في ظل تسارع وتيرة الأحداث في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، برزت إلى الوجود قيم جديدة تتسم بالاهتمام بالشكل والافتقاد إلى الجوهر والمضمون، وتعالت الشعارات الرنانة والدعايات الرخيصة، وتراجعت قيمة الإنسان الحقيقية، وصارت الإنسانية اليوم تعيش أشد أزماتها الوجودية.
وفي خضم هذه الأحداث الجسام التي يمر بها العالم كله والإنسانية جمعاء، بدأت بعض المفاهيم تبرز إلى الواجهة مرة أخرى، مثل مفهوم “الحوار” و”التسامح” و”التعايش”، فالمأزق الذي تعيشه الإنسانية اليوم يستوجب حضور جوهر مفهوم “الحوار” وكل المفاهيم المرتبطة به في وقتنا الحاضر، فمثل هذه المعاني هي أمل الإنسانية في المستقبل المتوسط والبعيد، وهي الأمل الذي سيبحث عنه من يعنيه الأمر، ومن يتطلع إلى جوهر الأشياء.
أما الأطراف التي تتخذ من الصراع محرك وجودها في الوقت الراهن، فهي لا تلقي بالاً لجوهر القيم الأخلاقية، بل تتبنى من الشعارات المفرغة من مضمونها الأخلاقي ما يضمن بقاء مصالحها، ويحقق تطلعاتها في السيطرة ويشبع نهمها المادي، لكن عندما تتوقف المنافع وتزول الحجب سيبدأ الجميع في البحث عن الحقيقة التي تنطلق من العقل السليم وتعتمد على المنطق المستقيم، وهنا تبرز أهمية الحوار وضرورته.
لقد صار الحوار ضرورة عصرية، بل أصبح سمة تميز عهدنا الحالي، فالتقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يومًا بعد يوم، بفضل التقدم التقني الهائل الذي أزال الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب. وقد خلق الله البشر مختلفين في الخصائص والصفات والطبائع، ويجب أن يُستثمر هذا الاختلاف باعتباره مصدرًا من مصادر التنوع والثراء، تشكل فيه هذه الاختلافات صورة بديعة لحديقة الإنسانية المباركة، لكل زهرة فيها عطرها الخاص وشكلها المميز، ومن الخطأ اتخاذ هذا الاختلاف سببا للصراع وللخصام؛ لأن ذلك سيؤدي إلى نسف جسور الأمن والسلام ويُلحق بالإنسانية ضررًا كبيرًا.
ومن ثم فهناك طريقان لا ثالث لهما لتعايش الناس معًا؛ أحدهما استعمال القوة والبطش، وهذا طريق مدمر نهايته الدمار والخراب وفناء العالم، أما الثاني فهو أن يتفاهم الأحرار فيما بينهم ويتفقون على إرساء عقد اجتماعي وقانوني للتفاهم، وتحديد أسلوب مشترك للتعايش يضمن حقوق الناس ويعبر عن طموحاتهم ويحدد مسؤولياتهم إزاء بعضهم البعض.
إن تأسيس خطاب إيجابي متوازن، يحافظ على الهوية الذاتية ويحترم التعددية الفكرية والثقافية هو اللبنة الأولى لتحقيق هذا التسامح واقعًا معاشًا، أما الأساس الذي ينبغي أن يعول عليه فهو تنشئة أجيال تمتلك الوعي اللازم الذي تنتفي فيه الازدواجية بين الثقافة التقليدية والحديثة، وتصدر عن رؤية إسلامية سمحة، وتتعمق في وجدانها أبعاد المواطنة التي تنتمي إلى المصالح العليا للأمة، بعيدًا عن دوامات الصراع والجدل المضيع للمال والوقت والفرص ليتحقق الهدف المنشود من استخلاف الإنسان على هذه البسيطة وعمارتها وفق المنهج الإلهي.
ولقد برزت مبادرات عديدة تدعم هذه الحاجة، وتأخذ زمام المبادأة في وقت كان الجميع يرفض كل هذه المحاولات وينقضها، ومن أهم الرواد الذين احتلوا مكانة بارزة في هذا الصدد الأستاذ “فتح الله كولن” رائد حركة الخدمة، فما فتئ يردد في كل مناسبة فضائل التسامح والحوار والتعايش المجتمعي، مرددًا عبارته الشهيرة: “افتح صدرك للجميع، افتحه أكثر ما تستطيع.
وفي حوار أجراه مع جريدة الوطن المصرية في أبريل/نيسان 2017، أكد على أن هذا المنهج في الحوار والتعايش ليس بدعًا في القول ولا العمل، بل هو منهج نبوي أصيل طبقه النبي وخاصة في وثيقة المدينة المنورة مع الذين كانوا يحملون أفكارًا مختلفة.
وفي تأصيله لفكرة التسامح في ضوء المبادئ الإسلامية الرئيسة، اتخذ من “البسملة” نقطة انطلاق؛ لما فيها من تكرار لاسمي الله “الرحمن” و”الرحيم”، فإن الله تعالى يريد أن يُعلّم المسلمين بتلك العبارة -إلى جانب حِكَمها الأخرى- أن يكونوا رحماء في علاقاتهم مع الآخرين من الناس وحتى مع الطبيعة. ويرى كولن أنه ينبغي التفكر كثيرًا والوقوف طويلًا على حكمة تكرار هذه العبارة مئة وأربع عشرة مرة في القرآن. كما ركز على مفهوم “الحُبّ” باعتباره منطلقًا أساسيًّا أيضًا إلى جانب الرحمة في تأسيس أرضية للتعايش الإيجابي البناء
ولم تقتصر دعوته إلى التعايش الإيجابي والحوار الفعال على مجرد عرض الأفكار في دروسه ومحاضراته وكتبه، بل بدأ فعاليات دعا الناس فيها إلى نبذ الخلاف والعصبية والاجتماع على كلمة سواء، حيث انطلقت هذه الفعاليات من تركيا منتصف التسعينات من القرن المنصرم، ودعا فيها إلى التعاون للخلاص من الانقسامات التي تعاني منها البلاد سواء بين العلمانيين والمتدينين، أو بين العلويين والسنيين، أو غيرها من أشكال الانقسامات.
وقد لاقت هذه الجهود ترحيبًا شعبيًا واسعًا، والتقى على مائدة واحدة أناسٌ كانوا بالأمس القريب لا يعرفون سوى لغة التحزب والعصبية الطائفية، فصاروا يناقشون قضاياهم بكل هدوء وبلغة راقية. وقد حمل أبناء الخدمة أصداء هذه الفكرة إلى كل مكان رحلوا إليه أو أسسوا فيه مؤسسات تعليمية وتربوية.
لقد أسهمت المؤسسات التعليمية والتربوية التي أسسها أبناء الخدمة في نحو 170 دولة من دول العالم في ترسيخ هذا المبدأ، خاصة في المناطق التي تعاني من هذا الداء؛ ففي جنوب “الفيليبين” مثلا فتح محبون للخدمة مدرسة أسموها “مدرسة التسامح الفيليبينية”، وهي تتواجد في منطقة يقطنها 50% من المسلمين و50% من المسحيين، ويغلب على هذه المنطقة طابع التوتر والتجاذب بين هؤلاء الأطياف. لكن المدرسة تعطي التلاميذ الفليبينيين مسلمين ومسيحيين دروسًا إيجابية وذات جودة عالية في كيفية التعايش مع الآخر، ويعمل فيها كوادر محلية من المسلمين والمسيحيين على السواء، وكذلك الأمر في البوسنة والهرسك بين البوسنيين والصرب والكروات، وفي إقليم كردستان بين الأكراد والعرب والتركمان والقوميات الأخرى، وفي مناطق أخرى من العالم نجحت بفضل الله تلك المدارس في تأسيس هذه القيمة ورعايتها والقضاء على القبح الناتج عن التهميش والإقصاء.
لكن ما يحز في النفس الآن، أن الحكومة التركية بعد إغلاقها لكافة المؤسسات في تركيا، تبذل كل جهدها وتنفق أموال الشعب للعمل على إغلاق هذه المؤسسات في الخارج، بدلاً من الاهتمام بمشكلاتها الداخلية، والتصدي لظاهرة الإرهاب التي بدأت تتنامى في الفترات الأخيرة وتحصد الأرواح بلا وازع من دين أو إنسانية.
وفي هذه الإصدارة من نسمات، نلقي مزيدًا من الأضواء على “قيم التسامح والجمال في فكر الأستاذ فتح الله كولن”، وكيف تجلت هذه القيم مبادراتٍ حيةً على أرض الواقع في تطبيقات أبناء الخدمة، وذلك من خلال نخبة من الكُتّاب متعددي الأجناس والأعراق والأفكار والأديان، تعبيرًا بحق عن تجلي هذه الروح -روح التسامح والجمال- من خلال هذه الكوكبة.