في رحاب حراء
التجول في أروقة مكتبة الـ”الأكاديمية” للبحوث والعلوم والانترنت، يوحي براحة امتداد فكري عميق.. من أرجائها انطلقنا نحو ممر طويل، ليوصلنا إلى مجلّة حراء… باحث مغربي يجلس فوق كرسي بباب المكتب، ملامحه مغربية، ترددت في سؤاله، سبقني بالوقوف وإلقاء التحية:
حراء تسعى لبناء جسور التواصل الثقافي والفكري والحضاري بين الشعوب، تعزيزا للعلاقات التركية العربية.
– أهلا أهلا أستاذة مريم..
سألته:
– هل تعرفني؟
قال:
– طبعا أعرفك، حضرتُ لك ندوة، سنة 2010 تحت عنوان “الإسلام من هنا وهناك”، كنتِ تتحدثين عن مستقبل الجيل الجديد في البناء الحضاري.
أجبته:
– صحيح، كان هذا في الرباط، حيث اجتمعنا مع نخبة مفكرين من حول العالم.. وماذا عنك، ماذا تفعل هنا في مكتب مجلة حراء بإسطنبول؟
سعيد الباحث المغربي:
– جئت لتعلّم اللغة التركية، وهي تقدم هنا مجّانا لمدة سنة كاملة.
أعقب:
– معنى هذا أنك تريد إتمام دراستك بتركيا؟
سعيد:
– صحيح أستاذة مريم، أنا طالب باحث، أكمل الدكتوراه.. وموضوع بحثي “العلاقات التركية المغربية”.. جئت قاصدا تركيا، بحثا عن المراجع والوثائق التاريخية.
ودّعته وأنا أدعو له بالتوفيق والسداد.. فهذا المشروع العلمي نحتاجه حقيقة في استشراف أبعاد هذه العلاقة المستقبلية.
تابعت سيري نحو مكتب مجلة حراء التركية العربية. الأستاذ زياد -وبابتهاج الأطفال ليلة العيد- يجوب بنا أرجاء حراء، بيت العرب المعرفي والعرفاني.
حراء جسر ممتدّ لمحاورة بين أسرار النفس البشرية، وآفاق الكون الشاسعة.
“حراء” الصادرة عن مجموعة “قَايْنَاق” للنشر،.. بالصدفة وفي زاوية من قسم مطبعة حراء وقفت أمام مهندس البرامج، وهو يرتب ويصنف محور العدد الذي شاركت به تحت عنوان “سؤال العلاقة مع الآخر”. فالرجل لا يعرف العربية، ولا يعرف مَن أكون، لكن شاءت الأقدار أن أزوره في مكتبه وهو يصمم لوضع صورة معبرة تتناسق مع محور بحثي.. فرشح المفتاح، كرمز لإكسير حياة المجددين.. وضع المصمم الفني صورة لمفتاح في راحة يد، وكأن حدسه أخبره بأنني سأحصل بعد حين من الزمن على مفتاح صندوق وقلم فتح الله بفضل من الله ونصر.
حان موعد صلاة العصر، فاستأذنت في السماح لي بالصلاة.. كان نصيبي وافرا من حظ إقامة الصلاة في حراء، اسم موضع نزول الوحي. حراء جبل النور، وحق له أن يسمى كذلك. فالجبل نور، واتصال وحي السماء بالأرض نور، وخير خلق الله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام نور، والتفكر في ملكوت الله بحثا عن الحق نور، وأول آيات الفرقان نور حقّ وبيان للناس… على هذا الجبل كانت لحظة من أجلّ وأعظم لحظات التاريخ، إن لم تكن أجلها وأعظمها على الإطلاق… لحظة نزول الوحى لأول مرة بفرض العلم والتعلم، بأمر القراءة ﴿اقْرَأْ﴾.
حراء المجلة العربية الأولى في تركيا.. حراء التي أبت إلا أن تحل ضيفة كريمة بغنى هداياها العرفانية والأدبية والعلمية على كل بيت عربي من طنجة إلى القاهرة فعمان فالسودان فسوريا فلبنان فالجزائر فالخليج، إلى كافة أرجاء العالم العربي.. حراء تسعى -جادة- لبناء جسور التواصل والتلاقح الثقافي والفكري والحضاري بين الشعوب، تعزيزا للعلاقات التركية العربية.. حراء قَيْنَاق تهذيب الأرواح، نسج خيوط نور رسائل المحبة النورانية تحت ظلال الأحاسيس.. حراء فتح الله لإقليم النور العربي بلسان عربي، حوصر منذ عام 1924 ليتسع بإعلامه العلمي والإنساني في أرجاء واسعة من جزر التصورات.. حراء كما قال عنها مدير هندسة أفكارها “هي جسر ممتدّ لمحاورة بين أسرار النفس البشرية، وآفاق الكون الشاسعة”.. حراء جسر تركيا العربية، الممتد نحو آفاق رفع راية الإسلام، بكلمة الشهادة العربية: فالتركي والإندونيسي والهندي والأمازيغي والأعجمي حين يردّدها إعلانا عن توحيده بلغة القرآن، يردد “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله”.. والمآذن من حول العالم حين تعلن نداء الرحمن، لا تعلنه بلهجات أقوامها، وإنما ترفع تكبيرة الأذان باللغة العربية: “الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله”.
محراب اعتكاف العالم الناسك، المسبّح بحمد ربه، المتدبّر في ملكوته..
نعم إنها حراء… محراب اعتكاف العالم الناسك، المسبّح بحمد ربه، المتدبّر في ملكوته.. محراب قُدّر لي من أقصى شمال المغرب أن ألبّي فيه نداء الأذان التركي “حي على الصلاة، حي على الفلاح”، لأصلي فيه صلاة العصر.. فاستقر في محراب دعائي بلوغ اليقين في سجل دفتر عزم أبناء الخدمة…
ملحوظة: لقد كانت رحلة الكاتبة إلى تركيا في ديسمبر عام ٢٠١٢، وهي سجلت ما رأته في تلك الأيام. ولكن ببالغ الأسف والحزن تم إغلاق مركز البحوث الأكاديمية ومجلة حراء ودور النشر ومؤسسات كايناك التي تحدثت عنها الكاتبة إضافة إلى ألف مدرسة من مدارس الخدمة بعد الانقلاب المزعوم في ١٥ يوليو ٢٠١٧ بقرار تعسفي من حكومة حزب العدالة والتنمية التركي دون تقديم أي مبرر قانوني. (المحرر)
المصدر: من كتاب “نداء الروح”
Leave a Reply