عندما ننظر إلى الأستاذ فتح الله كولن، قد يتبادر للذهن صورته كمنظّر، أو مفكر، أو ملهم لمؤسسات مجتمعية وتعليمية ضخمة، وهذا كله صحيح. لكن ما قد يغيب عن البعض هو أن هذه المنظومة الفكرية والحركية تقف برمتها على قاعدة صلبة من “العلم الموسوعي” الذي قلّ نظيره. إن فهم شخصية الأستاذ يبدأ من حلقته الدراسية، ومنهجه في التلقي، وروحه في الاستقامة.
لقد عرفت الأستاذ عن قرب منذ أن كنت في السادسة عشرة من عمري، وشهدت بنفسي كيف كان يتعامل مع العلم. لم يكن علمه انتقائيًا، بل كان علمًا موسوعيًا حقيقيًا. الكتب التي درسها طيلة عقود هي من أمهات المصادر التي اعتدنا أن نراها تزين المكتبات، لا أن تُقرأ كاملةً في حلقات درس.
أذكر مرة أن الأستاذ جمال، أحد النجباء في حلقة الأستاذ، ذهب إلى معرض الكتاب بالقاهرة وعاد بهدية للأستاذ، كانت طبعة محققة من كتاب “جامع المسانيد” لابن كثير، سبعون مجلدًا ضخمًا ملأت الأريكة. كانت فرحة الأستاذ عظيمة. لم يضعه جانبًا، بل أخذ المجلد الأول فورًا وبدأ يقرأ الصفحة تلو الأخرى، وهو يقول: “هذه أثمن هدية أتيت بها يا جمال، هذا يمكن أن نقرأه ونجعله مادة درس”.
قد يبدو تدريس 70 مجلدًا أمرًا مستغربًا، لكنه لا يعود كذلك حين نعلم أن الأستاذ قد درّس في حلقته “الكتب الستة” كاملة، ودرس “صحيح البخاري” مع شرحه “فتح الباري” كاملاً، ثم أعاده مع شرح “عمدة القاري” كاملاً. كان منهجه أن يُختم في رمضان موسوعة حديثية كبرى مثل “كنز العمال” في جلسات مطولة تمتد لساعات، بدلًا من الختمة التقليدية للقرآن.
لكن السؤال الأهم: كيف كان يقرأ؟ وماذا كان ينتج هذا الكم من القراءة؟
لطالما تساءلت: مع من يستشير الأستاذ في أفكاره ومشاريعه الكبرى؟ بالتأكيد كان يستشير تلاميذه ومحبيه، لكن في حلقة الدرس، اكتشفت أن “هيئته الاستشارية” الحقيقية كانت تضم كل علماء الأمة عبر التاريخ.
لم يكن الأستاذ يقرأ كتابًا كُتب قبل ألف عام ليتلقى منه معلومات فقط، بل كان يقرأه “ليستشيره”. كانت جلسة قراءة القرآن مثلاً، التي يوزع فيها ما يقرب من 50 تفسيرًا على تلاميذه، أشبه ما تكون بـ “حالة استشارة مع 50 مفسرًا”. كان يحاول أن يكتشف مناهج تفكيرهم، كيف اشتغلت عقولهم، وما هي “الأسئلة الكبرى” للقرن الذي عاشوا فيه، وكيف أجابوا عليها مستلهمين القرآن والسنة.
لقد أرقته “الأسئلة الكبرى” والملحّة لعصرنا، فذهب يبحث عن إجابات لها ليس فقط بالنظر المباشر في النص، بل بالتشاور مع أولئك الأعلام، مستلهمًا مناهجهم في التفكير. بهذا المنهج، يصبح الكتاب الذي كُتب قبل قرون كأنه كُتب اليوم، لأننا لا نقرأ المعلومة، بل نستلهم “المنهج”.
“الاستقامة الصاعدة”: روح الجبل الأشم
إن هذا العمق المعرفي لا يمكن أن يستمر أو يُثمر دون سند روحي هائل. بعد كل هذه السنوات، فإن أكثر ما كان يبهرني في شخصية الأستاذ هو “استقامته”.
نحن البشر، قد نشعر اليوم أننا في حالة نفسية وروحية جيدة، وقد نخطط لمشاريع رائعة، لكن بعد يوم أو حتى ساعات، قد لا نعرف أنفسنا، وننسى ما عقدنا العزم عليه. أما الأستاذ، فكان يتمتع بما أسميه “الاستقامة الصاعدة”؛ فمساره لم يكن مستقيمًا أفقيًا فحسب، بل كان في صعود دائم. إن الحفاظ على هذا الرتم والإيقاع طوال العمر، في التفكير والشعور والروح والحيوية، ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى صلة بالله من نوع آخر.
وقد رأيت تجلي هذه الاستقامة حتى في آخر أيامه. زرته ثلاث مرات قبل وفاته بشهر، ورغم مرضه الشديد، كان “الجبل الأشم” هو ذاته، يسألنا عما نفعل وما نقرأ.
الإرث الباقي: رحمة العلماء
يُقال “رحمه الله” ككلمة تقليدية بعد الوفاة. لكن العلماء هم ورثة الأنبياء، ويرثون عنهم “الرحمة” للعالمين. الأستاذ وأمثاله من العظماء هم “رحمة لنا” في حياتهم، لأنهم يساعدوننا في اكتشاف الإجابات عن أسئلتنا الكبرى المؤرقة.
صحيح أن الجسد قد فارق الحياة، لكن الشخصية المعنوية والفكرية لمثل هؤلاء الأعلام لا تموت أبدًا. ونحن اليوم نكمل مسيرة التتلمذ على فكره ومنهجه، لنستلهم منه الإجابات لأسئلة عصرنا، سائلين الله تعالى أن يوفقنا لذلك.
