الحمد لله الذي سخر لهذه الأمة رجالًا تتجسد فيهم صفة المجدد والمصلح، تنهض بإسهاماتهم الأمة الإسلامية في ربوع المعمورة، تصديقًا لخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن بعث من يجدد لهذه الأمة أمر دينها. وإننا في نيجيريا، نرى في فكر الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد هذه التجسيدات.

لقد أسهمت كتب الأستاذ كولن وفكرته ومنهجه في إفاقتنا من سبات عميق، وفي تجديد الفهم الذي أصابه القصور في بعض القضايا الشرعية، لا سيما في فقه المعاملات. نعم، لا شك أن نيجيريا بها علماء راسخون، غير أن فكر الأستاذ كولن ملأ ثغرات دقيقة، خصوصًا في إرساء دعائم الفكر الإصلاحي وتجديد الحوار الديني نحو “التعايش السلمي”، وهو من أسمى ما استفاد به النيجيريون، حيث رأينا تقارب الطوائف وتوحيد الصفوف في مؤتمرات وورشات عمل بُسطت دعائمها من فكره.

التربية أولًا: محاربة الجهل والفقر والتفرق

إن هذا الأثر لم يأتِ من فراغ، بل من عطاء فكري لشخصية ضحت بحياتها كلها، ليس لبناء نفسها، بل للبشرية والإسلام.

لقد أدرك الأستاذ كولن بفكره الثاقب أن مستقبل الأمة وصلاحها يكمن في “تربية الأجيال القادمة”، وأن هذه التربية يجب أن تكون راسخة في القلوب رسوخ الجبال. الهدف الأساسي هو إعداد الجيل الذهبي.

وهذا الهدف لا يتحقق إلا بعد “تصفية الميدان” وتهيئة الكوادر. من هنا جاءت فكرته الشهيرة في محاربة الأعداء الثلاثة: الجهل، والفقر، والتفرق (عبر تعبئة الميدان الصافي الخالي من الضغائن). لقد وضع رؤية تربوية متكاملة، ولم يخصص لها كتابًا واحدًا بعنوان “التربية”، لأن أفكاره التربوية متداخلة في معظم مؤلفاته وخطبه؛ بل هو نفسه كان “تربية متجسدة حية” تعلمنا منه ومن طلابه.

النور الخالد”: السيرة كمنهج إصلاحي

إن أهم ما ركّز عليه الأستاذ كولن هو استلهام الفكر التربوي من نهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويتجلى هذا في كتابه الفذ “النور الخالد”، الذي أبرز فيه شخصية النبي كمربٍّ وأعظم نموذج عملي للعملية التربوية.

هذا الكتاب ليس سردًا تاريخيًا تقليديًا للسيرة، بل هو دراسة تحليلية لشخصية النبي من زاوية فكرية وحضارية. العنوان نفسه يرمز لاستمرارية الرسالة وقيمها الخالدة. لقد أثبت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد رسول بالمعنى الروحي، بل كان مفكرًا عبقريًا، ومصلحًا اجتماعيًا، وقائدًا عالميًا وضع أسس حضارة إنسانية شاملة، وأن رسالته هي “الحل الوحيد” لمعالجة قضايا العصر.

أسس المنهج التربوي

يرى الأستاذ كولن أن التربية هي الوسيلة الوحيدة لبعث الحضارة الإسلامية. وينبني منهجه على أسس واضحة:

  1. الإيمان العميق: وهو إيمان قائم على العلم والفهم، لا على التقليد الأعمى.
  2. العلم الحديث: ضرورة إتقان العلوم العصرية كالرياضيات والفيزياء والبيولوجيا لبناء الحضارة.
  3. الخلق الطيب: التخلق بالقيم السامية كالصدق والأمانة والتضحية.
  4. بعث روح الخدمة: الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع الإنساني كله، وليس المسلمين فقط. يجب أن يشعر المتربي “بإنسانية غير المسلم” ليكون قادرًا على مواجهة تحديات العصر.

من البذرة إلى الثمرة”: خريطة طريق المربي

لعل من أعظم ما كُتب في الثقافة التربوية هو كتاب الأستاذ كولن “من البذرة إلى الثمرة”. فكرته جلية: تربية النفس والسمو بها.

لقد ركّز فيه على أن المصلح يجب أن يكون صالحًا لنفسه أولًا، ففاقد الشيء لا يعطيه. يجب على المربي أن يكون جامعًا بين العلوم الشرعية والعلوم المعاصرة، وأن يحيي معاني العبادات (الصلاة، الصوم، الذكر) كمصدر للطاقة الروحية، وأن يحقق التوازن بين المادة والروح، والدين والدنيا، والعقل والقلب.

الأهم، أن يكون “قدوة حسنة”، فيكون سلوكه “دعوته الصامتة”، متوازنًا بين ما يقول وما يفعل.

إن هذا الكتاب ليس مجرد نصائح، بل هو خريطة طريق تربوية شاملة. إنه الهيكل المنهجي العبقري الذي ينتقل بالفرد خطوة بخطوة، من “كائن فردي منشغل بذاته” إلى “إنسان عالمي يسعى لإسعاد الآخرين وإصلاح المجتمع”. وهذا النتاج هو ما نراه اليوم في ميادين العمل التربوي والإصلاحي في مؤسسات الخدمة حول العالم.