إن الأستاذ فتح الله كولن وهو يتدرج في تقريب بعض معاني الآيات القرآنية الكريمة إلى القارئ والسامع، إنما يقوم بذلك بمنطق الطبيب الجراح العالمي الذي خبر الداء والدواء معا.

شمولية الخطاب

ولشدة حرصه على نجاح كل عملياته الإنسانية، استعمل الأستاذ فتح الله وابلا من العلوم والتقنيات والأدوات والأساليب، لإقناع كل الناس بما يقدمه من أدوية من أجل تجاوز العلل المنتشرة في جسد الأمة الإنسانية المنهك. إن قوة المعاني القرآنية التي جعلت جيل الصحابة الكرام يتألق، لا زالت ترفرف حوالينا إلى اليوم. لذا  كان على كل من قرر صرف بضع ساعات مع القرآن بقراءة هذا الكتاب أن يضع هذا نصب عينيه لكي لا تهتز مهابة القرآن في ذهنه.

تفسير كلام الله وفهم مراميه يعد مدخلا مهما للتعرف على الأمراض المستشرية في جسم البشرية اليوم، ونورا ساطعا يضيء درب العلاقات المتشابكة بين كل من الخالق والمخلوق. وإن السعي إلى ذلك كان ديدن كبار العلماء ولا يزال. ويعبر الأستاذ كولن عن ذلك بالقول: “التفسير بالنسبة لنا بحر بذاته، ولكنه يعد قطرة في بحر سيد الإنسانية وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.”

يرى الأستاذ كولن أن الرسول ﷺ كان برسالته العالمية الشـاملة جامعاً لأفكار جميع الأنبياء العظام ورسالاتهم.

وكما جاءت الرسالة المحمدية عالمية لكافة الناس، فإن الأستاذ كولن أخذ على عاتقه مهمة التبليغ والنصح لكافة البشر. ولأن المهمة خطيرة، فالأخطر منها إيجاد الوسائل والآليات للوصول إلى هذه الغاية العظمى، وعلى رأسها تخريج جيل فريد بمواصفات عالية تمكنه من التصدي لهذا الدور الإنساني النموذجي. هكذا حدد الأستاذ كولن صفات دقيقة لمن يلج هذه الحرب الباردة التي أتعبت جل الفرسان منذ عهد بعيد.

لو أردنا تصنيف منهج الأستاذ فتح الله في “التفسير” من خلال كتاب “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” لكان اللون الاجتماعي أقرب في هذا الباب. ولكني أرى في منهج الرجل تعد إلى أكثر من منهج. وكل مهتم بكتابات الأستاذ يعرف جيدا أن هم هذا الرجل يتجاوز حجم وحدود الهموم التي واجهت عددا غيره من المفسرين، من حيث الكم. أما من حيث الكيف فالحضور المتميز لتوجيهات الأستاذ كولن في كل مجالات الحياة لا يحتاج إلى دليل.

في الوقت الذي تشيخ المجتمعات وتتقادم العصور ينبجس نور القرآن وكأنه في ريعان شبابه.

المنظور الإنساني

وبعد طول سياحتي بين أقواله، وشدة تأملي لآرائه، بتت مقتنعا أن لهذا الرجل لونا جديدا متميزا في التفسير، تبعا لتميزه في الفقه كما في التنزيل. فهو يجمع في إضاءاته لآي القرآن الكريم بين أكثر من منهج ويضيف إليه من لمساته زيادات عجيبة. وهكذا بدا لي الأستاذ كولن يتجه نحو منهج جديد لتفسير القرآن الكريم يمكن تسميته “المنهج الإنساني في التفسير”.

ولقد تواترت الشهادات للدلالة على إنسانية منهج الأستاذ كولن العالية، وهو ما جعل العديد من الباحثين يقارنونه بأعلام الفلسفة و الفكر الإنساني العالمي. ومن هؤلاء الباحثة الأمريكية الأكاديمية “جيل كارول” التي تشيد بدعوة الأستاذ كولن للحفاظ على القيم الإنسانية، لأنها تثمر السلام والاستقرار، وإلا فمصيرها الاضطهاد والإبادة. وتضيف أن الأستاذ كولن يذهب إلى أبعد مدى حين ينادي باستيعاب أصحاب الفكر الحر المتجرد المنفتحين على العلم والمعرفة. وبذلك فهي تراه يشترك مع “الفلسفة الإنسانية الحقيقية” في الالتزام بحب الإنسانية مع الفارق في الاستمداد والجذور.

ما يجعل القرآن دستورا ومنهجا إنسانيا نظرته العجيبة إلى كل العصور والأزمنة وكأنه نزل بخصوصها.

هكذا يستمر الأستاذ كولن في مشروعه الإنساني الجديد غير آبه بمنتقديه ولا راد على معارضيه، ثابت الخطى شديد العزم قوي الإيمان بما وعد الله أوليائه المخلصين متسلحا بحبه للجميع متسامحا إلى أبعد الحدود، في كل الاتجاهات وفي شتى المجالات وكأنه أمة لوحده.

لقد استصحب الأستاذ فتح الله كولن، هذا التوجه الإنساني في مشروعه الإصلاحي حتى غدا سمة مميزة لمنهج في التفسير، طيلة إضاءاته لعدد من الآيات القرآنية في كتابه “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”.

و يُعتبر الاعتماد على القرآن الكريم قراءة وفهما وتفسيرا وتمثلا، واسطة عقد المشروع الإصلاحي للأستاذ كولن. وقد يكون فهم كولن الخاص للقرآن الكريم راجع إلى خصاله النادرة التي أهلته للارتشاف من معينه الذي لا ينضب، ويهتدي بهديه الذي لا يخيب، ويستعين بمعيته التي لا تقهر.

الأستاذ كولن يتجه نحو منهج جديد لتفسير القرآن الكريم يمكن تسميته “المنهج الإنساني في التفسير”.

القرآن والعصر

فالأستاذ كولن حين يضيء لك بعض الآيات القرآنية الكريمة ينتابك إحساس بأن العلاقة بالقرآن تتجاوز الزمان والمكان. وهو بذلك يدعو إلى تجديد القراءة السديدة والتفسير الصائب لحقيقة الإنسان والكون والألوهية. إنه مشروع طالما تحدثت عنه العديد من الجهات. مشروع أبهت كل المشاريع المنافسة، لأنه ينهل من بحر عميق ويحتاج فهما وتنزيلا للقرآن جديدا، يتصدى له جيل فريد في هذا العصر الوليد. وبعزم الصادقين ويقين المتقين يدعو الأستاذ فتح الله كل من يحمل هذا الهم أن يأخذ موقعه من أجل عالم جديد.

ونحن نطل على عصر جديد، يرى الأستاذ كولن أن لهذا القرآن خصائص يعز وجودها في غيره من الكتب، لذلك ستكون خسارة الإنسانية كبيرة حين تتجاهل هذا الكتاب ولا تضعه في المكان اللائق به.

لكل هذه الأسباب وغيرها يدعو الأستاذ كولن إلى التلطف مع المخالفين خاصة من غير المؤمنين لأنهم في النهاية جزء من هذه الإنسانية، ولأن عصرنا الحالي هو عصر الحوار والإقناع والكلمة. ولأن العصر الإنساني الجديد سيكون باهظ الكلفة، فإن مواصفات الجيل المنتظر يجب أن تكون عالية الجودة.

إن كولن وهو يتدرج في تقريب بعض معاني الآيات إلى القارئ، إنما يقوم بذلك بمنطق الطبيب الجراح العالمي الذي خبر الداء والدواء معا.

الرؤية المتجاوزة للزمان

في سبيل هذه الغايات يرى الأستاذ كولن أن شروط الاستفادة من القرآن الكريم تحتاج إلى روية وبعد نظر، وعدم التعويل على ظاهر الآي فقط. ولأن التاريخ يعيد نفسه لا بد لمن يتصدى لخدمة الإنسان أن يكون من أصحاب الخلال الخاصة. كما يرى أن القرآن الكريم وضع أسسا ونظما للحياة، وإن البعد عنها هو ضياع للإنسانية، نتيجة بعد الأجيال عن المسار الصحيح وتيه الإنسان في البحث عن أسس وأنظمة بديلة.

وما يجعل هذا القرآن دستورا ومنهجا إنسانيا هو نظرته العجيبة إلى كل العصور والأزمنة وكأنه نزل بخصوصها، بل في الوقت الذي تشيخ المجتمعات وتتقادم العصور، ينبجس نور القرآن وكأنه في ريعان شبابه. وبهذه المواصفات الكبيرة، يصبح للرسالة المحمدية بعد إنساني عظيم يتناغم فيه الزمان والمكان خدمة للإنسان.

ويرى الأستاذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان برسالته العالمية الشـاملة جامعاً لأفكار جميع الأنبياء العظام للإنسانية ورسالاتهم. لذا كان على الإنسانية جمعاء تنظيم جميع قضاياها الحيوية في ضوء هذه الرسـالة الأخيرة وعلى هداها.

إن همّ صلاح الإنسانية هاجس لا يفارق الأستاذ كولن، وحرصه على تحقيق التوازن في هذا العالم يعد صلب مشروعه الكبير.

إن هم صلاح الإنسانية هاجس لا يفارق الأستاذ كولن، وحرصه على تحقيق التوازن في هذا العالم يعد صلب مشروعه الكبير. إلا أن تحقيق هذا التوازن وتربية هذا الواقع يحتاج إلى مؤمنين بهذا الطريق مستعدين للتضحية في سبيله. فإن لم يكن هناك أناس قد طوروا مشاعرهم الإنسانية بالإيمان والإسلام وأصبحوا رجالا للحق وللنظام، كانت الدنيا عالماً للمتجاوزين حدودهم والمعتدين، وسـاد الظلم والذلة فيها، وهذا يعد هزيمة نكراء للإنسانية.

إن توقف الأستاذ طويلا لإيضاح معاني بعض الآي كما توقف عند قوله تعالى:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يبين مدى اهتمامه بالجانب الإنساني، وشدة تحوّطه من كل ما قد يشوش على مشروعه الإنساني الكبير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فلسفة جديدة لفهم القرآن القريم، د. عبد المجيد بوشبكة، منشورات عالم الترجمة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، المغرب

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

أ.د. عبد المجيد أبو شبكة،أستاذ التعليم العالي، ورئيس شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة-المغرب، وعضو مجلس الكلية. منسق ماجستير"الاجتهاد التنزيلي" وعضو فريق دكتوراه: "فكر الإصلاح والتغيير في المغرب والعالم الإسلامي"، مستشار بجهة الدار البيضاء سطات. له عديد من الأعمال العلمية والفكرية منها: كتاب"فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم" وكتاب "ري الظمآن في عد آي القرآن" وكتاب "علم العدد ". نُشر له عدد من المقالات والحوارات في مجموعة من الصحف والمجلات الوطنية والدولية.

Related Posts