يطالب كولن المثقفين والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام بأن يقوموا بالدور الحيوي المتمثل في المساعدة على “تخليص الدراسات العلمية الحديثة من الجو الملوث والقاتل المتمثل في الطموحات المادية والتعصب الأيديولوجي، وأن يوجهوا العلماء إلى القيم الإنسانية الأسمى”. ويعتقد كولن أن القرآن يلح على فكرة أن يقوم أهل العلم بتوجيه دراساتهم العلمية إلى القيم الإنسانية السامية. فالسعي وراء العلم، ووراء كل فروع المعرفة البشرية، لا بد أن يتم في إطار إدراك الأهداف الرئيسة الأربعة للقرآن الكريم، وهي:

1- إثبات وجود ووحدانية الله تعالى.

2- إثبات النبوة.

3- إثبات البعث بعد الموت.

4- التأكيد على عبادة الله والعدل[32].

ولهذا السبب فقد بدأ كولن كتابه “في ظلال الإيمان” وقبل أن يناقش قضية الدين والعلم، بتناول هذه الأهداف الأربعة للقرآن الكريم بشكل مطول. ويمكن وصف هذا التناول على أنه يتوافق مع المنظور التقليدي للعلم الديني المتأثر بمذهب أهل السنة والجماعة.

يرى كولن أن الأهداف الرئيسة الأربعة للقرآن الكريم سيكون لها تأثير ينتج عنه علم مستنير من الناحية الروحية، كما أنه مبشر في نفس الوقت بخدمة المصالح الحقيقية للإنسانية. ويطلق على مثل هذا العلم “العلم الحقيقي”[33]. ويعتقد كولن أن الإسلام قد نجح في الماضي في تحقيق مثل هذا العلم، حيث يقول:

“إن مفهوم العلم الذي نهض به الإسلام كان مشبعًا بالطموح نحو الخلود، وبمسؤولية تسعى لتحويل الإنسان إلى عضو نافع للبشرية، وبغاية الحصول على رضا الله نعالى”[34].

ولهذا فإن إعادة إحياء مثل هذا العلم سيساعد كثيرًا على إنشاء عالم أكثر ثراءً من ناحية الحياة الفكرية، وهو عالم يضم تكنولوجيا أكثر أمنًا وأكثر أخلاقيةً، إضافة إلى علوم واعدة ومبشرة.

يشير كولن إلى الوعي الإسلامي التقليدي الذي يرى أن هناك انسجامًا بين الدين والعلم وأن هناك اتحادًا بين المعرفة الروحية والمعرفة العلمية. وكان الذي صاغ هذا الوعي هو القرآن الكريم الذي يرفض الفصل بين الحقائق العلمية والحكمة الروحية. يقول كولن:

“إن مصطلح العلم -المبني على الوحي الإلهي، والذي أعطى القوة الدافعة للدراسات العلمية في أرجاء العالم الإسلامي- تم تمثيله بشكل كامل من خلال الشخصيات الشهيرة في ذلك الوقت، وهي الشخصيات التي قامت، متشبعةً بفكرة الخلود، بدراسة هذا الكون من غير كلل من أجل الوصول إلى هذا الخلود”[35].

إن رفض القرآن للفصل بين الحقائق العلمية والحكمة الروحية قد دفع العلماء المسلمين إلى أن يحذوا حذو القرآن في ذلك. وليست لدى كولن مشكلة في قبول الفكرة القائلة بأن القرآن به تلميحات إلى الكثير من الحقائق والتطورات العلمية، ولكنه، في نفس الوقت، يؤكد على أن القرآن لا يشير إليها “بنفس الطريقة التي يشير إليها العلم والفلسفات المادية أو الطبيعية”[36]. فالقرآن، على سبيل المثال، لا يتكلم عن الظواهر الكونية والعلمية بطريقة مفصلة، ولكنه عندما يشير إلى مثل هذه “الحقائق”، فإنه يهدف إلى تقديم “التفسير الخالد لكتاب الكون”، وكذلك تقديم تفسير روحي للعلوم التي تتعامل مع الظواهر الطبيعية. إن الله U يقدم لنا هذه “الحقائق”؛ لأنه يريد أن يوضح لنا بعض الحقائق كأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكذلك يريد أن يلقن الإنسانية هذه الدروس الروحية والعلمية.

وبهذا يستحث كولن المسلمين على التذكر دائمًا بأن؛

“القرآن يشتمل على تلميحات للعديد من الحقائق العلمية، إلا أن ذلك لا يعني أنه يجب علينا أن نقرأه وكأنه كتاب علمي أو كتاب يضم تفسيرات علمية محضة”[37].

ويعبر كولن في مقاله المعنون بـ”القرآن الكريم والحقائق العلمية” عن لزوم أن يكون الفرد منتبهًا عند قراءة المعاني العلمية في الآيات ذات الصلة بها؛ حيث يؤكد كولن على الموقف التقليدي للإسلام، إذ يقول: إنه عندما يقوم الفرد بتفسير أية آية من القرآن الكريم، فعليه أن يتذكر دائمًا أن هناك معاني عديدة لكل آية، فلا يمكن استيعاب كل ما تحتويه الآية الواحدة من خلال تفسير واحد فقط. وفكرة وجود معانٍ حرفية وظاهرية وأخرى باطنية لآيات القرآن فكرة شائعة بين العديد من مفسري القرآن الكريم. والصوفية، بوجه عام، أشد ميلًا من أي مدرسة فكرية إسلامية أخرى تجاه بيان المعاني الباطنية للقرآن الكريم؛ فليس من العجيب -إذًا- أن يكون كولن، الذي عاش سنين من شبابه في جو صوفي، على درجة كبيرة من الدراية بالمعاني العميقة في هذا الكتاب المقدس، وهي المعاني ذات الأهمية البالغة في بحث الإنسان عن الحقائق الروحية. لقد سعى أيضًا أن يربط بين المعاني الباطنية للقرآن والحقيقة الباطنية التي تتأسس عليها الظواهر الطبيعية التي لا يصل إليها المنهج العلمي الحديث. إن ما يود كولن التأكيد عليه إذًا هو أن دور الدين المبين هو معاونة الإنسان على اكتشاف حقائق أسمى في العالم الطبيعي. وذلك لأن ما يكمن وراء الحقائق العلمية ليس الشك واليأس اللذين يمثلان نقاط الهروب للمادية أو الإلحاد أو اللاأدرية، وإنما الذي يكمن وراءها هو الحقائق المعنوية والروحية التي تثير الشعور بيقين أكثر في الوعي الإنساني.

وإذا أردنا أن نلخص آراء كولن، فيمكننا القول بأن السبب الرئيس وراء اهتمام القرآن بعلم الطبيعة والعلوم الأخرى هو الرغبة في دعوة الإنسان لمعرفة الله تعالى. فعندما يدعو القرآن البشر مرارًا وتكرارًا إلى دراسة الخلق، فهذا يرجع إلى أنه يريدهم أن يدرسوا هذا الخلق من أجل الوصول إلى معرفة خالقهم تعالى. ويعتقد كولن اعتقادًا جازمًا بضرورة الفهم الصحيح للمدخل القرآني في فهم العلم، وذلك لأنه في هذا المدخل الروحي تكمن أسس العلاقة المتناغمة والمثمرة بين الدين والعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر.