يعدّ اليأس من أصول الأمراض التي يستثمرها الغالب الوقتي في قهر الشعوب والأمم المستضعفة. وقد شغل دفعه كثيرا من أعلام أمتنا فتضمّنت خبراتهم ما يفيد في تكوين مضاد حيوي لهذا المرض، ذلك المضاد الذي بمقدوره منع انتشار هذا المرض الفتّاك واستئصاله ما تعهّد الإنسان نفسه بالوقاية منه ودفع مضاعفاته الثانوية المساهمة في تشكيل أخلاق اليائس الفردية والاجتماعية.
وضع النورسي وصفة دقيقة للعلاج من هذا الداء، وحلّله في سياق بيان أهم الأمراض التي يعتني الغازي بتثمينها، ولخّصها في “اليأس”، وجعْلِه قانون حياة، وقتل الصدق في الحياة الاجتماعية والسياسية، وإشاعة حب العداوة، واستبعاد التعريف بالروابط المؤسسة لإنسانية المسعى والتصرّف، وتشجيع سريان الاستبداد في المجتمع سريان النار في الهشيم، والتأسيس لحصر الهمم في المنفعة الشخصية.
وتلك الأسقام رأس مال يستثمره الغالب فينا، تمكينا لمشروعه من المجتمع، فمن التيئيس في القول: “ليس أمامكم ولا لديكم أي خيار آخر” وهي كلمة تلخّص بأمانة ماذا يراد منا.
والقائلون بذلك -كما يقول أحد الباحثين- “قد استقالوا لأسباب عديدة، بل إنهم عملوا على ترسيخ قبول الاستسلام كأسلوب للحياة”. ويؤكد الباحث المشار إليه أعلاه في موضع آخر صحة تشخيص النورسي، فيبيّن أن الغالب الوقتي الحالي (العولمة) كسابقيه، يتغذى من العجرفة الثقافية التي تستمد أصلها من الجهل واللامبالاة تجاه أنساق قيم أخرى وتجاه حقها في الوجود، وهذا يؤدي بشكل تدريجي وفعلي إلى نزعة ثقافية تسلطية عالمية: “افعل مثلي إن كنت تتشبّث بحقك في الوجود”.
ولعل أهم ما يقرر صحة التشخيص الآنف الذكر أن نجاح التيئيس والتجهيل مرتبط عضويا بضياع الصدق المرتبط أساسا بالأنانية، التي سماها النورسي بالحرص على المنفعة الشخصية، المولّدة للاستبداد. يرى هذا التحليل في فكر رافض فكر الغالب الوقتي ومتبنيه، فترى المتبني يسعى جاهدا من غير شعور منه أحيانا إلى زرع اليأس والتجهيل بثقافة الأمة وتمكين الاستبداد والأنانية بوصفها أهم عناصره. تلك هي أمراض الأمم عبر التاريخ، وذلك ما يطمح إلى استغلاله الغالب الوقتي في العصر الحاضر، فما السبيل إلى معالجتها في فكر النورسي؟ وما مسلك تجاوز الأفكار التي يريد الغالب الوقتي تسويقها في بلاد المستضعفين؟
من منطلق ما سبق تقريره يتّضح أنّ مواجهة الغالب الوقتي في فكر النورسي، مواجهة لنوع الفكر الإقصائي عبر التاريخ، وبالتالي فالمواجهة ليست إلا من قبيل أفكار النورسي المحيّنة أو المؤوّنة (من تأوينها أو تحيينها)، وخاصة تلك التي نبّه فيها إلى أهم الأمراض الفتّاكة التي يستثمرها الإقصاء عبر التاريخ. تستشف تلك الأمراض الفتّاكة المسلّطة علينا وكيفية مواجهتها، مما ذكره العلامة النورسي في مجموع رسائله. وتتلخّص تلك الأمراض وفق تعبيره في النقاط الآتية: “حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه، وموت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية، وحبّ العداوة، والجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض، وسريان الاستبداد سريانَ الأمراض المعدية المتنوعة، وحصر الهمة في المنفعة الشخصية، إضافة إلى التفاؤل الكاذب”.
مرد كل ذلك -على قول النورسي- محاولة فتح الباب أمام ما يصرف المسلمين عن الدين، أو جعلهم في الأقل مهملين له، أو بإمالتهم نحوها، أو التخلي عن الإسلام بإلقاء الشبهات والشكوك في العقول، وتشيع بهذا مكرا سيئا، هو الآتي: أيها المسلم! تأمل، أينما وجد مسلم فهو فقير، غافل، جاهل إلى حدٍ ما، بينما مدني هذا الوقت -المقلّد للغالب الوقتي- أينما حلّ فهو متحضّر يقظ، صاحب ثروة… وهذا يعني.. إلخ.
يلاحظ أنّه يحذّر من كل فكر غالب غاز متدثّر بالثقافة والحكمة والعلم، بصرف النظر عن اسمه أو لونه، فهو كلّ من اتصف بصفاتها ونفذ أساليبها في قهر الآخرين. كأني بالنورسي يتوجّه من خلال المسلم إلى أفراد الأسرة الإنسانية محذّرا من الابتعاد عن الدين والثقافة التي تحمي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولّده هذه النتيجة المخيفة لتقدّم فكر كل غالب، بل المطلوب هو الاستعصام به بقوة، وإلا فالمصير هو الهلاك. يقول: “لا تفرّط فيه، إنّه نقطة استنادك تجاه المصائب والدواهي، التي ألقت بثقلها العظيم، عِظم الأرض، على العالم الإسلامي، هي الإسلام الذي يأمر بالاتحاد النابع من المحبة، وبامتزاج الأفكار الناشئ من المعرفة، وبالتعاون الذي تولده الأخوة. إنّه نقطة استناد قوية تحرك الأرض إن استند إليها سننيا -وفق شروط-، وتحقق الوحدة بجميع عناصرها في ظله”. يشير إلى هذا المعنى في سياق عرض أهمية الوحدة والتجمع في قضاء الحاجات، فيقول رحمه الله: “إن اجتماع الأفراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب إنتاج الأرض تلك الحاجات التي تتزايد بأسباب كثيرة -كالتقليد وغيره- ومن هنا تصبح الحاجة أمّ الاختراع والصناعة، وحبُّ الاستطلاع معلّمَ العلم، والضيقُ الروحي مولدَ السفاهة. كما أنّ التوجّه نحو الصناعة والميل إلى المعرفة ينشأ مع الكثرة، والتعرف ينتج التجارة، والتعاونُ الاشتراكَ في الأعمال، مثلما يولّد التماس تلاقح الأفكار، والمنافسة والتسابق”.
ننتقل بعد هذه المقدمة الضرورية إلى البيان التفصيلي لطرق العلاج:
أولا: حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه
يتأسس فكر الغالب الوقتي بوصفه فكرا إقصائيا على استغلال اليأس المهيمن على عقول وقلوب المقهورين، بفعل الزلزلة المعنوية العظيمة التي أصابت المستضعفين. ذلك أنّ بقاء الغالب الوقتي مرتبط عضويا بالمحافظة على الزلزال الذي أصاب المستضعفين في أفكارهم وعاداتهم بل ومعنوياتهم مع سعي مستمر إلى ديمومة بقائه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
يؤكد هذه المعاني موقفُ كثير من المستضعفين من الغالب الوقتي نفسه، فقد حاول تهيئة نفوس المغزوين لقبول الأنموذج الواحد، وبذلك يحقق تجنيدا مجانيا لصالح فكر الغالب، خاصة وقد تولّى بعضنا تنشيط الهمم للتعلّق بأفكار الغالب الوقتي، ومرد كل ذلك الزلزال الذي أصاب العقول والقلوب-كما سبق أن ألمحنا- جرّاء اليأس المهيمن. وقد صوّر النورسي هذا الزلزال فقال: “لقد أذاقت هذه الزلزلة العظيمة الناس مصيبةً معنوية أدهى من مصيبتها المادية الفجيعة، تلك هي الخوف والهلع واليأس والقنوط التي استولت على النفوس، حيث إنها استمرت ودامت حتى سلبت راحة أغلب الناس ليلا، وعمّ القلق والاضطراب أغلب مناطق البلاد. تُرى ما منشأ هذا العذاب الأليم وما سببه؟”
إنها على قول النورسي أدهى من المصيبة المادية التي يترنّح فيها مجتمعنا، أليس فكر الغالب الوقتي مؤسِّسا لمجموعة من الأمراض المعنوية بفعل الزلزال الذي يحدثه فينا-كسابقيه-؟ يصوّر النورسي أسباب الداء ويلخّصها في اليأس المهيمن. فما هو دور اليأس حسب رأي النورسي؟

خطورة اليأس ودوره التدميري

يظهر أن لليأس دورا خطيرا لا تجدي المعرفة في علاجه، يقول النورسي: “تُرى هل يُجدي أعظم علومكم، وأعلى صروح حضارتكم وأرقى مراتب نبوغكم وأنفذ خطط دهائكم شيئا أمام هذا السقوط المخيف المريع للإنسان؟ وهل يستطيع الصمود حيال هذا اليأس المدمّر للروح البشرية التواقة إلى السلوان؟”.وتتجلى تلك الوظيفة التدميرية فيما يأتي:
أ-رأس كثير من البلايا الأخلاقية: أغلب ما يفعله المسلم منافيا للإسلام ناشئ من اليأس والعناد لغفلة أبعدته عن النظر في عواقب الأمور، يشهد لهذا أنّ المصاب بالوساوس المتردد في شأن نفسه، يشرع بالقيام بأعمال وحركات منافية للإسلام، ولسانه يردد: “ليكن ما يكون فلا أبالي”.
بـ-القضاء على أصول السعادة وتمكين السفاهة: اليأس سبب قوي في استئصال أصول السعادة، وتضييق الصدر، ومنبع السفاهة والتفاهة. ذلك أن اليأس مخبوء في سوء الظن وينخر السعادة ويقتل الحياة، وهو أصل الضيق ومنبع السفاهة وسوء الظن.
جـ-الألم الذي لا يطاق: يعد اليأس عاملا رئيسا في الألم المهيمن على القلوب. ذلك لأنه شعور يحرق الوجدان حتى لا يكاد يطاق صراخه من شدة الألم.. لهذا يقول النورسي: “ألا إن ألم اليأس لا يطاق حقا”.
د-اليأس قتل دائم ومنبع الضلال: يبعث الأمل الحياة في الناس، واليأس يقتلهم .لأن “اليأس داء قاتل”، يؤكد هذا المعنى قوله “المحيّن” (الموائم للحين الذي يذكر فيه): “إن مما أمْلت عليّ تجاربي في الحياة وتمخض فكري عنه هو أن اليأس داء قاتل، وقد دبّ في صميم قلب العالم الإسلامي. فهذا اليأس هو الذي أوقعنا صرعى كالأموات، وهذا اليأس هو الذي قتل فينا الخصال الحميدة وصَرَف أنظارنا عن النفع العام وحَصَرها في المنافع الشخصية، وهذا اليأس هو الذي أمات فينا الروح المعنوية التي بها استطاع المسلمون أن يبسطوا سلطانهم على مشارق الأرض ومغاربها بقوة ضئيلة. ولكن ما إن ماتت تلك القوة المعنوية الخارقة باليأس حتى تمكّن الظلمة -منذ أربعة قرون- أن يتحكموا في المسلمين والمستضعفين ويكبلوهم بالأغلال. إن اليأس منبع ضلال الفكر وظلمة القلب وضيق الروح، وتلك أهم عوامل تمكين فكرة قبول الاستعمار دون تفكير في مقاومته فضلا عن تجسيدها مشروعا شعبيا”.
هـ-يسلِّم صاحبه لرغبة الغازي: يجعل ضيق الصدر صاحبه لقمة سائغة للغازي، “فيقع في اليأس والقنوط. ويكون بيأسه هذا أضحوكة للغازي، وتمكينا لليأس من النفوس يضرب دوما على وتره الحسّاس، وينفخ في التباساته ويثيرها، فإما أن يخلّ بأعصابه وعقله، أو يدفعه إلى هاوية العمالة”.
و-يولّد الخوف وقبول الإذلال والإهمال الاجتماعي: اليأس أبو الخوف وقبولِ الإذلال، إذ يتولّد من مرضي اليأس والحقد داءُ الخوف وعلّةُ الضعف ومرضُ الذلة المستولي على القلب، وينجم عنه ضرورة العطالة، والإهمال الاجتماعي بسبب عدم المبالاة والتملّص من المسؤولية، فيخلد صاحبه إلى الكسل، قائلا: “مالي وللناس، فكل الناس خائرون مثلي” فيتخلى عن الشهامة الإيمانية ويترك العمل الجاد للإسلام”.
وما دام هذا الداء قد فتك فينا إلى هذا الحد، ويقتلنا على مرأى منا، فنحن -كما يقول بديع الزمان- عازمون على أن نقتصّ من قاتلنا، فنضرب رأس ذلك اليأس بسيف الآية الكريمة: ﴿لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾(الزمر:53).

ثانيا: دواء اليأس

جلي من الفرشة الآنفة الذكر أنّ المبادئ الحيّة فينا أساس الدواء، تلك القواعد والأسس التي ينبغي أن تبقى حيّة فينا ما حيينا، فإذا ما غابت فإنها ستمكّن لليأس من أنفسنا، لهذا فنحن في حاجة إلى مجموعة من العناصر لتجسيد الدواء.
أ-الحاجة إلى المبادئ المجنّدة في الخير الإنساني العام: لعل من أهم ما يخلّصنا من اليأس قوة معنوية تنتظر الخلاص من الفساد وأهله؛ ذلك أنّ البشر في كل وقت وكل عصر بحاجة إلى “معنى” يكون أساسا للقوة المعنوية، وخلاصا من اليأس، فيلزم أن يكون لكل عصر نصيب من هذا المعنى. وكذلك يجب أن يكون الناس في كل عصر متيقظين وحذرين من شخصيات شريرة تكون على رأس النفاق وتقود تيارا عظيما من الشر. وذلك لئلا يرتخي عنانُ النفس بالتسيّب وعدم المبالاة، وقد كان وما زال الغالب الوقتي قائد تيار الشر في كل عصر بما فيها الوقت الراهن، فهي توجب كسابقتها اليقظة والحيطة والحذر. ومواجهتها تفرض الاستناد إلى نقطة استناد قوية تستطيع أن تغري المستندين إليها بتحريك الكرة الأرضية من مكانها. إنّ نقطة استناد كالإسلام تمكّن الإنسان الصغير الضعيف من أن يدير أعظم الأشياء كالكرة الأرضية، فإذا كان بمقدوره أن يحرّكها، فإن من هو أقل منها لا يضعفه ولا يمنعه من تجاوزها، لهذا فالعولمة مهما طغت وتجبّرت، فإن الإسلام كفيل بأن يكون نقطة استناد في مواجهتها واستثمار خيرها لصالح الإنسانية جمعاء.
بـ-الاعتبار من الماضي: أكبر عوامل دفع اليأس الاعتبار بالماضي في فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل، ذلك أنّ عموم الناس يسهل إحالتهم على نماذج تاريخية سابقة تؤكّد بما لا يدع مجالا للشك صحّة النتيجة المستفادة من الاستقراء المبني على تتبع وقائع تاريخية عديدة وكثيرة. ولنا في هذا المقام أن نؤكّد تلك النتيجة بالمساءلة البسيطة الآتية، هل في تاريخ البشرية من بقي غالبا أبد الدهر قاهرا للمستضعفين على مرّ الزمان؟ زيادة إلى ذلك هل بقي على نفس المستوى من القوة إلى يوم الناس هذا؟ كم من قوة كونية وإن طال زمنها فهي إلى زوال. تلك سنة كونية يستوعبها العامة قبل الخاصة. أجل إنّ العوام الذين لم يبلغوا مرتبة إدراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، إنّنا إن أحسنا الإحالة على التاريخ يسهل على المجتمع استيعاب فكرة أن القوة دول بين المجتمعات والأمم والحضارات، وليست ثابتة مستمرة لأمة بعينها. وبهذا نرسّخ فكرة مناصرة المستضعفين على مرّ تاريخنا مع العمل على عدم قبول فكر الغازي اجتماعيا وتربويا وفكريا وحضاريا.
جـ-المحبة والشفقة: يتجاوز اليأس بالمحبة والشفقة والصبر على البأساء والضراء. والعلامة الدالة على كون تلك المحبة لله وفي سبيله هي الصبر مع الشكر عند البلاء، ولاسيما عند الموت، والترفعُ عن اليأس والقنوط وهدرِ الدعاء، بل يجب التسليم بالحمد عند القضاء.
د-صيانة قوة الإيمان: تعد صيانة الإيمان من أهم وسائل دفع اليأس؛ ذلك أنّه بأبعاده الاجتماعية يسهم في استئصال اليأس أو يقلل من آثاره التدميرية على الأقل. فبنور الإيمان يدفع المسلم ما لو تضاعف ما ينتابه من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات أضعافا مضاعفة، لكانت تلك الأنوار كافية ووافية لإحاطتها، لأننا متيقنون أنّ الإيمان -ببثه هذا الفرح والسرور في دنيانا هذه- يثبت أنّ حقيقته بذرة تحمل من الحيوية ما لو تجسمت لنبتت عليها جنة خاصة لكل مؤمن، ولأصبحت له شجرة طوبى.
هـ-التفاؤل باستثمار خفاء الأجل: خفاء الأجل يدفع اليأس ويرفع القوّة المعنوية، ذلك أنّ “الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الأجل مجهولا وقته، إنقاذا للإنسان من اليأس المطلق ومن الغفلة المطلقة. أي إن الأجل متوقع مجيئه كل حين، فإنْ تمكن من الإنسان وهو سادر في غفلته يكبده خسائر فادحة في حياته الأخروية الأبدية. وبالتالي يذكّر بالآخرة ويستحضر الموت في الذهن فيتأهب له، بل يحدث أن يربّحه ربحا عظيما، فيفوز خلال عشرين يوما بما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة”.
و-الرجاء مع العمل: الرجاء مزيل لليأس إذا صاحبه العمل، بفضل الهداية المستفادة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهي بلسم شاف، ودواء ناجع لذلك الداء الوخيم الذي يظن أنه بلا دواء، ويـبدل ذلك اليأس القـاتم إلى نور الرجاء الســاطع.
ز-أهمية الإيمان والعبادة في دفع اليأس: الإيمان في رسائل النور ليس من قبيل الكلام الذي يلاك ثم يرمى، بل هو موقف نظري تترجمه الأعمال المتجلية في الموقف المعيش. ولهذا المسلك دور هام في دفع اليأس واستئصاله من قلوب وعقول المؤمنين، إذ تكاد تنطفئ شعلة حياة المسلم ولا يجد في ظل الظروف الراهنة، الصبر والسلوان إلا في الإيمان، الإيمان الذي يقابل اليأس القاتل بالأمل في حياة أسعد. ولولا هذا الإيمان لشعر المسلم الضعيف -الذي هو أجدر بالشفقة والرحمة- باضطراب نفسي وقلق قلبي، ولضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ولتحوّلت سجنا رهيبا، ولانقلبت الحياة إلى عذاب أليم قاس.
من مقتضيات الإيمان أداء العبادات، وساعة العبادة كفارة لبعض ما ارتكبنا من أخطاء وذنوب، ربما كانت السبب في سجن بعضنا، وما دفع به السجن الصغير يدفع به السجن الكبير، فقد دفع الأول بصرف الأوقات في الصلوات، فتتحوّل بذلك ساعاتُ الابتلاء وأوقات المحن إلى يوم عبادة، فكأن الساعات الفانية اكتسبت ببركة ساعة العبادة صفة الخلود، وتصبح في حكم ساعات أبدية باقية، فتنـزاح سحب اليأس ويتبدد عن الروح ظلام القنوط، اليأس والقنوط المطلق الذي من مضامينه، الشأن الحضاري والفكري والاجتماعي. فادفع ذلك اليأس المطلق بالعبادة فإنها أنفع لك ولدينك وأمتك إذا استحضرت مقاصدها، نافعة في التأسيس للإيمان ودفع الأفكار المزاحمة في كل حين، بشرط تعهّده بالاستغفار والأوبة الدائمة إلى الله تعالى.
حـ-التساند بين البشر: يعد التساند أنفذ سبيل في دفع الأفكار الإقصائية، وألزم ما ينبغي لنا عمله في هذه الأيام استثمار ما وضعه النورسي لمواجهة التيارات الفكرية والسياسية الغالبة في وقته، فقد ذكر أنها تجابه بعدم القلق والاضطراب، وعدم اليأس، وإسناد كل منا الآخر وإمداد روحه المعنوية، وعدم الخوف، واستقبال هذه المصيبة بالتوكل، وعدم الاكتراث بأقوال الصحف التي يطلقونها جزافا ويستهولون كل حبة صغيرة، بل علينا استصغار ما استعظموه من أمور.
ويفرض هذا التساند الصبر والحيطة مع كمال الاستسلام لله والثبات على الخدمة وعدم الوقوع في خيبة الأمل، وعدم اليأس من ظهور خلاف المأمول، وعدم التزعزع أمام أعاصير مؤقتة زائلة… لاحظ جيّدا أنها رغم غلبة تلك الأفكار (أعاصير) وخطورتها فقد اعتبرها مؤقتة، أي إنها وإن طال أمدها فمآلها الزوال. وكذلك الحال لكل فكرة غالبة في أي وقت، فتذهب ويبقى الإنسان أكبر شاهد على تلك التجربة التاريخية التي تؤكد أن الفكر الإقصائي أيامه قصيرة مهما طالت، وبالتالي فلا خوف على الإنسان، وخاصة الإنسان المؤمن إذا تعلّق وتمثّل مبادئ دينه.
ط-إدخال السرور على قلوب المغبونين: يُدخل المؤمنُ -بالتزامه- السرورَ على نفسه ويسعد الآخرين بحاله قبل مقاله، لأن صحوته ستجعله -بإذن الله- مناط سلوان ومدار تسلٍّ لأولئك المساكين وأمثالهم، وتجعل منك طبيبا حقا يشع نورا إلى القلوب وينثر البهجة في النفوس.
كما يسهم بهذا العمل في الرفع من القوة المعنوية بالبشرى الصادقة، وإزالة اليأس المخيم على أهل الإيمان، فقد كان الشيخ النورسي رغم الجو الحالك يبشّر بنور محيط واسع في دائرة عظمى في الحياة الاجتماعية. والسيرُ على منهاجه يقتضي التبشير في عصرنا بما بشّر به الشيخ رحمه الله، دون نظر في الأفكار المزاحمة، فإنها وإن طال أجلها آيلة إلى الزوال، ويبقى الإسلام شامخا وخالصا من الشوائب، تلك هي الحقيقة فهل نكون أهلا لنيلها؟ إننا لن نكون كذلك إلا إذا تجاوزنا الحرص بالقناعة والسعي باستمرار لتنمية قدراتنا الإيمانية بما يوافق مطالب الزمان، وهذا ما يدعونا إلى تجسيد الحيوية الإيمانية على مدار الزمان.
ــــــــــ
المصادر
(1) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(2) المكتوبات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(3) اللمعات ، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(4) الشعاعات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(5) الملاحق، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(6) إشارات الإعجاز، لبديع الزمان سعيد النورسي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(7) صيقل الإسلام، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(8) الخطبة الشامية، لبديع الزمان سعيد النورسي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(9) عولمة العومة، المهدي المنجرة، منشورات الزمن، الرباط، 2000.
(10) حوارات من أجل المستقبل، للدكتور طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999.
(11) العولمة من منظور شرعي، للدكتور عمار جيدل، دار ومكتبة الحامد للنشر والتوزيع، الأردن، 2002.
(12) العولمة من منظور عربي، الدكتو رلحبيب الجنحاني،مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.