لقد نظرت في كتاب الأستاذ فتح الله كولن فوجدته دفاقًا بالمعلومات العلمية الهادفة، والتي صاغها بأسلوب أنيق وجذاب، وقد بدت ملامح التميز المنهجي واضحة على الكتاب؛ لم يتكلم الأستاذ فتح الله في السيرة على الطريقة التقليدية المتبعة في العرض والحكي بل اتخذ في ذلك طريقة فريدة، فهو يدخل في نظري في فقه السيرة لكن بطريقة متميزة.
لم يكتب الأستاذ كولن هذا الكتاب على الطريقة الفلسفية التي تتعلق بالأفكار والمعلومات ولا بالطريقة الأدبية الشاعرية التي تجنح للخيال الجامح، ولا بالطريقة العاطفية التي تُلغي العقل وتضيق على دوره في التحليل والتعليل؛ فبعد استيعابه للسيرة النبوية صاغها صياغة فريدة، تستوعب العظات من الأحداث، والعبر من الخبر، بلغة إيمانية قوية، وبنظرة إلى الواقع ومشاكله. فالرجل يؤمن أن الناس في أشد الحاجة إلى السيرة لتقويم سيرتهم في الوجود، ولاستلهام النموذج والقدوة في سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالعصر هو عصر تقديم النماذج، وكل أمة تدفع بما لديها إلى الواقع البشري وتسخر كل الإمكانيات لفرض ذلك.
حقيقة النور الخالد
إن ما سبق محمدا ﷺ هو نوره، وكلمة النور هي التي جعلها الأستاذ فتح الله كولن الكلمة الأولى والمركزية لعنوان كتابه النور الخالد.
لم يتكلم الأستاذ فتح الله في السيرة على الطريقة التقليدية المتبعة في العرض والحكي بل اتخذ في ذلك طريقة فريدة، فهو يدخل في نظري في فقه السيرة لكن بطريقة متميزة.
يصفون هذا النور بأنه كان غرة بين عينيه، مثل غرة الفرس، لما ألقى عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم النور في رحم آمنة لم يمكث إلا أيامًا حتى مات، مات ونور محمد لم ير نور الضياء بعد، هذا النور كانت آمنة بنت وهب تعيشه وتحس به، تقول في رواية أخرجها محمد بن إسحق وغيره: (رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف على ولا أيسر منه)، وهي بشارة أكدها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه على كيفية بدء أمره فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّه وَخَاتَم النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَم لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَته، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنِّي دَعْوَة أَبِي إِبْرَاهِيم، وَبِشَارَة عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَات النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَإِنَّ أُمّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَأَتْ حِين وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُور الشَّأم) أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ وَالْحَاكِم.
هذا النور رأته آمنة بنت وهب وكل من حضر واقعة الولادة، وكل حكاه بطريقته، فقد حكت قابلته المسماة بالشفاء -وهي أم عبد الرحمن بن عوف- قالت: (لما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي واستهل سمعت قائلا يقول: رحمك الله، وأفاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت قصور الروم)، ومثل هذه الحكاية روتها أم عثمان بن أبي العاص، فقد شهدت هي الأخرى ولادة آمنة، يحكي عنها ولدها عثمان أنها رأت أن النجوم تدلت، فأضاءت، فلعل هذا سبب في انتشار النور من حواليهم عند ولادته صلى الله عليه وسلم حتى ما يرون إلا النور، وهذا ما يتفق مع قوله تعالى: (والنجم إذا هوى)، وقوله: (والنجم الثاقب)، على ما حكاه السلمي في معنى من هذه المعاني.
تأكد إذن أن النور هو واقعة صحيحة، يشهد لها أن النور اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم وقع على الحقيقة لا على المجاز، أطلقه ربه عليه ونعته به، يقول تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(النور:35)
محمد ﷺ نور، ونوره من نور الله تعالى، وهو نور بعد نور الله تعالى
محمد ﷺ نور، ونوره من نور الله تعالى، وهو نور بعد نور الله تعالى، وإليه ذهب بعض المفسرين مثل كعب الأحبار وسعيد بن جبير في تفسير الآية، ومنهم من أوَّل هذه الآية تأويلاً يتماشى مع وضعه صلى الله عليه وسلم في الأصلاب، ومن هؤلاء سهل بن عبد الله، فقد بين رحمه الله أن الله تعالى نور أول، و(مثل نوره) هو نور محمد ﷺ لما كان في الأصلاب كالمشكاة، والمصباح قلبه، والزجاجة صدره، فكأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان والحكمة، والشجرة المباركة التي توقد منها هي شجرة إبراهيم u، و(يكاد زيتها) أي تكاد تظهر وتتبين بنبوته ﷺ، ويشهد لهذه الآية وما جاء في معناها آية أخرى وصف فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير، فلم لا ترى آمنة بنت وهب هذا النور وقد تقدم معنا أن عبد الله والده كان يحمله في صلبه فوضعه في رحمها نطفة؟
Leave a Reply