القرآن الكريم معجز على الدوام في كل نواحيه؛ معجز في لغته، وأسلوبه، وبلاغته، ومحتواه، وخطاباته التي تخاطب الروح والوجدان وكذا العقل والمنطق، كما يحاور كل العقول فتفهم عن الله بلا ترجمان ولا تعقيد.

ومن صور إعجازه الإعجاز العلمي، فقد أخبرنا بين سطوره عن مكتشفات ونظريات صدقها العلم الحديث والكون الفسيح.

وقد كان للأستاذ (فتح الله كولن) نصيب واف في الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم  في أكثر من كتاب ومقال، ورغم حديثه الوافي في هذه المسألة، واستخدامه العلم في خدمة قضايا الدين إلا إنه هنا وضع ضوابط في التعامل مع هذه المسألة كما سنرى.

حقيقة الإعجاز العلمي

يرى (كولن) بداية أن لله تبارك وتعالى كتابين اثنين القرآن الكريم والكون، ويستحيل تعارضهما، فيقول: “فالقرآن المعجز البيان مصدره صفة الله (الكلام)، وكتاب الكون الكبير مصدره صفة الله (القدرة والإرادة)، والقرآن الكريم ترجمة أزلية، وقول شارح، وبرهان واضح لكتاب الكون.. وبتعبير آخر: “القرآن يفسر الأوامر التكوينية([1])، والأسرار الإلهية، والأفعال الربانية، ولما كان الفرقان العظيم الشأن يفسر الكون ويشرحه تضمن إشارات لبعض العلوم والفنون التي تبحث في حوادث الكون”([2]).

وشرح هذه المسائل والفنون من معجزات هذا الكتاب الخالد يقول كولن: “وقيام القرآن بشرح المسائل العائدة لأيامنا الحالية، وللعهود والعصور القادمة، وتناوله للمسائل التي تهم الإنسانية، وكيفية تطور هذه المسائل والأحوال التي ستصير إليها يعد من معجزات القرآن، وشيئًا خاصًّا به وحده”([3]).

فكل الحقائق العلمية جاء بها القرآن الكريم منذ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: “فكم من حقيقة علمية عبر عنها القرآن بجملة واحدة، وكم من بحوث تمت في ساحات عديدة، فتبين أن الحقائق العلمية المستحصلة منها توافق ما جاء في آيات القرآن وشوهدت هناك بصمته”([4]).

فالقرآن تحدث عما كان وما سيكون مما يصل بالإنسان إلى الرقي المادي والمعنوي، ولو لم يفعل القرآن هذا وقصر الحديث عن جزء من عجائب الحضارة في القرن العشرين؛ لضاع حق التعريف والبيان للكثير من الحقائق الثابتة، والاكتشافات المستقبلية، وهذا يتناقض مع روح القرآن كما يقول كولن([5]).

إذن كما كان القرآن معجزًا في لغته وبلاغته وأحكامه فهو معجز علميًّا بما بثه من حقائق كونية، تخص مختلف العلوم والفنون.

علاقة القرآن بالتقنية والعلوم الحديثة

كل ما في الوجود وما اكتشف حديثًا جاء به القرآن، فليس في القرآن ما يعارض العلم الحديث ولا مكتشفاته، يقول كولن :”أقام القرآن جسورًا بين الإنسان والوجود، فنجا بها الإنسان من استيحاش الوجود، فصار يرى الوجود وكأنه أنيسه وجليسه، ومن هذا الوجه لنا أن نقول: ما ترك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا في الوجود إلا بينه منذ أربعة عشر قرنًا، ولن يأتي العلم بما يعارضه أو يخالفه مهما تقدم وتطور إلى يوم القيامة، وما ينبغي أن يفهم هذا -كما وهم بعضهم- بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر من قبل بكل ما تم اكتشافه في الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والأحياء، والتشريح، فما نريد قوله هو أنه ليس في هذه العلوم ما يعارض ما جاء به مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، بل إنها تعززه وتؤكده، وهذا يكشف أهمية العلم، ويتيح لنا أن نقول: “كل شيء ينبني على العلم”([6]).

إذن القرآن لا يعارض العلم بل يعززه؛ ولذا تكلم (كولن) كثيرًا عن وجوب اللحاق بركب التكنولوجيا والعلم الحديث، وعدم الركون إلى التخلف، وإلى وجوب تجديد العلوم الإسلامية([7]).

كما يرى (كولن) أن معظم المؤلفات التي تحدثت عن مسألة الإعجاز العلمي وقعت تحت تأثير ثقافة وفن عصرها، وحوت كثيرًا من الـتأويلات المتكلفة؛ محاولة للتوفيق بين حقائق القرآن والنظريات العلمية التي لم تثبت بعد، فأدى هذا إلى نوع تحريف للقرآن وتقليل من شأنه؛ لذا يرى كولن أن الصحابة والتابعين والمفسرين الأوائل من أمثال الطبري آراءهم متوافقة تمامًا مع الحقائق العلمية الثابتة، في حين أن تفسيرات الخلف متكلفة لا تتوافق مع روح العلم، ويعزو ذلك أن الأوائل لم يتأثروا بعصرهم فكانوا أقرب إلى روح القرآن من غيرهم([8]).

إذن يؤمن كولن بالإعجاز العلمي ويرى عدم التكلف في تفسير الآيات العلمية وقد ذكر في كتابه (شد الرحال لغاية سامية) عددًا من المفسرين الذين اهتموا بهذا الجانب، وذكر جانبًا من تفسيراتهم من أمثال الطبري، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطنطاوي جوهري ، والدكتور زغلول النجار.

ضوابط التعامل مع الآيات العلمية

ينبغي أن يكون هناك منهج خاص وضوابط محددة في التفسير العلمي للقرآن والبعد عن التكلف، وقد وضع (كولن) عدة ملاحظات وضوابط لمن يتصدى لمثل هذا العمل منها:

أ- الموضوعية والثقة برصانة النص الرباني وصفائه، واتخاذه مرآة عاكسة لهذه الأحداث، بدلاً من توفيق الأحداث عليه.

ب- معرفة دقيقة باللغة وأسباب النزول وأسرار الكلمات([9]).

ج- أن أولويات القرآن الكريم هي توجيه البشر إلى طريق السعادة الدنيوية والآخروية، والمسائل العلمية جاءت في درجة تالية، فالقرآن كتاب يخاطب الناس جميعًا لا أرباب العلوم فحسب([10]).

د- تجنب عقدة الدونية والتأويلات المتكلفة فيقول: “أما تقويم حقائق القرآن الكريم في ضوء نتائج العلوم الوضعية فهو سوء أدب مع كلام الله تعالى؛ أجل، إن السعي وراء تطويع تفسير القرآن الكريم للقضايا العلمية والطبيعية، وكأن تلك العلوم واختراعاتها هي الأصل والاستعانة بها لإثبات صحة قضايا القرآن الكريم منهج لا يتناسب مع كلام الله ألبتة “([11]).

هـ- “إن للقرآن الكريم أسلوبًا خاصًّا به في عرض القضايا العلمية، وهذا الأسلوب مناسب لمستوى كل المخاطبين في الماضي، ومن قطعوا مسافات هائلة في العلوم والفنون اليوم، أي ليس هناك أي تضاد أو تعارض بين ذكره لحقائق علمية تكتشف اليوم، وكونه آيات بينات راعت مستوى فهم الناس في ذلك العصر”([12]).

و- لا بد لمن يفسر الآيات والأحاديث في ظل التطورات العلمية أن يذكر أن في المسألة احتمالات ممكنة، وأنه لا قطع فيها أي قد تتضمن معاني أخرى، فالقطع بتفسير الآيات قبل أن تتضح ماهية المسائل العلمية خطأ فادح، ولا بد من الرجوع إلى الدراسات السابقة في التفسير للوقوف على ما ذكرته حتى الآن في الموضوع.

ز- ينبغي لمن يعمل في التفسير العلمي أن يكون على دراية كبيرة بالعلوم الشرعية، وإتقان للغة العربية، وأن يتزود بمعلومات في العلوم الطبيعية بقدر يؤهله تفهم هذه العلوم، وكذا على الباحث في العلوم الوضعية أن يتزود بمعارف موسوعية في العلوم الدينية.

فإذا رغب المسلمون في تأليف كتاب تفسير للقرآن يخاطب مستوى إنسان العصر فلا بد أولاً -كما يقول كولن- من تشكيل لجنة من المتخصصين في كافة العلوم في ضوء معايير علم الأصول وأصول الدين([13]).

صور من الإعجاز العلمي

وبدوره ذكر (كولن) عددًا من صور الإعجاز العلمي التي جاء بها الوحي، وقد ورد ذلك في عدد من كتبه ومقالاته مثل:

أ- تقل نسبة الأكسجين كلما صعد الإنسان إلى أعلى:

وتلك حقيقة جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:125).

فهذه الآية تشير إلى قانون من قوانين الطبيعة، وهو كلما صعد الإنسان، وارتفع عن الأرض قل الضغط، وصعب تنفسه؛ لأن الضغط الجوي يقل درجة واحدة كلما صعد الإنسان مائة متر في ارتفاع 2000 متر فوق سطح البحر، فيضطر الإنسان إلى استعمال أجهزة تنفس خاصة([14]).

ب- توسيع السماء:

يقول (كولن): “يتميز القرآن بثراء معاني كلماته حتى إنه ليذكر عددًا كبيرًا من الحقائق ببضع كلمات”، ومن ذلك مسألة توسع الكون: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(الذاريات:47)([15]).

ج- قانون الجذب المركزي بين الأجرام:

ينبه القرآن إلى القانون في تقارب الأجرام السماوية، وتباعدها، ودورانها بقوله: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾(الرعد:2).

وفي قوله: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحج:65)([16]).

وهذا هو قانون الجذب المركزي بين الأجرام، وسواء فسر بقانون الجاذبية العامة عند نيوتن، أم نظرية الحيز التي ابتكرها عصر الفلك الحديث فالمعنى واضح ([17]).

د- مسألة الصعود إلى القمر:

كان لها نصيب من بيانات القرآن، فقال تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾(الانشقاق:19).

فالمعنى إخبار عن صعود الإنسان إلى القمر؛ ولذا جاءت بعد قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾(الانشقاق:18) ([18]).

هـ- تغير شكل الكرة الأرضية:

يشير القرآن إلى تلك الحقيقة فيقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(الرعد:41)،

فهناك احتمال قوي أن معنى “ننقصها من أطرافها” هو تفلطح الأرض عند المناطق القطبية وليس تآكل الجبال بفعل المطر والسيل والريح([19]).

إضافة إلى ذلك ذكر (كولن)  أمثلة كثيرة للإعجاز العلمي عن خلق الكون، وأمثلة من علم الفلك، وعلم الأرصاد الجوية، وعلم الفيزياء([20]).

وهذا كله يؤكد -كما يقول كولن- أنه كلما مر الزمان تجدد شباب القرآن عن طريق العلوم المختلفة التي تشرح لنا أسراره، وتبين إعجازه، وسيأتي اليوم الذي يهتدي فيه كبار علماء الغرب الذين يبحثون عن أسرار العلوم، وحقائقها عندما يفهمون القرآن حق الفهم([21]).

وهذا هو نفس تعبير (النورسي) فقد تحدث عن شبابية القرآن وفتوته فقال: “إن القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضرًا فتيًّا”([22])، ويقول أيضًا: “إن آثار البشر وقوانينه تشيب، وتهرم، وتتغير وتبدل إلا أن أحكام القرآن، وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور”([23]). وهذه نقطة التقاء أخرى بين هذين العلمين المجددين وجانب من جوانب التجديد في فكريهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع

[1]– الأوامر التكوينية، وهي مأخوذة من كتاب الكون وبتعبير آخر القوانين المختلفة الموجودة في الكون. ينظر: خواطر من وحي سورة الفاتحة ص44 .

[2]– فتح الله كولن : شد الرحال لغاية سامية ص 121، ترجمة: عبدالله محمد عنتر- د. عبد الرازق أحمد، سلسلة الجرة المشروخة، دار النيل 2014م.

[3]– فتح الله كولن: أسئلة العصر المحيرة(1) ص 71 .

[4]– كولن: الرد على شبهات العصر ص71 .

[5]– ينظر: كولن: الرد على شبهات العصر ص71، 140 .

[6]– ينظر: كولن: الموشور215.

[7]– ينظر: الموشور215- 217.

[8]– كولن: الرد على شبهات العصر .

[9]– الرد على شبهات العصر ص 141.

[10]– كولن : شد الرحال لغاية سامية ص 124.

[11]– شد الرحال ص124.

[12]– شد الرحال ص125.

[13]– شد الرحال ص126- 128.

[14]– كولن: أسئلة العصر المحيرة(1) ص 73، وينظر: خواطر من وحي سورة الفاتحة ص 46.

[15]– الرد على شبهات العصر ص  144، وينظر: خواطر من وحي سورة الفاتحة ص 54.

[16]– الرد على شبهات العصر ص 146.

[17]– الرد على شبهات العصر ص 146.

[18]– كولن: الرد على شبهات العصر ص 146.

[19]– كولن: الرد على شبهات العصر ص 146.

[20]– ينظر: كولن: الرد على شبهات العصر ص 142 وما بعدها. وأسئلة العصر المحيرة ج 1ص 79وما بعدها  وينظر: خواطر من وحي سورة الفاتحة ص 45-57.

[21]– أسئلة العصر المحيرة ص 72.

[22]– النورسي: الكلمات ص 471 .

[23]– النورسي: الكلمات ص 471 .