نجتاز -نحن المسلمين- اليوم، أصعبَ أيام شتائنا الحضاري المجدب، فلا زلنا نعاني من صقيع فكري، وخواء روحي، وعُرْي ثقافي فاضح، حتّى غدونا طلاّب أفكار، ومستعيري ثقافات، بعد أن كُنّا -لقُرون عديدة- صُنّاع أفكار، ومنشئي ثقافات، نجود بها على فقراء الفكر حيثما كانوا من هذا العالم الفسيح.
تخدير فكري
وعلى الرغم من صقيع شتائنا الحضاري، غير أنّنا لا زلنا نملك حِسًّا نقديًا يحفّزنا لكي نرفض بشدة ما يُقَدّم إلينا من غطاء فكري ظاهر الدفء، يُرَادُ منه أن يشعرنا بامتلاء فكري كاذب، مِمّا يشيع فينا المزيد من الكسل والاسترخاء والجمود.
وامتلاء فكري كاذب من هذا النوع يَضُرُّ أكثر مما ينفع، لأنه فكر تسكيني وتخديري، يجعلنا نشعر بأنّنا على أحسن ما يرام من الصحة العقلية والروحية بينما تبقى العلل تتآكلنا من الداخل دون أن نفطن إليها، فمن ألعن المفكرين مخادعة هو مَن يهدهدنا بأفكاره لنستغرق في النوم ونوغل في السبات ساكنين مطمئنين، بينما أخطار الأفكار المناوئة تجتاحنا من كل جانب.
فكر الأستاذ كولن يشعل ثورة في الأذهان، ويطيِّر من عيني قارئه النوم، وينهضه لكي يعلم ويعمل، ويبني نفسه، ويقوّم فكره.
فالمفكر الذي نحتاجه في هذه الحقبة البائسة من حياتنا ليس مَن يُربِّتُ على عقولنا لتزداد هجوعًا، بل مَن يقلق نومنا بوخزات قلمه، ويوجعنا بقوارص فكره، ويمسح عن أبصارنا النعاس والكسل، ويلقي على عقولنا نارًا لا ماءً، ويسقي أرواحنا لهبًا لا بردًا، أفكاره عواصف داوية في الرأس، إذا هزّ قلمه أرعدَ وأبرق، وأيقظ النائم، وحرّك الساكن، وأقلق المطمئن، وأنهض الروح الهاجع، وبعث الرواء في الإيمان الذاوي، والحياة في العقل الميت.
فكر موقظ
وأستطيع القول: إنّ أكثر ملامح هذا الفكر الموصوف آنفًا يمكن تلمسها بين ثنايا مؤلفات الشيخ “فتح الله كولن”… فمؤلفاته ليست بالنمطية ولا بالتقليدية، بل هي استثناء فكري متفرد الخصائص، ومن أهم خصائصه أنه ليس بفكر “صالوني استرضائي” يقرأه المترفون في جلسات استرخائية على أرائكهم الوثيرة وهم يحتسون الشاي، بل هو فكر يقلب موازين الأفكار، ويشعل ثورة في الأذهان، ويطيِّر من عيني قارئه النوم، ويحمله على البقاء يقظًا متحفزًا إزاء التيارات الفكرية التي تجتاح العالم، وتنهضه لكي يعلم ويعمل، ويبني نفسه، ويُقَوِّم فكره… وهو فكر محتشم يفرض احترامه على العقول، غير أنه مترع بالمشاعر، مفعم بمحبة الإنسان، يشيع في القلب هزة مؤلمة، ولكنها ملذة في وقت واحد.
وما مِن أحد يُتاحُ له النظر في إرث هذا الرجل الفكري إلاّ ويجد نفسه فجأةً على مشارف أعاصير فكرية يتفطر عنها قلبه، وينشق عنها رأسه… إنه ليس من روّاد الأفكار الرقيقة الناعمة التي يتمخض عنها رحم فكري مؤنث، ولا مِن أصحاب الريح الرخاء التي تأتي بالهدوء والسكينة، بل هو من عشّاق العاصف الفكري الذي يعصف بالعقول الرخوة، والأرواح الهشّة، ليس من أجل الإجهاز عليها، بل من أجل أن تتعلم منه القوة والعزيمة، فتستأنف النهوض، وتواصل المسير.
يرى كولن أن بركة الوحي تنقطع عندما ينقطع المسلمون عن التبليغ عنه، والدعوة إليه.
ثقة بالذات
وهو -أي “فتح الله كولن”- يجعل المسلم يفقد إحساسه بالرهبة وهو يلج هياكل الرواد الأوائل من مفكّري الغرب، الذين بنوا بأفكارهم قوائم حضارة اليوم… فهو -أي المسلم- عنده في دينه من مستلزمات مجاراتهم وربما التفوق عليهم من الطاقات الانبعاثية ما يمنحه قدرة على البناء كما بنوا. وكلّ الذي يحتاجه المسلمون -في رأي “كُولَن”- لكي يبنوا حضارتهم، هو استئناف تصعيدهم الروحي والعقلي حتى يبلغ درجة التوتر الدائم، وأن يوقظوا في أنفسهم صحوة ذهنية تغيب الصحوات كلها وهي لا تغيب، ويبتعثوا هِمَّةً قعساء يلين الحديد وهي لا تلين… وهذه كلها مِمّا تستنهضنا إليها كتابات “فتح الله كولن”.
ويرى “كولن” أنّ الوحي مصدر إلهام المسلمين، غير أنّ بركة الوحي تنقطع عندما ينقطع المسلمون عن التبليغ عنه، والدعوة إليه، و”متى ما ينقطع مصدر الإلهام في التفكير والتفكر، يبدأ التراجع والتقهقر حتى في العلوم المادية التكنولوجية”.
ويمضي فيقول: “وقد غدا قدرًا مقدورًا لا يتبدل للمسلمين المحرومين من بركة الوحي احْتياجهم إلى غيرهم في كلّ الميادين والساحات، حتى غدوا شحاذين سَأَلة على أبواب الآخرين، يرقبون ما في أيديهم… وفي الحقيقة إنّ بداية التقهقر والانحطاط تتزامن مع انهيارنا الداخلي”[1].
[1] انظر: طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي ص:48.
المصدر: الضاربون في الأرض، أديب الدباغ، دار النيل للطباعة والنشر
أفكار مفتاحية
- المفكر الذي نحتاجه ليس مَن يُربِّت على عقولنا لتزداد هجوعًا، بل من يقلق نومنا بوخزات قلمه، ويوجعنا بقوارص فكره.
- مؤلفات الأستاذ كولن ليست بالنمطية ولا بالتقليدية، بل هي استثناء فكري متفرد الخصائص.
- فكر الأستاذ كولن يشعل ثورة في الأذهان، ويطيِّر من عيني قارئه النوم، وينهضه لكي يعلم ويعمل، ويبني نفسه، ويُقَوِّم فكره.
- في رأي كُولَن على المسلمين إذا أرادوا بناء حضارتهم من جديد، أن يستأنفوا تصعيدهم الروحي والعقلي حتى يبلغ درجة التوتر الدائم، وأن يوقظوا في أنفسهم صحوة ذهنية لا تغيب، ويبتعثوا همّة روحية لا تلين.
- يرى كولن أن بركة الوحي تنقطع عندما ينقطع المسلمون عن التبليغ عنه، والدعوة إليه.
Leave a Reply