مما راق لي وشد انتباهي أثناء تجوالي لأحدى مدارس الخدمة في إسطنبول في صيف ٢٠١٣ الآليات العجيبة التي تم اختراعها ثم تفعيلها لإدماج الأسرة في عملية التعليم. معلوم لدى كل ذي خبرة في مجال التربية والتعليم أن عملية غرس المعلومة ونقش القيمة في كيان التلميذ لن تنجح ما لم تُبنَ جسور متينة للتعاون بين المدرسة وبين الأسرة، الأب والأم، ولا سيما الأم.
جسور للتواصل
هناك برنامج متكامل في مدارس الخدمة لإدماج العائلة في العمل التربوي لن أدخل في تفاصيله، لكن يهمني أن أذكر نظام “أمهات الفصول” ودوره في الرقيّ بمستوى أداء الأولاد تربويا وتعليميا حيث يتم اختيار إحدى أمهات الأولاد في كل فصل من الفصول لتقوم بأدوار بالغة الأهمية، منها:
- أن تكون جسرا للتواصل بين معلمة الفصل وأمهات الأولاد الموجودين في فصلها.
- أن تكون جسرا للتواصل بين الأولاد وبين أمهاتهم أو بين الأولاد وبين المعلمة أو بين إدارة المدرسة وبين الأمهات في قضايا معينة تهدف إلى رفع مستوى الأداء التربوي.
- أن تكون عاملا فعالا في الرفع من مستوى الوعي البيداغوجي لأمهات الأولاد من خلال التنسيق معهن، وترتيب مجموعة من الدورات التكوينية الهامة لهن والتي تتعلق بالعمل التربوي ودور الأمهات فيه.
- أن تكون السند الأقوى لمعلمة الفصل فيما تقوم به من أنشطة داخل الفصل أو خارجه، فهي المستشارة للمعلمة حينا، والساعد الأيمن لها حينا، والراعية الأساسية لأنشطة الفصل المختلفة في أحيان أخرى.
في مدارس الخدمة برنامج متكامل لإدماج الأسرة في العمل التربوي، أهم جانب فيه نظام “أمهات الفصول”، أمهات يعملن في المدرسة كالمعلمات تطوعا.
لمسة الحنان
فكرة رائعة تضفي على المدرسة لمسة الأم الحنون، وتضيف إلى مناشط التعليم بعدا إنسانيا عميقا. كما أنها تنمّي من قدرات الأم نفسها أثناء قيامها بمسؤولية “أم الفصل”، سواء من الناحية التربية أو الناحية العلمية، وتشعر بأنها تقوم بدور هام.
المدرسة التي زرناها في إسطنبول كانت تتضمن حوالي ١٠٠٠ تلميذ موزعين على ٤٠ فصلا دراسيا يحتضن كل فصل حوالي ٢٤ تلميذا. بمعنى أنها تتعامل مع ٤٠ والدة فصل متطوعة، تشكل حلقة الوصل الإنساني بين المدرسة وبين العائلات. إنه رقم مذهل، أليس كذلك؟
لا بد أن أذكر عدد المعلمين الذين يشتغلون في تلك المدرسة، وهو ١٠٠ معلم، أي يقع لكل ١٠ تلاميذ معلما واحدا، وهو مستوى عال جدا في الاهتمام بالتلاميذ، بل هو يتجاوز المعايير الدولية.
البعد الإنساني
عندما زرنا المدرسة التقينا مع غير واحدة من أمهات الفصول. كانت إحداهن ربة بيت خريجة كلية إدارة، والأخرى خريجة علاقات دولية، والأم الثالثة كانت مهندسة معمارية. كان المستوى الثقافي للأمهات واضحا جدا.
علمنا منهن أنهن بصدد التحضير لمسابقة بين الأمهات في صناعة الحلويات المحلية، وسيشارك في المسابقة عدد كبير من الأمهات من مستويات مختلفة، ويحضرن معهن ألوانا مختلفة من المأكولات يبعنها لمن يرغب في شرائها ويتبرعن بالنقود كمنح دراسية لطلبة فقراء في شرقي تركيا. ذكرت السيدات بأنهن يُقِمن أنشطة خيرية عديدة من هذا النوع على امتداد العام الدراسي بالتنسيق مع المدرسة، ويوزعون ما جمعوه من أموال في هذه الأنشطة إما للتلاميذ الفقراء في تركيا أو إخواننا السوريين أو يرسلونها إلى بعض الدول الأفريقية التي تعاني من فقر مدقع. المهم أنها تصرف في مشاريع للمساعدات الإنسانية.
شعرنا بالفخر عندما رأينا مجموعة من التلاميذ يسرعون إلى إحدى أمهات الفصول ويرتمون في أحضانها كأنها أمهم الحقيقية.
قالت إحداهن: “أم الفصل” هي الأم الثانية للأولاد، هي الساعد الأيمن للمعلمة، تعتمد عليها في بعض الأنشطة، والرحلات الخارجية، والمناشط الثقافية، والبرامج الإنسانية، والمسابقات، والمسرحيات إلخ.
اختيار موفق وتثقيف مستمر
حدثنا الأمهات عن اهتمام المدرسة بهن كذلك، ذكروا لنا الدورات التدريبية التي أقيمت من أجلهن لرفع مستواهن التربوي وخبرتهن البيداغوجية ومهارتهن في التواصل والتنسيق. عندهن ورشة عمل تربوية خاصة بهن كل أسبوعين. لمسنا في أعينهن السعادة، إنهن يشعرن بأنهن يقمن بالعمل الصحيح في المكان الصحيح.
سألتهن كيف يتم اختيار “أم الفصل” وهل هناك من معايير محددة؟ فأخبروني أن هذا العمل يقمن به تطوعا، وهو ليس عملا سهلا بالتأكيد. لأنه يحتاج إلى تفرغ، لذا يستحيل على الأمهات المشغولات أن يقمن بهذه المهمة، كما يحتاج إلى خبرة تربوية، ومهارة في إدارة التواصل، وقابلية للتحرك المتواصل. فـ”أم الفصل” لا تعرف التعب. كما ينبغي أن تتحلى بالصبر الكافي، وتحب مهمتها، وتشعر بأنها تقوم بعمل مقدس. ومن ثم تقوم أمهات الأولاد بترشيح واحدة منهن يؤمن بمقدرتها على القيام بهذه المهمة أحيانا، وتتولى المعلمة الترشيح لهذه المهمة في أحيان أخرى، ويتم التوافق عليها من قبل باقي الأمهات وإدارة المدرسة ومجلس الأمهات والآباء، فتشرع “أم الفصل” بالقيام بوظيفتها طيلة العام. في العام التالي يتم اختيارها من جديد أو تتولى والدة أخرى هذه المهمة، وهكذا.
المدرسة التي زرناها كانت تتضمن ٤٠ فصلا دراسيا يحتضن كل فصل حوالي ٢٤ تلميذا، بمعنى أنها تتعامل مع ٤٠ “أم فصل” متطوعة.
المحبة روح المدرسة
المدرسة هنا روضة من رياض المحبة. شعرنا بالفخر عندما رأينا مجموعة من التلاميذ يسرعون إلى إحدى أمهات الفصول ويرتمون في أحضانها كأنها أمهم الحقيقية. لمحنا المحبة في الوجوه، لمحنا أم الفصل كيف تحتضن التلاميذ كأنهم أبناؤها.
لاحظنا روح الأخوة التي تسود بين تلك الأمهات كأنهن أخوات، أمهات يعملن فيما بينهن كخلية نحل لتنشئة أبنائهن، ولإنجاح العمل التربوي، كذلك للقيام بدورهن الاجتماعي والإنساني. هناك أسرة كبيرة من الأمهات متماسكة مترابطة خارج المدرسة تشمل المدرسة برعايتها الحنون.
علمنا من مدير المدرسة أن نظام “أمهات الفصول” يعمل بقوة في جميع مدارس الخدمة أينما كانت بنفس الروح ونفس المستوى من العناية، فعلمنا أحد أسرار نجاح مدارس الخدمة حيثما فتحت، وشكرنا من صميم قلوبنا الأستاذ فتح الله كولن، الأستاذ المربي، الذي غرس هذا الغرس المبارك بهذا العمق وذاك الرقي. فالأمة في أمس الحاجة إلى بناء الأجيال على المحبة.
المؤسف أن أردوغان أغلق أكثر من ألف مدرسة من هذه المدارس في تركيا بعد الانقلاب المزعوم في ١٥ يوليو ٢٠١٧، وهو في سعي دؤوب لإغلاقها في بلدان مختلفة من العالم.
فوا أسفاه على الجمال كيف نسترخصه ونقتله دون رحمة.
Leave a Reply