عكست السيرة العلمية لهذا الرباني الرشيد نوعية العدة والتجهيز التي تصدى بها للردة. فبعد انخراطه في سلك التوظيف الديني الرسمي، باشر بطريقته المتبصرة مهمّة التنوير، مصعداً من جهود ترقيته العلمية وتحصيله الذاتي في العلوم الأصلية والحديثة على السواء، إذ لا ننس أن “فتح الله” غادر المدرسة وهو لم يتعدّ المستوى الثالث ابتدائي، ليتّخذ من عصاميته مطيّة السبق لبلوغ الذروة في مجال العلم والتأهيل الفقهي والاجتهادي.

لقد استغرقته إلى جانب الدعوة أعمال الكتابة، وكانت مقارباته بحوثاً وانجازات مهمة في مضمار التأثيث الفكري الدعوي، فكتب في السيرة وفي التاريخ وفي الفكر والدين وبيداغوجية الدعوة والإحياء، وفي إستراتيجية الانبعاث والتأهل الحضاريين، بل وعالج قضايا من صميم العلم العصري بتشعباته الاختصاصية وتوجهاته الأبستمولوجية.

 وظف “كولن” ما أنتجه في وجهة إيمانية إثباتية تحصينية، كاشفا في كل ما كتب عن سعة تعمق وأصالة تمثل ورسوخ اطلاع على الآداب والثقافات والفلسفات العالمية.

سمات إسعافاته الفكرية

لقد كانت مقارباته وقراءاته الفكرية مجالا حيويا للاستنباط وصوغ القيم والأحكام وتأصيل المعايير.. فكتابه الجليل عن الرسول صلي الله عليه وسلم مثلا، هو قراءة تأصيلية مدنية وفقهية وإستراتيجية، استحيا فيها قيم الشرع والأخلاق والاقتصاد والعدل والحرية الإنسانية، والمساواة المرشَّدة بين الرجل والمرأة، وفن الإدارة والسياسة الداخلية والدولية، وحماية البيئة ورجاحة السلوك الروحي وتنشئة النفس والجهاد بنوعَيه الأصغر والأكبر، وفلسفة الاجتماع، وفقه التوازنات القلبية والثقافية والمدنية، والارتكازات المادية والميتافيزيقية… كلا لم يستغرقه درسُ السيرة وتقليبُ صفحاتها بقصد الاندساس والتواري عن تفسخات مدنية هذا العصر، والفرار من كوابيسها وضراوة مآسيها، إنما احتفى بالسّنة وعايشها عن عمق وبصيرة، لأجل أن يؤصل منها سجلاًّ ذهبيا مرجعيا بمنهج النهضة المتوخاة، والانبعاث المأمول.

احتفى “كولن” بالسّنة وعايشها عن عمق وبصيرة، ليؤصل منها سجلاًّ ذهبيًّا مرجعيًّا بمنهج النهضة المتوخاة، والانبعاث المأمول.

سمات إسعافاته الروحية

أضحى المصلح كولن -وهو يرى العدوان يطبق على الأمة من كافة المستويات- يدأب في بسالة ومخاطرة متناهيتَين، سعيا لتقديم الإسعاف الروحي والدعم المعنوي والخدمة التحصينية.. فالدور العتيد للفقيه انقلب، ولم يعد لرجل الإصلاح مجلس شرعي مهيب، يطرقه أصحاب الحاجات الشرعية، يستفتونه ويستمعون إلى منطوق الشرع على لسانه في قضاياهم، بل غدا المصلح نفسه هو الذي يحدب ويسعى -في ظروف التخنيع وإحصاء الأنفاس- ويستميل الأفراد والجماعات إليه، لأجل تمكينهم من أخذ لقاح الإيمان ضد ما يتأجج في المجتمع من أوبئة وأوخام.

طفق الدرس المنبري لكُولَن يتكيف مع أحوال الرقابة وأحابيل الجَوْسَسة، ويسعى بكل رشد إلى أن يشد الأرواح إلى الإيمان. ولقد كان أمرا طبيعيًّا أن لا تستبقي برامج الردة إلا على أعداد متناقصة باطّراد ممن يرتادون الجوامع، لذلك كانت ثمار جهود الداعية المصلح محدودة، الأمر الذي اقتضاه أن يباشر مستوى من التعليم الجواري المتواري، وقد كانت مهمة شاقة وغير مشجعة، نظرا لعدم الإقبال عليها بسبب الضغوط الكثيرة، حيث إن الطالب نفسه كان يجد في مباشرة العملية التعليمية الشرعية خطراً.

لقد كانت مقاربات كولن وقراءاته الفكرية مجالا حيويا للاستنباط وصوغ القيم والأحكام وتأصيل المعايير..

 الجهد التعليمي وفقه الخدمة

استطاع هذه النوع من التعليم أن يهيّئ الجو البيداغوجي والتنشيطي الذي أوجد الحلقة وأنشأ النواة الأولى للطلاّب الملتزمين. وما لبث الوضع أن اتّسع إلى حلقات أخرى في بقاع من الوطن، من خلال تطوع الطلاب النجباء، وهكذا توثقت الرابطة الروحية بينه وبين طليعة من الشباب النوعي، وامتدّت أواصرها لتشمل بقاعا من الجغرافية التركية، بل ولتتجاوز الحدود لتستوعب الجاليات التركية في مختلف أرجاء العالم. وذلك ما سهل من سبل تدشين فقه الخدمة والدعوة إلى الإسلام من خلال إقامة مشاريع التعمير والتكوين والإحسان التي انتشرت في القارات جميعاً.

—————-

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ89-91.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.