بعد رحلة الطائف عاد الرسول إلى مكة ، وأعقب ذلك بيعة العقبة السرية في جبل “منى” الشامخ، التي تم فيها البحث عن جيل النور، وعن الصدور المفتوحة للهداية. كان من الصعب حدس من سـيكون أصحاب هذه القلوب المؤمنة، ولكن تبين فيما بعد أنهم ستة من المحظوظين من أهل “يثرب”.
تجاوز الرسول (صلى الله عليه وسلم) جميع أودية الموت المرعبة، ووصل إلى البلدة المنورة بفضل تفويض أمره إلى الله، وتوكله عليه، واستسلامه لـه.
الستة المحظوظون
لقد أصبح هؤلاء الستة المحظوظون الوسيلة الأولى وواسطتها في يد النبوة لتغيير وجهة الإنسانية وقدرها السيء. وكل ما كان معروفا آنذاك حول المخلّص الأبدي للإنسانية هو ما كانوا يسمعونه أحياناً من اليهود: “إن الله سـيبعث نبيا من بني إسرائيل هـو خاتم الأنبياء، وأن اليهود سيجتمعون تحت رايته وسيسودون جميع الأمم”. صحيح أن هذه الأمنية لم تنفعهم كثيرا، ولكنها كانت كافية لإشعال فتيل حب الحقيقة في صدور أهل يثرب وتوجيههم الوجهة الصحيحة. كانت هذه المعلومات البسيطة في ذلك الزمن بمثابة لبّ حقيقة كبيرة وجوهرها. وعندما آن الأوان المناسب فاز أهل يثرب بلقب “الأنصار”، هذا اللقب الجليل الذي سيبقى إلى يوم القيامة مفخرة لهم، وتاجا على رؤوسهم، وفازوا بنعمة الدنيا والآخرة.
تمت البيعة التي رضي عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها الأنصار، وفتحت “يثرب” أبوابها للمهاجرين على مصاريعها.
دعوة إلى المدينة
أعقب هؤلاء المحظوظين الستة فيما بعد عشرة آخرون. وبعد سنة واحدة آمن سبعون منهم -بينهم عدد من النساء- وأقروا برسالته ثم دعوه إلى يثرب بعد اجتماعهم به (صلى الله عليه وسلم) في مكان آمن. كانوا جادّين في دعوته إلى مدينتهم، لقد قبلوا كل ما جاء به، وعاهدوه على أن يمنعوه مما يمنعون به أنفسهم ونساءهم وأولادهم. لقد قبلوه وضموه إلى صدورهم، وعاهدوه أن يصونوه بأرواحهم ومُهجهم. ومقابل هذا كان الله تعالى يعدهم بالجنة. تمت البيعة التي رضي عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها الأنصار، وفتحت “يثرب” أبوابها للمهاجرين على مصاريعها.
فاز أهل يثرب بلقب “الأنصار”، هذا اللقب الجليل الذي سيبقى إلى يوم القيامة مفخرة لهم، وتاجا على رؤوسهم.
بدأت عملية الهجرة ….
بدأت مكة تفرغ تدريجيا، فهناك كل يوم ثلاثة أو أربعة من أهلها يتركها ويهاجر إلى “يثرب” إما خفية أو علنـا. وبدأت عملية الهجرة وما حفتها من تضحيات، وما قام به الأنصار من إيثار، ترسم لوحات مضيئة. وتحولت ظاهرة الهجرة إلى شيء سماوي يشبه عملية المعراج، فكأنها سياحة الملائكة في عوالم خلف المكان والزمان. وكانت القافلة الأخيرة لهذه الرحلة السماوية على الأرض من نصيب صاحب القافلة الأخيرة في موكب النبوة. وعلى قاعدة “الأجر على قدر المشقة” وكذلك على قاعدة “أشدّ الناس بلاء الأنبياء…” فقد حَفّت أكثر أنـواع المكاره والأخطار بهجرته (صلى الله عليه وسلم) ، ولكنه تجاوز جميع أودية الموت المرعبة، ووصل إلى البلدة المنورة بفضل تفويض أمره إلى الله، وتوكله عليه، واستسلامه لـه. وصل إلى المدينة دون أن يصيبه مكروه من قبل سُراقةَ، وما كان يعتمل في صدره من أفكار سوداء، ولا أي خطر من المخاطر التي كانت موجودة داخل وخارج غار ثور، ولا من أذى قطاع الطرق واللصوص الموجودين في الطريق. أصبح سراقة صديقا ومرشحا لأن يكون صحابيا، وتعرف بُرَيْدةُ مع أصدقائه بالإسلام. أما فخر الكائنات ووردة الجزيرة العربية فقد كان يواصل طريقه إلى بلدته الجديدة وهو يحوِّل طريقه المحفوف بالمخاطر إلى بساتين وحدائق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ4، ٢٠١0، ص: 97
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .