عرفنا أنّ الأستاذ كولن انحدر من أسرة متديّنة، فقد كان جدّه شامل آغَا مثالاً للتديّن والمحافظة، وكان أبوه رامِز أفَندي إمامًا لعدّة مساجد، وكانت أمّه مثالاً للصلاح وعمل الخير، وهذا انعكس على تربيتهما لأبنائهما. وهذا واضح حتى في الأسماء، رغم تشديد العلمانية على معاداة الأسماء الإسلامية والعربية، وقد كان لفتْح الله عدد كبير من الإخوة والأخوات هم على الترتيب كالتالي: نور الحياة، فضيلة، “فتْح الله”، صبغة الله، المسيح، فقير الله، حسبي، صالح، ثم فضيلة -الأخرى بعد موت الأولى-، نظام الدين، قطب الدين.
تنشئة صالحة
كان كولن شديد التديّن وهو صغير، واتّسم بالورَع منذ نعومة أظفاره، وحمل بين جوانحه حبًّا جامحًا للرسول صلى الله عليه وسلام ولهذا الدين، وظل شديد الشعور بالمسؤولية عن هذا الدين، وتنقّل في مرحلة الإعداد لذاته بين كل مَن يعرف أو يسمع عنهم لطلب علوم الشريعة وعلوم اللّغتين العربية والفارسية، إضافة إلى التركية.
أحسن كولن استمطار سحب القرآن من خلال التدبّر الواعي، والتنْزيل الجديد للقرآن على مشاكل الأمّة والتحدّيات التي تواجهها.
ومن خلال هذه اللغات أحاط بعلوم الإسلام، مفرقًا بين الثوابت والمتغيّرات، الثوابت التي عضَّ عليها بالنواجذ، محافظًا على أصالتها؛ والمتغيرات التي سعى لتطويرها وتجديدها من خلال رؤاه الخاصة التي كانت ثمرة لاستيعاب مقاصد الإسلام والانفتاح على حضارة الغرب وثقافته بما فيها من علوم ورؤى وأفكار وإنجازات، ومثالب ونواقص، ولهذا امتلك غربالاً ميَّز بواسطته بين الحسَن والقبيح، وبين الغثّ والثمين.
تدبر وتنزيل
وقد أحسن كولن استمطار سحب القرآن من خلال التدبّر الواعي، والتنْزيل الجديد للقرآن على مشاكل الأمّة والتحدّيات التي تواجهها، فأحسن معرفة الداء، وتوصل إلى وصفات عميقة في معالجة هذا الداء (التخلّف الحضاري) وما نجم عنه من علل وآفات.
وعلى سبيل المثال في قراءته لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(الْمَائِدَة:54)، تحدّث عن ﴿قَوْم﴾ التي وردت نكرة، ليشير إلى أنّهم غير معروفين عند الصحابة آنذاك، ولذلك عندما عجز الأمويّون عن حمل الأمانة، حملها العبّاسيّون، وعندما عجزوا حَمَلَهَا السلاجقة، ثم العثمانيون.. وركز على صفاتهم، بحيث يبدو لمن عرف تيّار الخدمة الذي يقوده أنّه يُعدّه ليكون القائم بحمل الأمانة بحيث يكون أفراده أهلاً لمن سيأتي الله بهم ويستبدل بهم غيرهم، ولاسيما ما يرتبط بالحب لله والذلّة على المؤمنين، والجهاد في سبيله، مع مراعاة أنّ معنى الجهاد أوسع بكثير من معنى القتال. ولأنّ حركته إسلامية، فقد حدّد أهدافها بـ”إعلاء كلمة الله، والخدمة، والتضْحية في سبيل الآخرين، ونذْر النفس للحقّ تعالى وللخلْق”. وهي أهداف دينية واجتماعية. يقول فتح الله كولن: “إن أساس حياتنا المعنوية قائمة على الفكر الديني والتصوّرات الدينية. ولقد حافظْنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتنا أيضًا منطلقة منه، فإن جرّدْنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلّفين ألف سنة إلى الوراء.”.
تلال زمردية
الإسلام عند كولن ليس شعارًا يرفع، أو عنوانًا يجذب الجماهير، بل هو إيمان قلبي، يثمر أعمالاً صالحة.
ولهذا تميّز كولن بشدّة الإخلاص والتقوى والورَع، وحثّ تلاميذه ممن يريدون أن يكونوا ورَثة الأرض على تَخْلية قلوبهم من كلّ ما سِوى الله، وتعهُّد هذه القلوب بالرّعاية، وتزكيتها من الشوائب بدوام المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، وركّز على هذه القضية في كل كتبه تقريبًا، لكنّه أفرد لها كتابه الرائع في مبناه ومعناه، وتتضح روعته حتى من العنوان، وهو “التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح”.
ويعرِّف الإخلاص بأنه: “صفاء القلب، واستقامة الفكر، والبعد عن الأغراض الدنيوية في العلاقة مع الله، وإيفاء العبودية حقّها..”، وينقل عن أستاذه النورسي ما يؤكّد القيمة الكبيرة للإخلاص: “لأن ذرّة من عمَل خالص أفضل عند الله من أطْنان من الأعمال المشوبة”.
ويؤكّد كولن أن “الإخلاص أصدق وثيقة اعتماد يمنحها الله القلوب الطاهرة، فهي وثيقة سحرية تجعل القليل كثيرًا والضحل عميقًا والعبادات والطاعات المحدودة غير محدودة. حتى يستطيع الإنسان بواسطتها طلب أغلى ما في سوق الدنيا والآخرة. ويتمكّن بفضلها أن يقابَل بالاحترام والتوقير رغم كثرة الطالبين”. ورأى أن أهل الكهف حصلوا بالنّية الصالحة على أجور عبادة ثلاثمائة وتسع سنوات.
والإسلام عنده ليس شعارًا يرفع، أو دعوى تدعى، أو عنوانًا يجذب الجماهير، بل هو إيمان قلبي، يثمر أعمالاً صالحة، بحيث يرتقي صاحب الخدمة من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان.