديل منهج المدارس المستوحاة من رؤية كولن لبناء شخصية الطلاب في الولايات المتحدة.
تعليم بناء الشخصية في الولايات المتحدة
بغض النظر عن الأسباب، فقد تحوّل التعليم من غرس الحكمة والمعرفة إلى تدريس مواد دراسية. كتب وايتهيد (1929) ما يلي:
«إن تلاشي المُثل دليل مؤسف على إخفاق الجهود البشرية. في المدارس القديمة، كان طموح الفلاسفة نشر الحكمة، أما في الكليات الحديثة فإن هدفنا المتواضع هو تدريس المواد الدراسية. إن الانحدار من الحكمة السامية التي كانت هدف القدماء، إلى معارف الكتب الدراسية التي يسعى إليها المحدثون، مؤشر على إخفاق تعليمي مستمر على مر العصور» (ص 45)
لقد أصبح «تلاشي المُثل» أمرًا ملحوظًا. يشير بلين وليفل (2002) إلى أن مدارس الولايات المتحدة بدأت تتجه نحو تعليم بناء الشخصية بعد إدراك وجود «أزمة أخلاقية في المجتمع الغربي»، في محاولة لغرس القيم في نفوس الطلاب دون الرجوع إلى الدين. وقد أثارت هذه المحاولة جدلاً واسعًا على عدة جبهات، تؤكد إحداها على استحالة فصل القيم عن الدين. ويشعر آخرون أن التربية المدنية -وثيقة الصلة بتعليم بناء الشخصية- ما هي إلا «هراء» يقتطع من وقت تعليم مواد أكثر أهمية، في حين ما زال آخرون يعارضون هذا التوجه العام (كريستيانسون 2004). يمثل كون (1999) جبهة أخرى، حيث يؤكد أنه من غير المحتمل أن يؤدي تعليم بناء الشخصية إلى أي تغيّر دائم في السلوك نظرًا لاعتماد طريقة التدريس على نقل المعلومة بشكل رئيسي بدلاً من قيام الطلاب بإدخال القيم في سياق حياتهم. يرى ديفيس (2003) أن تعليم بناء الشخصية معيب بكل بساطة.
إن تفاعل مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية قد أفرز بيئة تقلل من قيمة الأخلاق، ومع ذلك، لا يمكننا إغفال دور النزعة المادية في اضمحلال الأخلاق في الولايات المتحدة اليوم.
في الحقيقة، ظل تعليم بناء الشخصية سائدًا منذ أيام أفلاطون وحتى منتصف القرن العشرين (كريستيانسون 2002)، وقد انتشر في فترة في الولايات المتحدة، لكن الدراسات التي أجريت في الثلاثينيات أظهرت عدم فعاليته، ومع انتشار فكرة نسبية الأخلاق في الستينيات، تحولت المؤسسات التعليمية إلى المناهج الخالية من القيم التي تتضمن إما شرحًا للقيم أو منهجًا «للاستدلال الأخلاقي» لبناء الشخصية (مورفي 2002). وقد ركز كلاهما على أن الأخلاق ليست مسؤولية المعلم، بل يجب على الطلاب إرساء معاييرهم الأخلاقية الخاصة (ليفنز 1997). لم تكن الطريقة الأولى ناجحة، لكن الطريقة الثانية نجحت في غرس مهارات الاستدلال المعرفي (مورفي 2002) وبالتالي كان لها دور في بناء الشخصية.
بدأ تعليم بناء الشخصية يظهر مؤخرًا في مدارس الولايات المتحدة، غير أن المقصود بمصطلح تعليم بناء الشخصية يتفاوت تفاوتًا كبيرًا؛ يراه البعض -كما أشرنا سابقًا- منهجًا آخر لإعداد الطلاب لسوق العمل، ويراه آخرون وسيلة لتيسير إدارة المدارس، عن تجنب ظهور مشكلات تتعلق بالانضباط. يبدأ ليفين إبستين إحدى مقالاته قائلاً: «هل تريد تقليل نسبة تعليق الدراسة والإحالات التأديبية وتحسين المناخ المدرسي بوجه عام؟» (ص 1) في حين ما زال آخرون مهتمين بتأثير تعليم بناء الشخصية على تعلّم الطلاب (ليكونا 2004)؛ أي إن المواد الدراسية ما زالت نقطة تركيز التعليم المدرسي.
ينظر الكثيرون إلى تعليم بناء الشخصية، باعتباره فضيلة مدنية. ربط ويليام بينيت وزير التربية والتعليم القيم المدنية والأخلاقية معًا، مؤكدًا تفوق الولايات المتحدة الأخلاقي على الاتحاد السوفييتي (مُشار إليه في ريتشبورج 1988). لا يتحدث فينسون (1998) في شكواه ضد بيان موقف المجلس الوطني للدراسات الاجتماعية سوى عن الشخصية المدنية والديموقراطية. يشير مورفي (2002) إلى أن نحو رُبع مدارس بلو ريبون (المدارس الاستثنائية بإقرار وزارة التربية والتعليم الأمريكية) تعرّف تعليم بناء الشخصية بأنه «المواطنة الصالحة». تعتبر ماير (2002) أن الفضيلة المدنية جزء أساسي من أي نظام ديموقراطي لكنها تتجاوز ذلك. ولإيمانها بضرورة إعداد الطلاب للمشاركة في النظام الديمقراطي، فإنها تؤكد على ضرورة تواجدهم مع بالغين ومعلمين يبادلونهم الثقة والاحترام.
عندمــا أعــدت التفكـيـر في الغايــة النهائية مــن العمليــة التعليمية، توصلــت إلى أنه مع الاهتــمام بإعداد الطلاب لمستقبلهم المهني، يجب إعدادهم لحياة تستحق أن تُعاش.
يرى نحو ثُلث مدارس بلو ريبون أن تعليم بناء الشخصية يركز بشكل أساسي على الأخلاق والقيم (مورفي 2002). “توماس ليكونا” أحد المربّين الذين يرون أن تعليم بناء الشخصية يتعامل في الأساس مع الفضيلة، وهو عالم نفس تنموي وأستاذ التعليم بجامعة ولاية نيويورك في كورتلاند. يسرد ليكونا (2004) عشر فضائل ضرورية هي: الفطنة، والعدالة، وقوة الاحتمال، وضبط النفس، والحب، والرؤية الإيجابية، والعمل الجاد، والنزاهة، والامتنان، والتواضع. ويجب الإشارة إلى أن “ليكونا” أحد القلائل الذين يذكرون فضيلة الحب صراحة.
تغيير شكل التعليم
يرى ريفيل (2002) أن مستوى فعالية برامج تعليم بناء الشخصية ما زال غير واضح. فقد أجرى بحثًا شمل 12 مدرسة (سبع مدارس ابتدائية وخمس مدارس ثانوية)، ركز فيه على قضايا المواطنة والهوية. أشار ريفيل إلى ميل طلاب المدارس الثانوية إلى «السخرية أو الارتياب من بعض السمات الشخصية التي ينادي بها تعليم بناء الشخصية»، وخاصة طلاب المدارس غير المتخصصة الذين يتصرفون بطريقة «عدوانية» (ص 427-428). بالرغم من تشابه البرامج المطبقة في مختلف المدارس، والدعم الكبير الذي يقدمه أولياء الأمور والعاملون في المدارس، تفاوتت رؤية الطلاب لمبادئ هذه البرامج وفقًا لتجاربهم الشخصية في مجتمعاتهم.
من الطبيعي أن تؤثر التجارب على التعلم، لكن هناك عوامل أخرى مؤثرة أيضًا؛ أحدها أنه تكاد لا توجد إشارة إلى تعليم بناء الشخصية في برامج إعداد المعلمين (ميلسون وميليج 2002). لا تتوفر للمعلمين والمدارس سوى معلومات نظرية أو تجارب عملية قليلة جدًّا -إن وُجدت- حول طريقة تطبيق تعليم بناء الشخصية. ومع أن الخبرة شرط أساسي لتدريس «مادة دراسية»، يبدو أنها غير مطلوبة في تعليم بناء الشخصية. ثانيًا، لا يلعب الطلاب أي دور مهم في تحديد طريقة تنمية شخصياتهم. وأخيرًا، يركز كثير من دعاة تعليم بناء الشخصية على الطلاب، ويهملون شخصية العاملين في المدرسة (هناك استثناءات بالطبع مثل ليكونا وماير). وتجدر الإشارة إلى ما قاله هوبنر (1999) حول هذه النقطة:
أولاً، يركز الحوار الأخير بشأن القيم الأخلاقية والروحانية في الفصل الدراسي على الجانب الخطأ. يفترض هذا الحوار وجود شيء مميز يمكن أن نطلق عليه وصفًا أخلاقيًّا أو روحانيًّا، وهذا افتراض خاطئ. فكل شيء يتم في المدارس -وتجهيزًا لأنشطة المدرسة- ممزوج بالفعل بالروحانية. جميع الأنشطة التي تتم في المدرسة لها تبعات أخلاقية. مجرد الإشارة إلى الحاجة لتدريس القيم الأخلاقية والروحانية في المدرسة يوحي بوجود خلل، ليس في الجانب الروحاني والأخلاقي للطالب، بل في النشاط الأخلاقي والروحاني في المدرسة والقائمين عليها. يحاول القائمون على المدارس إخفاء تواطئهم مع نظام السيطرة المطلقة من خلال المناداة بتدريس القيم الأخلاقية والروحانية. ولا ينادون بتغيير المناخ الأخلاقي والروحاني في المدارس التي يقومون عليها. إن عدم تمتع المعلمين بالحرية للتصرف بطريقة نقدية أو إبداعية دليل على عبوديتهم لأنظمة وسلطات أخرى. لا نحتاج إلى النظر إلى القيم الأخلاقية والروحانية كجزء مستقل عن المنهج والنشاط المدرسي العادي، بل نحتاج إلى التدقيق في المشهد التعليمي لنكتشف كيف يتم رفض الجانب الأخلاقي والروحاني في كل شيء. لا تكمن مشكلة المدارس في أن الأطفال لا يتعلمون القيم الأخلاقية والروحانية، بل المشكلة أن المدارس ليست المكان المناسب لممارسة القيم الأخلاقية والروحانية بأي صورة من الصور المتعمدة (ص 414-415).
لا تكمــن مشــكلة المــدارس في أن الأطفــال لا يتعلمــون القيــم الأخلاقيــة والروحانية، بل المشــكلة أن المدارس ليست المكان المناسب لممارسة القيم الأخلاقية والروحانية بأي صورة من الصور المتعمدة.
من الطبيعي أن يسخر الطلاب من برامج تحاول تغيير شخصية الطالب وترفض تغيير شخصية المدرسة. لا شك أن النشاط الأخلاقي والروحاني في المجتمعات مهم أيضًا، وحتى ينجح تعليم بناء الشخصية، يتعين علينا العودة ليس إلى المُثل، بل إلى التطبيق المتعمد للمُثل في المدارس والمجتمعات. وأهم هذه المُثل الحب.
أكد إريك فروم (1955) على أهمية الحب من أجل «مجتمع عاقل». بالرغم من صعوبة تعريف مفهوم الحب، اعتبره فروم توجهًا يدفع الشخص للبحث عن مصلحة الآخرين، والاهتمام بهم، وتحمل مسؤوليتهم، واحترامهم (فروم 1955،
ص 33). وبالمثل اعتبر برتراند راسل (1961) الحب والمعرفة قيمتين أساسيتين لبناء الشخصية والتقدم: «ليس هناك سوى طريق واحد نحو التقدم، سواء في التعليم أو في شؤون البشر الأخرى، وهو طريق العلم المغلف بالحب. الحب ضعيف بلا علم، والعلم مدمّر بلا حب» (ص 158).
في غياب الحب، تكون محاولات غرس القيم الشخصية مدفوعة بأهداف تحقيق النجاح المادي، مثل بناء «يد عاملة ماهرة» وتجنب ظهور مشكلات تتعلق بالانضباط. وهذه الأهداف ليست بالضرورة ضارة للتعليم، لكن عندما لا يكون الحب هو المبدأ التوجيهي، فإن محاولات غرس القيم لا تعدو كونها عملية تلقين مصممة لحصاد الطاعة وليس لبناء الشخصية (كولبيرج 1999، وكون 1999)؛ وهي محاولات غير ناجحة تثير السخرية أو الريبة أو العدوانية.
حتى تنتشر قيمة الحب في المدارس، يجب تغيير فكرة أن المدرسة مصْنع ينظر فيه المعلمون إلى الطلاب كأشياء وليس كأفراد، مصْنع لتقديم المعرفة بدلاً من بناء الشخصية (قارن: هوبنر 1999). عوضًا عن ذلك، يجب تشجيع المدارس والمربّين الذين لا يتقنون موادهم الدراسية فحسب، بل ويهتمون أيضًا بطلابهم ويريدون مصلحتهم في كل شؤون حياتهم حتى بعد انتهاء اليوم الدراسي.
ليس هناك سوى طريق واحد نحو التقدم، سواء في التعليم أو في شؤون البشر الأخرى، وهو طريق العلم المغلف بالحب. الحب ضعيف بلا علم، والعلم مدمر بلا حب.
رؤية فتح الله كولن التعليمية
إذا انتقلنا من التعليم في الولايات المتحدة إلى رؤية فتح الله كولن التعليمية، فسنلاحظ بعض نقاط التشابه. كولن (1998) -مثله مثل بوستمان ووايتهيد- يشير إلى إخفاق المؤسسات التعليمية نتيجة الانحراف عن القيم والأخلاق البشرية واعتناق قيم النجاح المادي وبناء أجيال «لا تحمل أي مُثل» (ص 110). على سبيل المثال، يتعلم العلماء إيجاد طرق جديدة للسيطرة على الطبيعة وغيرهم من البشر (كولن 2003)، ولأنهم لا يتحملون مسؤولية تبعات أعمالهم، فقد تسببوا في مشكلات عالمية كبرى مثل التلوث البيئي (كولن، مُشار إليه في أجاي 2003). وعلى الصعيد المحلي، انتشر الفساد والطمع، ولن يعم التناغم والتفاهم إلا بعد «مصالحة الجانبين المادي والروحاني» أثناء تنشئة الأجيال الجديدة (كولن 2000).
يؤكد كولن في مختلف كتاباته أن هذه المصالحة تتطلب وجود المعرفة والحب. تأتي المعرفة من العلوم وتمنح الطلاب القدرات الفكرية اللازمة لمساعدة الغير، لكن العلوم وحدها غير كافية لدفع الأشخاص إلى مساعدة غيرهم، لا بد من وجود الحب.
يرى كولن (2002) أن «الحب أهم عنصر من عناصر تكوين الشخص» (ص 41). «الحب الذي يقصده كولن هو حب التضحية بالنفس والمبادرة بالأفعال، طاعة لله واهتمامًا بالآخرين وليس طمعًا في منفعة شخصية أو من منطلق حسابات نفعية لسعادة الشخص.. يستتبع هذا الحب التضحية بالنفس ونكران الذات والقناعة الشخصية بتغيير شكل الحياة على الأرض» (يافوز 2003، ص 34، راجع أيضًا أوزدالجا 2003 أ و2003 ب). هذا هو الحب الذي يصلح أن يكون أساس أي جهود تربوية.
وبالتالي ليس كل المعلمين مربّين. يتفق فتح الله كولن (2004) مع راسل (1967) وهوبنر (1999)، ويشدد على أن «التعليم يختلف عن التدريس. يستطيع أغلب الناس التدريس، لكن قلة فقط تتقن التعليم» (ص 208). بعبارة أخرى، التدريس ليس إلا نقلاً للمعلومات. أما التعليم فيشمل تقديم المعرفة وينطوي على حب التضحية والتوجيه الأخلاقي:
يزرع المعلم الحقيقي البذور النقية ويحافظ عليها، ويشغل نفسه بما هو جيد ومفيد، ويقود الأطفال ويوجههم في الحياة ومختلف المواقف التي يتعرضون لها. (كولن 2004، ص 208)
لهذا فإن التعليم عمل «مقدس»، ومساعدة الطلاب على تنمية قدرتهم على إحداث تغيير إيجابي هي «المهمة الأسمى» للمعلم (كولن 1998، 2004). المعلم مسؤول عن تقديم المعرفة، والتحلي بالفطنة لاستخدامها، وتوفير التوجيه الأخلاقي ليس من خلال تلقين القيم، بل عبر تجسيد الروحانية والحب.
الغاية النهائية وراء رؤية كولن التعليمية هي تنشئة «الجيل الذهبي»، وهم أفراد مثاليون متمسكون بالصدق، يجمعون بين العلم والدين، ويعملون على نفع المجتمع (كولن 1998).
عندمــا لا يكــون الحــب هــو المبــدأ التوجيهــي، فــإن محاولات غــرس القيــم لا تعــدو كونها عمليــة تلقين مصممة لحصاد الطاعة وليس لبناء الشخصية.
أي شخص من هؤلاء يوصف بأنه “يملك جناحين» (zul-cenaheyn)، وانعكاس ثمرة «زواج العقل والقلب” (كولن 1996 ب)، وامتزاج القيم الأخلاقية العامة بالعلم والمعرفة الحديثة (كولن 2004) لإفراز «أشخاص متنورين بصدق» (ميشيل 2003، كولن 1996 أ)، يقومون بخدمة الآخرين بدافع الحب (كولن 2000، يلدريم وكرمزيالتن 2004).
المدارس المستوحاة من رؤية كولن
شجعت هذه الرؤية كولن وأتباعه على بدء مشروع حماسي في بداية الثمانينيات لبناء مؤسسات تعليمية في جميع أنحاء العالم. وبالفعل تم تأسيس مئات المدارس وسبع جامعات في تركيا وغيرها من الدول.
تشترك هذه المؤسسات مع غيرها من المدارس في المنهج الدراسي والمواد التعليمية. جميع المختبرات وأجهزة الكمبيوتر المستخدمة في صفوف العلوم واللغة على أحدث مستوى، وجودة التعليم ممتازة (أجاي 2003، وبالجي 2003، وأوزدالجا 2000، ويافوز 2003). يتحدث عنها توماس ميشيل (2003)، سكرتير الأمانة اليسوعية للحوار بين الأديان وأمين عام مؤتمرات اتحاد أساقفة آسيا، مشيرًا إلى أداء الطلاب الاستثنائي في المسابقات الأكاديمية في العلوم الطبيعية وعلوم المعلومات واللغات، ويرى أنها «من بين أكثر المؤسسات التعليمية نشاطًا وجدارة … في العالم» (ص 70).
تتميز هذه المدارس أيضًا بأخلاقيات المعلمين والعاملين فيها. على سبيل المثال، تقع مدرسة التسامح الفلبينية التركية في مدينة نصف سكانها مسيحيون والنصف الآخر مسلمون. يقول ميشيل (2003): “إن المدرسة تقدم لما يزيد عن ألف طالب بدائل ووسائل إيجابية للتعامل بعيدًا عن العنف الذي تستخدمه القوات العسكرية والبرلمان”. ويشير إلى أن المدرسة لها نصيب من اسمها، لأنها حصن من التسامح وسط منطقة استقطاب ديني في الفلبين، وهي تحافظ على علاقات ممتازة مع المؤسسات المسيحية في المنطقة.
ومن الأمثلة الأخرى مدارس كولن في ألبانيا. يوضح أجاي (2003) أنه نظرًا لأن ألبانيا «أسست هويتها الوطنية على نقيض الإمبراطورية العثمانية» (ص 44)، فإنها لا ترغب في الترويج للقومية التركية أو الإسلام في مدارسها. ومع ذلك حصلت المدارس على اعتماد الحكومة وموافقة العامة بفضل مستواها التعليمي الممتاز وتركيزها على العلوم وقيمها العامة.
أجرت أوزدالجا (2003ب) مقابلات مع المعلمات في العديد من هذه المدارس، ووجدت أنهن يشتركن في قيم معينة: «الحب (الحب العام الذي يشمل كل الإنسانية)، والتقوى، والتواضع، والنقد الذاتي، والنشاط المجتمعي (وليس السياسي)، والاحترافية المهنية (في التعليم)» (ص 63). ومن القيم الأخرى التي تعتنقها المعلمات تجنب الصراع و”الحفاظ على علاقات سلمية” (ص 69). من الطبيعي أن تؤدي هذه القيم إلى تسامح الحركة وتقبلها للتقاليد والأديان الأخرى، وبدلاً من إلقاء المحاضرات حول القيم أو تعليم مبادئ الإسلام، فإن المعلمات ينقلن قيمهن من خلال «ضرب المثل الحي بأفعالهن» (أوزدالجا 2003 أ، ص 86).
حتــى تنتـشـر قيمــة الحب في المــدارس، يجب تغيير فكرة أن المدرســة مصنع ينظر فيــه المعلمون إلى الطلاب كأشياء وليسوا أفرادًا، مصنع لتقديم المعرفة بدلا من بناء الشخصية.
تغيير الشخصية
يؤكد كولن (2004) أن «المدرسة يجب أن تكون في أكمل صورة» (ص 206-207) سواء على الصعيد الأكاديمي أو الأخلاقي. تتفوق المدارس المستوحاة من رؤية كولن، في الجانب الأكاديمي لأن المعلمين والمعلمات يسعون إلى الكمال، ليس فقط في إتقان موادهم الدراسية، بل أيضًا في منح طلابهم الحب والاهتمام وتنمية شخصياتهم وشخصيات طلابهم، لتغيير الآخرين يجب على الشخص أن يغير نفسه في البداية، و«ضرب المثل الجيد» أحد المكونات الأساسية لعملية التغيير.
غير أنه يجب على المدرسة ألا تقتصر على تقديم «المثل الجيد» عند محاولة تنمية شخصية طلابها. فبناء الشخصية وتنميتها لا يختلف عن أشكال التعلم الأخرى. يمكن تعريف التعلّم، سواء نظرنا إليه من منظور معرفي أو اجتماعي ثقافي أو بنائي اجتماعي، بأنه عملية فعالة لبناء المعرفة وإرساء الممارسات (مثل: ديفريز وزان 2005، إنجستروم 1987، ليف ووينجر 1991، بياجيه 1985، فيجوتسكي 1978، فون جلاسرسفيلد 1995). صحيح أن القدر الأكبر من التعلم يبدأ بالملاحظة (قارن: باندورا 1977)، لكن الملاحظة بوجه عام يجب أن يتبعها فعل ليحدث التعلم (قارن: كولن 1998، ص 99).
بالنظر إلى أنشطة مجتمع كولن، نجد أن أتباعه لا يكتفون بملاحظة المثل الأخلاقي الذي يضربه فتح الله كولن، بل إنهم يقرأون ويدرسون ويناقشون ويتفكرون في كتاباته وكتابات سعيد النورسي وآيات القرآن. كذلك فإنهم يتصرفون وفقًا لما يعرفونه، ويطبقون معارفهم في أفعالهم، كما يفعل رجال الأعمال الذين يؤسسون المدارس ويدعمونها، والمعلمون الذين يقدمون تضحيات كبيرة بمغادرة تركيا والسفر إلى دول أخرى.
إن أنشطة مجتمع كولن تجسد تعاليمه الخاصة بالتعلم وتغيير الشخصية، وهي تعاليم تؤكد الحاجة إلى أداء فعل يوجّهه التفكير والنية.
الفعل في رأي كولن (1996ب) «يجب أن يكون أكثر عنصر لا يمكن الاستغناء عنه في مستقبل حياتنا» (ص 85). يرى كولن أن أداء فعل يعني السعي باستمرار لتحقيق الأهداف الشخصية في خدمة الآخرين، وهو أمر ضروري للحفاظ على الهوية الذاتية دون أن تتأثر بالآخرين.
لا بد أن يوجه التفكير تلك الأفعال، يشدد فتح الله كولن على حاجة الأشخاص «إلى مراجعة وإعادة تقييم الآراء السائدة حول الإنسان والحياة والكون» (كولن 1998، ص 8، النص الأصلي مائل). يساعد التفكير الأشخاص على وضع أهداف واضحة، بل إنهم بحاجة إلى ذلك إذا أرادوا «تجنب الغرق في سيل من الأفكار» (كولن 2000، ص 64). إذا قام «مؤسسو المؤسسات ومديروها بتذكير أنفسهم باستمرار بالسبب وراء تأسيس هذه الكيانات، فلن تحيد جهودهم عن الهدف، بل ستظل مثمرة» (ص 65)، وتنجح أكثر في تغيير شخصية الطلاب.
يجــب تشــجيع المدارس والمربــين الذيــن لا يتقنــون موادهــم الدراســية فحســب، بــل ويهتمــون أيضــا بطلابهم ويريدون مصلحتهم في كل شؤون حياتهم حتى بعد انتهاء اليوم الدراسي.
والتفكير يمهد الطريق للنية التي يقول عنها كولن (1998): «تنشأ العقول وتنمو الشخصيات السليمة من الأفكار والنوايا الخالصة» (ص 33). النية في الواقع «واحدة من أهم مبادئ الدين الإسلامي» (جولدتسيهر 1981، ص 42). ولا شيء يدل على أهميتها أكثر من ذكرها في أول حديث في صحيح البخاري: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (ص 49). بعبارة أخرى، النية هي التي تحدد طبيعة الفعل، حتى في النظام القضائي المدني، النية هي التي تفرق بين القتل المتعمد والقتل غير المتعمد على سبيل المثال. وإذا قام الشخص بفعل في الدين الإسلامي دون «وجود نية للقيام به، فإنه ليس مقبولاً عند الله» (كولن 2005، ص 103). والمعنى الكامن وراء هذه السطور أن التصرف الأخلاقي لا يكفي وحده، بل يجب أن تكون وراءه نية.
العلاقة بين النية والفعل مهمة جدًا. تفترض خواريرو (1999) أن الأفعال «مسارات سلوكية مقيدة من أولها إلى آخرها بالنية» (ص 151). يأتي السلوك -إرساء المعنى والقيم الأخلاقية والمعتقدات- نتيجة عملية منظمة ذاتيًّا لسابق تفاعلات الشخص المتبادلة مع بيئته، وهي عملية تستتبع وجود علاقات متبادلة بين النية والفعل، وبين الفرد والمجتمع. إذا لم تخضع النية للتنظيم أو لم يتبعها الفعل، فسوف يتبع الشخص أفكار ونوايا وأفعال الآخرين (كولن 1998، ص 85). أي إن الأشخاص يمتثلون لبيئتهم الاجتماعية ما لم يعتزموا بصورة متعمدة خلاف ذلك.
بخلاف الأسرة والمدرسة، تضم بعض أمثلة البيئة المحيطة بالطلاب في الولايات المتحدة أطماع الشركات والفضائح السياسية والغش المنتشر على نطاق واسع (يحقق النجاح غالبًا). وتستطيع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وضغوط الأقران أن تقوض تأثير النماذج الأخلاقية الجيدة. أضف إلى ذلك أنه كما تستطيع خبرات الطلاب السابقة تشويه فهمهم للنصوص الأخلاقية (نارفاييز 2001)، تشكّل المؤثرات البيئية طريقة فهمهم للنماذج الأخلاقية. وبالتالي يحتاج الطلاب أن يتعلموا ليس فقط معارف المواد الدراسية بل أيضًا التفكير الأخلاقي والفعل المتعمد. كتب كولن (2004) ما يلي حول هذه النقطة: «صحيح أن العلم قيمة في ذاته، لكن هدف التعليم هو أن تصبح المعرفة دليلاً مرشدًا في الحياة وأن تنير الطريق إلى الكمال البشري» (ص 206).
الحــب الــذي يقصــده كولن هو حــب التضحية بالنفــس والمبــادرة بالأفعال، طاعــة لله واهتمامًـا بالآخرين وليس طمعا في منفعة شخصية أو من منطلق حسابات نفعية لسعادة الشخص.
لتصبح «المعرفة دليلاً مرشدًا»، يتعين على الطلاب تنمية قدرتهم على التفكير الأخلاقي. وإحدى النتائج التي توصلت إليها عمليات البحث أن بيئة الحوار المفتوح تشجع الطلاب على تنمية قدرتهم على التفكير في المعضلات الأخلاقية التي تضع الأطفال في مواقف تتعارض فيها بنيتهم الأخلاقية مع البنيات الأكثر تطورًا (كولبيرج 1999).
إلى جانب دراسة الطلاب المعضلات الأخلاقية لتنمية مهارات التفكير، يمكنهم دراسة القصص ومناقشتها. ليست القصص فكرة جديدة. فقد تم استخدام ملحمتي الإلياذة والأوديسا لهومر في تعليم التراث والقيم. كما قام روجر شانك -وهو باحث دولي معروف في مجال الذكاء الاصطناعي والعلوم المعرفية ونظريات التعلم- بتأسيس شركة (Socratic Arts) التي تستعين بالقصص في تصمم المناهج الدراسية. أما «جلوبال سيناريوز» التي تستخدمها شركة «شل إنترناشونال»، فهي قصص مصممة لمساعدة المدراء على اتخاذ القرارات. يرى يافوز (2003) أن فتح الله كولن أفضل راوي قصص دينية في تركيا.
تنجح القصص في تنمية مهارات التفكير الأخلاقي لأنها «تعيد ابتكار الديناميكيات المباشرة غير المتوقعة للعمليات الواقعية التي تسعى لشرحها» (خواريرو 2002، ص 241)، وبالتالي تكون لديها القدرة على تحدي القراء لإعادة النظر في الأفكار المألوفة ورؤيتها من منظور جديد. ولا يسري ذلك على كل القصص، بل يجب أن تكون القصص ذات نهاية مفتوحة، وأن تثير مناقشات تأملية عميقة بدلاً من مجرد التلقين.
تؤكد بعض الأبحاث على دور القصص في تنمية التفكير الأخلاقي. يشير ليمنج (2000) إلى نجاح برنامج بناء شخصية قائم على الأدب في تنمية المهارات المعرفية لدى طلاب المرحلة الابتدائية، في حين جاءت «النتائج مختلطة» فيما يتعلق بالتأثير الوجداني والسلوك. يقول كولبيرج (1999) إن التفكير ضروري لإصدار حكم أخلاقي، والحكم الأخلاقي مهم للقيام بفعل أخلاقي، لكن التفكير والحكم الأخلاقيين ليسا كافيين للقيام بالسلوك الأخلاقي. أي إن الشخص قد يستطيع إصدار الحكم الصحيح على موقف معين بناء على المبادئ الأخلاقية، ومع ذلك لا يقوم بالفعل الأخلاقي.
حتى تصبح التصرفات الأخلاقية روتين حياة، يجب أن تترسخ المبادئ الأخلاقية في ذات الفرد. ومن هذا المنظور، ندرك أهمية نظرية التقرير الذاتي (SDT). ترى النظرية أنه حتى يسعى الفرد وراء القيم الأخلاقية، ويعتنقها حتى تترسخ في ذاته، يجب أن يكون سلوكه نابعًا من ذاته، ولا بد أن تشبع البيئة احتياجاته النفسية للكفاءة والاختيار الذاتي والعلاقات بالآخرين. ومعنى الاختيار الذاتي «ممارسة التكامل والحرية» بإرادة، ومعنى العلاقات بالآخرين «الرغبة في الشعور بالترابط مع الآخرين؛ أي منحهم الحب والاهتمام وتلقيه منهم» (ديسي وريان 2000، ص 231).
يزرع المعلم الحقيقي البذور النقية ويحافظ عليها. ويشغل نفسه بما هو جيد ومفيد، ويقود الأطفال ويوجههم في الحياة وفي مختلف المواقف التي يتعرضون لها.
لن يركز هذا البحث على استكشاف كل جوانب نظرية التقرير الذاتي وتطبيقاتها في مدارس كولن، لكن إذا نظرنا إلى مؤيدي كولن، فسنلاحظ أنهم يمارسون التقرير الذاتي ويؤدون الأفعال بإرادتهم مدفوعين بحبهم للبشرية. وبالمثل، نتوقع عند محاولة بناء الشخصية أن يبادر الطلاب بأداء الفعل ليتكامل مع تفكيرهم الأخلاقي النابع من هويتهم والحب المتجسد في معلميهم.
لا شك أن النزعة الأخلاقية الكامنة في مجتمع من الأشخاص الذين يحبون البشرية، عنصر جوهري لتنشئة الجيل الذهبي. هناك حاجة لإلقاء مزيد من الضوء على طرق دمج التفكير الأخلاقي والأفعال المتعمدة والتقرير الذاتي في المدارس، مع مراعاة ما يلي:
1- التفكير والاستدلال والحكم الأخلاقي أمور ضرورية لتوجيه النية بطريقة مناسبة، وبالعكس فإن الفعل ضروري لجلب النية.
2- غرس المبادئ الأخلاقية في الشخصية، يتطلب القيام بأفعال متعمدة نابعة من التقرير الذاتي في بيئة مليئة بالحب.
الخاتمة
تأثر الكثيرون برؤية فتح الله كولن، وبذلوا الجهد والمال لتأسيس مدارس ممتازة. ما السبب وراء ذلك؟ ليس لأنه يقدم شيئًا جديدًا أو مختلفًا، بل أتصور أن السبب يكمن جزئيًّا في توليفة مثالية من الوقت والمكان والسياق، وجزئيًّا في فتح الله كولن نفسه. فجميع قصصه وتعاليمه والنموذج الأخلاقي الذي يجسده يلهم الآخرين لاتخاذ موقف، والتضحية، وخدمة البشرية عوضًا عن خدمة أنفسهم. يقول كولن (2000):
«يجب على أفراد الخدمة أن يتحلوا بالعزيمة والإصرار، من أجل القضية التي وهبوا لها حياتهم، وأن يتجاوزوا بحور الدم والصديد». (ص 83)
«أن يفضلوا القضية المقدسة على كل الرغبات الدنيوية والحيوانية؛ وأن يثبتوا على الحق بعد أن تم اكتشافه إلى الحد الذي يجعلهم يضحون بكل متعلقاتهم الدنيوية من أجله، وأن يتحملوا كل الصعاب لتعيش الأجيال القادمة في سعادة، وأن يبحثوا عن السعادة ليس في المتع المادية أو الروحانية بل في سعادة ورفاهة الآخرين، وألا يسعوا إلى شغل أي مناصب أو احتلال مكانات، وأن يمنحوا أنفسهم الأولوية في أداء العمل، وأن يمنحوا الآخرين الأولوية في تلقي الأجر؛ هذه هي المبادئ الأساسية للطريق المقدس لخدمة الحق». (ص 84)
مثل هذه التضحية تلهم المربّين أن يسعوا جاهدين لتحسين شخصياتهم وحب طلابهم، وهو مزيج من شأنه تغيير الطلاب ومساعدتهم على عيش حياة تستحق أن تُعاش.
الغاية النهائية وراء رؤية كولن التعليمية هي تنشئة “الجيل الذهبي”، وهم أفراد مثاليون، متمسكون بالصدق، يجمعون بين العلم والدين، ويعملون على نفع المجتمع.
توحي الاكتشافات التي توصلت إليها الأبحاث التعليمية وتعاليم فتح الله كولن الخاصة بالنية والفعل بأنه في حين يلعب المربّون المتأثرون برؤية كولن دورًا مهمًّا جدًّا في ضرب المثل في الحب والمعرفة، يمكنهم أخذ خطوة إضافية وإشراك الطلاب في الأفكار والأفعال الأخلاقية النابعة من تقرير الذات. من خلال التفاعل بين بيئة المدرسة المليئة بحب التضحية، وممارسة الطلاب الإرادية للتفكير الأخلاقي، وأداء الأفعال بإرادتهم سوف تتحقق رؤية كولن السامية في الولايات المتحدة، المتمثلة في تنشئة الجيل الذهبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
– بي أجاي (2003)، الأخلاقيات الإسلامية في التعليم بحسب حركة كولن، في إم هاكان يافوز وجون إل إسبوزيتو (محرران)، «الإسلام التركي والدولة المدنية: حركة كولن» (ص 48-68)، سيراكيوز، نيويورك، مطبعة جامعة سيراكيوز.
– بي بالجي (2003)، مدارس فتح الله الدعوية في وسط آسيا ودورها في نشر التركية والإسلام، «الدين والدولة والمجتمع 31»، ص 151-176.
– ألبرت باندورا (1977)، «نظرية التعلم الاجتماعي»، إنجلوود كليفس، نيويورك: دار نشر «برينتس هول».
– إم بلين وإل ريفيل (2002)، أنماط التعليم الديني والأخلاقي في المدارس الدينية والعامة في شيكاجو، جريدة Journal of Beliefs and Values، العدد 23، ص 179-189.
– سليتوس آر بولاش (2002)، «تطبيق منهج تعليم بناء الشخصية وتقييم تأثيره على سلوك الطلاب»، جريدة The Clearing House، العدد 76 (2)، ص 79-86.
– إم ديفيس (2003)، «ما عيوب تعليم بناء الشخصية؟»، جريدة American Journal of Education، العدد 110، ص 32-57.
– إدوارد إل ديسي وريتشارد إم ريان (2000)، «ماذا ولماذا عند السعي وراء الأهداف: الاحتياجات البشرية والتقرير الذاتي للسلوك»، جريدة Psychological Inquiry، العدد 11، ص 227-268.
– روبرت دي ديفريز وبي زان (2005)، «نظرة بنائية حول دور البيئة الاجتماعية الأخلاقية في تشجيع نمو الأطفال»، في كاثرين توومي فوسنوت (محررة)، «البنائية: النظرية والمنظور والممارسة» (الطبعة الثانية) (ص 132-149)، نيويورك: مطبعة كلية المعلمين.
– أريو إنجستروم (1987)، «التعلم بالتوسع: منهج نظري قائم على الأنشطة نحو البحث التنموي»، هلسنكي: دار نشر «أورينتا كونسولتيت».
– إجناتس جولدتسيهر (1981)، «مقدمة في أصول الدين الإسلام والقانون» (ترجمة ألف وآر هاموري)، برينستون، نيويورك: مطبعة جامعة برينستون.
– جوان إف جودمان (1998)، «الأوصاف الأخلاقية وتقييم الأطفال»، جريدة Journal for Moral Education، العدد 27، ص 475-487.
– فتح الله كولن (1996أ)، «الموازيين أو أضواء الطريق»، المجلد 1، (الطبعة التاسعة)، إزمير.
– فتح الله كولن (1996ب)، «نحو الفردوس المفقود»، لندن، دار نشر «تروستار».
– فتح الله كولن (1998)، «نحو الفردوس المفقود» (الطبعة الثانية)، كوناك، إزمير، تركيا: دار نشر «كايناك».
– فتح الله كولن (2000)، «لآلئ الحكمة»، فيرفاكس، فرجينيا: «ذي فاونتن».
– فتح الله كولن (2002)، «مقالات وتوجهات وآراء»، راذرفورد، نيويورك: «ذي لايت».
– فتح الله كولن (2004)، «نحو حضارة عالمية قائمة على الحب والتسامح»، سومرست، نيويورك: دار نشر «ذي لايت».
– فتح الله كولن (2005)، «رسول الله: محمد» (نسخة مراجعة)، سومرست، نيويورك: دار نشر «ذي لايت».
– دوين هوبنر (1999)، «جاذبية السمو: مجموعة مقالات لدوين إي هوبنر»، ماهواي، نيويورك: دار نشر «لورنس إرلبوم أسوشيتس».
– أليشيا خواريرو (1999)، «الديناميكيات الفعالة: السلوك المتعمد بوصفه نظامًا معقدًا»، كامبريدج، ماساشوستس، طبعة «برادفورد بوك»، مطبعة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا.
– لورنس كولبيرج (1999)، «نهج التطور المعرفي نحو التعليم الأخلاقي»، في ألان سي أورنستين وليندا إس بيهار هورنستين (محررون)، «قضايا معاصرة في المنهج الدراسي» (الطبعة الثانية)، ص 163-175، بوسطن: دار نشر «ألين وبيكون».
– ألفي كون (1999)، «فحص نقدي لتعليم بناء الشخصية»، في ألان سي أورنستين وليندا إس بيهار هورنستين (محررون)، «قضايا معاصرة في المنهج الدراسي» (الطبعة الثانية) ص 176-192، بوسطن: دار نشر «ألين وبيكون».
– كريستيان كريستيانسون (2002)، «دفاعًا عن تعليم بناء الشخصية غير الشامل»، جريدة Journal of Philosophy of Education، العدد 36 (2) ص 135-156.
– كريستيان كريستيانسون (2004)، «ما وراء العدالة الديمقراطية: شكوك إضافية حول تعليم المواطنة»، جريدة Journal of Philosophy of Education، العدد 38 (2) ص 207-219.
– جين ليف وإتيان وينجر (1991)، «التعلم الموقفي: مشاركة ثانوية حقيقية»، كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج.
– جيه إس ليمنج (2000)، «أخبرني قصة: تقييم لبرنامج تعليم بناء الشخصية قائم على الأدب»، جريدة Journal of Moral Education، العدد 29 (4) ص 413-427.
– ليفين إبستين (محرر) (2002)، «المدارس الإعدادية «تكتشف» برامج بناء الشخصية، وتحصد الثمار»، جريدة Pro Principal، العدد 15 (1) ص 1-4.
– توماس ليكونا (2004)، «الشخصية مهمة: كيف نساعد أطفالنا على تنمية الحكم السليم والنزاهة وغيرها من الفضائل الأساسية»، نيويورك: دار نشر «سيمون وشوستر».
– توماس ميشيل (2003)، «فتح الله كولن المربّي»، في إم هاكان يافوز وجون إل إسبوزيتو (محرران)، «الإسلام التركي والدولة العلمانية: حركة كولن»، سيراكيوز، نيويورك: مطبعة جامعة سيراكيوز.
– إيه ميلسون وإل ميهليج (2002)، «إحساس الفعالية لدى معلمي المدارس الابتدائية في تعليم بناء الشخصية»، جريدة Journal of Educational Research، العدد 96، ص 47-53.
– إم إم مورفي (2002)، «تعليم بناء الشخصية في مدارس بلو ريبون الأمريكية: الممارسات المثلى لمواجهة التحدي»، (الطبعة الثانية)، لانهام، ماريلاند: مطبعة «سكيركرو».
– دارسيا نارفاييز (2001)، «فهم النص الأخلاقي: تبعات التعليم والبحث»، جريدة Journal of Moral Education، العدد 30، ص 43-54.
– «أمة في خطر» (1983)، «اللجنة الوطنية للتميز في التعليم»، تم الوصول عبر الإنترنت http://www.ed.gov/pubs/NatAtRisk/index.html.
– إيرول أوزدالجا (2000)، «الزهد الدنيوي في الإسلام: زهد ونشاط فتح الله كولن»، جريدة Critique، العدد 17 ص 84-104.
– إيرول أوزدالجا (2003أ)، «ثلاث معلمات تحكين قصتهن»، في إم هاكان يافوز وجون إل إسبوزيتو (محرران)، «الإسلام التركي والدولة المدنية: حركة كولن» (ص 85-114)، سيراكيوز، نيويورك، مطبعة جامعة سيراكيوز.
– إيرول أوزدالجا (2003ب)، «توجهات علمنة في حركة فتح الله كولن: مأزق أم فرصة لمزيد من التجديد»، جريدة Critique: Critical Middle Eastern Studies، العدد 12 ص 61-73.
– جان بياجيه (1985)، «موازنة الهياكل المعرفية» (1975)، (ترجمة تي براون وكيه جيه ثامبي)، شيكاجو: مطبعة جامعة شيكاجو.
– نيل بوستمان (1995)، «نهاية التعليم: إعادة تعريف قيمة المدرسة»، نيويورك: دار نشر «ألفريد نوبف».
– لين ريفيل (2002)، «استجابات الأطفال لتعليم بناء الشخصية»، جريدة Educational Studies، العدد 28 ص 421-431.
– كيث بي ريتشبورج (22 سبتمبر 1988)، «بينيت يؤيد خطة درس التفوق الأخلاقي»، صحيفة The Washington Post، تم الوصول عبر EBSCO.
– برتراند راسل (1961)، «تعليم بناء الشخصية»، نيويورك: دار نشر «فيلوسوفيكال لايبريري».
– برتراند راسل (1932 / 1967)، «التعليم والنظام الاجتماعي»، لندن: دار نشر «جورج ألين وأنوين» المحدودة.
– الطلاب الذين يتركون المدرسة يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة والرياضيات، (21 أغسطس 2005)، بي بي سي نيوز، تم الوصول عبر الإنترنت يوم 21 أغسطس 2005 عبر موقع بي بي سي نيوز: http://news.bbc.co.uk/go/pr/fr/-/1/hi/education/4170336.stm.
– جيف سيلينجو (2004)، «ثقافة الغش»، مجلة Prism Magazine، العدد 14 (1)، تم الوصول عبر الإنترنت يوم 20 أغسطس 2005 عبر الموقع: http://www.prismmagazine.org/sept04/feature_cheating.htm.
– إي شاكر (1998)، «معرفة المزيد حول تجارة التعليم»، مشروع تعليم المركز الكندي للسياسات البديلة، تم الوصول يوم 1 يونيو 2005 عبر موقع CorpWatch: http://www.watchcorp.org.
– «مختصر صحيح البخاري»، (1994) (ترجمة محمد محسن خان، تأليف الزبيدي)، الرياض، المملكة العربية السعودية: مكتبة دار السلام.
– إم هاكان يافوز (2003)، «حركة كولن: الأتراك المتشددون»، في إم هاكان يافوز وجون إل إسبوزيتو (محرران)، «الإسلام التركي والدولة المدنية: حركة كولن» (ص 19-47)، سيراكيوز، نيويورك، مطبعة جامعة سيراكيوز.
– كيه دي فينسون (1998)، «معضلات تعليم بناء الشخصية والفضيلة المدنية: استجابة نقدية لبيان موقف المجلس الوطني للدراسات الاجتماعية»، جريدة Social Education، العدد 62 (2)، ص 112-115.
– إرنست فون جلاسرسفيلد (1995)، «البنائية الثورية: طريقة للمعرفة والتعلم» (المجلد 6)، لندن: دار نشر «فالمر».
– ليف فيجوتسكي (1978)، «عقل المجتمع: تطور العمليات النفسية العليا»، كامبريدج، ماساشوستس: مطبعة جامعة هارفارد.
ألفريد نورث وايتهيد (1929)، «أهداف التعليم ومقالات أخرى»، نيويورك: دار نشر «ماكميلان».
– واي يلدريم وإس كرمزيالتن (2004)، «الجيل الذهبي: مصالحة الهوية الإسلامية والحداثة عبر التعليم»، ورقة بحثية مقدمة في المؤتمر السنوي الثالث والثلاثين لرابطة علماء الاجتماع المسلمين (24-26 سبتمبر 2004)، جامعة جورج ماسون، واشنطن العاصمة.