إلى جانب كونه ﷺ محاربًا كان صاحب شفقة عظيمة.. كان سياسيًا ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة.. وبينما كان يعطي أهمية للأمور الملموسة وللتجارب فإنه كان ذروة في حياة الروح وفي حياة القلب.
كما تستطيع مشاهدة كيف أن الإنسان الذي افتتن بتيار الوضعية فأصبح يجري وراء إجراء التجارب على كل شيء.. وكيف أن الحياة الروحية والقلبية لمثل هذا الرجل لا تتجاوز خط الصفر. بل هناك أشخاص وصلوا بعقولهم إلى “قمة إفرست”. ولكنهم في حياتهم القلبية والروحية تراهم هابطين إلى مستوى “البحر الميت” “بحيرة لوط”. فكم من شخصٍ انساب عقلُه إلى عينيه فلا يرى شيئًا سوى المادة، يقف ذاهلاً أحمق أمام منطق الوحي، قد عميت عيناه عن رؤية الحقيقة. من هذا الشرح القصير نعرف أن هناك أشخاصًا ينجحون في ساحات وميادين معينة ولكنهم يفشلون في ساحات وميادين أخرى أكثر أهمية. أي أن الصفات المتناقضة الموجودة في الإنسان تعمل إحداها ضد الأخرى. فعندما تتوسع صفة ما وتقوى يكون هذا ضد صفات أخرى، وعندما تنمو إحداها وتقوى تضمر الأخرى وتضعف.
النبي صفوة البشر
ولكن هذا الأمر غير وارد بالنسبة لرسول الله ﷺ، فهو إلى جانب كونه محاربًا كان صاحب شفقة عظيمة.. كان سياسيًا ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير.. وبينما كان يعطي أهمية للأمور الملموسة وللتجارب فإنه كان ذروة في حياة الروح وفي حياة القلب.
مواقف لبلوغه ﷺ الذروة؟
ويمكن العثور على أمثلة كثيرة بهذا الصدد في معركة أُحد. ففي تلك المعركة استشهد عمه حمزة رضي الله عنه الذي كان يراه شقيق نفسه. لم يُستشهد فقط بل مزق جسده تمزيقًا.([1]) كما مزق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقًا.([2]) وشج رأسه المبارك، وكسرت أسنانه وغطى الدم جسده الشريف؛([3]) وبينما كثّف أعداؤه الهجوم عليه جاهدين للوصول إليه لقتله كان هذا الإنسان العظيم فوق كل عظمة فاتحًا يديه يبتهل إلى الله تعالى قائلاً: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.».([4]) فما أعظم وما أروع هذه الشفقة من شخص يحاول أعداؤه قتله فلا يدعو عليهم… بل يبتهل للّٰه تعالى أن يغفر لهم.
الصفات المتناقضة الموجودة في الإنسان تعمل إحداها ضد الأخرى. فعندما تتوسع صفة ما وتقوى يكون هذا ضد صفات أخرى، وعندما تنمو إحداها وتقوى تضمر الأخرى وتضعف.
ذروة التسامح
حتى فتحِ مكة لم يبق في يد أعدائه أيُّ وسيلة للإيذاء لم يجربوها معه ولم يوجهوها نحوه… تأملوا معي كيف أنهم أخرجوه هو ومن يقف معه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة، ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة؛ وكانت تقضي بعدم التعامل معهم بيعًا وشراء وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج بناتهم لهم… وقد دامت هذه المقاطعة ثلاث سنوات بحيث اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك منهم الأطفال والشيوخ من الجوع دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم عاطفة رحمة.. ولم يكتفوا بهذا بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بعيدة.. ولم يدعوهم في راحة هناك فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم طعم الراحة والاطمئنان.. وفي معارك بدر وأُحد والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية.. وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة الكعبة وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية. ولكن الله تعالى أنعم عليهم ففتحوا مكة ودخلها رسول اللّٰه ﷺ على رأس جيش عظيم..
فكيف كانت معاملته لأهـــل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عــداوة وبغضا..؟ لقد قــــال لهم: «اذهبـوا فأنتم الطُلَقاء» ولولا أنني أخذت هــذا الدرس منه لما كنت قد تصرفت هكذا لو كنت في موقعه، ولا أشك أنكم تشاطرونني رأيي هذا. ولكنه يدخل مكة على مركبه والدرع على صدره والمغفر على رأســـــه والسيف في يده والنبال على ظهره.. ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجاً للشـــفقة والرأفة.. ســـأل أهل مكة: «ما ترون أني فاعل بكم؟» فأجابوه: “خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم.” فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿لاَ تَثرِيبَ عَلَيكُمُ الْيَــومَ يَغفِر اللّٰهُ لَكُم وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف:92).
هناك أشخاص وصلوا بعقولهم إلى “قمة إفرست”. ولكنهم في حياتهم القلبية والروحية تراهم هابطين إلى مستوى “البحر الميت” “بحيرة لوط”.
الأخذ بالأسباب مع التوكل
لم يقصر في حياته أبدًا من ناحية اتخاذ الحيطة. وليس هناك من استطاع مثله الجمع بقوة بين اتخاذ التدبير والتوكل. عندما خرج بأصحابه إلى بدر امتحنهم.. كان كل منهم كالطود الشامخ لا يخاف الوقوف وحده أمام جيش بكامله، وعندما قال له سعد بن معاذ -وفي رواية: سعد بن عبادة-: “يا رسول اللّٰه! والذي نفسي بيده لو أمرتَنا أن نخيضها البحار لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِمَاد لفعلنا ما تخلَّف منا أحد.” فإنه كان يعطي أنموذجا لهؤلاء.. ثم ما أكثر المعاني التي يحملها قوله “…فصِلْ حِبال من شئتَ واقطعْ حبال من شئت وعادِ من شئت وسالِمْ من شئت وخذ من أموالنا ما شئت”([5])
كان المقاتلون متهيئين فكأن كل واحد منهم سعد بن معاذ، ومع ذلك لم يقصر رسول اللّٰه ﷺ في اتخاذ التدابير، بل كان يهيئ كل الوسائل والأمور الضرورية للحرب. وبعد هذا الدعاء الفعلي -لأن اتخاذ الوسائل دعاء فعلي- رفع يديه إلى السماء مبتهلاً إلى اللّٰه من كل قلبه ضارعًا وملتجئًا إليه… واندمج في دعائه بحيث كان رداؤه يسقط دون أن يشعر بذلك ولم يتحمل أبو بكر الذي كان يراقب هـذا المنظر، فكان يعيد عليه رداءه ويقول: “يا نبيّ اللّٰه! كفاك مناشـدتك ربك، فـإن اللّٰه منجز لك ما وعدك.”( )
فمثل هذا المستوى الرفيع من التوكل على رب العالمين بعد اتخاذ كل هذه التدابير صفة تميز بها ذلك الإنسان… إنسان الذروة ﷺ، وتفرد بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([2] ) السيرة النبوية لابن هشام، 3/103.
([3] ) البخاري؛ المغازي 24؛ مسلم، الجهاد100/ 101.
([4] ) البخاري، الأنبياء 54؛ مسلم، الجهاد 104/ 105.
([5] ) البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 321، 322؛ السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 266.
المصدر: محمد فتح الله كولن، النور الخالد محمد ﷺ مفخرة الإنسانية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ8، 2013م، صـ 249/ 250/ 251.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.