إن صلاة الطواف التي يؤديها الحاج صاحب هذا الروح الشفافة، الواصل إلى مثل هذه الذروة تكون مثل سجدة الشكر، ومن يشرب من ماء زمزم يكون كأنه يشرب من كوثر الجنة أو يعب من شراب الوصال.

وإنْ قُمْنا بتشبيه الطواف حول الكعبة حسب التعبير الصوفي بـ”السير في الله” الذي يعد في الأكثر سـياحة حول شعور مبارك ومحاولة لزيادة العمق النفسي، فإن الذهـاب والإيـاب في مواضع السعي يمكن أن نفسره بمعاني “السير إلى الله” و”السير من الله” الذي هو عنوان العروج من الخلق إلى الحق تعالى، ومن الحق إلى الخلق. أجل! ففي السعي بين الصفا والمروة يعيش الإنسان طوفان هذه المشاعر، فهو يعيش شـعور التضرع والطلب والدعـاء والاستمداد، ويعيش شـعر وموسيقى الوصال وداء الوصال. فكأنه لا يفتر يطارد شيئا مهما. ويستمر السعي حتى يظهر ما يسعى إليه. وكل ما يظهر من أثر أو أمارة في هذا السعي يضاعف انفعال الإنسان ويثير مشاعره حتى تنطق الصدور بأمثال ما قال الشاعر:

انظر إلى حال هذا المسكين…

أصبح عبدا لشَعرة من شعر الحبيبة…

كلما غمس يده في شهد الحب…

ظمئ… فطلب الماء…

كثيرا ما يختلط الخيال بالحقائق في المسعى، فيبدو الناس أحياناً وقد لفهم صمت عميق… وأحياناً تسمع أصوات بكاء متقطع… أحياناً كأنهم يساقون إلى الميزان وأحياناً كأنهم يركضون نحو الكوثر.

يتمتم بهذا وهو يسعى هنا كطوافه حول الكعبة. وفي مقابل محاولته عند الطواف حول الكعبة النـزول إلى أعماق نفسه، نراه في السعي بين الصفا والمروة يسعى على خط مستقيم وقد دهمه شـعور نبوي بالعيش من أجل الآخرين؛ بالضحك من أجلهم وبالبكاء من أجلهم، بـل حتى بالموت من أجلهم. تراه لا يقر لـه قرار، ولكن لا يفلت الحساب من يده. تراه قلقا، ولكن دون أن يتخلى عن الأمل. وتحت الأضواء الذهبية للسـماء، وفي الساعات الزرقاء لموسم الحج تراه يتلوى من حسرة داء وِصال جديد، ومن عدم عثوره تماما على ما يبحث عنه. فتراه يذهب ويجيء… يهَرول أو يمشي الهوينى… يصعد تلا وينـزل من تل… يلفه التردد والاضطراب. ينغمس أحياناً في شلال نهر الناس المهرولين في المسعى ليعبر عن أحاسيسه ضمن كورس أو فرقة جماعية، وأحياناً يكون في حالة روحية يخيل إليه معها أنه لا يرى شيئا ولا يرى أحدا وأنه يسعى ويطوف منفردا، يبدو أمامه شبح السيدة هاجر عليها السلام… تراه يترنم وهو يرتشف من كأس قلبه:

اطلب أيها الولهان الحبيبة التي أهدابها،

مثل الأسنة لتطفئ لوعة الفراق…

أنا ظامئ، فابحث لي عن ماء في هذه الصحراء،

خوف جهنم قد جثم على قلبي وأحرقه،

كل أملي أن يرش غيث إحسانك على قلبي الماء…

يعيش الإنسان في أثناء “السعي” شـعور التضرع والطلب والدعـاء والاستمداد، ويعيش شـعر وموسيقى الوصال وداء الوصال. 

بهذه الكلمات ينتظر رحمة تنـزل عليه من السماء لتطفئ نار قلبه. وإلى جانب ناره التي تلهب روحه وتحرقه يتلوى من حسرة ومن ألم الانتظار الذي لا ينتهي. أحياناً يهبّ في المسعى نسيم بارد من وراء أفق هذا العالم، ولكن هناك في الأغلب حزن يلفه الشوق، أو شوق يلفه الحزن، مع معاناة عشق قد صبغه الرجاء والأمل.

كثيرا ما يختلط الخيال بالحقائق في المسعى، فيبدو الناس هناك أحياناً وقد لفهم صمت عميق… وأحياناً تسمع أصوات بكاء متقطع… أحياناً كأنهم يساقون إلى الميزان وأحياناً كأنهم يركضون نحو الكوثر، فهم بين خوف ورجاء وبين خشية وفرحة… يستمرون في الذهـاب والإياب وفي الصعود والنـزول… الدقائق والساعات هناك مع كونها خفره وحَيِيَّة فهي كثيرة الطلب، فهي تطلب الاهتمام على الدوام. وإلا فستزول وتنمحي دون أن تترك أي أثر.

كلما اقتربت الأيام من العيد تلوّن المطاف والزمزم والمسعى بشعور خفي من الحسرة والغربة إلى اللون اللازوردي، وتبدأ الكعبة بإنزال ستارة نوافذها شيئا فشيئا. ومثل كل الحوادث التي تدل على حقيقة الفناء وتشير إليها يفهم الإنسان أنه متى آن وقت الرحيل فعليه أن يرحل، وأنه لا بد أن يأتي يوم سيرحل فيه عن هذه الدنيا، وعند ذلك ينـزوي في عالمه الخاص ويعيش نوعا من الانزواء الروحي.

ولكن لم ينته بعد كل شيء… فهناك طريق طويل، ورحلة طويلة تنتظر هؤلاء السائرين إلى الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الرابعة، ٢٠١0، ص: 69

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .