إن أشد الفترات تأزمًا في حياة الأمم هي الفترات التي تعيش فيها حالة تغيّر اجتماعي، وتعيد فيها تشكيل بنائها الذاتي من جديد. وإن حالها في هذه الظروف تشبه حال الأحياء التي تدخل مرحلة “التحول البيولوجي”، حيث إنها طوال عملية التجدد تتقلب وسط أوجاع مخاض مرهقة، وتقاسي كروبًا مضنية، وتكابد آلاما متتالية لكي تطرح عنها عناصر بالية مضرة، وتطور بدلاً منها عناصر جديدة نافعة… كذلك في فترات التحول الاجتماعي وبسبب الأحداث التي تثير حالة التوتر لدى الجماهير، لا مناص من الوقوع في براثن الأزمات سواء على مستوى الفرد أم المجتمع. أما إذا تجاهلت عمليةُ التخطيط والبناء “الثوابتَ” التي أبرزت جدارتَها مرارًا عبر اختبارات عديدة، فسوف تزداد الأزمة تعقيدًا وتؤدي بالمجتمع إلى أخطاء فادحة.. إذ قد يقع العقل والمنطق -في هذه الأحوال- صريعًا أمام العاطفة.. وقد تنفلت الأوضاع فيؤدي ذلك إلى الانحراف عن الخطط المرسومة، طبعًا إن كانت هناك خطط مرسومة.. وقد يتلاشى التناغم العام كليًّا نتيجة الحلول المؤقتة الضيقة والمشاريع الصغيرة القاصرة، فيواجه المجتمع نتائج مرعبة -لم تكن في الحسبان- تجري في عكس اتجاه الخطط المرسومة والآمال المنشودة.. وبالتالي فقد تندفع الجماهير وكذلك القيادات التي توجّهها -كما نلاحظ ذلك كثيرًا- إلى تصرفات عاطفية طائشة في المواقف التي تقتضي التعقّل والتبصّر والتدبير، ومن ثَمَّ يؤدي ذلك إلى ألوان من الهدم والتخريب في مرحلة البناء والتكوين.
إن أشد الفترات تأزمًا في حياة الأمم هي الفترات التي تعيش فيها حالة تغيّر اجتماعي، وتعيد فيها تشكيل بنائها الذاتي من جديد. وإن حالها في هذه الظروف تشبه حال الأحياء التي تدخل مرحلة “التحول البيولوجي”، حيث إنها طوال عملية التجدد تتقلب وسط أوجاع مخاض مرهقة، وتقاسي كروبًا مضنية، وتكابد آلاما متتالية لكي تطرح عنها عناصر بالية مضرة، وتطور بدلاً منها عناصر جديدة نافعة… كذلك في فترات التحول الاجتماعي وبسبب الأحداث التي تثير حالة التوتر لدى الجماهير، لا مناص من الوقوع في براثن الأزمات سواء على مستوى الفرد أم المجتمع. أما إذا تجاهلت عمليةُ التخطيط والبناء “الثوابتَ” التي أبرزت جدارتَها مرارًا عبر اختبارات عديدة، فسوف تزداد الأزمة تعقيدًا وتؤدي بالمجتمع إلى أخطاء فادحة.. إذ قد يقع العقل والمنطق -في هذه الأحوال- صريعًا أمام العاطفة.. وقد تنفلت الأوضاع فيؤدي ذلك إلى الانحراف عن الخطط المرسومة، طبعًا إن كانت هناك خطط مرسومة.. وقد يتلاشى التناغم العام كليًّا نتيجة الحلول المؤقتة الضيقة والمشاريع الصغيرة القاصرة، فيواجه المجتمع نتائج مرعبة -لم تكن في الحسبان- تجري في عكس اتجاه الخطط المرسومة والآمال المنشودة.. وبالتالي فقد تندفع الجماهير وكذلك القيادات التي توجّهها -كما نلاحظ ذلك كثيرًا- إلى تصرفات عاطفية طائشة في المواقف التي تقتضي التعقّل والتبصّر والتدبير، ومن ثَمَّ يؤدي ذلك إلى ألوان من الهدم والتخريب في مرحلة البناء والتكوين.
إننا نعاني اليوم من مآس حقيقية، وهشاشة اجتماعية واقتصادية، ناهيك عن الفوضى التي لا تسأم بؤرُ الفساد الداخليةُ والخارجية من إثارتها واستفزازها. لكنني على يقين تام بأننا قادرون على تجاوزها. إذ إن سنة الله اقتضت ألا تستمر وتيرة السقوط والتراجع إلى الأبد.. وألا تسير عجلة الأحداث والوقائع في اتجاه واحد قط.. وألا يمتد سلطان الليالي إلى أبد الآباد.
إن الشعوب والأمم كثيرًا ما تجد نفسها أمام “ملتقيات قدَرية” إبان فترات إعادة البناء ومخاض التحوّلات. تلك الملتقيات قد تحمل في طياتها إمكانات الرقي والتألق الباهرَين، ولكن قد تنتهي بها -بسبب اندفاع الجماهير وجشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكل ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة، والعودة إلى نقطة البداية من جديد، وتلك لعمري مأساة قلّما خلت منها حقبة من الزمان. بيد أن ما يجدر ذكره هنا، أن الفرد في فترات التغيّر والتحوّل تعتريه حال مغايرة للحال التي كان عليها في أيامه الطبيعية. إذ ينسلخ من الحالة الفردية انسلاخًا تامًّا، ويتقمّص بقميص “سيكولوجية الجماهير”، ويتحوّل إلى كيان جماهيري، حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع كالسيل الهادر نحو اتجاه واحد تبتغي الوصول إليه ولا ترضى عنه بديلاً.. وفي سبيلها تلك تجرف كل ما حولها من عناصر، وتدفع كل ما يعترض سبيلها بغية الوصول إلى هدفها المنشود. وإن الأفراد الذين تعرضوا لتحوّل ذهني كهذا، لا يستطيعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبّت الممحّص البصير، بل يندفعون مأخوذين بـ”سيكولوجية الجماهير” وعقليتها، منقادين لتوجيهاتها، منصاعين لأوامرها.
وإن ذلك النمط السابق من هذه العقلية ومفرزاتِها يختلف تمام الاختلاف عن نمط عقلية “الوعي الجمعي” ويتناقض معه تمام التناقض في مقاصده ومآلاته. إذ إن النمط الأخير ينبني في أصله على التعقّل والتمحيص والتثبّت والتروي، وملاحظةِ الحاضر والمستقبل معًا في التقدير والتدبير، ومعاينةِ الجزء مع الكل جنبًا إلى جنب في آن واحد. ومن ثَمَّ كنا وما زلنا نحض على ذلك النمط من الوعي وننصح به باستمرار. فبينما تطغى على النمط الأول عواطف غير منضبطة وحماس غير متزن وانفعالات غير منتظمة، يتألق في النمط الثاني التعقّل والتبصّر والانضباط والانتظام والحذر والتثبّت. وقد يبدو كلا النمطين من التفكير والسلوك متشابهين للوهلة الأولى من حيث الصورة الحركية والوعود المستقبلية التي تبشر بها، إلا أنه من المستحيل تجنُّبُ وقوع عواقب تتناقض مع جوهر الحركة وأهدافها في النمط الأول، في حين أنه في النمط الثاني لا مكان للتعثّر والانتكاس والفشل بالقدر نفسه على الإطلاق.
إن “الوعي الجمعي” –بالمفهوم السابق- يحمل في أعماقه أسباب وجودنا وأسرار بقائنا أمة، إذ يستقي مادة حياته من منبع ثقافتنا الدينية وهويتنا الذاتية، وبفضله تتناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية. إن الأفعال التي تصدر عن الأفراد ذوي “الوعي الجمعي” تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن. وإذا ما تم تثمين هذه الأفعال في فترات التحوّل فإنك لن تجد ميزانًا يستطيع أن يوفيها قدرها، لأنها قد بلغت قيمة ما بعدها قيمة بالدور العظيم الذي قامت به.. وشتان بين وزنها في مثل هذه الظروف الحرجة ووزنها في الأوقات العادية. أما الأفعال التي تصدر عن الحشود المندفعة بـ”سيكولوجية الجماهير” فإنها لا تخلو من أخطاء كبيرة واضطرابات مدمرة.
إن المبادرات والمشاريع التي تستهدف مقاصد سامية وغايات عالية تسمو بأبنائها من حال إلى حال، وترقى بهم من درجة إلى أخرى، وتظل تشحذهم وتصقلهم حتى تنضجهم وتجعل منهم كيانات متوحدة في مجموعة واحدة، وتُخرج منهم أممًا في أفراد. ولا شك أن أصحاب المشاريع الكبرى إذا نجحوا -أثناء إنجاز مشاريعهم- في أن يقدّموا العقل على العاطفة، والتجربة والملاحظة على السلوك الحماسي، وأن يحيطوا مشاريعهم بأنوار الرسالة الربانية.. إذا نجحوا في ذلك فسوف تدخل الحشود المندفعة بالعاطفة تحت تأثير تلك الحركة الحكيمة المتثبتة المتوازنة، وتنخرط في سلكها، وترقى في تحركها إلى موقع التعقّل والاتزان والانضباط، فتلتقي مع أرباب الاستقامة وأهل الاعتدال على خط واحد.. وهنا بالتحديد سوف يَبرُز “أربابُ المستوى” ممن تفوّقوا على الجماهير تبصّرًا وحكمة وفكرًا ليتفاعلوا معهم ويقاسموهم عواطفهم الجياشة وحماسهم المتدفق، وبالتالي سوف يظهر فضاء مركّب عجيب من حركة العقل والعاطفة. وهكذا فإن الأفراد الذين لا يستطيعون -بحكم مزاجهم البشري- أن يكونوا رجال تعقّل واتزان في كثير من الأحيان.. بعد تسرّب هذا الفهم الحكيم إلى وعيهم وشعورهم وتشربهم له، وبعد تقلّبهم في بوتقة “الوعي الجمعي” وانصهارهم فيها، وبعد قبولهم هذه الخميرة الحيوية واستيعابهم لها، ودخولهم في مراحل تحوّلية جوهرية وتَشكُّلِهم فيها.. فإن هؤلاء الأفراد سوف يتسامون إلى مرتقى عال وفضاء واسع يصبحون فيه أبناء مثاليين لمجتمع مثالي. وإن جميع التحوّلات التي تحصل في هذه الوتيرة الكريمة، قد لا نجد لها تفسيرًا معقولاً للوهلة الأولى، وقد تبدو لنا وكأنها تحدث في عالم من الخوارق بدفع من قوى غامضة خفية؛ بينما يمكن إرجاعها جميعًا إلى مرجعية أساسية حيوية، ألا وهي هويتنا الذاتية وشخصيتنا الثقافية المعنوية التي نهلت من روح الدين وتغذّت بجوهره وتشبّعت بحقائقه الخالدة. وإنه لمن الحقائق الكبرى التي لا تقبل الشك والمراء، أن أبناء أمتنا النجباء، بفضل هويتنا الذاتية هذه، قد اجتمع شملهم والتأم شتاتهم حول فكرة واحدة وعاطفة واحدة مرات عديدة طوال التاريخ؛ فانتظمت صفوفهم على غايات متبادلة وأحلام مشتركة، وخفقت قلوبهم بنفس المشاعر والآمال، ودافعوا جبنًا إلى جنب عن القيم السامية ذاتها، وكافحوا صفًّا واحدًا من أجل المبادئ العالية نفسها، واستبقوا فيما بينهم دون توقف أو فتور لتحقيق الرؤى المنشودة عينها والمقاصد السامية نفسها.
صحيح أن هناك عوامل ودوافع أخرى لها سلطان على الأفراد والجماعات ولها تأثير على سلوكهم، ولكن عندما تتصل الأمة بجذورها الروحية وتُحكِم صلتها بأصولها الوجدانية، فلسوف يتلاشى تأثير تلك العوامل، ويبهت دورها، ويضعف وزنها. وإذا كانت وشائج الارتباط بين أبناء الأمة ومقوماتها التاريخية -المادية منها والمعنوية- وثيقة متينة مستمرة، فسوف يحلّق هؤلاء الأبناء الأوفياء نحو فضاءات الماضي الزاهر، وتتفاعل مشاعرهم القلبية بمشاعر أجدادهم النبلاء، ويندمجون معهم في جيشانهم الروحي وتألقهم الوجداني -بدفع قويّ من الوعي بالتاريخ- فتلتقي التصورات وتتوحد الآمال.. فيحققون بطولات تضاهي بطولات أولئك الأجداد، ويبدعون في تطوير أنظمة فكرية، ورؤى عالمية، ومبادئ ومشاريع جديدة تحمل قدرة التأثير على المجتمعات البشرية في كافة بقاع الأرض. ويمكننا أن نذكر لذلك نماذج بطولية عديدة في باب تاريخنا التدافعي التحاسبي مع القوى العالمية الكبرى مثل ملحمة “مؤتة” ورائعة “القادسية” ومعركة “مالاذْكُرْد” وأسطورة “جَنَقْ قلعة”… كما يمكننا أن نذكر عواصم عديدة في باب التذكير بموقعنا المرموق في الموازنات الدولية من خلال الخط التاريخي الذهبي الممتد من المدينة المنورة إلى الشام، ومن الشام إلى بغداد، ومنها إلى إسطنبول. ونكتفي بهذا القدر هنا، اعتمادًا على فراسة القارئ وغزارة مادته المتعلقة بهذا الشأن في خزانة تداعياته التاريخية.
لقد دخلنا في هذه الأيام مع الأمم والشعوب المرتبطة بنا في سلسلة من التحوّلات والتغيّرات. وإذ نسير نحو مستقبل حافل بتحوّلات متلاحقة وتقلّبات متتالية، فإنه من الأهمية بمكان الحفاظُ على روح الأمة وهويتها الذاتية، وإقرارُ الفرد والجماهير على محور التعقّل والتبصّر والاتزان في التفكير والتخطيط والتدبير، وعدم إتاحة الفرصة لأيّ نوع من أنواع التفكير الفوضوي والسلوك الاستفزازي الذي من شأنه أن يثير الحشود الجماهيرية إلى تصرفات عشوائية مجهولة العاقبة.. وفي حال وجود بؤر استفزازية ينبغي التصدّي لها فورًا.. وإنّ اتباع هذه الخطوات واتخاذ تلك التدابير مهم جدًّا بقدْر أهمية الإرشاد إلى الله سبحانه وتعالى والجهاد في سبيله، بل قد يكون أهم منهما وأخطر في الظرف الراهن بالذات. ولا يَغيبنّ عن البال أبدًا أنه من السهولة بمكان، أن تتحوّل الجماهير الحاشدة من الألفة إلى البغض، ومن الوحدة إلى التفرّق، ومن التحرّك المشترك إلى الفوضى والتمزّق. لذا ينبغي ألا تتاح الفرصة لأفراد الحشود العشوائية في أن يجرفوا أنفسهم والأمة التي ينتمون إليها، نحو عواقب مأساوية بسبب معالجات متعجلة متسرعة، أو تحت تأثير بعض النفوس المولعة بالمغامرات. أجل، ينبغي التصدي لتلك النفوس المغامرة حتى لا تعبث بمقدرات الأمة؛ وبالمقابل يتطلب الموقف توجيهَ الأنظار باستمرار إلى الأبطال المخلصين الذين يمثلون روح الكتاب المجيد وجوهر السنة النبوية الشريفة. وإنك لتلمح في سلوك هؤلاء الأبطال الذين يُعتبَرون ركنًا نورانيًّا أساسيًّا من أركان “الوعي الجمعي” الذي يدور في مدار الوحي الإلهي.. إنك لتلمح التواضع والانمحاء ونكران الذات بدل السعي وراء الشهرة والمناصب، والإيثارَ بدل الاستئثار، والحرصَ على مصالح المجتمع بدلاً من المصلحة الذاتية.
إن هؤلاء الأبطال يحملون في جوانحهم هموم المجتمع كله.. هموم يومه وغده.. وهم يشعرون في أعماقهم بمسؤولية تاريخية تجاه حاضر الأمة ومستقبلها. وبالتالي فبينما تجدهم يزأرون بأفكارهم بشجاعة منقطعة النظير حينًا، تلقاهم في حين آخر وقد اعتراهم الهمّ المقلق، وأصابهم الأرق المضني، وذهبت بهم التوجسات مذاهب شتى حرصًا على حياة البراعم الناشئة من الضياع. فمَثَلُهم في ذلك مثل الدجاجة الحضون التي تبسط أجنحتها على بيضاتها، وتشمل أفراخها بالمحبة، وتموت وتحيا من أجلها في اليوم مائة مرة. ومن ثَمَّ فإنهم إذ يتعرّضون إلى أشنع أنواع التشويه والتحقير والإهانات لا يردّون عليها ولو بكلمة، بل يتحمّلونها على مرارتها معتصمين بالصبر الجميل؛ وإذ تتفجر براكين العواطف وتثور نيران الانفعالات في أعماقهم لا يأبهون لها، بل يكظمونها ويحبسونها في صدورهم، ثم يمضون في سبيلهم كأن لم يحصل شيء قط. إن هذه النفوس المتدفقة بمشاعر سامية، لن تُحجم أبدًا عن أن تُقبِل على الموت بابتسام، أو أن تضحّي بأرواحها من أجل الآخرين ببسالة مذهلة، أو أن تزجّ بنفسها وسط النيران كإطفائي شجاع بكل سعادة لإنقاذ من يستغيث بها. وهي إذ تقوم بهذه البطولات الفريدة يتوهج ألق الشعور بالمسؤولية على ملامحها، وتتجلى لذة العبودية وخشوعها على تصرفاتها. إنهم لا ينتظرون جزاءً ولا شكورًا مقابل تضحياتهم النبيلة، بل لو استنجدهم أحد فلم يسرعوا إلى نجدته في الحال عدُّوا ذلك جريمة لا تغتفر، واعتبروا أنفسهم غير أوفياء، وبادروا إلى محاسبة أنفسهم وتعنيفها.
قلوب هؤلاء المخلصين تخفق بالأمل في كل وقت.. وإنك لن تجدهم مقصّرين أبدًا في استثمار الطاقات والإمكانات المادية والروحية التي تدعم مشاريعهم وتحقق خططهم التي رسموها وفقًا لخريطة آمالهم، واعتبروا إنجازها أسمى أمانيهم. وهم في كل ذلك لا يبتغون سوى مرضاة الله تعالى والتحقق بمعاني الإخلاص المحض؛ حتى إذا ما مُنِحوا -دون سؤال منهم- مكافأةً مادية أو تنزّلت عليهم مواهبُ روحية وموارد وجدانية لقاء خدماتهم أو مكابداتهم، فسوف يترددون بين هواجس الخوف من أن يكون ذلك استدراجًا من الله وابتلاء، وبين فرحة نوال النعمة العظمى والإعلان عنها؛ فتجد عباراتهم تترواح بين مشاعر الخوف والرجاء.. فهي وجِلة مرتعشة متعثرة عند شعورهم بالخوف.. مشرقة مبتهجة ممتلئة ثقةً بالله سبحانه وتعالى عند إحساسهم بالرجاء. وهم بين هذه المشاعر وتلك يواصلون حياتهم أبطالاً للمراقبة ورموزًا للتبصّر واليقظة.
وينبغي التأكيد على أن هؤلاء المتيّمين ليسوا رجالاً مستسلمين متواكلين سلبيّين أبدًا. فبالإضافة إلى توكلهم الكامل على الله سبحانه وتعالى، وتسليمهم الخالص له، وتفويضهم التام إليه، فهم منتبهون إلى ما يجري حولهم من وقائع أشد ما يكون الانتباه، حساسون تجاه ما يحدث في الساحة من تحوّلات وتقلّبات أشد ما تكون الحساسية؛ بل ويتخذون إزاءها مواقف واضحة وحاسمة، ويتفاعلون معها تفاعلاً حكيمًا وبصيرًا. فهم لا يتعثرون بعواطفهم أبدًا، لا في شؤونهم الدنيوية ولا في شؤونهم الأخروية.. ويزِنون كل حركاتهم وسكناتهم بموازين الأوامر الإلهية.. ويراعون مستوى الفهم البشري في مقولاتهم وخطاباتهم وتفسيراتهم، ومن ثَمَّ تأتي قراءتهم ورؤيتهم لحقيقة الكون منسجمة مع الفهم البشري. هؤلاء الحكماء يدركون موقع الإنسان من الكون حقّ الإدراك، ويعرفون مكانته حقّ المعرفة.. وكذلك يبتعدون عن كل فعل يؤدي إلى الاصطدام مع فطرة الأشياء وطبيعة الأحداث، ويسعون دائمًا إلى أن يكونوا متوافقين متآلفين مع السنن الكونية.
إن الشعوب والأمم كثيرًا ما تجد نفسها أمام “ملتقيات قدَرية” إبان فترات إعادة البناء ومخاض التحوّلات. تلك الملتقيات قد تحمل في طياتها إمكانات الرقي والتألق الباهرَين، ولكن قد تنتهي بها -بسبب اندفاع الجماهير وجشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكل ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة، والعودة إلى نقطة البداية من جديد، وتلك لعمري مأساة قلّما خلت منها حقبة من الزمان.
هذا، ولكي نسير بخطوات واثقة إلى المستقبل المشرق الذي نؤمّل أن يكون لنا، ننبه فيما يلي إلى قضايا في غاية الأهمية والحيوية؛
- ينبغي على الأمة جميعًا وبالأخص على النخب والمثقفين منها، أن يؤسّسوا “سَلامًا” بينهم وبين تاريخهم.
- إن كل حركة تجديدية وعملية تغييرية تم وضعها من أجل إنشاء المستقبل، ينبغي أن يتم التخطيط لها بناءً على مقوماتنا التاريخية وجذورنا الروحية.
- إن قضية حيوية كهذه القضية ينبغي ألا تشوَّه بالأغراض السياسية ولا أن تلوَّث بالمطامع الفردية أو المصالح الفئوية.
- يجب أن يوضع في الحسبان أن المساعي والجهود التي تصبّ في هذا الاتجاه قد تعترضها بعض المضاعفات الجانبية المفاجئة حتى وإن تم اتخاذ كل التدابير اللازمة. ومن ثَمَّ ينبغي السير بحكمة وبصيرة؛ كما ينبغي عدم إتاحة الفرصة لعواطف طفولية طائشة قد تبدر من بعض الشباب العابث، أو لتصرفات غير مسؤولة قد تصدر عن بعض عشاق المغامرات؛ بل حتى لو أُهِينت كرامتُنا، فسوف نكبح جماح عواطفنا، ونُحكم السيطرة على أَزِمّة انفعالاتنا، ونصُرّ على أسناننا، ونحتمي بالصبر، إكرامًا لغايتنا السامية وآمالنا المنشودة.
- قبل أن نهدم بنيانًا ما، ينبغي أن نكون قد حسمنا قرارنا حول ما سيُبنَى مكانه. فإذا كان ذلك واضحًا وضوحًا تامًّا، عندئذ يمكن الشروع في هدم البنيان القديم المتداعي. وإنّ مبدأنا في هذا الشأن هو “نَهدم لِنَبْني”، ومن ثَمَّ فقبل أن نضرب أول معول على المبنى الذي نريد هدمه، ينبغي أن يكون “نموذج البنيان الجديد” جاهزًا حاضرًا أمام أعيننا.
- إن جميع القرارات وكافة الأفعال المتعلقة بأي مشروع في هذا الإطار، ينبغي أن تُزوَّد بالعلم والخبرة والمعرفة والتخطيط؛ وكل مسعى وكل مبادرة ينبغي أن تدعم بالدراسات العميقة والبحوث الدقيقة والاستيعاب الشامل حتى لا نقع في دائرة مفرغة من الهدم والبناء.
لا شك أننا نقف اليوم في مفترق طرق وعلى “ملتقى قدَري” مرة أخرى. ففي ظل الموقف الحرج الذي نعيشه والموقع الدقيق الذي نوجد فيه، إذا استطعنا أن نستثمر المرحلة الزمنية التي نمر منها بأفكار عظيمة ومشاريع عملاقة ورؤى بعيدة المدى وعزيمة كعزيمة الأنبياء، فإن فرصتنا في رجحان كفة ميزان “الملتقى القدَري” لصالحنا أسنح بكثير -بالمقارنة مع الأمم الأخرى في العالم- لكي يبزغ نجم سعدنا متألقًا في الآفاق.
إننا نعاني اليوم من مآس حقيقية، وهشاشة اجتماعية واقتصادية، ناهيك عن الفوضى التي لا تسأم بؤرُ الفساد الداخليةُ والخارجية من إثارتها واستفزازها. لكنني على يقين تام بأننا قادرون على تجاوزها. إذ إن سنة الله اقتضت ألا تستمر وتيرة السقوط والتراجع إلى الأبد.. وألا تسير عجلة الأحداث والوقائع في اتجاه واحد قط.. وألا يمتد سلطان الليالي إلى أبد الآباد. فكم من مَرة دار الزمان دورته، فتألقت خرائب الديار بلآلئ العمران من جديد، وعادت يد الأحداث -التي تسير في خط دائري- توزع أزهار البسمات على البؤساء الذين أبكتهم فيما مضى، وانهزمت ظلمات الليل أمام ضياء النهار مدحورة مقهورة، ودوّت جنباتُ الكون مهللة بضحكات النور الساطعة.
(*) الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.
المصدر: مجلة حراء، العدد: ٢٥
Leave a Reply