عندما حاولت الجمع بين هذين المتناقضين -مفهوم الحداثة ومفهوم التصوف- في فكر فتح الله كولن أدركت أنني تصديت لحمل مهمة صعبة؛ فمن ناحية نجد أن “التصوف” -وهو المصطلح المقبول عموما لتقليد الزهد الإسلامي- ليس حركةً دينية معرَّفة تعريفًا دقيقًا، وإنما هو شبكة متداخلة من الأفكار والممارسات يسعى جميعها نحو فهم أعمق وتتبع صادق للرسالة القرآنية. وحين حاول الباحثون من غير المسلمين -بل ومن الصوفيين أنفسهم- وَضْعَ تعريف محدد للتصوف استخرجوا -كما هو متوقع- عددًا من العناصر والتوكيدات الرئيسة لدى بعض الصوفيين عبر التاريخ، بينما تجاهلوا وأخفوا عناصر أخرى لأنها لا تلائم أو حتى تتعارض مع تعريفهم.

وقد اعتبر الكثير من الصوفيين الأوائل “الزهد وبساطة الحياة” بمثابة المفتاح الأساسي للاتّباع الصحيح للإسلام، بينما رأى آخرون أن “الحب” هو الفكرة الرئيسة، وفهموا الطريق الصوفي على أنها الطريق المؤدي إلى إيصال العاشق إلى المحبوب (الله).

وقال آخرون: إن “التصوف” هو طريق تطوعي يسلكه المؤمن مُتسلحًا بالفضيلة والسلوك القويم ليصل إلى حالة بحيث يتخلى عن إرادته الشخصية ويسعى فقط إلى تنفيذ إرادة الله. ويرى العديد من الصوفيين أن هذا “الطريق” هو إدراك الحكمة الأزلية للقلب الذي هو الطريق الآمن الوحيد للوصول إلى المعرفة والحقيقة الأزلية والبصيرة الحقيقية. ويؤكد آخرون على فكرة أخرى وهي “وحدة الوجود” وبذلك يصبح الطريق الصوفي تحركًا نفسيًّا بالدرجة الأولى نحو إدراك أن المرء ما هو إلا تجلٍ مؤقت للموجود الواحد الخالد في هذا الكون وفي أعماق شخصيته.. بينما يؤكد فريق آخر من الصوفيين على “التجربة” الصوفية غير العادية التي تتجلى في حالات النشوة والعبارات ذات الأسرار والرؤى والأحلام الملهَمة. لكن آخرين يرون الطريق الصوفي على أنه السير بأجنحة التفكر إلى الله المتجلي في أعماق القلب.

وبذلك تصبح محاولة تعريف التصوف أشبه بالحكاية الرمزية التي أوردها مولانا جلال الدين في كتابه “المثنوي” عن فيل بداخل غرفة مظلمة:

“ثمة فيل كان في مبنى مظلم،

أحضره بعض الهنود للعرض.

وكان أناس كثيرون يدخلون هذا المكان المظلم لمشاهدته،

ويتلمسونه بأيديهم في الظلام،

لأن رؤيته بالعيون كانت مستحيلة.

أحدهم لمست يده خرطوم الفيل،

فقال: إن هذا المخلوق أسطواني كأنبوبة الصرف.

وآخر وصلت يده للأذن،

فبدا له وكأنها مروحة.

وآخر لمس الرِّجْل،

فقال: أعتقد أن شكل الفيل يشبه العمود.

ومن وضع يده على الظهر قال:

إنه حقًّا يشبه كرسي الملك.

ومن هنا نرى أن كل واحد منهم قد وصف الفيل ولكن حسب رؤيته الخاصة معتمدًا على ذلك الجزء من الجسم الذي وصلت إليه يده”[1].

وكذلك فإن تعريف “الحداثة” هو أيضًا بنفس الصعوبة؛ فالبعض يرى أنها تشير إلى سلوك ثقافي يستغل وسائل التقدم العلمي الحديثة من أجل العيش والاتصال بالآخر بأسلوب “حديث” بدلًا من الأساليب “السابقة على الحداثة” أو “التقليدية”[2]. وأما “بروس لورانس (Bruce Lawrance)” قد وضع تعريفًا للحداثة قال فيه:

“هي ظاهرة جديدة لحياة الإنسان التي تشكلت أولًا عن طريق زيادة البيروقراطية والعقلانية، وعن طريق الكفاءة التكنولوجية والتفاعل العالمي بشكل لم يكن ليتصور قبل الحداثة”[3].

ويرى البعض أن الحداثة تشير دائمًا بطريقة أو بأخرى إلى “التغريب”، حتى إنها أصبحت مرادفة للتغريب. ولا شك أن هذه الكلمة بالنسبة للمفكرين من أمثال “صمويل هنتينجتون” -الذي كتب مقالًا وكتابًا عن “صراع الحضارات”- تعكس طريقة تفكير الكثير من صناع السياسة الغربيين. فالحضارة الغربية ترتكز على مبادئ هي: الفردية، والليبرالية، والدستورية، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية، وسيادة القانون، والديمقراطية، وحرية السوق، وفصل الدولة عن الكنيسة[4]. أما الذين يتبنون تلك المبادئ فكثيرًا ما يعتبرون أنفسهم أصحاب رسالة توصيلِ فهمٍ مستنير للحياة لهؤلاء الذين لا يزالون أسرى للتخلف والرجعية والخرافات والجهالة.

تُشكّل هذه المبادئ المستوحاة من آراء فلاسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر الأوروبيين أيديولوجية أو نظامًا اعتقاديًّا يطلق عليه أحيانًا “الحداثة”. لكن أسلوب الحياة الذي تقترحه الحداثة يتعارض مع بعض ثوابت الفكر الديني والمصطلح العام للمبادئ العقدية والأخلاقية المستقاة من الأديان، ويقدم بدلًا منها أفكارًا أخرى مثل “البحث عن استقلالية الفرد التي نتجت بدورها عن مجموعة من القيم الاجتماعية تؤكد التغيير بدلًا من الثبات، والكمّ بدلًا من الكيف، وتفضل الإنتاج الفعال، والسلطة، والربح على التعاطف مع القيم أو المهن التقليدية في الساحات العامة والخاصة.

والحداثة -من منظور مثالي مبالَغٍ فيه- تُمجِّد إحدى السياسات الاقتصادية وهي سياسة “الرأسمالية الاستهلاكية” باعتبارها أفضل الوسائل التي تؤدي إلى التقدم التكنولوجي الذي سيقضي على الاضطراب الاجتماعي والقلق المادي”[5].

وبهذا فإن الجمع بين مفهومي التصوف والحداثة يعني مناقشة العديد من القيم الموجودة داخل كلا المفهومين، مثل مفهوم الزهد
أو بساطة الحياة، وحب الله، والمجاهدة لتحقيق مَشيئته، والبحث عن نوع من “المعرفة” لا يمكن الوصول إليها بالطرق العلمية الوضعية، وكشف ما هو إلهي في قلب الإنسان. ومن ناحية أخرى توجد مفاهيم تحاول أن تقدم أسلوب حياة يمجد حقوق الفرد، ويرى التطور الشخصي واجب كل فرد، والإيمان بالعلم حلًّا لمعظم مشاكل الحياة، واتجاه التشكك في الأطروحات الدينية، واستبعاد المعتقدات الدينية عن الدائرة المستقلة لعالَـمَي الاقتصاد والسياسة.

وإذا نظرنا إلى هاتين المجموعتين من المعتقدات المذكورة على أنها متنافِرة وصعبة الامتزاج، فإن ذلك سوف يُحدث صدامًا بين القيم الحضارية، غير أننا إذا اعتبرنا أن هذه الاتجاهات للتصورات عن الحياة قابلة للتوافق، فسوف تتولد حينئذ الحاجة إلى “حوار” للمبادئ التي ستُبنى عليها الحياة الحضارية. وفي كلتا الحالتين فإن الهوية الدينية المتمثلة في التصوف كأسلوب روحاني لفهم الحياة، والنظرة الحداثية للفرد داخل المجتمع العلماني من أكبر الصراعات في عصرنا الحالي. وهذا هو الأمر الذي سيتم من خلاله التعرف حتمًا على وجهة نظر المفكر الديني وتوصيفها بالإضافة إلى تحديد مدى مصداقية هذا المفكر ووثاقة صلته بالموضوع.

المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.