من بعض مظاهر الحداثة والعولمةِ دفُعها أفرادا ومجتمعاتٍ لارتياد طرقٍ لعلها أقرب للانغلاق و”التمترس بالهوية” منها إلى الانفتاح والحوار مع (الآخر)، كذلك عبر عقود متطاولة وهو ما يسمى بـ”التدافع الحضاري” تراكمت فيها أفكار، وتكرست مواقف، وتشابكت مصالح ضيقة، وظهرت أحداثٌ سمتُها الاستعلاء والعنصرية، وسلوكيات تنضحُ بالإقصاء والتصادمية، لذا فقد باتت الحاجة ماسة لتفعيل كل ما من شأنه البحث عن “الجوهر”، والمشتركِ الإنساني، والتعايشِ البنّاء، وتثمينِ الرؤى التي تؤدي إلى الابتعاد عن “الأحكام النمطية”، وإثراء المثاقفة المتبادلة، وإرساء جسور التعارف والتعايش، وتحقيق كل صور “الأمن” المنشود للجميع، فحينما يلتقي ويتحاور الشرق والغرب -ولا بد لهما أن يلتقيا ويتحاورا- ستسود “المعرفة المُنصفة”، والاحترام والتقدير المتبادل لدور كل منهما في المسيرة الحضارية للبشرية، كما سيعلو الحوار الفعّال، على الخنجر القتّال، وسيحل الوئام لا الصدام، والوفاق لا الشقاق، ولقد أدرك عقلاء العالم -ومنهم الأستاذ “فتح الله كولن”- قيم “التحاور، والتعارف، والتعايش”، وحثوا على ممارسة تلكم القيم المرتكزة على احترام التنوع البشري والاختلاف الثقافي الخلاق، فما أسس وملامح فلسفة “كولن” في الحوار مع (الآخر)؟ وما موقفه من صراع اللسان، وصراع السِنان؟، وهل الحوار مع (الآخر) يعني “ذوبانا” فيه، و”تمييعًا” للثوابت العقدية والإيمانية والقيمية كما قد يدعي البعض؟

يسعى الأستاذ “فتح الله كولن” وأمثاله لجعل العالم أكثر تسامحًا تسوده قيمٌ عالمية.

“الحوار” لغةً هو: جذر “حَـوَر”، وهم “يتحاورون” أي: يراجعون الكلام. أما اصطلاحًا فهو: “أحد النشاطات العقلية والفكرية بين طرفين أو أكثر (والأصل في الحوار هو الاختلاف)، وفيه تُطرح أسئلة تحتاج لأجوبة. ومن ثم يقدم المتحاورون براهينَ ودلائل وشواهد وأفكار للوصول إلى اتفاق/توافق حول قضية ما (كدعوة إلى فضيلة، أو تحذير من رذيلة، أو تقويم سلوك، أو تصويب منهاج، أو حل مشكلة). كما يَكشِف في الحوار كلُّ طرف -قدر استطاعته- ما خفي عن الطرف (الآخر) وهو مطلب رئيس في الحياة على مستوى الذات/النفس، والمجتمعات، والبشرية جمعاء.

وقد وردت مشتقات مادة “حَـوَر” في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم وهي: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ (الكهف:34)، و﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ (الكهف: 37)، و﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (المجادلة:1). كما ورد بِمعنى “المُجادلة بالحُسنى”: ﴿… وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..﴾ (النحل:125). ولفن الحوار آليات وآداب وأخلاقيات وضوابط وأوقات وغايات تُطلب في مظانها.

أما مفهوم (الآخر): فمتعدد المعاني، ويتنوع باختلاف وجهات النظر والرؤى. وثمة اتفاق على أن (الآخر)، مجاوز لمعنى (الأنا): “كل ما ليس أنا” سواء كان ذاتًا فردية (هو)، أو ذاتًا جماعية ينتسب إليها الفرد (نحن)، أو ذاتًا جماعية مقابلة للجماعة (هم)، وقد تكون ذاتًا جماعية لصديق أو عدو. ويمر تشكيل صورة (الآخر) في أبعادها الذاتية والموضوعية، وفي أشكالها ومضامينها، عبر (الذات) المكونة لهذه الصورة بكل ما تحوزه هذه (الذات) من مُوَجّهات أيديولوجية وخبرات مباشرة.. قديمة ومعاصرة. ومن المعلوم أن (الآخر) باختياراته وأفعاله وردود أفعاله يسهم كثيرا في تأسيس مرتكزات صورته تلك.

الإسلام يشير إلى أن البشرية جاءت من أصل واحد، ثم تنوعت شعوبًا وقبائل للتعارف والتعاون وفق معيار أساس: التقوى والعمل الصالح.

ويبقى (الآخر) في رؤية الفكر الإسلامي هو: الأخُ المشترك في المعتقد أو المُجتمع في الإنسانية. ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام “الكرامةَ الإنسانية” بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعًا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم، كرمهم الله U بنفخة من روحه في أبيهم آدم ، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء:70)، فكانت “الكرامة الإنسانية” سابقة على الكرامة الإيمانية.

الحوار منهج قرآني ونبوي أصيل

لا تكاد تخلو سورة من سوره الكريمات من “حوار”. ففي فواتح سورة “البقرة” إشارات لحوار مع “المنافقين”: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:11-13). ثم حوار الله -سبحانه- مع الملائكة وإجابته تعالى عن أهم سؤال وجودي حول علة الخليقة، ثم الحوار مع آدم، وحوار سيدنا موسى ، مع قومه ليذبحوا بقرة إلخ. كما نرى محاورة كل رسول ونبيٍّ لقومه وعشيرته مبثوثة عبر سور القرآن الكريم حيث كان من أصول دعوة الرسل تقرير الحجة والحوار بالحسنى.

وعبر الدعوة النبوية الشريفة (23 عامًا) تعددت طرق ومواقف الحوار بين الرسول محمد  وبين المدعوين من جهة، وبينه وبين أصحابه والمؤمنين من جهة أخرى. ومنذ بداية صدعه بالدعوة كانت بواكير (الحوار، والتفاوض) معه عبر صناديد قريش أمثال “عتبة بن ربيعة”، والوليد بن المغيرة”، والعاص بن وائل” إلخ. وكان الرسول الكريم  يربي أصحابه بالحوار المتصل، كما درج الصحابة الكرام على محاورته ، من خلال الأسئلة والاستفسار عن كثير من الأمور، ولو تأملنا مضامين الفكر الإسلامي عبر العصور لوجدنا في المرجعية الإسلامية ما ينبه ويؤكد على هذا النهج، فالحوار سنة إلهية وفطرة إنسانية، وإن عدمَ استنفاد الوسع في حل المشكلات بالحوار واللجوءَ إلى القوة والتعصب، يضع البشرية جمعاء في خطر.

المتتبع لأدبيات الأستاذ “فتح الله كولن” يجد تركيزه على خَلْق هذه الجسور المشتركة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي.

“كولن” ومنطلقات الحوار مع الآخر

لعل الأستاذ “كولن”، وهو المنتسب لعائلة علم ودِّين، والدارس المتأمل في كتاب الله تعالى، وسيرة رسوله ، ينطلق في إيمانه بالتعددية الثقافية واللغوية والعرقية، باعتبارها “آية” تستحق التدبر: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم:22)، وقوله Y: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13).

إنه لأصل بشري واحد، مُنتشر شعوبًا وقبائل، ومُختلف في الأجناس والألوان واللغات. فلا مدعاة للتفرق والتخاصم والتناحر والذهاب بددًا. بل هو للتعارف والتعاون وفق معيار أساس: التقوى والعمل الصالح، وهما أعمال كسبية (ليست وراثية/عرقية) يتسابق فيهما الناس جميعًا؛ مرضاة لربهم، وتصالحًا على العرف الحسن، والمعرفة الرشيدة دونما اعتداء أو تعدٍ أو إكراه. وفي حِجة الوداع قال الرسول : يأيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله ، ثم قال أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، ثم قال أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا بلد حرام، قال فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم -قال ولا أدري قال أو أعراضكم أم لا- كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله  قال ليبلغ الشاهد الغائب”(1).

وإنه لمن المستحيلات جمع الناس كلهم فعلًا وفكرًا، وقولاً وسلوكًا، فالتنوع البشري هو مشيئة الله تعالى، وسُنة في كونه: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ…” (هود: 118-119). وقد خلقهم الله تعالى: “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا…” (البقرة: 148)، وإذا ما تنوعت الوجهات، فينبغي التحاور على كلمة سواء، وامتثالاً لقوله تعالى: (وقُولوا للنَّاسِ حُسْنَا)، أي للناس جميعًا، بقطع النظر عن عقائدهم، وأعراقهم، وثقافاتهم.

لم يكن “كولن” ضد الاحتكاك بـ (الآخر) بل كان ضد الأخطاء الواقعة عند النظر إليه وتقييمه، مع ضرورة استيعاب الواقع وفهمه.

وهذا قول حسن ينبع من فكر يستوعب هذه السنة الكونية، ويُحسن ثقافة تدبير الاختلاف؛ ليستفيد مما يتيحه التنوع المعطاء في بناء الحضارة الإنسانية المشتركة. وتخفيفًا من حدة الصراعات والخلافات التي تضعّف الذات الإنسانية وتصرفها عما ينبغي أن تعمل له. فمن المعلوم إن لدى الإنسانية مشتركاتٍ كثيرةً أدَّى تجاهلها إلى كثير من الحروب والدمار وإلى ابتعاد البشرية عن القيم التي أرساها الأنبياء؛ قيم الخير والمحبة والتراحم والسلام.

الحوار مع النفس، وتسامح كولن

(أيتها النفس! إن كنتِ جريئةً وجسورةً فعلاً، فابصقي في وجهِ ما في داخلك من العداء، واطردي الخذلان من بابك، ودُوسي على رأس الظلم، واقطعي أنفاس الوقاحة مُنطلقةً من الشعور بأنه تعالى حاضر في كل مكان، واكبحي جماح نوازع الخطايا عن طريق الإيمان بالانتقام الإلهي، وحاولي ألا تسيري صوب تلبية غرائز النفس ونزواتها، بل سيري في طريق مرضاة الله تعالى، واستشعري دائمًا بأن الله رقيب عليك، واهتزي كما تهتز الأشجار، لتَنْفُضِي عنك كلَّ ما يُفسِد طبيعتكِ ويشوِّه منظرك، وما هو غريب عن روحك وعبءٌ على قلبكِ من أنواع الذنوب والخطايا والمعاصي، حتى تتناثر وتذهب عنكِ أبعدَ ما تكون)(2).

وفي ترجمة عملية للحوار المبدئي مع النفس والوعي بالذات قبل الحوار مع (الآخر).. بدأ “كولن” عمله الدعوي متنقلا في بلدة “إزمير”، حيث طاف أنحاء غربي الأناضول، ونظّم مخيمات للشباب (عام 1970) لتربية نفوسهم، وإرساء قواعد التسامح بينهم. ثم اعتقل (عام 1971) لستة أشهر قضاها في “الحوار مع النفس، والعودة إلى الذات الإسلامية الإيمانية”، وبعد إطلاق سراحه ظل بضواحي “إزمير” حتى (عام 1980)، فكان يرتب المحاضرات ويعقد الندوات والمجالس الخاصة. وكان لُبُّ دعوته: العودة إلى الذات والجذور، وربط ديناميكية الماضي الروحية والمعنوية والأخلاقية بالنسيج الإنساني والثقافي، دون إهمال (الآخر) أو إبعاده، فلا يفهم ذلك على أنه بقاء الإنسان محصورًا داخل نموذجه الخاص، أو منغلقًا على نفسه تجاه العالم الخارجي. فنحن اليوم بحاجة ماسة لتفعيل “التربية الحوارية”، بدءًا بمؤسسة التربية الأولى (الأسرة)، ومؤسسات المجتمع وصولا للحوار الإنساني العالمي. ففي مقاله المعنون بـ”حوار مع النفس”(3) يغوص في أغوار النفس البشرية، داعيًا النفس البشرية أن تكون في كل حالاتها منشغلة بمشاعر الإحسان وترجمانًا للخير والجمال، ويحثها على أن تزيد من سرعتها في سيرها على الخط الإنساني، مبينًا أن الحاجة إلى مثل هذا الجهد في عالمنا الذي تآكلت فيه القيم الإنسانية توازي الحاجة إلى الماء والهواء.

واشتهر “كولن” بكلمة تركية، انتشرت في عظاته وتعليمه، وهي:”hosgoru” وترجمت بمعني “التسامح”. وهو يحب استعمالها كمعنى مرادف لمصطلح “الحوار”. كما قد تفهم أيضًا بمعني: “احترام الإنسان أيًّا كان موقعه”، و”التعددية القائمة على المبادئ”. وهي ليست “تعددية نسبية” حيث لكل رأي حق المساواة في الصحة. لكنها تعددية مستندة إلى فهم للإسلام بأنه وفر أساسا يمكن من خلاله تحويل الاختلافات إلى تعاون مثمر عبر الحوار، حيث يستشهد “كولن” دومًا بمقولة للأستاذ “سعيد النورسي” مفادها: “لا يمكن الوصول بنجاح إلى الأشخاص المتحضرين إلا عبر الإقناع”. ومعرفة المسلم للحدود التي يجب أن يقف عليها تتيح له إمكانية قبول الاختلافات الموجودة دون حاجة للحكم عليها، وبالتأكيد دون عنف.

فالخلافات مدعاة لوجود أجواء من الحوار. ومن ثم يساعد الحوار الناس على تعلم العيش المشترك بسلام وتحقيق عدالة أكبر، وبالنهاية أنت تحتاج لرؤية (الآخر) بعين الرأفة والرحمة الصمدانية المبثوثة في الكون كله وتشمل كل المخلوقات. ومنذ عام 1986، ولنحو عقد قادم، وبعد إلغاء التهم الموجهة، سار ” كولن” بنهج أساس وفكر مُلهم محوره: “النموذج النبوي في تعزيز مفهوم التسامح” وأن يكون المسلمون قادة في ممارسة التسامح مما يتيح لهم بناء أمرين هامين: “رأس المال الاجتماعي المترابط”، والانفتاح على الآخرين عبر “رأس المال الاجتماعي التجسيري”(4). وكثيرًا ما أكد “كولن” على ضرورة تحجيم “الفكر المتطرف” الذي يشوه الإسلام ويقدم الذرائع للكراهية والبغضاء؛ لأن العلاقة بين متطرفي الإرهاب ومروجي الكراهية علاقة تلازمية، فكل منهما يمد الآخر، ويؤثر كلاهما على الآخر تأثيرًا طرديًّا وعكسيًّا.

“كولن”.. حوار إنساني بالأفعال

تنبع فلسفة الحوار مع (الآخر) عند “فتح الله كولن” -باعتباره أحد الشخصيات الأكثر تأثيرًا في عصرنا- من استشعاره بهموم الإنسانية ورغبته في رفع المظالم عن البشرية، وقد أدرك “كُولَنْ” -مبكرا في مشواره الدعوي- أن المجتمع الإسلامي يعاني من ثلاثة أمراض كبرى: الجهل، والفقر، والفرقة… فنذر نفسه للدعوة إلى العلم لإزالة الجهل، ونشر روح التكافل والتضامنِ الاجتماعي لإزالة الفقر والمرض، مع التواصل والحوار البنّاء لعلاج الفرقة والخلافات المتجذرة، وتأسيسِ ثقافة التعايش على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.

ومن ثم انبثقت حركة “الخدمة” (نشأت في تركيا 1966م) كحركة مدنية تربوية مجتمعية لتقدم أنشطتها الإنسانية في مجال التربية والتعليم، وانتشرت في 170 دولة، وشملت مؤسسات تعليمية تزيد عن 3000 مدرسة دولية متميزة، و 30 جامعة، ومئاتٍ المدن الجامعية، وبيوت الطلبة. فعبر نظام تعليمي سليم يلبِّي احتياجات البشر سيفهم الناس أهمية التنوع والتعايش المشترك؛ وفهم الأصول المشتركة للبشر، والاعتراف بالشرائع الأخرى وبالكرامة الإنسانية، واعتبار الاختلافات أمرًا إيجابيًّا، ومن ثم القيام بما هو طيب. كما ضمت “الخدمةُ” مؤسّسات نشر ثقافية ووسائل إعلامية بما فيها (صحف – ومجلات – ومحطات إذاعية – وقنوات فضائية (بعدة لغات)، ومواقع إلكترونية (22 لغة)، ومؤسسات صحّية، وجمعيات ومنتديات لرجال الأعمال والتجار، كما شملت الأنشطة المجتمعيّةُ أعمالَ الإغاثة الإنسانية للمنكوبين وضحايا الحروب، فكانت مؤسسة “هل من مغيث؟” تمد يد العون للمنكوبين، ووصلت أعمالها الخيرية إلى جنوب إفريقيا وشرق آسيا. وإنك واجد عشرات الناس من مختلف الألوان والأطياف والأحزاب والجماعات، تجتمع في طاولة واحدة حول مشروع الخدمة.

وهذا الفكر “العملي” يعيد التجلي إلى “رحمانية” رسالة معلم الناس الخير : “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”(الأنبياء:107). فالرحمة شاملة للعالمين، وهذا ما يتجلى في البعد الإنساني العالمي الذي تحمله -بالأفعال- حركةُ “الخدمة” وتقدمه للناس كافة(5). فمن أقوال الأستاذ “كولن”: (واليوم تقع المهمة على عاتقنا، فعلينا توفير مساحة في قلوبنا لآلاف المقاعد كي يأتي الناس ويجلسوا عليها. يجب أن يكون لدينا متسعٌ للجميع في قلوبنا… دع العالم يسمع أن قلوبنا مفتوحة للذين يحبوننا وللذين يهاجموننا؛ لأننا نعتقد أن كل إنسان خلقه الله في أحسن تقويم)(6).

الانفتاح على (الآخر).. أفق جديد للدعوة

لم يكن “كولن” ضد الاحتكاك بـ (الآخر) بل كان ضد الأخطاء الواقعة عند النظر إليه وتقييمه، مع ضرورة استيعاب الواقع وفهمه، وأن يكون العقل والمنطق هما الحكم في كل الأمور. ويرى أن الحضارات التي تحركت وفقًا لديناميكيتها وحافظت على عناصرها؛ هي التي استمرت وبقيت، وأن الحضارة الغربية الحديثة واحدة منها. وفي كل حضارة عناصر توفر لها “التواؤم التعايشي” مع الحضارات الأخرى، ومن الأهمية بمكان تحديد هذه العناصر والقدرة على تلقيح بنيتها الذاتية وتطعيمها بها. فالانغلاق على الذات والرفض الكامل لـ(الآخر) لا يُعد تصرفًا إيجابيًّا. وبذلك يقدم “كولن” مقاربة مميزة في القضية المتداخلة والشائكة: العودة إلى الذات، والحوار مع (الآخر).

ويحث “كولن” “جيله الذهبي” على التعلم تعليمًا عاليًا، ودراسة اللغات والعلوم الطبيعية والاجتماعية(7)، والعمل والتفكير بشكل عالمي، والتواصل والترحال عبر العالم والانخراط بفاعلية في الحوار بين الثقافات في كل مكان يتواجدون فيه. ولا يعني هذا قبولاً بالتغريب، بل تصويبًا للحداثة الغربية المادية المفتقرة للأبعاد الإنسانية الأخرى خاصة البعد الروحي الإيماني. فالإيمان والعلم يسيران يدًا بيد في تكامل وتناغم. فأفضل معرفة هي تلك التي تجعل التلاميذ يربطون الأحداث العالمية بخبراتهم الداخلية. مع رفض التقليد الأعمى والفشل في استخدام العقول لاكتشاف وتحليل ظواهر الكون. ويرى أن واجب الانفتاح على الجميع.. قد أصبح واجبًا الآن، لاسيما بعد النظام العالمي الذي وضع المسلمين عنوة في خانة “الأعداء الذين يجب محاربتهم” وتنامي ظاهرة “الإسلاموفوبيا”.

ولقد بدأ “كولن” من تركيا، حيث فتح أبواب الحوار والتسامح على مصراعيها لتفويت أغراض المتآمرين على تمزيق المجتمع التركي بالخلافات العنصرية والقومية والمذهبية والفكرية، ثم نشر الدعوة إلى الحوار والتسامح إلى جميع الأماكن خارج تركيا؛ ليطرح دعوة عريضة للإيمان في مواجهة الكفر، والحق في مواجهة الباطل، والعلم في مواجهة الجهل. ومعتمدًا على نور الإيمان وحقائقه في مواجهة السراب الخادع الذي يقود حضارة القوة الغشوم. كما عمل على بث فكر التسامح وقبول (الآخر)، وكان كثيرًا ما يردد على مسامع من حوله: “افتح صدرك للجميع.. افتحه بأكبر ما تستطيع.. ليكن صدرك كالبحر.. لتمتلئ بالإيمان وبمحبة الإنسان.. صفق للأخيار بسبب خيرهم وفضلهم، كن ذا مروءة تجاه المؤمنين.. كن ليّنًا تجاه المنكرين إلى الدرجة التي تذيب معها أحقادهم ونفورهم… لا تنس أنك من أتباع رسول مرشد عظيم على علاقة وطيدة مع السماء لصالح البشرية جمعاء”.

القابلية للحوار

وضعت الباحثة “جيل كارول” – في دراسة منبثقة عن كتابها :(A Dialogue of Civilizations)، أو: “محاورات حضارية.. حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني” – أفكارَ الأستاذ “كولن” داخل سياق أكثر رحابة للحركة الإنسانية. وسعت لإقامة “حوارٍ نصيٍّ” بين مختارات من مقالات وخطابات الأستاذ “كولن”، وبين نصوص مفكرين وفلاسفةٍ ينتمون إلى الحركة الإنسانية، مثل: “كونفوشيوس”، و”أفلاطون”، و”إيمانويل كانط”، و”جون ستيوارت ميل”، و”جان بول سارتر”. حيث اقتنعت الكاتبة أن أعمال “كولن” وهؤلاء المفكرين تدور حول قضايا مركزية وجودية. فهم منشغلون بالأسئلة الرئيسة التي تتناول الحياة البشرية والدولة والأخلاق(8).

ومما أثار اهتمام الباحثة “فاعلية الحوار” بين أشخاص ذوي رؤى بالغة التباين، و”ضرورته” في عالم اليوم الذي دفعت مظاهرُ العولمةِ ووسائلُ الاتصالات والتقنية أفرادَه وجماعاتِه لارتياد طرقٍ لعلها للعزلة والانغلاق (على الذات) أقرب مما هي للانطلاق والانفتاح على (الآخر). والعزلة أو تحجيم الاختلاف لن يُجدي نفعًا، وقد يسبب مآلات تدميرية للبشرية. لكن ما ينبغي فعلُه هو تنمية “قابليتنا للحوار” (بدلاً من القابلية للاستعمار التي صاغها المفكر الجزائري “مالك بن نبي”) وعقْدُ أواصرَ بيننا وبين الأشخاص المختلفين، وتحقيق التوافق/وليس التطابق بين بعضنا البعض.

وفي هذا الصدد يُشار إلى أنه لأول مرة في تاريخ الكنيسة الغربية، ناقش المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) على مستوى مذهبي وعقائدي، مشكلةَ العلاقة بين الكنيسة والديانات غير المسيحية، حيث صدر عن الكنيسة تصريحٌ خاصٌّ حول “علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية”. وقد أولى هذا المجمعُ اهتمامًا خاصًّا بالإسلام، فلأول مرة منذ أربعة عشر قرنًا من وجود المسيحية والإسلام، يتحدث مجمع مسكوني كاثوليكي بصورة إيجابية عن الإسلام معترفًا بوضعه الديني. ثم جرت بعد ذلك تطورات عديدة على مستوى العلاقة بين الإسلام والمسيحية، كان من أبرزها الخطاب الذي ألقاه البابا “بولس السادس” في كل من عمان والقدس في (يناير 1964)؛ إذ دعا الكنيسة لاحترام أتباع الأديان التوحيدية الذين يعبدون إلهًا واحدًا حقيقيًّا.

“كولن” يؤسس منتدى للحوار

أثارت الدراسة الشهيرة للبروفيسور الأمريكي بجامعة هارفارد “صامويل فيليبس هنتنجتون” (1927-2008) (Samuel Phillips Huntington) المنشورة بمجلة “فورين آفيرز” (1993) -وتحولت إلى كتاب- “صدام/صراع الحضارات” (The Clash of Civilizations) أو “صدام الحضارات، وإعادة تشكيل النظام العالمي”، ردودَ أفعال عالمية، فقد أطّر المؤلف لحدوث صراعات ما بعد الحرب الباردة، ليس بين الدول القومية واختلافاتها، بل على أساس التباينات الثقافية والحضارية. وجاءت أطروحته ردًّا على مقولات تلميذه “فرانسيس فوكوياما”: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. لكن، في المقابل، سعى “كولن” (في تسعينيات القرن الماضي) لإرساء دعائم الحوار وقبول (الآخر)، وبادر بتوجيه دعوته إلى النخب الدينية والثقافية والقومية في تركيا. مما أزال “جدار الصمت القلق”، وظهرت “حالة حوارية” واسعة استندت إلى الاحترام المتبادل وحرية التعبير عن النفس. وسرعان ما تجسدت في مؤسسة “وقف الصحفيين والكتاب” (١٩٩٤)، وبرعايتها تشكل المنبر الثقافي “منتدى أبنت”. وجمع المنتدى مختلف النخب لتشكيل أرضية مشتركة للعيش والتفاهم في جو من الاحترام المتبادل، ووضع مسائل كالديمقراطية وحرية الفكر، ونماذج الدولة الوطنية الحديثة، والتعددية السياسية والثقافية على طاولة البحث والتحاور. وبدأ المنتدى كتجربة للمواجهة مع (الآخر)، ثم تحول تدريجيًا إلى قاعدة مشتركة للحوار والتفاهم والقبول. مما أعطى شعورًا بالثقة في إمكان توصل البشر -على اختلاف أفكارهم وبيئاتهم- إلى قواسم مشتركة يمكن الاتفاق عليها. وتوسع “المنتدى” من المحلية إلى العالمية لينشغل بالحوار بين الثقافات والحضارات.

ففي (عام 1997) التقى “كولن” بكاردينال نيويورك “جون أوكونور” (John O’connor) (من الأسماء الهامة في العالم الكاثوليكي)، وأعرب “أوكونور” عن متابعته الحثيثة لمساعي “كولن” من أجل التقارب والتسامح بين الحضارات. ونتج عن هذا اللقاء دعوة الأستاذ “كولن” إلى زيارة بابا الفاتيكان التي جرت (عام 1998). وبالتأكيد لم يكن “كولن” ممثلاً رسميًا لأي جهة بل كان داعيًا مسلمًا، ومفكرًا إنسانيًّا مستقلاً عن أي جهة سياسية أو أيديولوجيّة. وعلى مأدبة إفطار رمضانية.. التقى واستمر التواصل بين “كولن” (في يناير 1998) واثنين من رجال الأعمال اليهود، وهما: “عزير غاري”، و”إسحاق ألاتون” وكان كلاهما شريكين في مؤسسة أعمال تركية تهتم بمشاريع اقتصادية وتجارية وعقارية. ثم التقى “كولن” في لقاء عام كبير مع كبير حاخامات الطائفة السفاردية في إسرائيل “إلياهو باكشي دورون” خلال أول زيارة رسمية يقوم بها كبير حاخامات إسرائيل إلى تركيا.

وكانت منطلقات “كولن” في هذا الحوار قائمة على قراءة لحياة النبي  وتعامله مع يهود المدينة، وحادثة وقوفه لجنازة يهودي إلخ(9). كذلك يحرم الإسلام امتهان الكرامة الإنسانيّة، ومن فعل ذلك عوقب على فعله، ومن ذلك قصّة القبطي الذي ضربه محمد بن عمرو بن العاص، وقال له أنا ابن الأكرمين، فذهب القبطي إلى المدينة المنورة، وشكا إلى الخليفة عمر بن الخطاب  ما أصابه من الهوان، فاستقدم عمرُ عمرًا وابنه معه، وطلب الخليفة من القبطي أن يقتص، وقال له: “دونك الدرة، فاضرب بها ابن الأكرمين”، فضرب القبطي محمد بن عمرو بن العاص، وقال الخليفة عمر بن الخطاب  كلمته الخالدة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟.

وبعد هذا اللقاء التاريخي.. تصدر مشروع الحوار الساحة الدولية وانطلقت المنتديات في مناطق مختلفة، واتسعت دوائر الحوار. ولقد استحق “كولن” أن يحتل المرتبة الأولى في قائمة أهم مئة عالِم في استطلاع أجرته المجلة الأمريكية “فورين بوليسي Foreign Policy (عام (2008)، والمجلة البريطانية “بروسبيكت” Prospect. كما حصل على جائزة “غاندي” العالمية للسلام (عام 2015)، وقد أَنشأت له عدّة جامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وإندونيسيا، وأستراليا، أقسامًا خاصة باسمه (أي كرسي أكاديمي)، ومراكز علمية متخصصة، وانعقدتْ مؤتمرات وندوات دولية عديدة في جامعات عالمية لدراسة أطروحاته ونظرياته الدعوية والتعليمية والفلسفية والإنسانية.

“كولن” وبناء الجسور بين العالمين الإسلامي والغربي

لعل من أهم شروط نجاح الحوار البدء بالقضايا المتفق عليها: كالوحدة الإنسانية، والقيم الأخلاقية، والتركيز على الجوانب الإيجابية والقواسم المشتركة، ثم يتطرق إلى مختلف القضايا الأخرى. وأن يكون الحوار متكافئًا، تتوفر له شروط المساواة والندية والإرادة المشتركة، وأن تتعدد مستوياته وتتفاوت درجاته؛ بحيث يكون حوارًا شاملاً. وأن يهدف إلى تحقيق منافع مشتركة للطرفين، وأن يؤدي إلى تأمين المصالح التي يحرصان عليها، والتي لها صلة بالتقدم في مجالات الحياة ثقافيًّا وعلميًّا، واقتصاديًّا واجتماعيًّا، بحيث يكون لهذا الحوار تأثير على مجمل العلاقات بين المسلمين والغرب، ويعود بالنفع والفائدة على الجميع.

والمتتبع لأدبيات الأستاذ “فتح الله كولن” يجد تركيزه على خَلْق هذه الجسور المشتركة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي بجانب أهمية إدخال التعليم والتقدم العلمي والتكنولوجي في العالم الإسلامي: (فالطريق إلى العدالة مرصوف بالتعليم العالمي الجيد، وهذا وحده ما يمنح الناس الفرصة لتحقيق قيم الحوار والتسامح الكافيين لاحترام حقوق الآخرين(10). كما يؤكد “كولن” على: الاحترام المتبادل، والتسامح، والحوار، والواجب والالتزام الأخلاقي، والمساهمات النزيهة، والخدمات التطوعية. ودعمه باستمرار للتسامح والعفو كقيم إسلامية جوهرية متأصلة في قيمة التواضع. ويرى أن من يؤمنون بتفوقهم الشخصي لا يستطيعون الدخول في حوار حقيقي على عكس المتواضعين فهم أكثر استعدادًا للحوار بشكل منفتح وذي مغزى. ولدى “كولن” إصرار على المضي قدمًا في الحوار، فهو يقول: “إن أنشطتنا المستمرة هي لصالح الإنسانية جمعاء. ويجب ألا تقتصر على تركيا فقط”. وكثيرًا ما يكرر أن حوار الثقافات ليس “رفاهية”، بل “ضرورة” في العالم الكوني اليوم، فتعددية العالم المعاصر ستستمر وتبرز تحديات أصعب وأصعب: “ستستمر العقائد والأعراق والتقاليد والعادات المختلفة في التعايش في هذه القرية الكونية، فكل فرد فيها يمثل عالما فريدًا من نوعه ولذلك فالرغبة بأن تصبح البشرية متشابهة هو ضرب من المستحيل، ولذا فإن السلام يكمن في احترام تلك الاختلافات واعتبارها جزءًا من طبيعتنا، وإلا فإنه لا مفر من أن العالم سيقضي على نفسه بسبب الصراعات والنزاعات والحروب الأكثر دموية التي سيقع فيها، وبالتالي يعد الطريق لنهايته”.

يحث “كولن” “جيله الذهبي” على التعلم تعليمًا عاليًا، ودراسة اللغات والعلوم الطبيعية والاجتماعية، والعمل والتفكير بشكل عالمي.

هل الحوار ذوبان في الآخر؟

قد يثير البعض مقولة: إن الحوار مع (الآخر) ذوبان فيه، وتمييع للثوابت العقدية والقيمية والإيمانية. فهل هذا القول صحيح؟. إنك لا تـُدعى للحوار وتتحاور إلا إذا كان لك ثقل من عقيدة وقيم وفضيلة وفكر، ومنهج تؤمن به، وتدعو له، وتقدمه للآخر، للتعاون أو المثاقفة أو حل معضلة: (لا ينبغي للمؤمن أن يخشى من الحوار، ولا أن يقلق من الخسائر، ففي الحوار نوع من التنافس بين القيم من ناحية ما، فلو أنكم ترتابون في قيمكم فهذا يعني أن إيمانكم بالله ضعيف، ولو قلتم: “إننا سنتأثر سلبًا إذا خالطنا هؤلاء أو أولئك، وسيعود هذا بالضرر على ديننا”، فهذا يعني أن لديكم مشكلة في الثقة بدينكم الذي تمثلونه؛ إذا كنتم توقنون أن قيمكم هي الغالبة والرابحة في سوق القيم فلا مبرّرَ إذًا للخوف من إجراء الحوار مع الآخرين، وإن كنتم على ثقة من أنكم بمصافحتكم الآخرين واحتضانكم لهم ستنتقل جمالياتكم إليهم وتستفيدون أنتم كذلك من جمالياتهم فلا داعي إذًا للخوف من الحوار معهم) (فتح الله كولن: فلسفة الحوار، موقع الأستاذ فتح الله كولن، بالعربية). وخذ مثالًا يدعم هذا الفكر: لولا التعاون الحثيث بين مؤسسة الأزهر والفاتيكان ومنظمات أهلية أخرى، لتم “تعميم عالمي” لما خططت له مؤتمرات -وبخاصة وثيقة بكين عام 1995م- من تكريس مصطلح “الجندر”، والأنماط غير السوية من المعاشرة الجنسية، ونشر الإباحية، وحق المتماثلين جنسيًّا في الزواج والتبنى والميراث، وتقنين الإجهاض والحمل خارج الأسرة، وتحديد مفهوم الأسرة: لتحقيق اللذة أيا ما كانت. إذ بالحوار تم التأكيد على إعادة الاعتبار للأسرة “الرابطة المقدسة” وأهدافها، ودورها التربوي والاجتماعي.

ثم انظر لـ “كولن” وهو الرجل الذي عاش حياته داعيًا، ومعلمًا، ومربيًّا، وملازمًا لعباداته، وغريبًا عن وطنه، وقابضًا على دينه، وقد لاقى في سبيله ما لاقى فأنّى يذوب في (الآخر) عبر الحوار معه: (صحيح أن الاستماع للأفكار الباطلة يجرح الروح ويعكر صفو الفكر، ولكنْ علينا إبداءُ الصبر في هذا الخصوص وتجرع هذا الألم في سبيل اكتساب قلب جديد؛ وإلاّ فإننا إن لم نعط له حق وفرصة إبداء الرأي والفكر، وقمنا باحتكار الكلام، وملأنا المجلس بكلامنا فقط… فقد لا يدخل من هذا الكلام إلى عقله شيء. فكم من مرشد اشتهر بهذا الأمر وأصبح مكروها بسببه. ومثل هؤلاء يشبه من يحاول نقل الماء بقربة مثقوبة أو بغربال؛ فهو على رغم بذله لجهود جبارة لا يستطيع الوصول إلى نتيجة إيجابية)(11).

أكد “كولن” على ضرورة تحجيم “الفكر المتطرف” الذي يشوه الإسلام ويقدم الذرائع للكراهية والبغضاء؛ لأن العلاقة بين متطرفي الإرهاب ومروجي الكراهية علاقة تلازمية.

ويعرف “كولن” “الخُلق” بأنه:”يأتي بمعنى رسوخ الدين، والعيش به، وامتثال القرآن دون خلل”(12). لذا فقد أرسى “كولن” في مقولته: “كن كالفرجار، قدم ثابتة في المركز، وأخرى تحلق لأقصى مدى”. حيث الانطلاق من ثوابت مرجعية تستند إلى الكتاب والسنة النبوية، ومن ثم المحبة الغامرة كي تنتفع الإنسانية بتلكم التعاليم الإسلامية التي أعادت “حركة الخدمة” فهمها وإحياءها من جديد. ولقد حدد “كولن” أوصافًا لورثة الأرض منها: (أن تكون رؤيتنا أفسح في حرية الفكر وحرية الإرادة في مسيرتنا نحو عوالم مختلفة، سواء في سلوكنا مع الآخرين، أو من زاوية أنانيتنا الذاتية وتمسكنا برغباتنا. فالحاجة ماسة اليوم إلى صدور متسعة تحيط بالتفكير الحر وتنفتح على العلم والبحث العلمي وتستشعر التوافق بين القرآن وسنّة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة(13). وهو في حواره المتوازن مع (الآخر) لا يري تقبل معطياته بالكلية، وكذلك لا يريد رفضًا مسبقا لتلك المعطيات، وإنما يجب التعامل مع هذه المعطيات في ضوء التمحيص العلمي المتأني القائم على المنهج الموضوعي الدقيق. لذا فقد دافع عن الحوار بوصفه التزامًا وحراكًا ضروريًّا لعالمنا المعاصر وبخاصة في قضايا جوهرية:

– الإقرار بالتبادل الحضاري، والتثاقف المشترك.

– الإقبال على الآخر بروح علمية وموضوعية مجردة.

– احترام القيم الإنسانية والأخلاقية للشعوب.

– حرية الفكر، وأهمية التعليم.

– غرس الفضيلة في الأفراد.

– المسؤولية الإنسانية.

ولعل الإجابات الحوارية الناجعة عن مثل هذه القضايا من شأنها وضع حلول للمشاكل العالمية المشتركة، وإيجاد نظام عالمي عادل ورحيم وسلمي. وهو التحدي الذي تواجهه الحضارة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.

اشتهر “كولن” بكلمة تركية، انتشرت في عظاته وتعليمه، وهي:”hosgoru” وترجمت بمعني “التسامح”. وهو يحب استعمالها كمعنى مرادف لمصطلح “الحوار”.

إجمال الأسس الفكرية لمنطلقات الحوار

لقد تنامى إدراك عقلاء العالم ـ ومنهم الأستاذ “كولن” للواقع الإنساني “المتأزم/البائس”، والشعور “بوجع افتقاد الغاية، والهناء الوجودي، والتعايش المشترك” والوعي بما قد يُنتج من أخطار مستقبلية على الإنسان والبشرية بسبب التوجه المادي الأحادي. لذا فقد تشكلت الأسس الفكرية للأستاذ “فتح الله كولن” في فلسفته للحوار مع (الآخر) على النحو التالي:

– الحوار منهج قرآني ونبوي أصيل.

– الإسلام يؤكد على تنوع البشر فهي مشيئة الله تعالى، وسُنة من سننه في كونه.

– الإسلام يشير إلى أن البشرية جاءت من أصل واحد، ثم تنوعت شعوبًا وقبائل للتعارف والتعاون وفق معيار أساس: التقوى والعمل الصالح.

– شريعة الإسلام حريصة على السلم والسلام العالمي وتحض على صونه، فهو دين التسامح والإخاء الإنساني.

– احتضن الإسلام كل القيم الإنسانية العليا التي تنظم سلوك المجتمع الإنساني من تعاون وتضامن وسلام وأمان ومحبة واستقرار. وضبط هذا السلوك الإنساني بما يكفل كرامة الإنسان.

– الحوار ليس ترفًا فكريًّا بل ضرورة ومصلحة إنسانية لإنقاذ البشرية.

– ينبغي تنمية “قابليتنا للحوار” وعقد أواصر الرحمة والتسامح ومحبة الخير.

– ينبغي أن يكون الحوار بالأفعال الإيجابية لمحاربة الجهل والفقر والفرقة وذلك عبر التعليم والعمل والوحدة والعيش المشترك.

– فتح النوافذ التي نطل منها -بتصالح، وتفاهم، وتواصل، ومودة- على النفس، والأهل، والأقرباء، والأصدقاء، والجيران، والزملاء، والناس كافة.

– ينبغي توفير مُناخ ورأي عالمي يتسم بالاحترام المتبادل، وروح التسامح والتعايش والتعاون.

– توفير قواسم مشتركة ومنها عدم الفصل بين الدين والعلم فهي نقطة انطلاق لحوار إسلامي-مسيحي.

– تشجيع الحوارات الجادة وتوفير مقومات الإعداد المناسب لها والاهتمام بتحقيق أهدافها من أخلاقيات مشتركة نادت بها الشرائع السماوية.

والخلاصة: يسعى الأستاذ “فتح الله كولن” وأمثاله لجعل العالم أكثر تسامحًا تسوده قيمٌ عالمية. فهو يحث على عدم توقف حوار الأفعال الرحيمة والأفكار التعاونية حلا لمشاكل العالم، بدلًا من المواجهات الفكرية والسياسية والعسكرية التي تزيد الوضع البشري تأزمًّا وتعرض مصيره للخطر. ولذا فالأستاذ “كولن” يجاهد كي يعلو حوار الفكر واللسان على لغة السلاح والسنان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1)  رواه أحمد في مسند الأنصار.

(2)  فتح الله كولن: “حوار مع النفس”: منشور في مجلة “سيزنتي” بعنوان: Bir Sorgulama، العدد:252 (يناير 2000، ترجمة: “أجير أشيوك”.

(3)  مجلة حراء العدد: 69.

(4)  للمزيد راجع د. جون باول: فتح الله كولن.. حياة في الخدمة، ط،1، دار الانبعاث 2021، ص:266-317.

(5)  للمزيد راجع عبد المجيد بوشبكة: البعد الروحي والخطاب الإنساني في مشروع الخدمة، 28/04/2019، المجلة، حوارات، رؤى حضارية، فلسفة الدعوة.

(6)  زكي ساري توبراك: كيف تسهم مدارس الخدمة في تحقيق السلام العالمي؟، مجلة نسمات، دراسات، قضايا معاصرة.

(7)  انظر: التعليم المعاصر بين سوق العمل وبناء الشخصية، نسمات الإصدارة العاشرة، 2021.

(8)  “جيل كارول”: أفكار كولن داخل السياق الأكثر رحابة للحركة الإنسانية،13/04/2019، مجلة نسمات.

(9)  “محمد أنس أركنه”: فتح الله كولن، جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، ص: ٢٤٠-٢٤٢، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، ٢٠١٠، القاهرة)، وراجع د. جون باول: فتح الله كولن.. حياة في الخدمة، ط،1، دار الانبعاث 2021، ص: 329-332.

(10)  مجلة نسمات: الإصدارة التاسعة.

(11)  فتح الله كولن: “فن الحوار، مسجد بُورْنُوَا”، 24 ديسمبر 1976؛ الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.

(12)  “محمد أنس أركنه”: مرجع سابق، ص: 119.

(13)  د. عبد المجيد بوشبكة: “فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم”، الفصل الخامس، المبحث الأول: “الأستاذ كولن والتوجه الإنساني”، موقع نسمات11/07/2016.