عندما خُلق الإنسان وأُرسل إلى هذا العالم، وُضعت في جِبلّته بذور الخير والشر، والجمال والقبح، والنفع والضر؛ ومُنحت تلك البذورُ قابليةَ التوسع والنموّ والتطور في سفوح ماهيته الإنسانية. ومنذ تلك اللحظة تَداخل -في كينونة الإنسان- الليلُ والنهار، وظهر الفحمُ والماس جنبًا إلى جنب، وبزغ النور عقب الظلام؛ وتَصارَع الحقد والنفور مع الحب والتآلف، ودخلت الحرية في عراك لا ينتهي مع الأسر، وسلّطت النمطيةُ والشكليةُ مصايدها للقضاء على روح الإخلاص والانطلاق والعشق، وكافح الحق ضد الباطل على الدوام. ويبدو أن الصراع بين هذه المتناقضات، والتدافع بين أصحابها وممثليها، سيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أجل، إننا نرى -في ناحية- أرواحًا حائرة تتخبط في متاهات الأنانية المظلمة، مع جهل فادح بالطريق الهادي وإشارات الطريق، بينما نجد في -الناحية الأخرى- أرواحًا مشرقة تُعانق الخلود الماورائي في كل لحظة، وقد حسمت أمرها للإبحار في رحلة أبدية لا نهاية لها، أو بعبارة أصح عزمت على أن تعيش المعراج في عالمها الداخلي.
وبينما نرى الفئة الأولى ترتعد خوفًا في عالم من الكوابيس يبدأ بفوضى وينتهي بفوضى أخرى، نجد الفئة الثانية تعيش في عالم مشرق من الإيمان بالماوراء الأخروي في كل لحظة من لحظات حياتها، متقلبة بين قصور الجِنان التي امتدت أطرافُها مترامية حتى التحمت بأطراف قلوب هؤلاء السعداء.
وبينما نلاحظ الفئة الأولى يائسة أسيرة مَهِيضةَ الجناح، تتجرع ألوانًا من العذاب المرير جرّاء سوء قراءتها للحياة والأحداث، وفساد تفكيرها، وعطب تقييمها، وبالتالي حرمانها من الاستمتاع بطعم الحياة؛ تُطالعنا الفئة الثانية مبحرةً في عالم يتلألأ نورًا بفضل جمال رؤيتها وحسن تفكيرها، ومن ثم فهي منطلقة محلقة نحو عوالم زاهية جديدة في كل حين، ناهلةٌ من معين سعادة غامرة لا توصف.
أجل، إن أبناء المجموعة الأولى قد خيم الظلام على عالمهم الداخلي، وأحاط بهم التشاؤم القاتم من كل جانب، لذلك فقدوا جدارتهم وأهليتهم في نفع المجتمع وإفادة أبنائه. وهيهات للأمة أن تفيد منهم شيئًا أو أن تنفعها مواهبهم بعد ذلك؛ بل إن هؤلاء لو دُفعوا لإفادة مجتمعاتهم دفعًا، فسوف تنتصب أنانيّاتُهم عائقًا حيالهم، ولسوف يتعثرون بشِباك الهوى فينهزمون أمام “أنفسهم” ويفشلون في تجاوزها، ولا يمكنهم أن يحققوا المنشود منهم أو المأمول فيهم البتة.
ولا شك أن انتظار انبثاق المروءة أو الإنسانية من قلوب هؤلاء البؤساء بعد أن امتلأت بألوان من المطامع، أمرٌ لا طائل من ورائه، ناهيك عن أن تتوقع الحبَّ منهم وفهمَهم للآخرين، فذلك ضرب من ضروب المستحيلات. وحتى لو بدا هؤلاء وكأنهم يحبون الآخرين، فبقليل من التركيز تكتشف أنهم غير مخلصين ولا صادقين في ذلك.
وإن معرفة تلك النفوس المظلمة البعيدة كل البعد عن الوضوح والشفافية والشجاعة، واكتشافَ هويتها، والاطلاعَ على حقيقتها، في منتهى الصعوبة، بل يكاد يكون متعذرًا. إذ إن هؤلاء من الحنكة والمهارة بحيث يُجيدون إظهار المشاعر الإنسانية في الوقت الذي يمارسون فيه أشنع المظالم وأفظع الاعتداءات، كما يحسنون الترائي باللين والرفق أثناء ظلمهم الصارخ وتجاوزاتهم الواضحة. هؤلاء عندما يمتلكون القوة يفتكون أشد ما يكون الفتك، ويعنُفون أشد ما يكون العنف. وعندما يعتريهم الخوف على أنفسهم أو يرون أنهم فقدوا السند والظهير، تبدو سفالتُهم جلية وتظهر دناءتُهم بيّنة، فلا يجدون حرجًا في أنفسهم من لثم الأيدي، ولا يرون بأسًا من تقبيل الأقدام. إن هؤلاء الأشقياء لا يترددون في إحراق العالم كله مقابل مصلحة ذاتية صغيرة، كما لا يترددون في انتهاك حقوق مئات الآلاف من الأبرياء مقابل منفعة خسيسة.
إن هؤلاء الأنانيين الذين يحسبون أنفسهم دعامة العالم وقاعدته، يقضون حياتهم كلها في سجن مؤبد من المطامع والرغبات، ولا يفلحون -ولو مرة واحدة- في رؤية الأشياء وقراءة الحوادث وفق جوهرها، بل لا يرغبون في ذلك أصلاً. إنهم صُمٌّ عُميٌ بلا قلب ولا إحساس… فما يحسون به أو يسمعونه خداع وضلال لا غير، وما يرونه أو يحدسونه فُتات أوهام وأضغاث أحلام، وما يُبدونه من رأي أو يطلقونه من أحكام هَذَيان كهذيان المخمورين.
والحقيقة أن هؤلاء لو وضعتَهم في ميزان التقييم الذاتي، فسوف تجدهم عديمي المواهب واللياقة، فقراءَ القدرات والخبرات، وبالتالي عديمي الفائدة للمجتمع الذي يعيشون فيه. فهم يَظهرون في قلب الواقع فجأة عندما تكون القضية هي إشباعَ الرغبات الشخصية والاستمتاع الذاتي. أما إذا تعلق الأمر بإسداء المعروف إلى الآخرين، والسعي لصالح المجتمع، ودرء المفاسد عنه، وجلب المنافع له، فلن تجد لهم أثرًا مهما بحثت عنهم.
أما المجموعة الثانية الطيبة، فقد عَرفت سرّ الانبعاث والوجود والبقاء، وانطلقت في أعماقها الذاتية بعزيمة نادرة فحققت في عوالمها الداخلية فتحًا بعد فتح، وأقبلت على تأسيس روابط من الحب والعاطفة مع كل شيء ومع كل أحد.
إن هؤلاء الطيبين الذين يتمتعون بقدرات عالية في ذواتهم، مفيدون حقًّا للآخرين، نافعون جدًّا لمجتمعاتهم، لا يمكن الاستغناء عنهم أبدًا. ففي ظل راية الإرادة التي ثبّتوها في ذروة ذواتهم يناضلون من أجل الفضيلة على الدوام، وينقّبون عن التجرد والإخلاص والإيثار والتضحية دون انقطاع.
إن هؤلاء القدسيين، بأرواحهم التي نضجت بنار الفكر، وعقولهم التي بلغت حد الصفاء، كأنهم ظلال لأنوار الأنبياء، يمرون على كافة المواقع التي سبقهم إليها الأنبياء من قبلُ، فيبلغون مرتبة القرب من الملائكة، ويتوحدون معهم، ويطوفون خلال صفوفهم.
وجدير بالذكر أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ينزلون في نقطة الوسط وموقع القلب بين آلاف الطوابير من كتائب أهل الحظوة والسعادة الذين يمتدون صفوفًا متعاقبة بين يدي الحق سبحانه… فنقطة الوسط تبدأ بهم وتنتهي بهم، وتليهم مباشرة رايات هؤلاء القدسيين ترفرف في السماء… -نفدي أصحابَ تلك الرايات المرفرفة بأرواحنا- فهم من يمثل أوامر الأنبياء وينزّلها إلى أرض الواقع. ومن ثم ما أن يلحّن قادة القلب قصيدة الحياة، حتى يهبّ من اصطف خلفهم من القدسيين ليترنموا بها بأرقّ الأصوات وأعذب النغمات. وما أن يبدأ سادة الوسط ببثّ رسائل الخير والجمال والمعقول، وإيقاد مشاعل الحقيقة في كل مكان، حتى ينطلق من اصطف وراءهم من النورانيين ليحوموا حول تلك المشاعل إلى الأبد. وما أن يَشرَع أبطال القلب بنفخ الروح والانبعاث فيمن حولهم -مثل إسرافيل وقد انتصب قائمًا ووضع الصور على شفتيه- حتى يسعى من اصطف خلفهم من السعداء ليسربلوا الروحَ بالجسد، ويمثلوا تلك الروح في كل ساحة من ساحات الحياة في أعلى مستوى من النموذجية والمثالية.
إن الأصوات التي تتردد في ديار لم تصلها أصوات هؤلاء السعداء بعد، ما هي إلا حشرجات؛ والعبارات التي تقال، ما هي إلا هذيان يشبه هذيان المجانين. فالعميُ الذين لم يبلغوا سعادةَ رؤية تلك القامات السامقات، والصُّمّ الذين لم يُكتَب لهم حظّ سماع أنفاسهم التي تَسكُب السكينة والطمأنينة في القلوب، سوف يخلطون بين تغريد العندليب ونعيق الغراب طوال حياتهم، ولن يتمكنوا من التمييز بينهما أبدًا.
لقد عَرف هؤلاء السعداءُ الحقيقة الكبرى منذ البداية، فأحنوا هاماتهم لها، وطأطؤوا رؤوسهم أمامها… آمنوا بالله ربًّا ومعبودًا، ووضعوا جباههم على عتبة بابه سبحانه. وإن السعداء الذين يُحنون هاماتهم أمام بابه تعالى تحيّي رؤوسُهم أقدامَهم، وتتجول أقدامُهم في الذّرَى التي بلغتها رؤوسُهم. وإنّ الحلقة الناشئة في السجود من اتصال الرأس بالقدم لَتُمكّنهم من التحليق المستمر في حالات من الصعود (عرشيات) والنزول (فرشيات)، تنتهي وتُتوَّج بمعراج جديد في كل مرة.(1)
أما إذا رفع حصان إلهامهم قائمتيه شامخًا، وتوثب وهّاجًا، فسوف تجدهم قد قفزوا إلى ما وراء السماوات بنَفَس واحد، وجالوا في ربوع الجنان، وسابقوا الملائكة، وأخذوا في الحوم والتطواف حول من لا يمكن إدراكه -سبحانه- بِحيرة وانبهار لا نظير لهما.
ومن يدري كم من مرة في اليوم يتخذ هؤلاء من الشمس كُرةً، ومن نجم آخر مَضرِبًا فيقدّمون لأهل السماوات ألعابًا سحرية شتى، وعروضًا عجيبة مبهرة. كم من مرة يحلّقون بأجنحة المناجاة والضراعة فيَسعدون بلذة الوصال، ويَنعمون بقرب الحبيب الباري وصحبة الخليل المتعالي، ثم يعودون من ديار الأنس بدلال أكرم به من دلال. كم من مرة يجيشون بأطياف جديدة من مشاعر العشق والوجد، ويحسون في أرواحهم بحظوة اكتشاف الوجود الحقيقي، فيغرقون في لذة أيما لذة ونشوة ما بعدها من نشوة.
هؤلاء السعداء، يتردد ذِكرُ الحق تعالى في أنفاسهم دومًا، وتموج الحقيقة في أفكارهم، وتلتمع بشارة الخلود على ألسنتهم، وتتلألأ السعادة الأبدية في آفاقهم. إنهم عقدوا العزم على إعمار الأرض وبنائها، ولكن دون أن يخطر على بال أحدهم الاستمتاع بلذائذ الدنيا أبدًا. التجرد سجيتهم، والإخلاصُ ديدنهم، واحتساب الأجر عند الله خُلقهم الأصيل. فهم لا ينتظرون مقابل أعمالهم جزاء ولا شكورًا، ولا يرغبون في أن تُذكَر مآثرُهم أو أن تُسجَّل بطولاتهم قاطبة.
إنه لمن المؤسف حقًّا أن أصحاب هذه الأرواح السامية، الذين يمتلئون بالفضيلة ويفيضون بالخير على الآخرين -امتلاءَ الأقداح وفيضانها- اضطُهدوا دومًا، وأُهينوا من قبَل بعض المخدوعين باستمرار، وتم التضييق على حرياتهم وعلى حقهم في ممارسة حياة كريمة شريفة، مع محاولات شنيعة للتهميش والإقصاء خارج المجتمع والواقع.
شُقّ قلبي يا حبيبي،
وانظر إلى ما فيه من جراح،
إن بين قومنا من يمكر بنا،
مكرًا سيئًا…
* * *
أه، طويلة هي هذه الطريق،
كثيرة منازلها، قصيّة مَفاوِزها،
لا معابر فيها ولا جسور،
عميقة المياه سحيقة الوديان… (يونس أَمْرَه)
ولكن ما دامت الأرواحُ تشع بالأنوار، والضمائر تتألق بالحرية، والصدور تخفق بالإيمان، فصبرًا ومزيدًا من المرابطة والمثابرة!
المصدر: مجلة حراء، العدد: 32
Leave a Reply