هذه الدراسة تدافع عن أطروحة تضع «الصور الإدراكية والتمثلات» ضمن مسار معرفي حضاري؛ يعالج تحويل المعرفة إلى فعل من خلال «نموذج الرشد»، مشغَّلاً في فكر الأستاذ فتح الله كولن، ومفعَّلاً في مشروع «الخدمة»، وتؤكد على أن اتباع هذا المسار المعرفي الحضاري، هو ما يميز فكر الأستاذ فتح الله كولن في تحوله السلس إلى واقع الخدمة.. كما تشير أيضًا إلى مراحل هذا المسار المعرفي الحضاري بأنها تبدأ بـ «نقطة الكمون» (الوعي، الحرية، الإرادة، الطاقة، الزمن)، ثم حين انفجارها يتولَّد «سؤال الأزمة»، ثم تضبط «الرؤية الكونية» (العلاقات الثلاث: بالله، بالإنسان، بالكون)، ثم تصاغ «قواعد كلية»، ثم يتشكل «صورًا ذهنية وتمثلات»، وينتهي إلى «مخطط الفعل» (نظام الفعل)، ومنه إلى «الفعل الحضاري» المؤسَّس.

[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]

عند سرد «المشهد التاريخي» للسيرة النبوية، كيف نفعِّله حتى لا يتكدَّس في العقل محفوظًا لمجرَّد الاستذكار، أو يراكَم لغرض «إدراك» المعنى اللفظي واللغوي، ولمقصد الخطابة والاستعراض ببرودة لا تستتبع «عملاً»؟ أو بالأحرى، ما الذي ينفخ الروح في «الحدث» المروي عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وعن الصحابة وعصر السعادة، وما الذي يجعله محرِّكًا «للفعل الحضاري»، ودافعًا «للدينامية الثقافية والفكرية والعمرانية»؟

الفهم، الوعي، الإدراك، المعرفة، الفقه، العلم، الإيمان.. كلها مصطلحات ومفاهيم تجيب عن الإشكال؛ لكنها لو تركت في عموميتها ولم تضبط معرفيًّا ومنهجيًّا وواقعيًّا، فإنها ستكون «مقنعة غير مؤثرة».

التمثُّلات، الصور الذهنية، ضرب المثل؛ هي إجابات من مستوى آخر أكثر تقييدًا، ولكنها كذلك قد تبقى معزولة عن «الفعالية» لو عولجت قاموسيًّا، أو تاريخيًّا، أو لفظيًّا؛ دون التمكن من إيجاد «نقطة العطالة» التي من خلالها يتحرك كلُّ شيء.

للإجابة عن هذه الأسئلة، تدافع الدراسة المقدَّمة عن أطروحة تضع «الصور الإدراكية والتمثلات» ضمن مسار معرفي حضاري، يعالج تحويل المعرفة إلى فعل من خلال «نموذج الرشد»، مشغَّلاً في فكر الأستاذ «فتح الله كولن»، ومفعَّلاً في مشروع «الخدمة»؛ ولعل من المناسب عرضَ صورة قمرية تُبِين عن المسار جميعه، ثم تخصيصَ «الصور والتمثلات» بالتحليل.

مراحل تحويل الفكر إلى فعل

هذه الأطروحة التي ندافع عنها مفادها أن اتباع هذا المسار المعرفي الحضاري، هو الذي يميز فكر الأستاذ فتح الله كولن في تحوله السلس إلى واقع الخدمة؛ ومراحله كالآتي:

إذا أردتم الانتماء إلى أحدهم فانظروا أولاً إلى حياته اليومية، فإن كانت تتسم بالتواضع والاستغناء ولا تكذب أعمالُه أقوالَه، فاتبِعوه وانتموا إليه. وأعتقد أن هذا أمر فطريّ، إذ ليس من الصواب الانتماء والاتباع دون الإمرار على المحك؛ فالتاريخ أظهر كثيرًا من أمثال هؤلاء. ولهذا يجب اتباع من كانت أحواله وأطواره محمدية،

1- يبدأ «بنقطة الكمون(1)» (الوعي، الحرية، الإرادة، الطاقة، الزمن …إلخ).

2- ثم حين انفجارها يتولَّد «سؤال الأزمة»(2).

3- ثم تُضبَط «الرؤيةُ الكونية» (العلاقات الثلاث: بالله، بالإنسان، بالكون).

4- ثم تصاغ «قواعد كلية»(3).

5- ثم يتشكل «صورًا ذهنية وتمثلات».

6- وينتهي إلى «مخطط الفعل» (نظام الفعل).

7- منه إلى «الفعل الحضاري» المؤسَّس.

وما من شك، أن أيّ اختبار لهذا المسار في دائرة تعاني من انفصام بين الفكر والفعل، سيكون مختلاًّ ولا يؤدي إلى نتيجة. ولذلك كانت «الخدمة» هي الشريحة الحية التي تسمح بهذا الاختبار الذي شرع فيه ضمن «نموذج الرشد»، وعبر عدد من البحوث الموجَّهة، وهذه الدراسة عيِّنة من هذا الاختبار، تحاول معالجة مرحلة من المراحل، وهي «الصور الإدراكية والتمثلات»، في السيرة النبوية. وسنحاول بيان كيف أنها تشكِّل قناعة المتلقي، وتفعِّل فكره، فتُنضج مواقفه وحركيته.

تُدافع الأطروحة ضرورةً عن كون الأستاذ فتح الله كان واعيًا مستوعبًا لهذا الانتقال من مرحلة إلى أخرى، بل كان متجاوزًا للطرح التقليدي في هذا الشأن، ولا أدلَّ على ذلك من مقالاته ومواعظه، ومن تمثّل ذلك وتشكله في قلوب وعقول الملايين من الناس، ممن انتشر عبر العالم بإيمان وطاقة نادرة المثال؛ ولقد التقينا بالكثير منهم في مجالات شتى وبمستويات مختلفة، فكانت «التمثلات والصور الإدراكية» شاخصة في فكرهم، راشحة من بين ثنايا كلامهم، واضحة المعالم في أفعالهم.

وما يُطرَح في هذه الدراسة، هو مجرد مقدمة في هذا الفتح المنهجي، يستتبع بحوثًا متخصِّصة من جملة من المداخل والتخصُّصات والمستويات، سائلين الله تعالى أن يفتح بها، وييسر أمرها.

ولا بد من التنبيه إلى أن هذه المراحل لا تتشكل على صيغة رسم خطي تراتبي، لكنه رسم «متشابك حلزوني». فمن المتعذر أن نرسم المراحل -هكذا- بصيغة مجرَّدة، ولقد أوجد الأستاذ حلاًّ لهذا الشكل، باعتماده مفهومين هما «المعنى الإجمالي»، و»المعنى التفصيلي»، ويقول في ذلك: «يُعدّ الفكر والحركة، من أهم المقومات التي تدلّنا على سبيل الوجود الحقيقي، وتحفظ ذاتيتنا من العواصف العاتية، وتمكّننا من تجديد ذاتيتنا. وإن كان الفكر بالمعنى الإجمالي يتقدم على الحركة، فإنه بالمعنى التفصيلي ينمو داخل الحركة؛ بمعنى أنه لو ركز الإنسان في موضوع معين وأعمل فكره وعقله فيه واجتهد في قراءته بشكل صحيح، فإن استيعاب الموضوع وتقبُّلَه لا يتأتى إلا بعد تطبيق هذه الأفكار والشروع في معايشتها؛ لأنه إذا ما شرع الإنسان في تطبيق أفكاره يُضطر إلى انفتاحات جديدة، وهذا يسوقه إلى أفكار أكثر عمقًا، وبهذا تستقر الأفكار -التي كانت أفكارًا إجمالية في البداية- على أرضية رصينة. فإن أهم مبدأ لا بد من الحرص عليه في جميع أفكارنا ونوايانا التي تحتضن الحركة، هو عِفّة الفكر، سواء أكان الفكر إجماليًّا أم تفصيليًّا. ومن ثم علينا أن نعتبر الولاء لعفة الفكر من مقتضيات شخصياتنا، وأن نحافظ عليها حفاظنا على أعيننا مهما كانت الظروف والعوامل».

ينبغي على المؤمن أن يتحرك دائمًا بالقيم التي يؤمن بها، وأن يحفِل بها ويقرأ ويفكر دائمًا، وعليه أن ينهل ويتغذى من المصادر الأساسية باستمرار دون أن يسمح لأي فراغ أن يحدث في حياته. كما ينبغي عليه أن يعطي إرادته حقها فينأى مبتعدًا عن المشاعر والأفكار التي لا تسمح بها آلية الوجدان.

الصور الإدراكية(4) والتمثلات، المصطلح والنشأة

«الصور الذهنية» (Mental İmages) مصطلح وظِّف في العديد من حقول المعرفة، منها الفلسفة وعلوم الاتصال وعلم نفس المعرفة، ويعني «التمثلات الذهنية المحفوظة في المخِّ أو المتخيلة لشيء مادي، أو مفهوم، أو فكرة، أو حالة»، ولا يمكن للإنسان أن ينمّي فكره، ولا أن يطوِّر علاقاته مع الآخرين بغير التمثلات والصور الذهنية.

والمصادر عادة تعرِّف الصور الذهنية بالتمثلات (Representations)، وتعرِّف التمثلات بالصور الذهنية، فتجعلهما مترادفين؛ ويمكننا أن نعتبر الصورة الذهنية أقرب ما تكون إلى “الصورة الفنية المجسدة”، أما التمثل فهو أعم، فهو قد يكون مجسَّمًا وقد يكون غير مجسَّم؛ وقد يكون معلنًا، وقد يكون مضمرًا؛ وقد يكون مدركًا أو غير مدرك.

وهذه الدراسة تفضل مصطلح “الصور الإدراكية” عوض “الصور الذهنية”، وتعتمد في تعريفها لـ”الصور الإدراكية”، و”التمثلات” بالخصوص مقاربة معرفية تأخذ بعين الاعتبار هذا النص:

“إن الإسلام إذ يحاور مخاطبيه، يأخذ بنظر الاعتبار كلَّ مشاعرهم الظاهرة والباطنة، وكلَّ أعماقهم من أمثال الفكر والحس والشعور والمنطق والإدراك.. إنه يَعتبر الإنسانَ كلاًّ جامعًا مع لطائفه وأحاسيسه ويخاطبه في هذا الإطار، فيستجيب لرغباته ويسد احتياجاته الطبيعية والبشرية، ويمهِّد له البيئةَ الصالحة لانفساحه بيسر في كل زمان وفي كل مكان”(5). أي أن النصَّ -أيَّ نصٍّ كان- يصل إلى حدِّ «التمثُّل المدرَك» إذا ما أخذ بعين الاعتبار:

1- جميع مشاعر الإنسان الظاهرة والباطنة.

2- واعتبر الإنسان كلاًّ جامعًا.

3- واستجاب لرغبات الإنسان، وسدَّ حاجاته الطبيعية والبشرية.

4- ومهَّد له البيئة الصالحة للفهم والإدراك.

5- وخاطب كلاًّ من الفكر والحس والشعور والمنطق والإدراك.

6- وجمع بين لطائف الإنسان وأحاسيسه.

7- وراعى حيثيات الزمان والمكان في المخاطب(6).

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استجمع أسباب الهداية والإقناع من محتدها، وهو سيد البلغاء والخطباء، ذلك أنه «كان يتناول الإنسان من جميع جوانبه العقلية منها والقلبية والروحية والوجدانية، دون أن يهمل أو يطمس أيَّ قوة منها، بل نشَّطها جميعًا وحرَّكها كلَّها، فأخرج مِن أفسد الناس أفضل الناس»(7).

بهذا يتحوَّل النصُّ عند المتلقي، على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم «شعلة من المعنى الناضج المكتمل، الباعث على العمل»، دون أن يكون نصًّا «محايدًا» لا يعني هذا المخاطب، ولا يحرك فيه فهمًا عميقًا، ولا حسًّا صادقًا، ولا عملاً دقيقًا.

«والصور الإدراكية والتمثلات» تتشكل عبر حياة الإنسان(8)، منذ لحظات بداية إعمال العقل عنده، ثم تتراكم وتتكاثف، وتؤسِّس صورًا جديدة مركَّبة، وتغني الصور الموجودة أو تعدِّلها، وبهذا تتشكل «شبكة من الصور» هي التي تعرف بعد ذلك بـ «فكر» فلان أو «تفكيره». وما من شك أنها ليست موضوعية محضة(9)؛ ذلك أن عقل الإنسان له خاصية التوليد، وهو ليس محايدًا، وكذلك ليس هذا الفكر ذاتيًّا محضًا؛ لأن الحقيقة لها وجود خارجي(10)، هو الذي يشكِّل القاسم المشترك بين العقول، وإلا استحالت الحياة ولم يتمكن الناس من بناء أيِّ حقيقة مهما كان حجمها ونوعها.

ويعيد البعض مفهوم «الصور الذهنية» إلى أفلاطون، في كتابه عن «الجمهورية» وهو يعرض ما عُرف «بأمثولة الكهف»، وممن يُذكر اسمه في تطوير هذا المفهوم كلٌّ من «جورج بيركلي»، و»سمويل جونسون»، وقبل ذلك «فرنسيس بيكون»، من خلال «الأوهام الأربعة»(11) في المنهج، ولا شك أن لـ»فرويد» حضور في هذا المجال(12).

«النور الخالد» ليس كتابًا في السيرة بالمعنى المألوف، فالحدث والخبر والأثر لا يُعرض لذاته، ولا لمجرد الحفظ والفهم وذلك مقصد لا يستغنى عنه، وإنما يعرض -كذلك- لأهداف وأغراض دعوية وتبليغية مما ينفع المسلم خصوصًا، والإنسان بعامة، في مسيرهما ومسيرتهما.

لكن، بالتأمُّل في تاريخ الإنسان، مع اعتماد المصدر الموثوق الوحيد الذي هو القرآن الكريم(13)، نجد أن «التمثلات والصور الإدراكية» هي مرادفة وملازمة للفكر والتفكير ولا يمكن أن يُفصل بينهما، بل إن الملائكة أنفسهم حين أخبرهم الله تعالى أنه: ﴿جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30)، كان لمدلول الخليفة تمثُّلاً عندهم، وقد أفصحوا به بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءََ﴾(البقرة:30)، فهذه «صورة إدراكية» مكثَّفة، و»تمثُّل» للمعنى واضحٌ، وتصوُّر لِما لم يقع بعدُ، ولكن بناء على معطيات موضوعية أدركوها، مِن مثل كون هذا الإنسان صاحب «إرادة حرة»، وصاحب «شهوات»، فبنوا تمثلهم حوله(14).

ولا يمكن أن نسهب في تحليل قصَّة آدم عليه السلام في القرآن الكريم، وما تحمل من تمثلات لا حصر لها، وكذا قصَّة ابني آدم وهي شحنة من الصور والتمثلات العميقة، ولا ما كان مع أنبياء لاحقين من أمثال سيدنا نوح، إبراهيم، وموسى، ويوسف، وعيسى عليه السلام وغيرهم، ممن ذكر بالاسم وممن لم يذكر. وفي التقدير أن «التمثلات والصور الإدراكية من خلال قصص الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم» ستكون مجالاً خصبًا للبحث والاكتشاف، وبناءِ مسارات جديدة للمعرفة البشرية لو تفرَّغ لها ثلة من الباحثين الجادِّين ضمن «جماعات علمية» جديرة، وهذا ما نأمله بإذن الله تعالى.

والقرآن الكريم نفسه مَعين لا ينضب من «التمثلات والصور الإدراكية»، وكذا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته الطيبة الزكية. ونؤكد أننا لا نعني بالتمثل فقط «الصور البيانية الفنية المجسَّمة» وذلك ما أبدع في عرضه سيد قطب -رحمه الله تعالى- في كتابه القيم «التصوير الفني في القرآن الكريم»، ولكننا نعني كلَّ بناء وتشكيل مجسَّم أو حتى غير مجسم لأيِّ «شيء» أو «جملة» أو «فكرة» أو «حقيقة».. حسب المواصفات التي سردناها وأوضحناها من قبلُ. وللتوضيح نورد هذا المثال العميق:

نطالع في سورة الجن تلك المعاني التي تتنزل كالغيث، وهي تُخبرنا بما لم ندركه بحواسنا من حقائق الجنِّ، وبخاصَّة أنها تورد تفاصيل وأحداثًا وقعت حقًّا لنفرٍ من الجن، ممن استمعوا القرآن الكريم، وانقسموا قسمين «سفهاء وراشدين»، «صالحين ودون ذلك»، «مسلمين وقاسطين».. وتحكي السورة العلاقةَ بين الإنس والجن، وأنه كان ثمة: ﴿رِجَالٌ مِنَ اْلإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾(الجن:6).

لا ريب أن كلَّ قارئ لهذه السورة تتشكل لديه «تمثلات وصور إدراكية» حسب خبرته، ومشاهداته، ومستوى إدراكه، وتجاربه الخاصَّة، ومستوى إيمانه، ونماذجه الكامنة والمعلنة.. وأن الحقيقة والمؤدَّى هو واحد لا يتلوَّن، لكنَّ التفاصلَ وسبلَ فهم هذه الحقيقة وطرقَ إدراكها، هو رهين «بالتمثلات والصور الإدراكية» والقناعات التي تسِم فكر أيِّ إنسان.

لقد تناول الرسول (ص) الإنسانَ من جميع جوانبه العقلية منها والقلبية والروحية والوجدانية، دون أن يهمل أو يطمس أيَّ قوة منها، بل نشَّطها جميعًا وحرَّكها كلَّها، فأخرج مِن أفسد الناس أفضل الناس.

ضرب الأمثال(15)

ما من شك أن «ضرب الأمثال» يقرِّب الفهوم ويشحذ القرائح، وهو أسلوب ومنهج قرآني، وفي ذلك يقول بديع الزمان النورسي: «لقد أنعم عليّ سبحانه شعلةً من «ضرب الأمثال» التي هي من أسطع معجزات القرآن وأوضحها، رحمةً منه جلَّ وعلا، لِعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم، فله الحمد والمنة».

والملاحظ أن «ضرب الأمثال» عند النورسي، يكاد يكون مرادفًا «للصور الإدراكية والتمثلات»، ولذا يكون خصائصها ومنافعها مشتركة، وهي -حسب النورسي- أربعٌ، فصَّلها في كتابه «المكتوبات» فقال:

– بمنظار «ضرب الأمثال» قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جدًّا أنها قريبة جدًّا.

– وبوحدة الموضوع في «ضرب الأمثال» قد جُمِّعَتْ أكثر المسائل تشتُّتًا وتفرُّقًا.

– وبسلَّم «ضرب الأمثال» قد تُوصِّل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويُسر.

– ومن نافذة «ضرب الأمثال» قد حُصِّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام، مما يقرب من الشهود، فاضطرَّ الخيال إلى الاستسلام، وأُرغم الوهم والعقل على الرضوخ، بل النفس والهوى، كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح»(16).

مصداقًا لهذه الأبعاد، واصطباغًا بهذه المعاني، وسيرًا على منهج القرآن الكريم، ضرب ابن خلدون مثلاً في كون إنسانية الإنسان، متعلقة بمدى معرفته بالأسباب، ومرتبطة بقدر علو كعبه في اتباعها، وجعل الصورة الإدراكية سلمًا له لتبليغ المعنى، وقال: «واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس الذي ترتيبها وضعي، ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق لأنَّ لعب الشطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسببات بالطبع، لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً».

من حسُنت فكرته حسنت سيرته

في صحبة من صحبات الأستاذ فتح الله كولن، المنشورة باللغة العربية، شهر مارس 2013 ضمن موقع «هيركول»(17)، نقرأ معالجة مباشرة للعلاقة بين الفعل والتمثُّل، وفي ذلك يقول: «قول النبي صلى الله عليه وسلم «أفلح من كان سكوته تفكرًا، ونظره اعتبارًا»(18). مراعاةً لهذا البيان النوراني يمكننا القول إن الإنسان يُؤْجر على حُسن الفكرة كما يؤجر على العبادات. وإن كان الانشغال بالأفكار التي لا سبيل إلى تحقيقها يعني إهدار طاقتنا، فإن الإنسان لو تمنى -خيالاً- أن لو كانت لديه المقدرة على تغيير صورة هذا العالم ووضعه في شكل أبهى وأكثر حيوية، فإنني أعتقد أن تصورات هذا الإنسان وخيالاته، تتحلى بلون العبادة وصورتها. إن الوظيفة التي تقع على عاتق المؤمن هي الانشغال بالأمور الحسنة على الدوام، والسعي في إطار هذه الأفكار الحسنة. يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي -طيّبَ الله ثراه- في كتابه «المكتوبات»: «مَنْ حسُنت رؤيته حَسُنتْ رَوِيّتُه، ومن حسُنت رويّته استمتع بحياته». بمعنى أن تحويل الإنسان حياته إلى نغمة لذة وأن يعيش وكأنه يسير في أروقة الجنة، مرهونٌ بحسن فكرته».

ناشدتكم الله، بالله عليكم، ثوروا على المسافات، تجاوزوا المسافات، تجاوزوا وكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدًا واحدة.. فالنجاة هناك، النجاة أن تُذكروا في الملأ الأعلى بالمحمديين، فأنتم في الأخلاق محمديون، وأنتم في العشق والشوق محمديون.

ولقد وظف الأستاذ فتح الله كولن مصطلحات دالة على هذا المعنى، وهي: حسن الفكرة، صورة العالم، التصورات والخيالات، الرؤية الحسنة.. مبيِّنًا أن هذه الصورة الحسنة تولِّد -بالضرورة- فعلاً حسنًا، وحياة طيبة، وسيرة زكية.

ثم يقول: «علاوة على أن الإنسان لديه استعداد فطري للتفكير، إن لم يوجّه استعداده هذا إلى طريق إيجابي، فربما يجرّه هذا الاستعداد إلى سبل سلبية كالأنانية والبوهيمية. دع عنك التفكُّر، حتى إن التصورات والتخيلات التي لا تُستخدم في الخير، ربما تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع هذه النوعية من السلبيات. ولذلك فإنه ينبغي على المؤمن أن يتحرك دائمًا بالقيم التي يؤمن بها، وأن يحفِل بها ويقرأ ويفكر دائمًا، وعليه أن ينهل ويتغذى من المصادر الأساسية باستمرار دون أن يسمح لأي فراغ أن يحدث في حياته. كما ينبغي عليه أن يعطي إرادته حقها فينأى مبتعدًا عن المشاعر والأفكار التي لا تسمح بها آلية الوجدان. فإن تعرض للرياح السلبية رغم كل جهوده، فعليه في هذه الحالة -كما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم– أن يحاول التخلص من هذا المناخ، لأن مَن أبحر في الخيالات التي تخلّ بعفة الفكر، يصل إلى نقطة يبدو فيها كمن أبحر بعيدًا جدًّا عن الشاطئ، بحيث لا يستطيع أن يعثر من جديد على فرصة الرجوع عن السلبيات التي غاص فيها. أجل، إن الإنسان إن عجز عن قطع السبيل أمام الحقد والكره والغيظ والشهوة البادية في داخله، فمن الممكن أن هذه الأمور تحطّم السدود وتستصدرُ الإنسانَ قرارات منحرفة وتجعله يرتكب أعمالاً سيئة».

وبهذا الأسلوب المباشر البيّن، نقرأ الكثير من النصوص التي تعالج أثر الفكرة في الفعل، وتبين دور «الصور والتصورات والتمثلات والتخيلات والقناعات» في أفعال الإنسان وحركياته.

الصور الإدراكية والتمثلات من خلال السيرة النبوية

يعتمد الأستاذ فتح الله كولن في عرضه للسيرة النبوية، سواء بين ثنايا مصدره المباشر «النور الخالد»، أو من خلال مصادر أخرى غير مباشرة لا تقلُّ أهمية وتركيزًا على السيرة النبوية.. يعتمد نظرية «العرض والتكليف»(19)، ليجعل النص باعثًا للمسؤولية، وليمنع نفسه والمتلقِّين من آفة الحياد تجاهه(20)؛ وهو في ذلك يلوذ بالقواعد الكلية لتمنح الأثر والحدث دينامية وحركية، ثم يعتمد التمثلات والصورة الإدراكية لتنزيل النص إلى دائرة إمكان الفعل. وهو في صناعة التمثلات، يتفنن في استخدام الكثير من المناهج والأساليب، ولعل ذكر بعضها يكون عنوانًا ومدخلاً ودافعًا للبحث الشامل المستقصي. ومن ذلك نورد:

1- التصوير الفني

سيد قطب علامة فارقة في العلاقة بكلام الله تعالى فهمًا وتفسيرًا، ولقد أبدع في صياغة نظريته حول «التصوير الفني»(21) حين كان ينقب عن «سحر القرآن»(22)، ويكتشف «منبع السحر في القرآن»(23)، ويعالج «كيفية فهم القرآن»(24)، فهداه الله تعالى إلى «الصورة الفنية»(25)، وحينها أعلنها مدوية: «لقد وجدت القرآن»(26).

ولقد عرَّف التصوير الفني بأنه «الأداة المفضَّلة في أسلوب القرآن. فهو يعبِّر بالصورة المحسَّة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية.. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجدِّدة، فإذا بالمعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية»(27).

وبهذا المدلول نطالع المئات من الصور الفنية التي وظفها الأستاذ فتح الله كولن في عرضه للسيرة النبوية، متأثرًا بالمنهج القرآني والمنهج النبوي، وللتمثيل نورد ما يلي:

قول النبي (ص) «أفلح من كان سكوته تفكرًا، ونظره اعتبارًا». مراعاةً لهذا البيان النوراني يمكننا القول إن الإنسان يُؤْجر على حُسن الفكرة كما يؤجر على العبادات.

1- في بيان أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم عقد فصلاً لحلمه عليه أفضل الصلاة والتسليم، ولم يسرد المعلومات والنصوص سردًا، لكنه اعتمد -في تبليغ المعنى- الصورةَ الفنية المجازية التي تنحت التمثل عند المتلقي نحتًا، وتدفعه إلى الحلم دفعًا، فقال: «الحلم مفتاح ذهبي آخر أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، ففتح به قلوبًا كثيرة وتربع فيها. فلولا حلمه هذا، لصدمت الخشونة الكثير من النفوس التي لا تملك مرونة، وجعلتهم في صفوف أعداء الإسلام ولابتعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حلمه صلى الله عليه وسلم حال دون هذا، فأقبل الناس أفواجًا إلى الإسلام. أجل، لقد كان الحلم من أهم الصفات التي جهزه الله تعالى بها، والتي تعكس رحمة الله تعالى عليه، والقرآن الكريم يشرح هذا الأمر فيقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159)»(28).

ولقد صاغ الأستاذ من هذا المعنى وأمثاله مفهومًا بات معتمدًا بكثرة في أدبيات الخدمة، ولا تكاد تجد واحدًا من العاملين يغفل عنه، أو ينأى عن جعله محورًا للعلاقة بالناس، وهذا المفهوم هو «تأشيرة الوجدان».

2- وعند عرض كرم الرسول صلى الله عليه وسلم، لاذ بالتصوير الفني كذلك، فقال: «كان مرآة نقية انعكس عليها اسم «الكريم» لله تعالى. كان في ذروة تمثيل خلافة الله تعالى في هذا الموضوع كما في المواضيع الأخرى، ولم يكن هناك على وجه الأرض شخص أكرم منه. كان محمد صلى الله عليه وسلم طريقًا للكرم، وكان الكرم طريقًا للجنة. أمَّا البخل الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بـ«الشح» فكان طريقًا إلى جهنم. والذين رأوه -حتى ولو عن بُعد- عرفوه من صفاته أنه هو. فهو المرشد الأوحد للإنسانية إلى طريق الجنة، وهو صاحب الشفاعة العظمى للناس أمام أبواب الجنة، لذا يجب أن يَحسب كل إنسان حسابه. ونحن نصفه بصفة من صفات الله تعالى فنقول عنه إنه «أكرم الأكرمين»، ذلك لأنه بزَّ بكرمه كل المقاييس البشرية، وأصبح في الكرم خليفة ربه.

لقد استطاع بكرمه أن يدخل إلى قلوب استعصى الدخول إليها بصفاته الأخرى، فكأن رحمته تبخرت وصعدت إلى السماء كغيوم، ثم أمطرت على الكون كرمًا، فرقَّت القلوبُ القاسية، وهيأت الجوَّ الملائم لكي تشقّ النباتاتُ الصغيرة طريقها من التربة، أي فتح الأرواح بحلمه، ثم تربع فيها بكرمه، فإن لم تعرف هذين الجانبين معًا لم تدركه ولم تعرفه حق المعرفة»(29).

2- التصريف

مما يعطي السيرة النبوية تمثلات أكثر، ويجعلها محورًا في فكر الخدمة ومنطلقًا للفعل الحضاري، ما يمكن تسميته بـ «التصريف»(30)؛ وذلك أنّ السيرة ليست «درسًا» أو «محاضرة» أو «سردًا تاريخيًّا يتيمًا».. ثم إنها مبثوثة في كامل مؤلفات الأستاذ فتح الله كولن، يعرضها بين ثناياها بتلونات لا حصر لها.. ومع أن «النور الخالد» هو كتاب خاص بالسيرة، إلا أنه لا ينحصر فيها بالمعنى المنهجي للسيرة، ذلك أنه عالج العديد من المواضيع مباشرة، منها القيم والأخلاق، وفن التبليغ، والمثالية، والتربية وأبعادها، وحل المعضلات وخصائص القيادة، والفطنة والحكمة.. وغيرها من المداخل، مما يسمح لنا بالقول إن «النور الخالد» ليس كتابًا في السيرة بالمعنى المألوف، فالحدث والخبر والأثر لا يُعرض لذاته، ولا لمجرد الحفظ والفهم وذلك مقصد لا يستغنى عنه، وإنما يعرض -كذلك- لأهداف وأغراض دعوية وتبليغية مما ينفع المسلم خصوصًا، والإنسان بعامة، في مسيرهما ومسيرتهما.

ثم إن هذا التصريف يلاحظ في مجمل مؤلفات الأستاذ، فلا يخلو كتاب من كتبه من السيرة «فقهًا للتنزيل» ومنطلقًا لفهم «الكيف»؛ وذلك ما نقرأه في «طرق الإرشاد» وهو مصدر في الدعوة، وفي «الموازين» وهو كتاب في الحكمة، وفي «نظرية التطور» وهو كتاب في العلوم، وفي «التلال الزمردية» وهو في التصوف، وفي «البيان» وهو في الأدب، وسائر كتبه الأخرى.. وهذا الحكم سارٍ حتى على المصادر التي لم تترجم إلى العربية، بملاحظة الإخوة الباحثين ممن يشتغل فيها.

إن الأستاذ فتح الله كولن دومًا يدفع المتلقي إلى تجاوز المسافات، وإلى التحرر من قيود الزمان والمكان، ليعيش الحدث بجميع مداركه العقلية منها والقلبية والشعورية والوهبية، وغيرها.. وهذا ما نطالعه في العديد من مؤلفاته، ونشاهده في مواعظه السخينة الجياشة.

بل إن «صُحبَات»(31) الأستاذ، لا تكاد تخلو الواحدة منها من إشارة وتوجيه وتمثل للسيرة العطرة، في سياق وموضوع الصحبة. وللتمثيل نذكر ما يلي:

تحت عنوان «ورثة روح الاستغناء» يقول الأستاذ: «لا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شخصًا فريدًا وفائقًا لا مثيل له في صلته بالله تعالى، ومنزلته ومكانته وسعته وعمقه. أجل، لقد كان صلى الله عليه وسلم ساميَ الطبيعة ومتميزَها، حتى إنه يشير إلى أنه يشعر بمتعة ولذة من العبادة والطاعة، كالمتعة التي نشعر بها نحن من المأكل والمشرب وغيرهما من الملذات الجسمانية. ولذلك كان يستأذن زوجاته ليلاً كي يروي عَطَشه إلى الحق، فيقوم ليله ويُدني فاه من نبع العبودية ينهل منه. وهو بهذا الاعتبار لا يُقارَن به أحد حتى صحابته الكرام. أجل، لا يمكن مقارنة أحد به ألبتة، بل إنني ربما أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول -إن لم يُعتبر هذا نوعًا من التجرؤ- إننا نخطئ حتى لو أننا قارنّا به جبريل عليه السلام؛ لأن جبريل عليه السلام لم يكن يحمل على عاتقه أعباءً جسمانية ولا نفسانية. أمّا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغم أنه يحمل هذه الأعباء، قد سبق الملائكة الكرام. ولهذا السبب كان (عليه ألف ألف صلاة وسلام) -مثلما عاد من المعراج إلينا- يتنزل من أفقه إلى مستوانا كي يقدّم رسائله لنا ويرشدنا إلى الطريق الصحيح، ويعرض أمامنا قضايا موضوعية تتناسب مع منطقنا وأسلوب معيشتنا»(32).

3- تجاوز المسافات

من أكثر النظريات إثارة للجدل في حقيقة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما يعرف بـ«تاريخانية النص»(33)، ولقد شنَّ الأستاذ فتح الله كولن حربًا ضروسًا ضدها، لكونها تحيِّد المتلقي، وتجعله سلبيًّا موضوعيًّا مسالمًا تجاه ما يقرأ، سواء في ذلك كلام الله تعالى أم سنته وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم، بل إن الأستاذ دومًا يدفع المتلقي إلى تجاوز المسافات، وإلى التحرر من قيود الزمان والمكان، ليعيش الحدث بجميع مداركه العقلية منها والقلبية والشعورية والوهبية، وغيرها، وهذا ما نطالعه في العديد من مؤلفاته، ونشاهده -بخاصة- في مواعظه السخينة الجياشة، ومثال ذلك:

«نستطيع أن نشعر ونعيش حياتنا وحياة الآخرين في اللحظة نفسها، ونجد في أعماقنا لذَّة آلاف الذكريات وكأننا نرتشف ماء الكوثر. وكما يحدث في الأحلام نقوم بطيّ المسافات، والتجول في عوالم فوق الزمن.. ونتذوق طعم جميع الأمور الخارقة وغير الاعتيادية.. وننتقل من فكر إلى فكر، ومن شعور إلى آخر.. ونقضي كلَّ لحظة في جو من عرفان وفي جو من محبة وفي طوفان من شعور باللذة.. وينطبق هذا على من استطاع الوصول إلى مثل هذا الأفق من العرفان». ولا شك أن قراء الآية الكريمة والحديث الشريف والسيرة العطرة من هذا الأفق المتجاوز، يغرس تمثلات جياشة، ويغمر القلوب المؤمنة بالشوق والعشق، إلى حدِّ إحساس أنَّ الحدث والأثر يقعان الآن واللحظة، وأننا جزء منهما، وأنه بإمكاننا أن نسهم ولو بقلوبنا ودعائنا وارتباطنا بخالقنا، نستطيع أن نسهم ونكون جزءًا فاعلاً في الحدث.

والأستاذ يقول في إحدى مواعظه التي ألقاها في إزمير بتاريخ 25 مارس 1990م:

«إن كانت قلوبكم مع الحبيب المصطفى، وإن كنتم تنقشون نقوشه الجميلة في مشاعركم وعلى قلوبكم، فما أهمية الـ 14 قرنًا من الزمان، وما الفرق بين أن تكونوا في مكة أو المدينة أو تركيا؟

إذا كنتم قد نقشتم أروع النقوش، وأدق الحقائق المتعلقة به، فالزمان لن يكون حائلاً؛ لأنكم حينئذ أقرب الأقربين إليه، حتى إنكم إن أغمضتم عيونكم -مثلي- وقدمتم ركبكم إلى الأمام قليلاً. فكأنها ستلامس ركبتيه صلى الله عليه وسلم. أنتم قريبون منه جدًّا، وهو أيضًا قريب منكم. فقد رضي بأقربيتكم له واستشعر بقربكم، وها قد أصبحتم بعد 14 قرنًا تتحدَّون المسافات.

ناشدتكم الله، بالله عليكم، ثوروا على المسافات، تجاوزوا المسافات، تجاوزوا وكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدًا واحدة.. فالنجاة هناك، النجاة أن تُذكروا في الملأ الأعلى بالمحمديين، فأنتم في الأخلاق محمديون، وأنتم في العشق والشوق محمديون.

تجاوزوا المسافات وعندها لن تجدوا اختلافًا في الأسماء.. فروقًا في الأسماء فقط، سأقول:

إنَّ هذا ليس أبا بكر، ولكن كأنه هو.

إنَّ هذا ليس عمرًا ، ولكن ما أشبهه به.

وإنَّ هذا ليس عليًّا ، لكنه الحيدر الكرار.

وهذا ليس عثمان، إلاَّ أنه ذو النورين.

تفوقوا على المسافات، تجاوزوا الزمان، اسحبوا القرون 14 واذهبوا بها إلى عصره صلى الله عليه وسلم. وإذا بكم قد تنورتم من حيث لا تشعرون، تنورتم بالأنوار المحمدية.

لقد استطاع الرسول (ص) بكرمه، أن يدخل إلى قلوب استعصى الدخول إليها بصفاته الأخرى، فكأن رحمته تبخرت وصعدت إلى السماء كغيوم، ثم أمطرت على الكون كرمًا، فرقَّت القلوب القاسية، وهيأت الجو الملائم لكي تشق النباتات الصغيرة طريقها من التربة، أي فتح (ص) الأرواح بحلمه، ثم تربع فيها بكرمه.

تنورتم شيبًا وشبابًا، صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، وتحفزتم بتوتر روحي، لا تسيئوا الفهم، التوتر الروحي أن تعيش الدين بمنتهى الوعي، التوتر الروحي هو منتهى اليقظة إزاء أوامر الدين ونواهيه. المطلوب منكم هو هذا الوعي واليقظة. وإلا فنحن أغلقنا أبوابنا أمام إثارة الصخب في الشوارع قبل أربعة عشر قرنًا. وانطلقنا نطرق أبواب القلوب.. تفتّحي يا أبواب القلوب، تفتحي على مصراعيك، تفتحي فأمة محمد قادمة. هذا هو شعارنا وكلمة سِرِّنا.. لقد كبّلنا أقدامنا وربطنا على أيدينا ولن نسير في اتجاه آخر.. عزمنا على تحرير قلوبنا وألسنة قلوبنا وكسر سلاسله.. واتخذنا فتح القلوب غاية لنا. هذا ما قصدته بالتوتر الروحي.

عندما تَصِلون إلى هذا الوعي والتفكير الرفيع، فستتجاوزون الزمان والمكان، وتجدون أنفسكم وكأنكم بين أصحاب بدر، وتندهشون قائلين: كيف حصل هذا وقد أتينا بعد 14 قرنًا؟! سوف تندهشون لاندهاشكم.

فلا ترتابوا في أن هذا الأمر سيكون كذلك، لأنني بفضلكم قد حظيت بالتعرف على أصحاب قلوب عظيمة. كل واحد منهم -في نظري- كأنه أنس بن النضر أو عبد الله بن جحش أو قباث بن أشيم رضي الله عنهم».

ولقد نقشت هذه القطعة من الروح تلونات الملايين من الناس، ممن هو في إطار مشاريع الخدمة ومؤسساتها، وممن زارها من مختلف بلاد العالم، وتأثر، وعبَّر عن ذلك في محاضرات وجلسات لا حصر لها. مما يدل أن تجاوز المسافات يغرس التمثل، ويبعث على العمل، ويزيل الغشاوة من القلوب.

4- اعتماد أسس منهج النورسي في الحضرة النبوية

من أبلغ المناهج التي تجعل المتلقي يتمثل الحدث والخبر تمثلاً عميقًا -بجميعه وبكلياته- ما يمكن تسميته «بطريق العجز»، وهو منهج صاغه الأستاذ بديع الزمان النورسي ضمن ستة أسس هي «الفقر المطلق، والعجز المطلق، والشكر المطلق، والشوق المطلق، والتفكر المطلق، والشفقة المطلقة»؛ وما من شك أن فتح الله كولن اعتمد جميع هذه الأسس، وهو بهذا يعالج الحدث في كل مرَّة بمدخل أو أكثر من هذه المداخل، وهو يصف المهاجرين المحترقين من أصحاب الخدمة والهمة بقوله:

«أجل، إنّ سعي هؤلاء الناس في تبليغ الحق والحقيقة في كلِّ أنحاء العالم متكاتفين، هو ميناء آخر للسير إلى الحقِّ، ووسيلة أخرى للسرور؛ هؤلاء الذين ساحوا في الطرق في سبيل فكرة مثالية سامية بتواضع وخجل ونكران للذات، استنادًا إلى أسس العجز، والفقر، والشكر، والشوق، والتفكر، والشفقة»(34). ويمكن أن نمثل لكل أساس بأمثلة كثيرة، لكن يكفي أن نورد ما يلي:

1- يعترف الأستاذ بمقام العجز الذي تبوأه، وهو يعرض نفسه ومنهجه على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويقول: «علمًا بأن إخراج جماعة من حياة الفساد والبدائية والتوحش، وجعلها مرشدة للإنسانية إلى طريق المدنية والفضيلة، ليس إلا إخراج هذه الجماعة من الظلمات إلى النور. وقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيق هذه المعجزة فبرهن على أنه رجل الإعجاز. ونحن الذين نعجز عن تبديل خصلة واحدة من الخصال التي تشربت بها نفوس من نعيش معهم عمرًا، نقف باحترام وخشوع أمام محمد صلى الله عليه وسلم ونشهد أنه رسول الله بحق وبصدق. ولقد حاولت بنفسي ولم أستطع إقناع أقرب الناس إلي بنظام التربية المثلى التي وضعتها والتي استلهمتها طبعًا من رسولنا صلى الله عليه وسلم تمام الإقناع. دعوت إلى الفضيلة حتى تعبت، ولكني لم أستطع حمل الناس عليها. إذن، فما أعظم تلك المقدرة وما أكبر تلك القوة التي كان يملكها الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث استطاع تحويل الناس من الحياة البدائية والمتوحشة إلى المدنية، ومن الدناءة إلى السمو، بل جعل من رجال الجاهلية معلمين ومرشدين للأمم المتمدنة. وأنا أرى أن أناسًا -مثلي- يعجزون عن إسماع كلامهم إلى ثلاثة أو أربعة أشخاص في أسرتهم هم الذين يقدّرون تمام التقدير ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث نقل أمة بكاملها من وهدتها وسما بها وصب في روحها إلهام قلبه.. بشرط واحد وهو أن لا يتعثر هؤلاء بموانع العناد والتعصب».

في تناول السيرة النبوية العطرة يوظف الأستاذ كولن قضايا العصر، ويقارنها بما كان في عهد المعجزة النبوية، وكذلك يعتمد مفاهيم ومصطلحات معاصرة في وصف الحدث والخبر، وهذا يكسب المتلقي فهمًا أعمق وتمثلاً أدق، وملكة على تحويل الأثر إلى عمل وفعل وحركية.

والجدير بالملاحظة أن الأستاذ «يوسف باكمزجي» وهو من أوائل المهاجرين والمرابطين في الخدمة في إزمير أوائل السبعينات، وهو كما يقول الأستاذ فتح الله «بمثابة أبي بكر مني»؛ سألته عن هذه المحاولات للإقناع، والتي يذكر فيها الأستاذ أنه لم يفلح، فأجاب بأنه كان شاهدًا عليها، وشاهدًا على ما قاله الأستاذ، وليست مجرد فكرة نظرية.

2- ومرّة أخرى يؤكد الأستاذ على عجزه، ويقارن ذلك بالرسول الأكرم، حتى يجعل المتلقي يستوعب المعنى، فيقول: «استطاع رسول الله التعبير عن كلِّ هذه المعاني بجملة واحدة مؤلفة من بضعة كلمات. وعندما قمت بشرح معانيه، لم أقل شيئًا، كل ما قمت به هو أنني حاولت أن أهوي بمعول التعبير على البنية الرصينة الصلبة لذلك الحديث، فكان كل ما وصلكم عبارة عن بعض القطع المتناثرة منها. وقد لا أكون موفقًا في شرح تلك المعاني كما يجب، غير أن عجزي وعجز أمثالي، ليس إلا برهانًا لمدى قوة التعبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوة بيانه وفصاحته، ذلك لأننا لا نحيط علمًا بكل معاني أقواله صلى الله عليه وسلم التي كان يرسلها ارتجالاً دون تحضير سابق. فالمعاني التي يضيق عنها عالمنا الفكري كانت المعاني الاعتيادية التي يتحدث بها كل يوم. فهل يمكن تفسير هذا إلا بالفطنة؟ إن كلمة العبقرية تبقى هزيلة وعاجزة في شرح هذه الخصلة».

5- محاورة الذات

من أبرز مناهج الحركية التي تروض الملقي والمتلقي على تمثل وعيش الأحداث بكل الملكات، ما يمكن تسميته بمحاورة الذات، وهو أن يحيا الواعظ القائد ما يلقاه في خلواته وفي لحظات صفائه، فيحاور ذاته مرارًا، ويسائلها، ويستنطقها، ويعجزها، ويمتحنها، ويصفِّرها، ويسلس قيادها مثل جندي صغير أو عبد آبق؛ حتى تعلو بعلو المتعلق، وتسمو إلى مقام الموضوع.. ومثال ذلك في السيرة النبوية، قول الأستاذ فتح الله كولن اقتباسًا من الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: «لقد خطر على قلبي ذات يوم سؤال وهو: لِمَ لا يبلغ أشخاص أمثال محيي الدين بن عربي مرتبة الصحابة الكرام؟ ثم لاحظتُ في أثناء قولي في سجودٍ في صلاة: «سبحان ربي الأعلى» أنّ شيئًا من الحقائق الجليلة لمعاني هذه الكلمة الطيبة قد انكشف لي، لا أقول كلها، بل انكشف شيء منها. فقلت في قلبي، ليتني أحظى بصلاة كاملة تنكشف لي من معانيها ما انكشف من معاني هذه الكلمة المباركة، فهي خير من عبادة سنة كاملة من النوافل. ثم أدركت عقب الصلاة أن تلك الخاطرة وتلك الحال كانت جوابًا على سؤالي، وإرشادًا إلى استحالة إدراك أحد من الناس درجة الصحابة الكرام في العبادة، ذلك أن التغيير الاجتماعي العظيم الذي أحدثه القرآن الكريم بأنواره الساطعة، قد ميّز الأضداد بعضها عن البعض الآخر، فالشرور بجميع توابعها وظلماتها أصبحت في مجابهة الخير والكمالات مع جميع أنوارها ونتائجها. ففي هذه الحالة المحفزة لانطلاق نوازع الخير والشر من عقالها، تنبهت لدى أهل الخير نوازعه، فغدا كل ذكر وتسبيح وتحميد يفيد لديهم معانيه كاملة، ويعبر عنها تعبيرًا نديًّا نضرًا. فارتشفتْ مشاعرهم المرهفة ولطائفهم الطاهرة، بل حتى خيالهم وسرهم رحيق المعاني السامية العديدة لتلك الأذكار، ارتشافًا صافيًا يقظًا حسب أذواقها الرقيقة. وبناء على هذه الحكم، فإن الصحابة الكرام الذين كانوا يملكون مشاعر حساسة مرهفة، وحواس منتبهة ولطائف يقظة، عندما يذكرون تلك الكلمات المباركة الجامعة لأنوار الإيمان والتسبيح والتحميد، يشعرون بجميع معانيها ويأخذون حظهم منها بجميع لطائفهم الزكية»(35).

6- عرض قضايا العصر

في تناول السيرة النبوية العطرة، يوظف الأستاذ قضايا العصر، ويقارنها بما كان في عهد المعجزة النبوية، وكذلك يعتمد مفاهيم ومصطلحات معاصرة في وصف الحدث والخبر، وهذا يكسب المتلقي فهمًا أعمق، وتمثلاً أدق، وملكة على تحويل الأثر إلى عمل وفعل وحركية. ومثال ذلك:

تحت عنوان «تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للناس وأسلوب تربيته»، يورد الأستاذ فتح الله كولن معجزة التربية عند نبينا الكريم، ومن ذلك اعتماده كلام الله تعالى في تغيير النفوس بالتلاوة والتزكية وبيان الحكمة، ويقول: «وكما استطاع القرآن أن يحتضن جماعة وأمة ويرفعها إلى مستوى إنساني رفيع، فإنه يستطيع إنجاز الشيء نفسه للأجيال القادمة. أما الأفكار الموجودة حاليًّا والتي يقدمونها كأفكار جديدة وجذابة، فمصيرها إلى الانطفاء واحدة بعد أخرى مثل شموع تعرضت للريح، إذ سيكون الكتاب الوحيد الذي يقول للشموس في بلد النور «أنا الشمس التي لا تغرب». وستكون رايته هي الراية الوحيدة الخفاقة، وستحطم جميعُ الأجيال قيود الأسر عن أعناقها لتسرع إليه وحده، وقد بدت الدلائل على هذا منذ الآن.. فهذه هي روسيا.. وهذه هي الصين.. فلو سمعت ما يجري فيهما الآن وقبل عشر سنوات، لما صدقت ما تسمعه الآن وحسبته خيالاً وأوهامًا. ولكن انظر الآن كيف تتحطم الدكتاتوريات المرعبة، وكيف تتهدم الإمبراطوريات السابقة وتهوي إلى الأرض جذاذًا واحدة إثر أخرى، وكيف يظهر القرآن وكأنه جذوة متقدة من تحت الرماد، وكيف ينبعث عالم التوحيد انبعاثًا جديدًا. وبالرغم من كل هذا الظلم والاستبداد والتسلط، يسري الروح الإسلامي إلى أرجاء المعمورة روحًا يانعًا نضرًا يتسلل إلى القلوب وتنبهر به الأنظار»(36).

7- صياغة المعايير وتحكيم السيرة إليها

من أبلغ أساليب التمثيل وتشكيل التصور عند الأستاذ فتح الله كولن، أنه في كل موضوع يتناوله، يصوغ معايير حدّية له، ومعايير عُليا، ثم يعرض عليها سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيرة غيره من المجدِّدين، ثم يستخلص الثمرة التي تدلُّه بما لا يدع مجالاً للشك على تفوق النبي الكريم وصحابته الأطهار بأشواط حدًّا يبلغ مستوى الإعجاز؛ ولقد صاغ في «النور الخالد» جملة من المعايير، من مثل: معيار المربي، ومعيار القائد، ومعيار الفطنة، ومعيار الشفقة …إلخ.

إن سيرة النبي المصطفى (ص) لا يتلقاها العقل معلومات وتفاصيل، وإنما يتلقاها القلب والعقل على السواء، باعتبارها نورًا أبديًا خالدًا، ومنهجًا ربانيًّا سرمديًّا؛ ومن ثم وجب على من رمى الاستفادة منها، أن يطهر ذاته ويصفي داخله، ويعدَّ الجو للتلقي الإيماني الروحاني الصافي، وبذلك تتنزل عليه التمثلات بديعة وكأنه يشهد الأحداث عيانًا.

وللتمثيل نذكر عناوين فصول الجزء الرابع من «النور الخالد» وهي:

– رسالة القائد والحياة.

– القائد والعنصر الإنساني.

– القائد واستخدام الكفاءات في المكان المناسب.

– صاحب الفراسة المتنورة بالوحي.

– وحدة النظر والقدم.

وهو يقول في مستهل الجزء الرابع: «هناك أمور مهمة يجب توفرها في كلِّ إداري ناجح وفي كلِّ قائد وزعيم نسطر بعضها فيما يأتي، مع تلخيصها طبعًا:

1- يجب ألاَّ تكون الرسالة التي يحملها، تتناقض مع الحياة أو تتصادم معها.

2- على القائد أن يكثِّف جهوده لتربية الأفراد وإعدادهم، وأن ينشغل على الدوام مع العنصر الإنساني.

3- على القائد أن يعرف عناصر مجموعته معرفة جيدة، ويعرف لمن يعهد بمسؤولية معينة.

4- يجب أن يكون القائد منفتح الصدر لحل مشاكل أتباعه.

5- يجب أن تكون تعليمات القائد وأوامره وتوجيهاته، من النوع القابل للتطبيق»(37).

ثم بعد ذلك يعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المعايير، ويوضح تفوقه في جميعها؛ وإن كان من غير الممكن تتبع كلِّ معيار وعرض مثال عنه، فإننا نورد هذا النص لا للحصر، لكن لتقريب المعنى:

فضمن معيار معرفة أصحابه، ووضعه كل واحد منهم في مكانه اللائق به، يقول فتح الله كولن: «كان سيد المرسلين يعلم أنَّ هذا النفر المحيط به هو بالمستوى الذي يستطيع أن يحكم العالم وأن يجري انقلابًا كبيرًا فيه، لذا كان يتصرف حسب علمه هذا، لذا لم يكن يشك لحظة واحدة أن الدنيا كلها من شرقها إلى غربها، ستدين بالمبادئ وبالحقائق التي جاء بها، إذ كان واثقًا من إنجاز الله تعالى وعده له، ومطمئنًّا لذلك. ومن ثم رد طلب المشركين ولم يلق لهم بالاً، بل أحاط هؤلاء الفقراء بحبه واحتضنهم برعايته».

8- تتبع آثار النبوة عبر تاريخ الأمة

من المعتاد في عرض السيرة أن تقتصر على عصر النبوة والخلافة الراشدة، أمَّا ما يلي ذلك من حقبات تاريخية ومن أحداث، فتكون في مصادر أخرى وتعرض بمناهج التاريخ المعهودة، غير أنَّ فتح الله كولن تفطَّن إلى وجوب الربط بين السبب الأول والنتيجة البعيدة، وهو يردُّ كلَّ خير وكلَّ انتصار للأمة -أفرادًا وجماعات عبر تاريخها- إلى أفضال النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا المنهج واسع الاستعمال عند فتح الله.

ففي مرجعية النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، يقول الأستاذ فتح الله كولن:

«وهو الذي شرح معنى الوجود فربطه بصاحبه الحقيقي، وبيَّن الحكمة المكنونة في لب الأشياء والأحداث، وذكَّرَنا مرارًا بأننا لسنا وحيدين هنا، فشرح صدورنا بإشعار أرواحنا بأننا تحت الرعاية الربانية، وأزال الوحشة من نفوسنا وسما بأرواحنا إلى العلياء بنفحات أُنسه، وسقانا مشاعر السكون والاطمئنان التي نَشعر بها في ربوعنا وبين أهلينا. فإن كنا نحس بأن كل شيء في محله في هذا المأوى الدافئ، وإن كانت قلوبنا تخفق بعشق الحقيقة، وإن كنا نُطلِق أنظارنا في آفاق الكون الشاسعة مفكِّرين متأمِّلين.. فهذا كله بفضل النور الذي أوقده في عقولنا. وكلُّ ما نعرفه عن الإنسان والوجود والكائنات برمتها، فهو تفصيل لمجمَل ما أودعه في نفوسنا، ونمو لبذور الحقائق التي بثها في أرواحنا»(38). أمّا عن بعض الآثار التي ذكرها، وعن بعض من تخرج في مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولو بعد قرون، فيذكر الأستاذ أمثلة كثيرة منها:

عن عقبة بن نافع يقول: «ومن الذين نشأوا في ظلال تربيته عُقبة بن نافع الذي فتح إفريقيا من أقصاها إلى أقصاها. وعندما بلغ المحيط الأطلسي، خاض بجواده البحر حتى الركبة قائلاً: «يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك».

وعن طارق بن زياد يقول: «وبفضل التربية نفسها استطاع عبد بربري، أن يعبر برج هرقل وأن يغير اسمه لكي يقول لأهالي بلاد ما وراء البحار ما لم يسمعوه من قبل، ويعرض أمامهم ما عجزت عقولهم عن إدراكه».

وفي سياق آخر، وهو يعالج منهج الاتباع، ويجعل «المحمدية» معيارًا، يحث المتلقي على اقتفاء آثار النبي الكريم، وتتبع سلسلة من الذين فعلوا ذلك فكانوا خير سلف لخير خلف، يقول الأستاذ عنهم:

«ولأوضح المسألة أكثر فأقول: إنكم لا تثقون بالذين لا يعيشون من قمة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم حياة مشابهة لحياتكم، حياة السواد الأعظم، ولا تعتمدون عليهم، فلا تتفق وفراسةَ المؤمن الاعتمادُ والوثوق بكل خَدّاع ماكر. وإذا أردتم الانتماء إلى أحدهم فانظروا أولاً إلى حياته اليومية، فإن كانت تتسم بالتواضع والاستغناء ولا تكذب أعمالُه أقوالَه، فاتبِعوه وانتموا إليه. وأعتقد أن هذا أمر فطريّ، إذ ليس من الصواب الانتماء والاتباع دون الإمرار على المحك؛ فالتاريخ أظهر كثيرًا من أمثال هؤلاء. ولهذا يجب اتباع من كانت أحواله وأطواره محمدية، وليست كثرةَ الكلام. فالذين يعدّون الخب مهارة وصنعة، ليس لهم إلا الضرر للعمل الإسلامي، فهم بعيدون عنّا روحيًّا، وسنبقى بعيدين عنهم. ثم إن من انتمى إلى جهة وانضوى تحت منّتهم، لا يستطيع أن يفهّم أولياء نعمته شيئًا، ولهذا فإن أبا حنيفة، والليث بن سعد، والإمام الثوري، والفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأمثالهم من الأفذاذ، تعاملوا معاملة حذرة جدًّا في هذا الأمر، أي عدم الدخول تحت منّة أحد. ولهذا تجاوزت أعمالهم وأقوالهم العصور حتى بلغت عصرنا فعاصرونا. ألا ما أزهر ذلك العصر حتى نوّر العصور التي تلته واحتضن هذه الكثرة الكاثرة من الناس دفعة واحدة!»(39).

9- ربط العلاقة بين الصفاء الروحي وتلقي السيرة

ما من شك أن سيرة المصطف ىصلى الله عليه وسلم لا يتلقاها العقل معلومات وتفاصيل، وإنما يتلقاها القلب والعقل على السواء، باعتبارها نورًا أبديًا خالدًا، ومنهجًا ربانيًّا سرمديًّا؛ ومن ثم وجب على من رام الاستفادة منها، أن يطهر ذاته ويصفي داخله، ويعدَّ الجو للتلقي الإيماني الروحاني الصافي، وبذلك تتنزل عليه التمثلات بديعة وكأنه يشهد الأحداث عيانًا، وفي ذلك يقول:

«إن الذين استطاعوا الخلاص من سجن الجسم، ووصلوا إلى مرتبة حياة القلب والروح، يستطيعون عيش الماضي والمستقبل معًا وفي الوقت نفسه. إذن، فلِمَ لا يوجد سلطان الرسل في الآخرة وفي الدنيا وأمام الملائكة وأمام الأنبياء في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها؟ أجل، إنه يوجد وسيوجد، وسأجعل من كل ما ذكرتُه أساسًا وقاعدة لِما سأذكره، لأن تعيين زاوية النظر إلى الأنبياء وإلى نبينا مهم جدًّا. فإن كان فهم الأولياء والأصفياء والأبرار والمقربين وحدسهم -دع عنك الأنبياء العظام- يحتاج إلى صفاء روحي وإلى نقاء قلبي خاص، فكيف يمكن فهم الأنبياء في هذا العالم المادي الغليظ الذي تكثر فيه الحجب والأستار؟ إذن، فلكي نفهمهم فإن علينا التوجه إليهم بكل استعداداتنا القلبية، ولطائفنا الروحية، وبكل دقة واهتمام وتركيز. فإن كان المطلوب فهم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الدقة والاهتمام والتركيز يجب أن يزداد أضعافًَا مضاعفة، هذا علمًا بأن درجة معرفة كلٍّ منا وفهمه يتبع درجة قوة نظرته القلبية، ولكن لا أحد يستطيع أن يفهمه ككل أو يحيط به إحاطة تامة»(40).

وبهذا يؤسس الأستاذ منهجًا لقراءة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشغله في العديد من المحاضرات والمؤلفات. والحاجة ماسة لدراسة السيرة النبوية بهذا الأفق الدعوي الفكري الحضاري، من خلال «الصور الإدراكية والتمثلات»، ومن خلال المراحل الأخرى في مسار «تحول الفكر والعلم إلى فعل وحركية»؛ وبذلك يلخص الأستاذ فتح الله كولن خط مسير الخدمة، ومن خلالها المسلم المعاصر في هذا التحول، ويقول: «يمكن تلخيص خط كفاحنا كورثة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر؛ حركية وفكر يغيران الذات والآخرين. ومن وجهة أخرى، يبدو كل وجود وكأنه حاصل حركة ومجموعة أنظمة فكرية، وبقاؤه مرتبط بالحركة وبتلك الأنظمة. وإن أهم شيء وأشده ضرورة في حياتنا هو الحركية»(41).

يمكن تلخيص خط كفاحنا كورثة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر؛ حركية وفكر يغيران الذات والآخرين. ومن وجهة أخرى، يبدو كل وجود وكأنه حاصل حركة ومجموعة أنظمة فكرية، وبقاؤه مرتبط بالحركة وبتلك الأنظمة. وإن أهم شيء وأشده ضرورة في حياتنا هو الحركية.

***

(1) في الفيزياء يعرَّف الكمون في المجال الكهربائي بأنه «مقدار الطاقة الكهربائية الكامنة لدى كل كولوم. ولا بد للحصول على الكمون، من توفر «فرق الكمون» وهو ما يعرف بالتوتر.. وقد نقل المصطلح إلى المجال الإنساني في الإدارة وغيرها؛ فمثلاً، تستعمل عبارة «الطاقة الكامنة» للتعبير عن تلك الطاقة في أصل الشيء، إلاَّ أنها لا تزال معطَّلة أو لم تكتشف بعد، أو أنها تحسب رغم أنها لم توظف بعد. وفي السياسة نشأت «مركز الطاقات الإنسانية الكامنة» للدفاع عن الطاقات الروحية والنفسية، في مقابل الطاقة المادية المختزلة.

(2) انظر: محمد باباعمي: من سؤال الأزمة إلى الفعل الحضاري؛ محاضرة صوتية، موقع فييكوس. وطه كوزي: ملَك السؤال الحضاري وسؤال الأزمة؛ مقال موقع فييكوس.

(3) انظر: محمد باباعمي: القواعد الكلية لفقه الحضارة من خلال السيرة النبوية؛ محاضرة سيدني ومالبورن، أستراليا؛ فيفري 2013؛ نشر في بوابة فييكوس.

(4) مصطلح الصورة الذهنية هو المستعمل في المصادر، غير أننا صغنا بديلاً عنه «الصورة الإدراكية»، وهي أدلُّ على المقصد الذي نعالج من خلاله هذا الموضوع.

(5) ونحن نبني حضارتنا، محمد فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 2011م، ص:109-110.

(6) انظر: باباعمي: مراعاة الأحوال النفسية والظروف الزمنية والمكانية في فهم الآية القرآنية؛ مذكرة تخرج، دبلوم دراسات عليا، جامعة الجزائر؛ 1993م.

(7) النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط5، 2010م، ص:315.

(8) Jean Piaget, Bärbel Inhelder: L’Image mentale chez l’enfant: étude sur le développement des représentations imagées-Presses universitaires de France, 1966.

(9) الموضوعية غالبًا توضع في مقابل الذاتية، وتعرَّف بأنها «إدراك الأشياء على ما هي عليه، دون أن تدخل الأهواء أو المصالح أو التحيزات»، وبالتالي تعرَّف الذاتية بأنها «تقويم الأمور أو الظواهر أو الأحداث أو الأشخاص، تقويمًا متأثرًا بذات الباحث، وبما تنطوي عليه من ميول وعواطف وتعصُّب مما يحول دون اكتشاف الحقائق المجردة أو رؤيتها بوضوح». وإذا استثنينا التعصب والأهواء مما يشين البحث عن الحقيقة، فإن الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تكون موضوعية محايدة، ولكنها تنطلق من نماذج وسياقات ومفاهيم، تتأثر بها وتؤثر فيها؛ ولذا كان مصطلح «التفسيرية» الذي صاغه المسيري أكثر نضجًا، وبالتالي يكون الحديث عن الأكثر تفسيرية والأقل تفسيرية. ينظر: المسيري: موسوعة اليهود واليهودية، الجزء التنظيري.

(10) انظر: نظرية المعرفة، رودرك م. تشيزهولم، ترجمة: نجيب الحصادي، فصل «ما الحقيقة؟»، الدار الدولية للنشر والتوزيع، مصر، ص:141.

(11) هذه الأوهام هي: أوهام الجنس Race؛ أوهام الكهف Cave؛ أوهام السوق Market – Place؛ أوهام المسرح Theatre. والقضاء على هذه الأوهام في حقول العلم والحياة، هو لبُّ منهج بيكون.

(12) http://en.wikipedia.org. ويحيل إلى العديد من المصادر، منها:

L’image mentale: (Evolution et dissolution)-Jean Philippe-Publié par F Alcan, 1903.. Berkeley et le voile des mots-Geneviève Brykman-Publié par Vrin, 1993.. Les principes de la connaissance humaine-George Berkeley-Publié par A. Colin, 1920.

(13) ثمة تاريخ سابق لمساحة إدراك الإنسان واستنتاجه، وكلُّ قول من غير مصدره الموثوق هو نوع من التخمين، وهو ضربة لازب؛ ومن هذا التاريخ: تاريخه قبل الخلق، وساعة الخلق، وفي الجنة، والإنسان الأول. وهذا مدلول قوله تعالى: ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾(سورة الكهف: 51).

(14) انظر طبيعة هذا الحوار، وأسباب هذا التمثل في: الشعراوي: خواطر إيمانية، تفسير؛ موقع الشعراوي. وانظر: جيفري لانغ: حتى الملائكة تسأل؛ دار الفكر، 2011، ص:46-47. ومما قاله في ذلك: «وأمَّا جواب الملائكة فهو رائع ومقلق في نفس الوقت.. ومن الواضح أن الملائكة تشير هنا إلى ذات طبيعة الإنسان، ما دام أن آدم في القرآن يبدو على أنه واحد من أحباب الله ومنزّه عن أيِّ كبيرة». والطريف أن لانغ، عنون كتابه استيحاءً من هذا السؤال نفسه.

(15) يعتبر نموذج الرشد «الصور الإدراكية والتمثلات»، مرحلة مفرقية أساسية في تحول الفكر إلى فعل، وهو في الترتيب بعد «الرؤية الكونية»، قبل صياغة القواعد الكلية. والبحث جار في هذا الاتجاه والحمد لله.

(16) المكتوبات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم صالحي، ص:486-487.

(17) www.herkul.org.

(18) المسند، الديلمي، ج1، ص:421.

(19) انظر: باباعمي: القواعد الكلية لفقه الحضارة، من خلال السيرة النبوية، محاضرة أستراليا، نشر موقع فييكوس.

(20) يتألم الأستاذ من هذه الحال الباردة التي تعصف بقلوب الناس، ويقول: «إن الذنوب الناجمة من النظر من منافذ أجواء شتى، وما تترك من انطباعات في أذهاننا قد اقتحمت حتى أغوار قلوبنا، بل جعلتنا مشلولي القوى، فباتت ليالينا خالية من الأشواق ومحاريبنا محرومة من الدموع» (طرق الإرشاد في الفكر والحياة، محمد فتح الله كولن، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط5، ص:22).

(21) التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، ط17، دار الشروق، مصر؛ 1425هـ/2004م.

(22) نفس المصدر، ص:11.

(23) نفس المصدر، ص:17.

(24) نفس المصدر، ص:25.

(25) نفس المصدر، ص:36.

(26) نفس المصدر، ص:7.

(27) نفس المصدر، ص:36.

(28) النور الخالد، ص:259.

(29) نفس المصدر، ص:271.

(30) التصريف: مفهوم نبهني إليه الأستاذ جمال تُرْك، وقد جمع حوله ملفًّا كاملاً، ويذكر أنَّ من أبرز صفات الأستاذ فتح الله كولن في أقواله وأفعاله، وفي برامجه ومخططاته، ما يعرف بـ «التصريف»؛ وهو -أساسًا- منهج قرآنيٌّ مستنبط من قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾، وعن الله تعالى يقول الأستاذ: «إنه سبحانه يجلب نظرنا إلى تدبيره وتصريفه للأمور».

(31) الصُّحْبَة: لقاء توجيهي أسبوعي غالبًا، داوم عليه الأستاذ إلى اليوم، وصار ديدنًا لكلِّ المشتغلين بهمّ الخدمة علمًا وعملاً. وقد نشرت العديد من الصُّحْبات في سلسلة «الجرّة المشروخة»، في 11 جزءًا. وقد شرع في ترجمة الصُّحْبات إلى العربية في موقع «herkul.org».

(32) موقع هيركول، الجرة المشروخة.

(33) التاريخية أو التاريخانية: مفهوم تبلور في الفلسفة الغربية الحديثة، وهو يفضي إلى أنَّ كلَّ شيء مموقع في التاريخ بما في ذلك الحقيقة. يعرفها توران (Alaine Tourine) بأنها: «مقدرة كلِّ مجتمع على إنتاج مجاله الاجتماعي والثقافي الخاص به، ومحيطه التاريخي الذاتي». ونجد هذا التعريف في معجم روبير (Le petit robert) أيضًا، لكنه يضيف تعريفًا آخر، وهو أن كلمة «التاريخية» تعني: «دراسة المواضيع والأحداث في بيئتها وضمن شروطها التاريخية». كما نجد ما يقترب من هذا التعريف في معجم لاروس  (Larousse)، فقد ورد تعريف التاريخية بأنها: «مذهب يقضي بأن التاريخ جدير بإثباث الحقائق الأخلاقية أو الدينية». ولقد تقمص العديد من الكتاب الحداثيين هذا المفهوم، وأشغلوه على القرآن الكريم باعتباره نصًّا تاريخيًّا، منهم محمد أركون، وهشام جعيط.

(34) الجرَّة المشروخة، موقع هيركول، بتاريخ 27/02/2013.

(35) النور الخالد، ص:266، (وهو اقتباس من «الكلمات»، لبديع الزمان سعيد النورسي، ص:575-576).

(36) النور الخالد، ص:308.

(37) نفس المصدر، ص:345 وما بعدها.

(38) ونحن نبني حضارتنا، ص:147.

(39) طرق الإرشاد في الفكر والحياة، ص:107-108.

(40) النور الخالد، ص:49.

(41) ونحن نقيم صرح الروح، محمد فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط6، ص:55.

المصدر: نسمات، الإصدارة الأولى، نوفمبر ٢٠١٦

Leave a Reply

Your email address will not be published.