من رحابة الباب
شخصية فتح الله كولن الأدبية لا يختلف حولها كل من تفاعل مع عالم هذا الهرم الفكري الشامخ، وتفاعل وأدبياته. لأن أفُقَهُ البياني، وخطه في الكتابة وأسلوبها، ومنهجه في الخطابة وطرقِها، تعكس كلُّها أبعادَه الأدبية والفنية، بل تعكس أبعادَه البيانية، وكل ذلك وغيره انعكاس لثقافته الواسعة، التي لم تخل من مرجعيات أدبية متنوعة في مقدمتها الخطاب القرآني ونماذج التراث الأدبي الإسلامي الزاخرة والغنية، وانتهاء بأمهات الأدب العالمي الرفيع، والجدير بالذكر في هذا المقام هو أن أحد أهم جوانب شخصية فتح الله كولن الفكرية متصلة اتصالا عميقا بمقدرته الفائقة على القراءة والحفظ والاستيعاب، ومتصلة بثقافته الواسعة والمتنوعة، القديم منها والحديث. وهو ما ساهم في رقي ذوقه وإحساسه الجمالي والفني وأثّر مباشرة في قلمه وفي أسلوبه الأدبي أو بالأحرى أسلوبه البياني، كما أثر في رؤيته، وطبَعَها بالعمق والشمولية، ووسَمَ مشروعه الحضاري والحركي بسِمَةٍ جماليةٍ لا تخطئها العين الناظرة فحسب، فضلا عن العين المتنعمة، وأما تجلى ذلك كله ومعالمه الملموسة فتُطلب في منجزه كله، الفكري منه والمادي الموسوم ببعد عمراني حضاري شهد به الغرماء فضلا عن المنصفين والمحبين والمتأثرين به.
الجلال والجمال
إذا كان الجمال صفة تجلى بها الجليل على هذا الوجود، فإن الاعتناء بالجمال والحرص على طبع كل قول وكل عمل وكل سلوك بهذه الصفة هو الطابع والبصمة، التي يقف عليها المتأمل والباحث في كل ما يمت لهذا الرجل بصلة مباشرة كخطه التحريري مثلا وجوانب أخرى في حياته، أو بصلة غير مباشرة كمختلف المنجزات التي وجه مريديه ومحبيه وتلامذته إليها، وأقنعهم بجدوى إنشائها وفق نمط تتعدد سماته الإيجابية، ومنها سمة الأناقة والجمال، وهو ما يؤكد حرصه على تمثل صفتي الجمال والجلال، كما تجلى بهما الجليل في الوجود، ويوازيه حرص آخر هو غرس هذه الصفة وتمثلاتها في وعي كل من احتضنهم، وتحلقوا حوله.
حرص فتح الله كولن على أن تطبع أغلب المؤسسات التي أرشد إليها مريديه ومحبيه ومن اقتنعوا بفكره في مجالات الحياة المختلفة بروح الإتقان والجمال، والإتقان شعبة من شعب الجمال، بل شعبة من شعب الإيمان. ولذلك فإن من يلج مؤسسات الخدمة قبل منعها وإغلاقها وحجْزها يقف على هذه الروح في نظامها وترتيبها وحسْن تسييرها، ويقف على مختلف مظاهر البهجة التي تبعث على الاطمئنان والانشراح، ويلمس دقة العناية بفضاءاتها. كل ذلك وأكثر يعطي الانطباع بوجود روح رقيقة وذواقة خلف ذلك المنجز، وقلب حريص على الاستمداد من صفة الجمال التي تجلى الله بها على هذا الكون، وهذا الاستمداد ليس مجرد عبارات كلام احتفالي، بل هي قيم غير معزولة عن أصل الرؤية الأخلاقية العامة المحركة، ولكنها متدثرة برداء التنزيل والتفعيل. وعلى هذا الأساس ربّى كولن تلامذته، ونشّأهم على الإتقان والعناية بطبع الشكل والمضمون معا بالجمال، وعلى وسم شكل المنجز بوسم جميل والالتزام بأن يكون لما يقدمه المنجز من خدمة مطبوعا هو الآخر بروح الإتقان والجمال، على أساس كون ذلك وجها من وجوه التبليغ، الذي لا يقف عند المضمون فحسب، بل يتجاوزه ضرورة إلى الهيئة والشكل.
الجمال ومظاهر الاستمداد
حرص الأستاذ النورسي كثيرا في رسائل النور على التذكير بضرورة استيعاب حقيقة صفات الله وأسمائه، وحقيقة تجليها في الوجود وفي الإنسان نفسه، وجعلها محور رسائله الخالدة، لأثر إيجابي على شخصية المجتمع وسلوكه، ورسائل النور مليئة جدا بهذه الإشارات والنكت البيانية، وفتح الله كولن هو أبرز من التقط هذه الإشارات واستوعبها وزادها قيمة بحرصه على تفعيلها على نطاق واسع، بتصييرها قيمة تطبع كل قول وكل تصرف وكل منجز.
وبكلام آخر إن الوقوف على ذوق الأستاذ فتح الله كولن الفني وعلى روحه الأدبية الراقية، يطلب أولا في المؤسسات الثقافية والعلمية وفي المعاهد والمؤسسات التربوية والتعليمية التي يعد بصورة من الصور منشئها أو موحيا بها. وقد وقف كاتب هذه الفقرات على هذه الروح عندما زار فتح الله كولن في مقامه/منفاه في الولايات المتحدة الأمريكية. وخاصة إقامته في بنسلفانيا، حيث يجد الزائر إشارات كثيرة دالة على الإتقان والذوق الرفيع والعناية بالجمال. وهي الروح التي يلمسها كذلك من عرف مؤسسات الخدمة على العموم وفي الولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص، والتي لم يغب عنها البعد الإسلامي المعتدل الوسطي المتسامح، مقدمة بذلك صورة إيجابية عن المسلمين الذين يتمثلون أبعاد الإسلام الأخلاقية حق التمثل.
ومن منظور آخر إن أولى مظاهر الأدبية وروح الجمال تدرك وتطلب في عالم فتح الله كولن في المنجز المتسم بالإتقان واقتران الغاية الحضارية بالبعد الجمالي وجوهر القيم والأخلاق، ولسان الحال يقول لا بد من اتساق المظهر والمخبر.
وقد يثار السؤال: ما علاقة هذه الملاحظات العامة بالبعد الأدبي في شخصية كولن؟ إن البعد الجمالي الرقيق والإحساس الشاعري الملموس في مؤسسات الخدمة يؤكد بأن وراء ذلك كله روحا تواقة إلى الجمال، ترعاه وتتعهده بالرعاية والتوجيه… وهي روح لم تترك مجالا للشك بأن منظومة القيم الأخلاقية الموجهة تشكل وأبعاد التفعيل والتنزيل عملة واحدة، أو هما وجهان لعملة واحدة.
وروح المسجد في بعده العام تنشر ظلالها على مختلف مؤسسات الخدمة، فهي مساجد للتواصل وللعبادة والتبليغ، وصروح على قدر من الزينة والجمال وعلى قدر كبير من الوعي بأهمية جمالية الفضاء وقيمته باعتبار ذلك عنصرا يضفي رونقا على العبادة في أبعادها الجوهرية. وإذا كان الموضوع بهذه الروح فإن مرشده يؤمن إلى درجة الاعتقاد بأهمية الزينة الباعثة على البهجة وأهميتها وعمق أثرها في الوجدان والمشاعر، ويعتقد أن ذلك جزء أساسي من أسس بناء الوعي وتبليغ البيان الإلهي.
البيان القرآني الملهم
إن عناية فتح الله كولن بالخطاب القرآني، وخاصة مظاهره البيانية كبيرة وصلت إلى حد إطلاق عنوان “البيان الخالد” على تفسيره، وهو ما يؤكد عمق عنايته بالجمال باعتباره مظهرا من مظاهر البيان، فلقد استغرقت العناية بقوة تأثير الكلام الإلهي وأسلوبه وجمال بيانه وقوته حيزا مهما من هذا الكتاب، وهو ما يعتبر دليلا على أن الخطاب القرآني وقوة بيانه يتربع على عرش اهتمامه وعنايته. بل هو يحاول محاكاته في العناية بمظهر المنجز الدال على المعنى، ويحاكيه في خطابه وفي أدبياته، ويحرص على الخطابة في ظله. يقول:
“أنعم -يا إنسان- النظر،
ومن سجن نفسك تحرر،
ولمحات الجمال تشرب..
ودع قلبك يطير فرحا،
وروحك ترقص طربا..
واستشرف جمال “الجميل” في كل جمال،
تطمئن نفسك،
ويزدد إيمانك،
وإلى ربك تعد إنسانا..”
وعلاقة فتح الله كولن بالقرآن الكريم علاقة خاصة لا يعرف حقيقتها وعمقها سوى كولن نفسه، لكن مؤشرات هذه العلاقة والتفاعل الإيجابي العميق بالخطاب الإلهي تطلب في الخطاب الرجل وأسلوبه في الكتابة وفي الحياة الخاصة والعامة، فالبيان القرآني طبع خطابه بطابع خاص، جعله خطابا نفاذا إلى القلوب مؤثرا في الجوارح والسلوك، ومؤثرا في العقول ونمط الوعي والتفكير والذهنية. إن القارئ لفتح الله كولن يجد عباراته دقيقة رصينة تحسن وصل السابق باللاحق حتى ليخيل للقارئ المتأمل المتنعم بأن معمارا دقيقا يتحكم في هذا الخطاب فلا يترك الفكرة وما يود تبليغه دون أن يصل إلى الأعماق، ويحرص على بلاغة الخطاب حتى يتحقق مراده، وينغرس في قلب متلقيه أو جمهوره أو من استهدفهم بالخطاب. وكأنه فلاح ماهر حريص على وضع البذرة في العمق المناسب بعد أن يحفر لها في التربة بعناية فائقة ودراية دقيقة، فكولن يكتب بقلبه موظفا أدوات القلب. وربما هذا هو السر الكامن خلف العنت والمشقة التي يجدها من يشتغل بترجمته أو ترجمة كتبه ومقالاته إلى لغات أخرى وخاصة إلى اللغة العربية. ولقد أخبرني بعض من اشتغل بترجمة كتب فتح الله كولن من اللغة التركية إلى اللغة العربية بالعنت الكبير الذي وجده في هذه المهمة الصعبة.
الراجح أن الوعاء الذي يمتح منه الأستاذ هو وعاء اللغة العربية، ولا مبالغة إذا تقرر بأنه يفكر باللغة العربية من زاوية اعتنائه بالخطاب القرآني وتفاعله العميق بهذا الخطاب ومن جهة علاقته الخاصة بهذا الكتاب السماوي، بل الراجح أن يكون وعاء التفكير بالنسبة لفتح الله كولن هو عالم القرآن الكريم ولغته العربية، واعتناؤه باللغة من هذه الزاوية يأتي من إيمانه بأن اللغة “نعمة كبيرة من النعم التي أسبغها الرحمن الرحيم على الإنسان. فبها يتغنى الإنسان بإنسانيته، وبها يتوجه نحو العلم، وبها يعيش في الأجيال القادمة”. ولن يصدر هذا الحكم عن رجل مجرب وعميق الرؤية اعتباطا، فهو يدرك عمق اللغة وقيمتها، وخاصة عندما تكون هذه اللغة هي لغة القرآن الكريم، فالعناية باللغة عموما وباللغة العربية خصوصا هو من أصل مكانة القرآن الكريم في حياته، وفي شخصيته. وليس ذلك بغريب على رجل حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة ودرس علومه دراسة متأنية وحفظ كل المتون المتعلقة به. ويُلْمس ذلك بجلاء من خلال المشايخ الذين أخذ عنهم ودرس على أيديهم وأجازوه. وقد شاء القدر توقف مسار علاقة فتح الله كولن بالتعليم العصري، منذ مراحل مبكرة جدا، ولذلك لم يتلوث فكره وتحصيله بلوثيات التعليم العصري، الذي ساد في تركيا بعد دخولها مرحلة الجمهورية والعلمانية، والذي قدر أن يكون حجابا أتاح نفاذ فتح الله كولن إلى عمق الخطاب القرآني، وبعبارة أخرى لقد احتفظ القدر لفتح الله كولن بأفق العلاقة مع القرآن وخطابه دون حجب ولا موانع.
وعلى سبيل التذكير فإن المدارس العلمية التقليدية في تركيا، قد ظل أغلبها موجودا بعد سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة وحافظت على تلقين علومها باللغة العربية خاصة، وباللغة العثمانية والتركية، وهي المدارس التي خالطها الأستاذ ودرس فيها وتتلمذ على مشايخها، ذكر ذلك وألمح إليه فيما كتبه عن سيرته وفيما حققه بعض من درسوا وترجموا له، ونذكر في هذا المقام ما كتبه الأستاذ نفسه في “دنياي الصغيرة”، إذ ذكر جملة من العلماء الذين تتلمذ على أيديهم وكان لهم الأثر البالغ في طبع شخصيته، وعلى العموم فكولن لم يخرج عن إطار خصوصيات الثقافة الإسلامية، التي تعتمد الذاكرة وقوة الحافظة مصدرا من مصادر المعرفة.
وأما حظه من ثقافة العصر فمهم جدا ومتنوع، يشهد على ذلك إشاراته الدقيقة وتضميناته العميقة في كتبه، وهي تؤكد أنه قرأ لكبار المفكرين والأدباء العالميين، الأمر الذي ساهم بصورة مباشرة في حدة زاوية النظر لديه، إضافة إلى عمق ثقافته الأصيلة ودقتها.
الفن وروح الجمال في رؤية المفكر العالم
إذا كان لفتح الله كولن نظرية في الفن والجمال أو في علم الجمال فإن هذه النظرية مستمدة من القرآن ومن روح الكتاب المنزل على محمد ، والموجه للإنسانية في جميع أبعادها وتصرفاتها وفي كل أحاسيسها ومشاعرها. وهي نظرية مستمدة كذلك مما أورثته العقليات الفذة، التي جادت بها الحضارة الإسلامية على الإنسانية كلها، والغالب أن قناعاته في حقل الجمال والفن والأدب كذلك قد تكونت في ظل معرفته الواسعة والعميقة بخصوصيات التصور الإسلامي للجمال والفن، وفي ظل مختلف النظريات والفلسفات الجمالية التي توصل إليها الإنسان في القديم وفي الفترة المعاصرة. ولا وجود لما يمنع أن يكون صاحب رؤية خاصة للفن والجمال، بل إن معرفته الواسعة تؤهله ليكون تصوره الخاص لعلم الجمال والفن والأدب، وهو مكون أساس في نسقه المعرفي الذي يحتوي رؤيته العامة في مجال البناء الحضاري. والمؤكد أنها رؤية تعدت حيز التنظير إلى التفعيل والتطبيق. إن متتبع فتح الله كولن من هذه الزاوية يكتشف عالما فيه حرص على إبراز قيمة الكلمة وأهمية الأدب والاشتغال في أفق جمالي واسع يستحضر الجوهر، ويحلق من خلال ذلك في الآفاق البعيدة، يقول عن الفن: “الفن من أهم الطرق المؤدية إلى سمو الروح والمشاعر. والذين ضيعوا فرصة استعمال هذا الطريق من أصحاب القبليات والحظ السيئ يعيشون طوال حياتهم كأشخاص أصابهم الشلل النصفي” و”الفن مثل مفتاح سحري يفتح الكنوز السرية المكتشفة. فوراء الأبواب التي يفتحها تكتسي الأفكار صورها، وتكتسب الخيالات أجسامها” والفن كذلك “من أهم العوامل التي تحافظ على المشاعر الإنسانية، وترسم لهذه المشاعر أسمى الأهداف وتزيد من عمق المشاعر لدى أصحاب الأرواح الحساسة”. تؤكد هذه العبارات أن الفن عنده على العموم طريق لربط الوجدان والمشاعر بالغايات السامية، بل سبيل للسمو بها ورفع همتها، وربطها بكنوز الكون السحرية، في ظل كون الفن مفتاحا يفتح خزينة الحقائق بما يتوفر عليه من قابلية تقدم المفاتيح في قالب/قوالب تشع بهجة وجمالا.
الكلمة سلطة بناء وإعمار
فتح الله كولن عالم دين ومفكر وصاحب مشروع حضاري، ويحمل رؤية إصلاحية متطلعة إلى تغيير الذهنيات والعقليات في الاتجاه الإيجابي، ورجل مهموم بمستقبل الإنسان والإنسانية ويحلم بخلاصها مما يهدد جوهرها. وكل ما يبدعه ينبغي النظر إليه من زاوية هذه الرؤية/المشروع. ومسلكه الفني الأدبي والجمالي يعكس روح هذه الرؤية وجوهرها، وهو أمر يجب عدم القفز عليه ولا تغييبه عن نظر واهتمام من يدرسه من هذه الزاوية، كما لا ينبغي اعتباره مجرد ترف يمكن الاستغناء عنه، والغالب أن لا مجال للترف في حياة هذا الرجل ولا مجال للهامش، فكل تصرفه وسلوكه عزم متناسق والرؤية التي يتحرك في إطارها.
يؤكد فتح الله كولن في كتاب “البيان الخالد” بأن الإنسان يعبر دائما عن أفكاره وكل ما يلهم قلبه عن طريق أساليب شتى من وسائل التعبير كالسينما والمسرح والتشكيل، وبالأدب الشفوي والمكتوب. ولكن كل ذلك يبقى دون مستوى البيان، الذي يعتبر القرآن الكريم مظهره المثالي، الذي يستحيل على بشر الإمساك بكل دقائقه.
والأدب لدى كولن أوفق وسيلة لنقل الأفكار مهما كانت طبيعة هذه الأفكار دينية أم فلسفية أم فكرية، فعن طريق الأدب يستطيع الإنسان تبليغ المعرفة المتراكمة ومختلف التجارب من جيل إلى جيل عبر التاريخ، وعن طريق الأدب يجد الإنسان اليوم -كما يرى- عبق الماضي وكأنه يقول بأن الأدب بطبيعته هو الناقل الأمين عن الإنسان في الماضي أو عن أجيال الماضي، بل إن الأدب في تصوره هو اللغة المعبرة بعمق عن البنية الروحية للأمة والمجسدة لدرجة نضجها ووعيها.
والأدب والكتابة الأدبية من منظوره وسيلة يعبر بها الإنسان عن أغراضه وغاياته وهو ما يقتضي أن يكون للكتابة والأدب غاية يرومها، وألا يكون مجرد ترف لا هدف له ولا وظيفة، وهو ما يقصي بالضرورة من تصوره فكرة الأدب للأدب أو الفن للفن التي أفرزتها بعض اتجاهات الرومانسية واتجاهات أخرى مختلفة. وإذا كان أساس الأدب هو اللغة فإنها ناقل أمين لمشاعر وأحاسيس أمة من الأمم إذا أخذ بناصيتها، بل هي ناقل أمين لحقيقة الوعي الجمعي لكن بأسلوب فني وبليغ يقول: “الأدب هو اللغة البليغة للبنية الروحية والفكرية للأمة ولدرجة نضجها. الأفراد الذين لا يملكون البنية الروحية نفسها والنظام الفكر نفسه، ولا يشتركون في درجة النضج، يستحيل على مثل هؤلاء الأفراد التفاهم فيما بينهم حتى وإن كانوا منتسبين إلى الأمة نفسها”.
على هذا الأساس يصبح الأدب وتصبح الكلمة الأدبية الناقل الأمين للبنية الروحية لأمة من الأمم، وهو ما يعكس حقيقة هذه البنية الروحية والفكرية للأمة، ليستحق الأدب والفن عموما وظيفة المساهم الحيوي في بناء وعي الأمة، ويستحق أن يكون مكونا لا يمكن الاستغناء عنه في عملية الإصلاح والتغيير، التي يتطلع إليها مجتمع من المجتمعات وأمة من الأمم وخاصة المجتمعات والأمم الحية، وهو ما وعاه الأستاذ حق الوعي وأدرك كنهه من طبيعة الخطاب القرآني ومن تصرفات الرسول ، وفي ضوء ذلك جاءت مساهمة فتح الله كولن الأدبية لتؤكد ذلك وتلح عليه فهو يعي -باعتباره مرشدا ومربيا وباعتبار مسؤوليته التاريخية- قيمةَ الكلمة الأدبية ودورها في عملية التغيير الشامل والبناء والحضاري. ولقد اتخذ فتح الله كولن من الكلمة وسيلته للوصول إلى القلوب ووسيلة بناء القناعات وبناء الوعي، والأدب والفن من الأدوات التي وظفها في بناء مشروعه النهضوي، وبلورة رؤيته الإصلاحية كما سلف ذكر ذلك.
إن عمق وعيه بالمنظومة الفكرية والأخلاقية التي ينطلق منها قد جعله يدرك فضل الكلمة البليغة في تحقيق غاية تجديد روح الأمة وبعثها من جديد، لأن الكلمة بهذا البعد كما يعتقد “أهم واسطة لانتقال الأفكار من ذهن إلى آخر، ومن قلب إلى آخر. والذين يحسنون استعمال هذه الواسطة من أرباب الفكر يستطيعون جمع أنصار عديدين للأفكار التي يريدون إيداعها في القلوب وفي الأرواح، فيصلون بأفكارهم إلى الخلود. أما الذين لا يحسنون هذا ولا يستطيعونه فإنهم يقضون أعمارهم في معاناة فكرية ثم يرحلون عن هذه الدنيا دون أن يتركوا أثرا فيها”.
البيان غاية في “البيان الخالد”
إن المتأمل في كتاب كولن القيم “البيان الخالد” سيلمس شدة وعيه بقيمة البيان والبلاغة ووعيه بسلطة الكلمة في التبليغ وفي البناء. وبعبارة أخرى إن هذا الكتاب/التفسير يعكس كما يدل على ذلك العنوان طبيعة نظرته للقرآن الكريم فهو بيان أو بلاغ من الله تبارك وتعالى إلى الناس أو لنقل إلى الإنسانية كلها أوحى به إلى رسوله ليرشدهم إلى طريق السعادة والفلاح ويخبرهم عن الآخرة والحشر. وهو كذلك بيان بالمعنى البلاغي واللغوي للدلالة على دقة إحكام الكلام وإحكام العبارة وإحكام البيان في هذا الكتاب الخالد ويؤكد أنه كلام الله. وأما حرص فتح الله كولن على إبراز ذلك فيكشف غايتين منهجيتين:
– الغاية الأولى هي تأكيد أهمية البيان واللغة ودقة العبارة في تحقيق الغايات النبيلة التي يرمي إليها القرآن وهي إرشاد الناس إلى عبادة الخالق وإلى الصلاح والرشد.
– وأما الغاية المنهجية الثانية فهي الإلحاح على أن سمو الهدف وشرف الغاية، يحتاج حاجة ملحة إلى الوسائط المساعدة على ذلك وإلى القوالب الجميلة حتى تبلغ الكلمة مستقرها وتبلغ غايتها، وبأن الجمال في أبعاده الكلية ضرورة لا محيد عنها، ولا ينبغي بأي وجه من الوجوه إهماله والتغاضي عنها واعتباره مجرد ترف يستغنى عنه.
يكشف البيان الخالد حرصا قويا من فتح الله كولن على الوقوف المستمر منذ الصفحات الأولى للكتاب على هذا الجانب، فكل المواضيع والقضايا التي تناولها فتح الله كولن في هذا الكتاب والتي تبرز الجوانب البيانية وتخدمها، والتي حرص على إبرازها وبيانها والكشف عن بيان القرآن فيها، تؤكد كلها بأن حالة شعور اعتقادي تتلبسه في علاقته بهذا الموضوع. ولم يتوان كولن في هذا الكتاب عن إبراز قوة الخطاب وجمال العبارة ودقة البيان البلاغي في الإشارة إلى ذلك والدلالة عليه. وأمثلة ذلك كثيرة جدا لكنها تصب كلها في عمق واحد وهو إبراز مواطن قوة الخطاب القرآني البيانية ومصدر ذلك، ونجد في الإلحاح على ذلك تأكيدا لفكرة أن منهج اللحظة الراهنة وفي المستقبل هو قوة البيان وقوة الخطاب وضرورة توظيف إمكانات اللغة في البيان، يقول مبرزا هذه الحقيقة في القرآن الكريم: “للقرآن الكريم أسلوب فريد يراعي مستويات المخاطبين الإدراكية في مختلف العصور، فَفَهِمَهُ الناس زمن نزوله بيسر، وكذا من أتوا بعدهم بعصور، إن له أسلوبا في البيان المراد، تنكشف به لجبريل الذي نزل به العوالم معان من ذلك المقام، بينما يدرك الرسول أسراره من أفقه هو، والناس ينهلون منه كل على قدر مداركه، حتى الراعي له فيه نصيب من الفهم والإدراك، وكذا الفلاح وهو يحرث وربة البيت في عملها والبدوي في بيئته”.
وبكلام آخر فإن كتاب (البيان الخالد) من أهم إبداعات فتح الله كولن وينبغي النظر إليه والتعامل معه على أساس كونه محطة جمالية ومصدرا لتبين تصوره في هذا الباب كله، وهو إبراز قوة البيان وقوة الكلمة وقوة الأدب والبلاغة في إبلاغ الرؤى وتحقيق الغايات وكأنه يلفت الانتباه بالقول إن المنهج الإلهي في التبليغ يقوم على أسس كثيرة ومنها البيان، وهو المنهج الذي صار عليه الرسول ، في التبليغ، ليتأكد بأن منهج النبوة، في التبليغ يقوم على أسس كثيرة من أهمها البيان وسلطة الكلمة وسحرها.
إن كولن ملتزم بهذا المنهج في سبر غور البناء والتغيير، وملتزم بهذا الطريق من أجل رؤية أخلاقية متوازنة متطلعة إلى خدمة الإنسان في كل مكان، بجلب الطمأنينة له، والبحث عن كل سبل بناء علاقة متوازنة ومكونات الوجود. فكل السبل التي تحقق المهمة الأساسية وتحقق التبليغ وتبلغ التبليغ مراده يجب طرقها وهي مشروعة ومطلوبة. واهتمامه بالأدب نثرا وشعرا، وبالفن عموما يدخل ضمن أهداف سامية خطها لتحقيق أشواقه الحضارية وأشواقه النهضوية.
أبعاد الجمال الوظيفية في الفن والأدب
في ضوء ما تقدم يتأكد حرص كولن على إبراز قيمة الجمال تنظيرا وإبداعا، فعلى مستوى التنظير كتب كولن عن مفهوم الجمال، ونظر له، واتجه تركيزه دائما إلى الإبداع وإلى الشعر والنظم الذي ظل دائما يدور في دائرة لفت الانتباه إلى قيمة الجمال المنبت في هذا الوجود من زاوية مظاهره المختلفة الجامدة والمتحركة والمتحولة. والنظر إليها على أنها تجليات من تجليات اسم الجميل.
وبكلام آخر إن الجمال المنبت في هذا الوجود الفسيح، والذي هو مصدر للتأمل والتغني والاستمداد، هو في أصله انعكاس للجمال الإلهي المطلق، لأن الوجود كله مرآة تعكس الجمال المطلق. والأدب والفن من هذه الزاوية ينبغي أن يكون انعكاسا لهذه الروح وينبغي أن يكون مهتديا بها ومستظلا بظلها. ولهذا فالأدب والفن عند فتح الله كولن قد يطرقان مواضيع كثيرة ويسيحان في آفاق واسعة لا حدود لها، لكن على أساس الانسجام مع كل جميل وصالح ومفيد للإنسانية في وجودها ومعينا لها على الارتقاء نحو الكمال.
قد يتعرض الأدب للقبح وكل ما يدخل في حقله ومن واجبه وشروطه التنبيه على ذلك كله، لكن على أساس ما يتضمنه من قبح، وما يحمله للإنسان من ضرر قد يهدده في حاضره ومستقبله وفي عالمي الغيب والشهادة. إن العناية بالجمال والالتزام بإبراز مظاهره والتغني بها في نصوصه الإبداعية لا يعني عدم تعرضه للقبح ولمظاهره التي تقف في الطرف النقيض للحسن والجمال، بل هي تحضر بصورة ضمنية في كل مظهر وفي كل سلوك جميل وبهيج، إلى درجة أن يصير القبح نفسه بُعدا من أبعاد الجمال لأنه يعلي قيمته ويميزه كما يتميز الخبيث من الطيب، وبعبارة أخرى إن إعلاء قيمة الجمال بكافة مظاهره الإنسانية السلوكية والوجودية والكونية وإبراز أبعاده الإيجابية والوظيفية هي في الحقيقة تنبيه لحقيقة القبح باعتباره ضدا، وكما يقال بأضدادها تدرك الأشياء وتدرك الألفاظ والمعاني والقيم والأحوال.
إن الفن والأدب من هذا المنظور لا يمكن إلا أن يكون هادفا، وقد تتعدد الأهداف والمرامي التي يتطلع الفن والأدب إلى تحقيقها من رقي بذوقه ورفع وعيه إلى جعله وسيلة من وسائل الإصلاح وبث الصلاح في المجتمع بعيدا عن كل ما قد يحشر في التأليب الجماهيري والتأطير الأيديولوجي، بعبارة أخرى: إن الفن الرفيع هو ذلك الفن، الذي يتعالى عن تحقيق الأهداف والمرامي الذاتية فرديا وجماعيا، وحتى الجماعية التي تبطن غايات أيديولوجية ضيقة تشخصن الممارسة في دائرة حزبية ضيقة أو حتى شخصية، والتي قد تجعل الفرد صنما يعبد ويقدس. وعلى هذا الأساس اقترن الجمال بالخير في منظور فتح الله كولن، واعتبر انتصارهما هو ما يجب تحققه؛ لأنهما خميرة الفضيلة، والدنيا نفسها تتجه لا محالة إن عاجلا أم آجلا نحو هذا البعد.
والفن عموما والأدب على وجه الخصوص مقرون بابتغاء الخير، ومن اللازم أن يرتدي الأدب الثوب الذي يناسبه ويتناسب والفطرة، وعلى هذا الأساس يمكن التصدي للقبح ومقارعته، ولأن المقام مقام أدب وفن وجمال فإن إلباس الخير حلل البهجة وزركشتها بألوان الرقة والبهجة هو المطلوب، حتى لا تتحول لغة الجمال والفن والأدب إلى مجرد خطب وعظ وحسب. ولقد مارس كولن الوعظ في مقامات الوعظ ووظف لغة البهجة والجمال في مقامات أخرى، انسجاما وقاعدة توافق الحال والمقال، وعيا منه بأن لكل مقام مقالا، وبأن الجمال والفن يضمن للكلمة سلطة ودواما واستمرارا وخلودا، يقول: “كل فروع الأدب تعد نوعا خاصا من أنواع التعبير حسب العناصر المختلفة التي يستعملها والأهداف التي ترمي إليها، أي تغدو لغة خاصة لذلك الفرع من الأدب ومع أن الجميع يستطيعون فهم هذه اللغة بدرجات مختلفة، إلا أن الأديب والشاعر الذي يستعمل تلك اللغة بمعناها الحقيقي هو الذي يفهمها حق الفهم” ويعني ذلك أن الأفق الذي ينطلق منه الأديب أفق يقتضي الوعي بقيمة الكلمة وسلطتها في تحقيق السمو الروحي المؤدي بدوره إلى السمو السلوكي الذي ينعكس انعكاسا موجبا على الواقع فيؤثر فيه.
ما يلحظه المتأمل فيما أبدعه كولن هو اقتران النظر بالتفعيل، واقتران الرؤية بالتنزيل، ففكره تميز على مر عقود بأنه ملموس ومشاهَد واقعيا من خلال ما يمكن أن نطلق عليه المنجز وينسحب هذا على الفن والأدب وعلى البيان، بمعنى أن نظريته في مجال الفن والأدب تطلب في كل شيء من الشعر والنظم والكتابة.
إن الفن والأدب في نظر فتح الله كولن جزء من البيان ويوظفه من أجل البيان ومن خلال هذه الرؤية سنحاول مقاربة قدر قليل من عالم كولن الفني والأدبي والجمالي، وذلك من خلاله عمله (ألوان وظلال) الذي يعتبر كتابا للغة الروح التي يتطلع إلى زرعها في القلوب وفي النفوس، ويتأمل من خلالها الوجود ويوجه الإنسان إلى ذلك، ويلفت انتباه العالم والإنسانية لما حولها من بهجة ويجري حولها من مآسٍ وهموم سبب سوء تصرفها، وكأن بيانا -بالخط العريض- يقول: الإنسان هو المشكلة والإنسان هو الحل.
يستحضر في هذا العمل روح الوجود، أو يستحضر بأن لكل شيء روحا، وهو ينظر إلى هذه الروح مجتهدا بكل ما وهب من طاقة إبداعية وطاقة روحية لتثمين ذلك، يقول الأديب الرقيق أديب الدباغ في تقديم ألوان وظلال ملخصا هذا العمل الأدبي والفني: “فهذا الكتاب -غريزة القارئ- إنما هو لوحات غاية في الجمال مرسومة بالكلمات والأفكار والمعاني كما أوحته هذه الصور الفوتوغرافية، فهي فكر وأدب وفن ونظرات دقيقة في الإنسان والكون والحياة، وهي بعد ذلك كله غذاء قلبي وروحي للجوعى من أصحاب القلوب، والعطشى من أصحاب الأرواح”.
لا شك بأن “ألوان وظلال” يقول أشياء كثيرة، أو لنقلْ: إن الصور الذهنية كما يطلق عليها بعض من اهتم بفكر الأستاذ تقول أشياء كثيرة، بل هي تركيز لعالم الرجل وفكره ونظرته للوجود والطبيعة والإنسان وواقعه، حتى لم تترك مجالا متصلا بهذا الإنسان إلا وأتت عليه وأشارت إليه، وكأنه يقرأ من سجل سجلت فيه قضايا الإنسان في كل أبعاده المادية والمعنوية، وإفراغها في قالب جمالي شائق، كلافتة يسهل تذكرها ويسهل تردادها والتغني بها. إن (ألوان وظلال) لوحات تأملية مفعمة بالتدبر ومفعمة بالشوق والأمل، ومفعمة بلغة القلب المتوجهة للقلوب ومتوجهة توجه عبادة وتفكر، يقول:
“في الكون تدبَّر،
وفي الطبيعة تَفكَّرْ،
نشازًا لن تجد،
واختلالاً لن ترى…
مَوزونٌ كُلُّ شيء؛
كقصيدةِ شِعر،
وسمفونيةٍ رائعة اللحن…
فأظنّك تعلم،
أن التفكّر من أعظم العبادات…”
على هذا الأساس يتحول (ألوان وظلال) إلى كون بياني يلخص الكون على الحقيقة بكل ما فيه من مظاهر معنوية ومادية. وما يجب التسطير عليه في تلك اللوحات هو الأبعاد المتصلة بالرؤية المتشوفة إلى الرقي بالإنسان والرقي بواقعه، والمتشوفة كذلك إلى بناء وعي إنساني منسجم وإيقاع الكون، والمتطلعة كذلك إلى إحداث الفرق والتميز على مستوى السلوك.
والتساؤل حول طبيعة هذا المترجم في هذا العمل الأدبي ذي الأبعاد الفنية والإبداعية ملحٌّ، فقد يعد شعرا إذا نظر إليه في لغته التي كتب بها وهي التركية، والذي ترجم ليس شاعرا في الغالب فقد ترجم المعنى أو كما قال أعاد صياغة ما ترجم له وهو ما يؤكد قوة هذا النظم أو الشعر في لغته الأصلية، وسنعتبر أن ما في (ألوان وظلال) نوع من النظم الشاعري أو هو نوع من النثر المشعور أو الشعر المنثور. لكنه نظم وفق كثيرا في نقل حقيقة عالم فتح الله كولن الأدبي والشاعري.
وفي ضوء الذي تقدم، يمكننا أن نسأل: ما حدود انسجام الممارسة الفنية والأدبية مع رؤية الأستاذ كولن؟ وهل تكشف الصور الفنية والنظمية أو الشعرية بحسب اللعة الأصلية لهذه النصوص عالمَ فتح الله كولن فعلا؟
إبداع العتبة يضيء عالم النص
سبقت الإشارة في مكان سالف من هذه الدراسة إلى أنَّ هناك مظاهرَ دالة على سموّ الحس الجمالي عند فتح الله كولن وحضور روح الإبداع في كل منجزه وكل ما له صلة بهذا الرجل ولو من باب التوجيه والإرشاد، بدءا من مدخلاته الأولية أو بدءا من عتباته. وكذلك النص/النصوص التي رهن أيدينا.
هناك مثل شعبي يقول بأن عالم البيت وأخباره تدرك من بابه أو من عتبته، فأخبار هذا الكتاب تدرك هي الأخرى من عتبته الأولى، التي تقول أشياء كثيرة وتقدم معلومات مهمة لمن يقدم على دخول عالم هذا النص، وعلى العموم فإن كل من تفاعل مع كتب كولن سيقف على مدى اهتمامه بعتبة العنوان اهتماما يؤكد حرصه على أن يتضمن العنوان رسالة أو بيانا للمتلقين والمرسل إليهم، وهو سلوك ثقافي متصل بوظيفة وغاية وبأن لا مجال للاعتباطية فيما يقوله ويكتبه، وهو سلوك ممنهج اكتسب في الغالب من عمق تفاعله والخطاب القرآني، الذي لا وجود فيه لما لا وظيفة بيانية له، وما يؤكد ذلك كذلك هو تركيزه على الجوانب البيانية في تفسير “البيان الخالد”، كما أشير إلى ذلك سالفًا.
اختيرت العتبة الأولى أو العنوان الأول وهو ألوان وظلال بعناية كبيرة جدا لصنع الإثارة وجذب المتلقي إلى عالم النص الكبير والفسيح. وصب في قالب تركيبي هو الجملة الاسمية للدلالة على الاستمرار والدوام في مقابل الفعلية التي تدل على الحركة والتحول والتغير وعدم الاستمرار، وقد أظل البعد الاسمي أغلب عناوين هذا العمل الأدبي، والغالب أن ما كان يرمي إليه هذا العمل الأدبي والفني هو تقديم رؤية تتسم بالاستمرار والدوام، أو هي بالأحرى رؤى ومواقف ثابتة لا تعرف التحول، بل هي نوع من الالتزام الفكري الذي يترجمه الالتزام السلوكي، المترجم عن قيم المرسل ومواقفه.
وأما اللون/ألوان فتحيل دلاليا على حقل الألوان في الطبيعية بما تتميز به من استمرار ودوام دون أن تبهت حقيقتها، عكس تلك الألوان المصطنعة، وكأن الألوان الطبيعية تلفت الانتباه لما في الوجود من حقائق ومظاهر لا تتغير، كما تؤكد بأن مختلف مظاهر الواقع والوجود المادية والفزيائية تنعكس معنويا على ذات الإنسان بصورة عامة، وتحيل في الوقت نفسه على الروح التي تسري فيه، لأن لكل مظاهر الوجود بما في ذلك الألوان روحا. وأما الظلال فتحيل على الظلال الوارفة التي تظل هذا الوجود وحقيقة الروح السارية فيه، فكلاهما أي الوجود والروح مخلوقان يدلان عليه هو تعالى، يقول: “كل شيء يشهد على وجود الله تعالى ووحدانيته من كلّ وجه، إلا أن عجز الإنسان عن تقويم رؤيته يحول بينه وبين الإيمان، كما كان الكبر والظلم وتقليد الآباء والأجداد يحول دون الإيمان”. ويضيف: “لكن عندما نظرنا إلى الكون بوجهة نظر مادية أو طبيعية أو وضعية لن نستطيع سماع صوت الكائنات التي تعرِّف بالله تعالى بآلاف، بل بملايين الألسنة، ورغم أن أمثال هؤلاء يدققون النظر في الكون إلا أنهم ينسبون كل شيء إلى الطبيعة لعجزهم عن الرؤية مع أنهم ينظرون، أو لعدم قدرتهم على القفز إلى ما وراء ما يرونه، وبعبارة أخرى: إنهم لن يستطيعوا تقييم الأشياء والأحداث التي شغلوا بها تقييمًا يدلهم على الذات الإلهية، لأنهم لا يعرفون كيف ينظرون وإلامَ ينظرون”. والإحالة هنا على المعنى الحرفي لمظاهر الوجود وليس المعنى الاسمي، باعتبارها مخلوقات من مخلوقاته تعالى بما في ذلك الروح السارية فيها، ولذلك فهي ظل من ظلال القدرة الإلهية والتغني بها وبيان هذا الجانب المشرق منها والدال على الخالق تعالى إنما يتم هنا بهذا البعد ويتم بهذا المعنى وهذه الشاعرية.
ورد هذا العنوان متعلقا بشبه جملة مكونة من حرف الجر “في” وهو حرف يدل على معنى في غيره، ويدل هنا على الوعاء. فالألوان والظلال أي مظاهر هذا الوجود تدل على الذي زرع الروح فيها، وهي منعكسة على هذا الأساس في مرآة الوجدان، مرآة وجدان المرسل وهو هنا النص، وكأنه يؤكد بأن الألوان والظلال تحضر في هذا النص/النصوص بالمعنى الحرفي وحاشا أن تكون بالمعنى الاسمي، قد تحيل على المعنى الاسمي من جهة اكتساب صفة المخلوق بفضل الخالق وبفضل نفخ الروح فيها. وعلى هذا الأساس فالعنوان يقدم معلومات جمة، بل يمكن اعتباره مفتاحا لفهم كافة العناوين الواردة في العمل الفني، ومفتاحا لفهم نصوصه كلها.
النص رسالة وبيان
كل نص من نصوص هذا العمل البياني رسالة وتوجيه، بل بيانات أفرغت في قالب جمالي، كمن يكتب رسالة ذهبية يضمنها وصيته/وصاياه لمن يحب وهي في حال كولن أمته التي ينتمي إليها، بل والإنسانية كلها، لكن هذه الوصية/الوصايا تحتاج إلى قرطاس جميل يجذب الألباب والعقول ويشد الأرواح الطيبة، وهذا القرطاس الذهبي إبداع مؤسَّس على قوة الكلمة ورشاقتها دون تكلف ولا لي لعنق التعبير، تنساب كشلال عذب هادئ يشعر المتلقي بالراحة النفسية ويهيئ الذهن للتلقي. وبعبارة أخرى إن فتح الله كولن واع كل الوعي بضرورة الابتعاد عن التكلف، وعلى الرغم من كون نصوص العمل مترجمة عن اللغة التركية، فإن الفريق الذي أشرف على الترجمة والتعريب، قد حرص على الابتعاد عن التكلف كما تجنبه الكاتب وحرص على الانسيابية في العبارة مع الاختيار الدقيق جدا للمعجم وعباراته، يقول فتح الله كولن عن توظيف البلاغة وأهمية مباحثها: “من المهم جدًّا الاستفادة من الفنون اللفظية المختلفة مثل الاستعارة والكناية والمجاز والجناس والتورية لا سيما في الأسلوب الأدبي والخطابي عند التعبير عن قضية ما، ومع ذلك يظل من الضروري الحرص على عدم التكلف والتصنع في هذا الصدد، ولا ينبغي البحث عن الإعجاز والإبداع بتعابير مغلقة وغامضة ومبهمة كما يفعل بعض الكتاب والشعراء اليوم، ولا الدخول في الأوهام والخيالات للتعبير عن أنفسنا، يجب أن ننتبه إلى أن تكون الموضوعات التي نتحدث عنها ونكتبها مفهومةً؛ ولكن لا ينبغي أن نهمل العمقَ والفنَّ فيها.. إن سرَّ عمقِ القرآن كامنٌ في وضوحه، إنه كالماء النقي الصافي. أجل، هو نقيٌّ وصافٍ وبراق لدرجة توهمك بضحالته عندما تنظر إليه من الشاطئ، وتقول: إنني إن أدخلت رجلي فسيصل إلى كعبي فقط، لكنك عندما تدخل فيه تغرق.. هذا هو العمق القرآني” مباحث علم البلاغة ذات أهمية بالغة جدا بالنسبة لفنون التعبير وخاصة الأدبية، شرط ألا تكون هي الهدف، وأن تظل مجرد وسيلة مساعدة على تحقيق مرامي الخطاب، وعلى هذا الأساس يفصح كولن عن موقف نقدي في غاية الأهمية يؤكد من جهة اتساع اطلاعه على المعطي الأدبي الذي روجته مختلف النظريات الأدبية وخاصة تلك التي برزت في ظل الحداثة وما بعدها، والتي تعتبر الغموض والتعتيم جوهر الإبداع والفن، في حين يلح كولن ضمنيا على الوضوح وعدم الإسراف في الغموض بل وينكر التعتيم، وهو تصور نقدي يلح على البعد الوظيفي للأدب، ويلح على قضية المسؤولية في هذا المجال، ولا أقول الالتزام لأن الالتزام ارتبط بالواقعية الاشتراكية التي أخضعت الفن عموما والأدب على وجه الخصوص للأيديولوجيا الضيقة فصارت سيفا مسلطا، في الوقت الذي تعد فيه الحرية المسؤولة من مستلزمات الفن عموما والأدب خصوصا، يقول عن مفهوم الحرية: “الحرية هي عدم قبول الروح سوى المشاعر العلوية والأفكار السامية، ولا تعني الإسار لأي مبدإ سوى مبدإ الخير والفضيلة” ويضيف “الحرية هي تحرر الفكر الإنساني من كل قيد يمنعه من الرقي المادي والمعنوي بشرط عدم السقوط في وهدة اللامبالاة أو الانفلات من الشعور بالمسؤولية” .
تكسير الحدود وتذويب الموانع
في نصوص ألوان وظلال تتكسر الحدود وتذوب الموانع بين الرؤية والنظر، وبين قلب الشاعر وكل الكائنات، بل وكل مظاهر الوجود، لتصبح وكأنها شخوصا تتكلم بالخطاب وتسمعه وتبلغه، ويلمس القارئ وكأن فتح الله كولن يخاطب فيها روحها انطلاقا من روحه، لأنه يعتقد ولا يظن بأن لها روحا. ويشعرك بأنه يستحضر كولن كل مظاهر الوجود جندا من جنود القدرة الإلهية تتصرف وفق نظام معروف لديها أو لنقل وفق نظام أودعه الله فيها، وفي أصل خلقها. بعض النصوص يغلب عليها نبرة الألم والحزن، بل واليأس في بعض الأحيان، وفي مستطاع المتلقي أن يستشف منها بعضا من جوانب نفسية فتح الله كولن نفسها، حين يتلبسه حال من الحزن والألم على المصير فكولن الذي لم ينجب ولم يتزوج قد ينتابه هم الموت والرحيل عن العالم وهو وحيد ودون ترك أثر منه في هذا العالم، لكن يجد سلوته مع ذلك في التعبير عن هذه الحال التي يتوق من خلالها إلى غرس همة الحركية لمن ينصت لهواجسه ويتأمل تفكره، يقول مخاطبا رمزا لم يفصح عنه سوى من خلال اللوحة المصاحبة للنص:
“وحيدة في القفر،
دَمْعًا تسكبين، والقرَّ تَشكِين،
والسافياتِ العاصفاتِ تُعانين..
ما كنتِ هذا تتوقّعين،
لهذا اليوم لم تستعدّي،
وأمثالَكِ لم تنسلي،
وأفرادًا من جنسك لم تستولدي..
نومًا نمتِ، وبذورَك لم تنشري..
وا حسرتاه!.
مثلي تمامًا، وحيدةً اليوم تبقِين،
وعن قريب تموتين، وتنقرضين”
فهذه الصورة بقدر ما تنم عن حزن ذاتي دفين، بقدر ما تعبر عن وضع رمزي أو لنقل مرموز إليه وهو وضع الفعالية الواقعية الصامدة الوحيدة، التي لا تجد من يعتني بها مما يجعلها عاجزة عن التوالد والانتشار ومن ثَمَّ القدرة على العطاء.
وبكلام آخر قد يكون مبعث هذا الحزن ذاتيا، لكنه ليس هو المقصود وليس هو المراد لأن الرجل ليس من طينة العقليات الفذة التي تميل إلى الحديث عن نفسها وعن ذاتها، ولكنه حزن وجودي ملازم لهذا الرجل بالنظر إلى الهم الذي يطوقه، وهو هم توقه إلى رؤية الإنسانية كلها وقد أدركت حقيقة وجودها على وجه هذا الكوكب، وأدركت وظيفتها الأخلاقية من هذه الزاوية. يقول مقدم ألوان وظلال: “إن من يطرق أبواب هذا الكتاب إنما يطرق أبواب مملكة واسعة الأرجاء من المشاعر والأفكار، وقراءته تعلمنا كيف نعيش في مستوى عال من الحدس والشعور المرهف والحس الرفيع، مثلما نعيش بأذهاننا وأفكارنا، وأن نكون على استعداد على الدوام لنرى صور الأشياء المحيطة بنا من كل جانب وهي طافحة بالإيماءات إلى خالق الصور ومنشئ الأجساد والأرواح… إن نضالاتنا الذهنية تبدو بلا معنى إذا لم ندخل إلى حومة النضال معنا قوى أرواحنا ومشاعرنا وخيالنا وأحاسيسنا، وكل لطائفنا الأخرى لنستقوي بها جميعا في هذا النضال في مواجهة محن الفكر والإيمان.. إننا ملزمون جميعا أن نضرب عاليا في معارج الرقي الإنساني، وأي توقف عن هذه الغاية سيدفعنا دون شعور منا إلى دركات سفلية مظلمة تفقدنا البصر والبصيرة؛ فالروح المنكفئة على نفسها ستصاب بالبرد والارتعاش عند دخولها عالم الأرواح الحركية الحارة، شاعرة بالغربة بينها، وبالدونية تجاهها”.
كل صورة وكل نص في هذا العمل تعبير فني بروح تواقة إلى الجمال عن موقف وعن تصور لقضايا الإنسان في علاقته بخالقة وذاته والوجود كله، بل هي قطعة من قطع الرؤية الكبرى أو الرؤية الشاملة كلُعبة `البازل´ التي تتكامل قطعها لتشكل في النهاية شكلا أو صورة يفرح الذي يقوم بتجميعها كاملة متكاملة. وما تضمنه ألوان وظلال من صور بيانية وذهنية تصب أغلبها إن لم نقل كلها في دائرة الرؤية الشمولية المعبرة عن شخصية المرسل فتح الله كولن وتجميعها كلها يشخص تلك الشمولية في بعد فني جمالي أدبي، بل هي تجسيد للرؤية الإسلامية للجمال والفن والأدب، لكن ببعد مفعل، وقد يثار السؤال لماذا هذا السلوك وما الغاية منه ألا تغني مؤلفاته النظرية عن هذا؟ والجواب هو إن إعادة إفراغ ما ضمنه مؤلفاته في قالب جمالي أو لنقل قالب بياني من زاوية أخرى يقدم فوائد دقيقة رقيقة هذه بعضها:
– أولا، دفع المتلقي إلى إعادة بناء الرؤية الشمولية من زاوية أخرى، وذاك مجهود ذهني ومعنوي تشترك فيه كل جوارح المتلقي، وهو مدعاة لترسيخ الصورة الكاملة لكن ببعد بهيج وجميل ورقيق.
– ثانيا، الإلحاح على أن البهجة والبيان والجمال بعد ضروري من أبعاد منهجية التبليغ والدعوة إلى القيم الإنسانية السامية، خاصة في ظل المظاهر الشكلية والمضمونية الخادعة التي يحفل به الواقع المعاصر، وخاصة في مجال الفن والأدب.
– ثالثا، التأكيد بأن كل مظاهر الوجود بما في ذلك عالم الإنسان الداخلي الوجداني ينبغي أن ينخرط في سلوك البناء والإعمار، وأن يكون صرحا من صروح التفاعل والتآلف.
– رابعا، إن اكتمال صورة الوجود ببعد جمالي ووجود الإنسان باعتباره شجرة الخلق كما يعبر عن ذلك بديع الزمان النورسي يقتضي وضع هذه القطعة الجميلة جدا أي الإنسان في مكانها المناسب.
– النقل الأمين للغة القلب في تفاعلها والرؤية الشمولية، فقد يعجز القول النظري المباشر عن ترجمة دقة ما يختلج القلب من مشاعر تجاه الرؤية لكن الأدب عموما والشعر خصوصا ينجح في ذلك لأنه هو عالم لغة القلب بامتياز.
اللحظة الأدبية لحظة سلوك حضاري
في ضوء ما تقدم فإن المتأمل في هذه النصوص سيكتشف مواقف ذات أهمية بالغة في رؤية فتح الله، فهو يصر أن العصر هو عصر الكلمة وأن السيف ينبغي أن يتحول إلى قلم، وكأنها دعوة إلى نوع من الجهاد بالقلم وبالكلمة والبيان، وهو يعتقد ولا يظن بأن السلاح الذي ينبغي الحرص على امتلاكه، والحرص على أن تتسلح الأجيال اللاحقة به هو سلاح القلم وسلاح البيان وسلاح الكلمة نظرا لما في هذا السلاح من طاقة تعين على مسح الألم وإحقاق الحق، كما يقول:
“متى يا سيوفُ أقلامًا تَعُودين؟
متى يا دماء على الأرض تجفّين؟
والسيفُ إنْ عادَ قلَمْ،
مسَح الألَمْ،
وهتك الظُّلْمَ والظُّلَمْ،
وعالج الداء، وجاء بالدواء…
فمِداد الأقلام في عقول الأجيال،
أَوقعُ اليوم من سيفٍ كرَّار،
ودمٍ هدَّار،
وهو في الميزان
كنجيع الشهداء في الميدان…”
هذه دعوة وبشرى، دعوة إلى ضرورة التمسك بمنهج العلم والفكر لأن من خواص القلم، العلم والفكر، وأما البشرى فتتجه إلى حملة القلم وجنوده وتضعهم في صف المجاهدين والشهداء والواقع المعاصر وما يوحي به في المستقبل هو ميدان جهادهم.
ومن زاوية مختلفة فإن هذا النص يحمل في طياته دعوة ضمنية ترفض العنف وترفض الإرهاب وإسالة الدماء واستباحة الأرواح، وتؤكد أهمية العلم والفكر والتربية لأن القلم يدعو إلى الفكر والعلم والتربية، في الوقت الذي قد لا يستدعي فيه السيف الفكر والعلم والتربية. والظاهر أنه من خلال عرض هذه الرؤية وهذا الموقف على شريط الأحداث التي تجري على ساحة الواقع العالمي الحالي تتأكد شدة حرص كولن على النأي بنفسه وحركته عن مختلف الصراعات ذات الأبعاد العنيفة، والحرص على عدم الانجرار إلى كل ما من شأنه الوقوع في شرك الفرقة والصراع، وهما عدوا الإنسان في كل عصر.
وفي ظل هذه الرؤية يمكن التوقف عند تذكير هذا المفكر الشاعر بالقيمة الحضارية للأمل وهو أمل يقيني لأنه مشدود إلى الثقة في وعد الله ومشدود إلى حقيقة وراثة أهل الصلاح للأرض. فاليأس لا مكان له في رؤية كولن ولذلك تشهد تأملاته الفنية تفتحا على المستقبل وعلى ما يحمله الربيع أو فصل الربيع بما يمثله من تجدد وتفتح، يقول في نص يعبر في هذا الاتجاه:
“لا تحزن على شحوبها، فغيرُها مخضرًّا نبت،
وتلك سنّة الله ماضية،
ترى شتاء عابسًا بثلوجه وصقيعه،
وإذا الربيع يبث في كل ناحية فرحًا”.
لم يتوقف لحظة واحدة في هذا العمل عن التذكير بأن الأرض وما يتصل بها والوجود كله ذلك قرآن منظور يساعد الإنسانية على الحركة الإيجابية، لكنه يتأسف على ما لحقها -أي الأرض- أو ما لحق هذا الصرح الجميل من تلويث وآثام، لتتعمق قضية كون اللحظة الأدبية والفنية عند كولن لا تخرج في الغالب عن إطار الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، تلك آماله وأشواقه تتردد بصور مختلفة وبقضايا متنوعة هي أشواقه التي زرعها في فرسانه، وتحقيق هذا الأمل مرهون بالفرسان، بفرسان الإيمان الذين تركوا أثرا طيبا على وجه هذه الأرض، إنها لحظة تطلع مفعمة بالأمل في بروز فرسان الإيمان القادرين على محو ما علق بالأرض والقرآن المنظور من لوثيات وآثام، يقول:
“هؤلاء السالكون،
فرسان سائحون،
وبالطريق هائمون…
قلوبهم بالإيمان مترعة،
ونواصيهم بالفكر مشرقة…
من هنا مرّوا،
وآثارا لهم تركوا،
والآفاق نوّروا،
والطمأنينة نشروا….!“
لم يتوقف كولن كذلك على طول ألوان وظلال بالتذكير بأن الأمر في أصله متصل ومرهون بالاعتقاد بأن الثقة في الله هي المفتاح وهي النور الذي يمنح الفرسان -فيما يبدو- الطاقة اللازم لأنه هو واهب الحياة، فكل شيء قابل للتحول في لحظة بقدرته وتدبيره، ورهين بشدة ما يبديه الإنسان من حركة وعمل وإقبال على المبادرة، إذ لا بد من أخذ المبادرة وترك الصراخ والبكاء على الأطلال. ونموذج الإنسان القادر على إحداث التغيير ليس هو ذلك الإنسان المنهزم الذي يقف متباكيا على واقعه، بل هو الذي ترك الشعور بالضعف وتدثر بالعزم والعزيمة وقوة الإرادة وكسر سلاسل الضعف والهزيمة، وشرط النجاح في هذا الاختبار هو نكران الذات، وعدم ربط الأقدام والعمل بالأجر والمقابل، بعبارة أخرى إن كولن يؤكد ضرورة أن يكون الأقدام والعمل خالصا لله، لأن الإخلاص لله والإخلاص للمهمة السامية هو مفتاح التوفيق والنجاح.
إن نصوص هذا الكتاب الفني والأدبي (ألوان وظلال) تقول أشياء كثيرة وتفصح عن جوانب دقيقة في رؤية كولن أكثر مما تفصح عنه النصوص النظرية التي تنطق بها كتبه وخاصة كتاباه “ونحن نقيم صرح الروح” وكذلك “ونحن نبني حضارتنا”. فكل هذه النصوص مصابيح مشرقة تنير حقيقة ما يكتبه فتح الله كولن نظريا. لا شك بأن الخطاب الكولَني -إن صح هذا التعبير وهذه النسبة- خطاب واحد، لكن يقدم للتاريخ وللحظة التاريخية وللإنسان بوجوه مختلفة، لكن هذه الأوجه ترتوي كلها من عين واحدة ومصدر واحد.
الإنسان هدف ومسؤولية
إن الإنسان باعتباره المكون المركزي في رؤية فتح الله كولن يوجد كامنا في كل صورة وفي كل نص من نصوص ألوان وظلال فهو الذي يجب أن يعمل وهو الذي ينبغي أن يجدد إيمانه وهو المدعو إلى رفع النظارة السوداء عن عينه والنظر بإيجابية إلى العالم، والاعتقاد بأن صلاح حاله قريب وفي المتناول، يقول:
“نظارتك السوداء،
هَمًّا وحُزنا أورثتك،
عالما أسود أرتك…
وإن أنت أبدلتها،
سعدت،
وعالما مشرقا رأيت، ودنيا بزاهي الألوان شهدت…”
رغم كل ما في هذا العالم من مآسٍ وآلام فلا مبرر لليأس وفقدان الأمل، بل هو حال ينبغي أن تشعر الإنسان بالمسؤولية. والمسؤولية والإحساس بها بالنسبة لفتح الله كولن مكون مركزي في رؤيته، وهي مسؤولية تتعدى الحيز الضيق وتتسع لتشمل الإنسانية كلها، إذ يعتبر نفسه مسؤولا مسؤولية مطلقة عن كل فرد من أفراد الإنسانية. ولذلك فإن دعواه هذه لا تستثني أحدا، بل تجدها تتحرر من جميع القيود المانعة كالانتماء الديني والقومي والثقافي. يقول وقد هاله الحال التي صار إليها الإنسان الذي كرمه الخالق:
“قمامة بين القمامات جعلوك،
ضائعا بين القارورات من حولك أرادوك…
بك استهانوا، ومن عليائك أنزلوك،
ومن تكريم الله لك أهبطوك،
وإلى أسفل سافلين أسقطوك…
ألا يخجلون، ومن فعالهم هذه يستحيون…؟!”
الطاقة التي ستمد الإنسان بالقوة اللازمة لتحقق الآمال المرجوة وهي خلاص الإنسان والإنسانية كلها من ويلات الواقع، تكمن في أن يتدبر الإنسان حقيقته ووعي موقعه في هذا الكون الفسيح، لكن هذه الآمال في حاجة إلى الارتقاء في سلم الروح والتشبث بأسباب السماء لأنها تمهد السبل وتمهد الطرق وتفتح الأبواب الموصدة، يقول:
“وامتد واتسع،
كن كوني الزمان،
كوني المكان،
سائحا في مهول
الفضاءات…
مؤمنا بعظمة الرب…
معلنا سعة الحق،
وإلا أخذك التيه،
واحتواك المجهول،
وخبَلت الحيرة عقلك،
وضيعت رشدك…”
هذه دعوة صريحة مفعمة بالأمل واليقين في الأفق الإيجابي، تتأسس على انخراط الإنسان في بعده الكوني في الزمان والمكان، سائحا في الملكوت معترفا بعظمة الخالق، حتى لا يتيه عن غايته وهدفه، وكأني بفتح الله كولن وهو يدعو إلى ذلك من خلال تكثيف الدلالة وتبئير المعنى واختصار اللفظ والمبنى، وكأنه يريد للإنسان اختصار المسافات وتركيز النظر بجعله جمالي البعد مدركا لحقيقة الجلال الذي تدل كل مظاهر الوجود عليه، يقول:
“أنعم -يا إنسان- النظر،
ومن سجن نفسك تحرر،
ولمحات الجمال تشرب…
ودع قلبك يطير فرحا،
وروحك ترقص طربا…
واستشرف جمال “الجميل” في كل جمال،
تطمئن نفسك، ويزدد إيمانك،
وإلى ربك تعد إنسانا…”
على سبيل الختم
وعلى سبيل الختم فإن قضية الجمال والفن والأدب في رؤية فتح الله كولن تفرض نفسها على من يدخل عالم هذا الرجل من هذه الفسحة؛ لأنها تعكس بعمق علاقته الوجدانية برؤيته الإصلاحية وتصوره للواقع وما يعج به من أحداث ووقائع، بعبارة أخرى إذا كانت الأبعاد النظرية وهي كثيرة في حياة كولن لا تعكس عمق تفاعله الداخلي والنفسي وخطابه، فإن ألوان وظلال يعكس عالمه الوجداني وداخله النفسي ويعكس في الوقت نفسه حقيقة علاقته الوجدانية بمشروعه الحضاري ونظرته لكون والوجود والإنسان جزء لا ينفصل عن هذا البعد.
إن الملاحظات التي تمت مقاربتها في هذه الدراسة مجرد غيض من فيض، وحسبها أنها حاولت لفت الانتباه للزاوية الجمالية والفنية، أما نظرية الأدب والنقد عند كولن فهي تحتاج إلى مقاربات كثيرة ومن زوايا مختلفة، وحسبُ هذه الدراسة هو لفت الانتباه لهذا العالم الذي يتوجب الاهتمام به في وقت تعرف فيه وسائل التواصل والتفاعل ثورة عظيمة قد تغري البيان في المستقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
الإنسان والجمال، ألوان وظلال في مرايا الوجدان، ترجمة هيئة حراء للترجمة، تعريب أدبي أديب إبراهيم الدباغ، دار النيل للطباعة والنشر، ط/1: 1هـ – 2013: ص 89.
قد لا نعرف الشيء الكثير عن حياته الخاصة عندما لا يكون بين طلابه أستاذا، لكن الخلوة والاعتكاف في عالمه الخاص يشير إلى ربطه لعلاقة خاصة بالقرآن الكريم.
الموازين، أو أضواء على الطريق، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، ط/8 1435هـ – 2014م: ص 112.
نفسه: ص 152-153.
نفسه: ص 114.
نفسه، أو أضواء على الطريق: ص 114-435.
نفسه: ص 114
البيان الخالد، لسان الغيب في عالم الشهادة: ص 50-51.
الموازين: ص 107.
نفسه ص 114.
ألوان وظلال في مريا الوجدان: ص 4 (المقدمة).
شد الرحلة إلى غايات سامية.
الكون شعر منظوم، ألوان وظلال: ص 111.
شد الرحال لغاية سامية.
ترصيع الرسالة بالفصاحة وحسن البيان، الهدي النبوي …….
الموازين، أو أضواء على الطريق: ص 96.
تحتاج النظرية النقدية والأدبية عند كولن لوقفة خاصة وهو ما ينبغي الاشتغال عليه في دراسة لاحقة.
الشجرة الوحيدة، ألوان وظلال في مرايا الوجدان: ص 19.
نفسه، تقديم: ص 7-8.
السيف والقلم: ألوان وظلال في مرايا الوجدان: ص 20.
فرح الربيع، ألوان وظلال.
الفرسان، ألوان وظلال في مرايا الوجدان: ص 24.
النظارة السوداء، ألوان وظلال في مرايا الوجدان: ص 28.
الإنسان المكرم، نفسه: ص 83.
أيها الإنسان!، نفسه: ص 84.
الإنسان والجمال، نفسه: ص 89.