1– وظيفة التراث في مشروع فتح الله كولن
يمكن تلخيص أزمة الشرق في دخوله في وقت ما في نوم عميق وإهماله توظيف ملكة العقل واستعمالها في فهم الطبيعة واكتشاف أسرار الكون والوجود من أجل تسخيرها بما يعود بالفائدة على الإنسان في كل مكان.
قد يكون السبب هو أن الذات لم تكن في حاجة إلى ذلك بالنظر إلى طبيعة الحياة البسيطة، وبالنظر إلى عدم وجود ما يضايقها في وجودها وفي رزقها وفي أرضها، فكانت تنام ملء جفونها راضية بمصيرها. وفي الوقت الذي كان الشرق يوظف الحد الأدنى من قدراته الفكرية والثقافية والعقلية والدينية أو لا يوظفها بالمرة. كان الغرب يعمل ليلا ونهارا على استجلاء أسرار الكون وتفسيره وفك ألغازه بغضّ النظر عن طبيعة الخلفية الفكرية، ويعمل كذلك على توظيفها التوظيف المناسب؛ علما بأن هذا الغرب نفسه عندما أعاد النظر في منظومته الوجودية أعادها على أساس ما حققه العقل الإسلامي عبر تاريخه. وقد ظل الشرق العربي في سباته ينتظر الحملة الفرنسية لكي يدرك موقعه في سلّم الحضارة والتقدم.
وتفرز هذه الملاحظة سؤالا مهما هو “ما العوامل التي أنتجت عصر الأنوار وأنتجت النهضة الأوروبية التي بهرت العقل الشرقي إلى درجة الهوس، فحركت فيه ملكة الحلم باسترجاع الماضي بازدهاره الحضاري والمعرفي والعمراني، تجاوزا للراهن المتدهور؟”. إذ كما حلم البعض بالبعث آمن البعض الآخر بضرورة القطيعة مع الماضي وكل ما يمثله وخاصة الدين، وبناء الحاضر على ما بنت به الأمم المتقدمة في الوقت الراهن حاضرها. لقد جزَّأت هذه المواقف الذات الشرقية إلى نخب متصارعة حول المنهج المناسب لتناول قضية الانبعاث.
“الآخر” بصفة عامة لم يكن مطروحا بالمستوى نفسه في كل مناطق العالم الإسلامي، فالإشكالات التي أثيرت في تركيا العثمانية التي تعرفت على التقدم العلمي لأوربا ردحا من الزمن قبل العالم العربي، لم تواز الإشكالات التي طرحت في العالم العربي. لأن التعرف على التقدم العلمي الأوربي مبكرا لم يشفع للدولة العثمانية، ففككت أطرافها ودخل المجتمع في البلبلة الداخلية سياسيا واجتماعيا، انتهت بسقوط الخلافة وانقطاع خيوط الاتصال بين أطراف ما كان يشكل كلا متجانسا، لتتحدد الإشكالية الكبرى في كون مصدر الأزمة هو الإنسان وليس جلب التقنية الحديثة، ولا الانفتاح على ثقافة الغرب وفلسفته. وبالمقابل فإن مصر والشام -على سبيل المثال- قد عاشتا هذه الصدمة بأسلوب مختلف بعد الحملة الفرنسية على وجه الخصوص.
كانت رؤية المثقف العربي المسيحي مختلفة كل الاختلاف عن رؤية المثقف المسلم، محافظا كان أم معتدلا أم علمانيا؛ إذ لكل مثقف رؤيته الخاصة التي تناهض أو تعادي الغرب أو تقبل عليه.
لقد انخرط المثقف المسيحي في الدعوة إلى ضرورة تبني جميع قيم الغرب، بل إن المثقف العربي المسيحي والعربي المسيحي عموما كان يعتبر نفسه أقلّية عربية، وكانت الهجرة إلى أوربا نوعا من العودة إلى الأصل، ومتنفسا مهما بالنسبة له. ولذلك فإن أول من أثار قضية الإصلاح وأسئلة النهضة في العالم العربي بعيدا عن الدين هم المسيحيون، بالنظر إلى كونهم أول من اتصل بثقافة الغرب دون أحكام مسبقة أو عقدة فقدان الهوية. كان المسيحيون العرب هم أول من أدخل بعض مستلزمات النهضة كالطباعة، وهم أول من احترف الصحافة والنشر، وبادر إلى تأسيس نظام تعليمي مسيحي على أسس حديثة تراعي خصوصيات العصر.
العقل الإصلاحي ينشط في ظل الأزمة، بل إن تاريخ الفكر الإنساني منذ القديم وإلى الآن تاريخ بحث عن الأجوبة الوجودية لأزمات الإنسان وواقعه. وتاريخ الفكر الإنساني هو كذلك تبادل للتأثير من جهة كون الفكر الإنساني ملكا للإنسانية كلها يحق للإنسانية أفرادا وجماعات الاستفادة منه وتبني كل أو بعض معطياته.
رغبة التغيير والإصلاح كانت وما تزال إحساسا يسكن كل مكونات المجتمعات، كما أشرنا سابقا، لكن الإشكال يكمن في المنهج والكيف. ولهذا فإن لكل فترة دعوتها الخاصة للإصلاح، ولكل مجتمع أسلوبه في بلورة أجوبته على أسئلة الواقع، ورؤيته الخاصة لهذا الإصلاح، بل إن طبيعة الأجوبة مرآة تنعكس عليها مختلف التيارات والخلفيات والأفكار والمذاهب التي تصب في النهاية في خانة البحث عن أجوبة لأسئلة الواقع الوجودية.
وأما موقف الأستاذ فتح الله فهو موقف وسط بين الأخذ من التراث وبين المحافظة على روح العصر. فهو يعتبر القديم أساسا متينا، لكن مع ضرورة تطويره بمعطيات الجديد. فالأصل ألا يتم اعتبار العصر والماضي حقبتين أو مرحلتين منفصلتين متنافرتين، إذ يقول: “ونلفت نظرنا إلى خطإ وقعْنا فيه كأمّة دائما، وهو أننا بدلا من جعل القديم أساسا متينا ليقام عليه الجديد، وتطوير القديم بمعطيات الجديد، فصلْناهما في أكثر الأحوال إلى شريحتين ربطناهما بحقيقتين منفصلتين؛ فأحيانا استعدينا بعضهما على بعض، وأحيانا أخرى عارضنا بينهما، فأدينا إلى حصول معضلات في الأسس؛ فإما قلنا: “الجديد يُشَمّ عطرُه ثم يُرمَى في النفايات، والقديم يفوح كالمسك والعنبر كلما رججته يتضوع”، فأفرطنا في “واردات” حقبة من الزمان.. أو قلنا: “نفع في مكتسبات عتيقة لزمان ولى، الخير في العالم الزاهي للجديد”، وأهملنا تماما ذلك الجانب للزمان فأغفلنا مفهوم “الزمان الذاتي”، وتغافلنا عن البعد العالمي الكوني”.
وهذه الإشارة في حد ذاتها هي التي تحمل روح الدعوة إلى ضرورة التجديد، بل يذهب إلى حد لزومية إعداد بيئة طيبة لزمان ثقافي جديد، يستطيع تطوير حياتنا الفكرية، بتفسير ثقافتنا تفسيرا معمقا، وتقويمها التقويم الذي تستحقه، لكن مع ضروة النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل باعتباره بوتقة واحدة لا يمكن فصل أجزائها بعضها عن بعض. ولا ينبغي في هذا الإطار أن نفدي قيم الماضي والحاضر والمستقبل بعضها ببعض، وبعبارة أخرى يتوجب عدم جعلها تناقض بعضها بعضًا أو يعادي بعضها بعضا. وتعليل ذلك هو “أن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبل أو بعد، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. وأرى من الأنسب أن نسميه بـ”فوق الزمان””.
فثقافتنا التي هي عنصر داخل في أصل طبعنا، والذي امتزج مع الروح، ينبغي النظر إليه نظرة متعالية بعيدا عن مقاييس الزمن التي تقتضي وجود بداية ووجود نهاية. ولكي تستطيع هذه الذات التفاعل الأنسب والملائم مع هذه عناصر الثقافية ينبغي أن تكون مستقلة بذاتها، بل إن ديمومتها بذاتها منوطة كذلك باستقلالها.
2– القيم أساس متين
انطلاقا مما تقدم نطرح السؤال الآتي: ماذا تعني الثقافة عند الأستاذ هل هي روح الإسلام، وإذا كانت كذلك فهل الموروث القادم من مراحل ما قبل الإسلام يدخل في الثقافة ويعتبر جزءا منه؟
أعتقد بأن الاستاذ فتح الله يعتبر أن كل ما دخله روحُ الإسلام فاصطبغ بصبغته صار من الثقافة. وتجد هذه الرؤية داعمها الفكري في أن الله تبارك وتعالى عندما بعث رسوله محمد بالإسلام إلى أهل الجزيرة بداية لم يلغ ما كان متداولا بين العرب آنئذ من مكارم الأخلاق وسامي القيم، فهذه لا شك أنها كانت قيما إنسانية متوارثة جيلا بعد جيل، وحقبة زمنية بعد حقبة. وليس من المستبعد أن يكون أصلها هو الدين والتوحيد، بل إن التوحيد هو الذي أصلها في جينات الإنسان وبقيت تنتقل عبر الأجيال إلى اليوم، في وقت تغافل فيه الناس عن الدين وبقيت قيمه ومكارمه موجودة في صلب جيناته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هنا فإن هذه الأشياء تسمى “ثقافة”، والإسلام عندما جاء لم يلغها ولم يحاربها بل احتضنها لأنها في الأصل جزء من الدين، والدين واحد كما هو معروف. فهل نقول إنها تحتضن الإسلام، أم إن الدين يحتضنها؟ والجواب إنها جزء من الدين بل إن الدين هو طاقتها المحركة، ولذلك كان العرف -كما يؤكد الأستاذ فتح الله كولن ذلك- من مصادر الأمة الأساسية المعتمدة في التشريع، وسيأتي بيان ذلك لاحقا.
3– أبعاد الثقافة الإجرائية عند الأستاذ فتح الله كولن
ما عناصر الثقافة وما مقوماتها عند فتح الله كولن؟ وبعبارة أخرى ما مفهومه للثقافة؟
أشرنا في مكانين سابقين من هذا المبحث إلى منظور الأستاذ للثقافة. وبإضافة تعريف آخر تكون الصورة العامة لمفهوم الثقافة عنده قد اكتملت. يقول محددا عناصرها: “مجموع نظمٍ وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أنتجتها أمة أثناء تاريخها الطويل، وجعلتها بمرور الزمان بعدا من أبعاد وجودها أو حوَّلتْها إلى مكتسبات في اللاشعور.. ومع أن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذا التعريف يحمل سمات عالمية، لكن الواضح أن لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة، ثقافة سائدة خاصة. وبدهي أن هذه الخصوصية الثقافية عنصر مؤثر قوي في النُّظُم الفكرية. ولذلك، يعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعينة”.
ويضيف مستخلصا: “الحاصل أن “الثقافة” هي مجموع المفاهيم والقواعد والانسياقات التي تَعلّمها الإنسان وآمن بها وطبّقها في حياته فصارت -بعناصرها الأصلية والتبعية- بعدا من طبعه، حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور… فهي ظاهرة أبيستمولوجية يُدْرَك ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرها بين الحين والآخر، حتى في غياب الشعور والإرادة”.
ويمكن تفكيك العناصر التعريفية والحدية للمفهوم إلى المكونات الآتية:
- “مجموع نظمٍ وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعيةَ والأخلاقية“. فالثقافة من خلال منظور الأستاذ فتح الله، هي تلك الضوابط الأخلاقية والقيم التي تتحكم في سلوك الإنسان الأخلاقية والاجتماعية، وهذه الضوابط والقواعد هي التي توجه تصرف الإنسان في إطار بعده الفردي اللازم لتأسس البعد الجماعي اللازم بدوره لتأسيس البعد الاجتماعي. إذا تمكنت الأبعاد الجماعية من أن تتمثل مجموع هذه القيم وقواعدها المتحكمة صارت نوعا من أنواع “الوعي الجمعي” الذي تنتهي عنده كل التصورات والرؤى الفردية لتمتزج في بوتقة واحدة منسجمة مع هذه الضوابط والقيم والأفكار التأسيسية، أو الأفكار المنطلقية. لا شك في أن هناك مرحلة من التاريخ استطاعت فيه القيم وضوابطها أن تتجذر في عمق اللاوعي الجمعي وأصبحت تمارس حضورها اللاإرادي على كل فرد من أفراد المجتمع، ومن خلال الفرد على المجتمع كله.
- “أنتجتها وأصَّلتها أمة أثناء تاريخها الطويل“، لأن القيم وضوابطها ليست واردة على الأمة، بل هي جزء من أصول الأمة ومن تاريخها، بمعنى أن الأمة عندما ولدت واستحقت هذا الوصف كان ذلك بتأثير هذه القيم والضوابط نفسها. لقد ولدت الأمة بها وانصهرت في بوتقة هذه القيم وضوابطها. فهذه القيم والمقومات الثقافية هي النتيجة المعنوية الأصيلة، التي رسخت في أعماق الإنسان باعتباره جزءا من كل هو الأمة. وبعبارة أخرى لقد انصهرت هذه القيم في معمل التاريخ فاكتسبت صلابتها وقوتها. فهي ليست عناصر ناتجة عن العجلة والتسرع، فقد نمت نموها الطبيعي في حضانة التاريخ، وارتوت بما يقدمه لها التوحيد والعقيدة والفكر الديني من عناصر التغذية اللازمة، دون أن تكون عالة على مصدر آخر يغذيها، ثم يزرع فيها جيناته الفاسدة، وبكلام آخر إنها نتاج المحاضن الصافية النقية السليمة
- “جَعَلتها بمرور الزمان بُعدا من أبعاد وجودها” أي أنها اختمرت في معمل الزمن الذي أكسبها عتاقتها وأكسبها في الوقت نفسه قوة الرسوخ حتى صارت بمرور الزمن عنصرا تكتسب منه الأمة سر وجودها، فهي باعتبارها أمة لا تعتبر كذلك إلا بهذا العنصر وهذا المكون.
- “حوَّلتْها إلى مكتسبات في اللاشعور” فعتاقة هذه العناصر جعلتها تتسرب بمرور الزمن كذلك إلى لاشعور الإنسان فأصبحت تمارس تأثيرها على نمط التفكير وطبيعة الرؤية للعالم والكون والإنسان، فصار الإنسان الذي ولد في ظلها وترعرع، يتأمل وينظر ويحاكم من خلالها ذاته ومحيطه دون شعور منه. ولذلك فإن من يحاول تجاهلها في النظر إلى ذاته ومحيطه والكون كله، بطلب منظومة هجينة غريبة عن ذاته، ينتهي إلى الفشل والتيه المؤدّيين إلى الموت، لأنها تعاكس الهاتف الداخلي الفطري الذي يمنحها التوازن ويجهزها بالطاقة المعنوية اللازمة للحركية والفعل.
- “إن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذه الرؤية يحمل سمات عالمية“، لأن هذه العناصر والخصوصيات ذات طبيعة مشتركة مع كل البشر من جهة أن الإنسان في كل مكان يجد نفسه تحت تأثير هذه العناصر الثقافية التي اكتسبت بمرور الزمن سلطة معينة، فهي تمارس هذه السلطة على الإنسان الذي ظهر في كنفها وتكون في أحضانها.
- “لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة ثقافة سائدة خاصة“. من هنا تنبع الخصوصية الثقافية التي تميز فئة اجتماعية عن أخرى وتميز مجتمعا عن آخر.. فما كان أساس ثقافته “التوحيد” لا يمكن أن يكون مثل ما كان أساس ثقافته “الطبيعة” وقوى مادية أخرى. فنمط التفكير في كل جغرافية مجتمعية محكوم بهذا الأساس الثقافي الكامن في اللاشعور الفردي والجماعي.
- “الخصوصية الثقافية عنصر تأثير قوي في النُّظُم الفكرية“، ولذلك فإن هذه الخصوصية تعتبر موجها لنمط التفكير، بل هي صاحبة السلطة في ذلك.. فالإنسان المنتمي إلى جغرافية ثقافية معينة (بالمعنى المعنوي لا بالمعنى الفزيائي) محكوم بخصوصية هذه الثقافية التي توجهه وتمارس عليه تأثيرها. ولذلك فهو عندما يتنكر لها ويدعي الانتماء إلى ثقافة أخرى أو يحاول مجاراتها فإن النتيجة ستكون نموذجا بشريا هجينا ليس بإمكانه تقديم شيء لنفسه ولا لغيره، بمعنى أنه لا يساوي شيئا في دائرة منظومة ثقافية غريبة عنه.
- “يعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعينة“، بمعنى أن هذا الفرد كلما كان مرتبطا بثقافته كلما كان أصيلا في رؤيته وفي نظرته للوجود ولكل ما يحيط به. وكلما كان تفاعله مع محيطه إيجابيا، كلما وجد في عمقه داعما فكريا وروحيا منبثقا من ثقافته هته، مما يجعله يلغي كل المظاهر السلبية من حياته وينظر للمستقبل بروح متفائلة واثقة في ذاتها.
- “الحاصل أن “الثقافة” هي مجموع المفاهيم والقواعد والأنساق، التي حصلها الإنسان وتعلمها“ خلال رحلة طويلة استمرت أجيالا كثيرة، واختمرت حتى العتاقة في معمل التاريخ الواسع.
- “آمن بها” بمعنى أنها صارت جزءا من معتقد الذات تؤمن بأنه هو المصدر الذي ترجع إليه في كل شؤونها وتحتكم إليه في كل ما يعنّ لها.
- “وطبقها في حياته” فهي ليست مجرد أنساق صورية، بل هي في الأصل أنساق عملية جرى تطبيقها أزمنة بعد أزمنة حتى صارت جزءا من سلوك الذات تفرض نفسها على السلوك. بعبارة أخرى لقد صارت سلوكا وتصرفات ذات سلطة ثابتة.
- “صارت –بعناصرها الأصلية والتبعية– بُعدا من طبعه“، بمعنى أنها طبعت الذات بطابعها الخاص، فأكسبت الذات طابعا محددا هو في الأخير طابع الثقافة الذاتية.
- “حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور“، بمعنى أنها هي المعين الذي ترجع إليه الذات في كل وقت وحين لكي تفسر كل ما يحيط بها، والتي تحل كل ما يعنّ لها في حياتها من مشكلات وأحداث، فهي المعين الذي يصنع توازن الذات الوجودي.
- “وهي ظاهرة أبستمولوجية” أي أنها ظاهر معرفية، بما تختزنه من قابلية للخضوع للبحث والتحليل، في أفق وضع خطاطة مختزلة عن منهج اشتغالها، لأنها تشتغل وفق أنساق محددة اكتسبت نسقيتها في مصنع التاريخ.
- “يُدْرَك ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرها بين الحين والآخر حتى في غياب الشعور والإرادة“، إذ لولا قابليتها لأن تكون مدركة وأن تكون مؤثرة لما كانت ظاهرة معرفية تمارس تأثيرها باستمرار بوعي الذات أو بدون وعي منها: بل هي تمارس تأثيرها حتى في غياب الشعور والإرادة، ولذلك فهي صاحبة سلطة تمارس سلطتها على مختلف مكونات المجتمع أفرادا وجماعات.
وبناء على ما تقدم فإن مفهوم الثقافة الذاتية التي عمل الأستاذ فتح على صياغة عناصرها وبلورة مكوناتها، تقوم على جملة مكونات ومجموعة مفاهيم هي: الثقافة عبارة عن مجوعة من المفاهيم المختلفة وسبل التفكير المتنوعة، وأوجه الرؤية المتعددة، “والتصورات” الفنية والقيم الأخلاقية المرتبطة كل منها بتفسير مختلف. فهي تحويل لكل فعاليات الإنسان، في كافة المجالات المعرفية والسلوكية والرؤيوية، وغيرها إلى فاعلية إيجابية.
انطلاقا مما تقدم يمكن القول إن منظور الأستاذ فتح الله للثقافة ينحصر في تلك العناصر التي تصنع أمة من الأمم، أو بالأحرى إنها تلك المقومات التي لا تستطيع الأمة بدونها أن تكون حاضرة وموجودة على مسرح الحضور الحضاري العالمي، لأن هذه العناصر هي التي تقدم للأمة الدعم المعنوي والروحي والفكري لكي تقول كلمتها. فهذه العناصر مجتمعة واجبة الحضور في جميع المناحي الفكرية والعلمية والحضارية والتربوية وحتى في التقاليد والعادات، إنها هي التي تصنع كيان الإنسان.
4– ميلاد الهوية في ظل الإسلام
إن الأستاذ فتح الله وهو يحلل هذه المقومات يريد التنبيه إلى تلك العناصر التي استطاعت الأمة بواسطتها أن تولد بعد أن كانت مجرد مجموعة بشرية لا تأثير لها في محيطها ولا وجود لها على مسرح التاريخ، وبعد أن كانت على هامشه. لكن العوامل الطارئة في واقعها قد حولتها إلى حقيقة وجودية، بل إن هذه الحقيقة الوجودية نفسها قد تكونت نتيجة هذه العناصر الطارئة في حياتها، لقد تحولت إلى شيء بعد أن كانت لا شيء.
هذا العنصر الطارئ في حياة هذه المجموعة البشرية هو “الإسلام” الذي تتوفر روحه على قدرة تحويل الإنسان وتغيير مسار تاريخه في كل وقت وحين، بل إن التاريخ نفسه يتغير مساره بفعل ذلك التحول الذي يُلحِقه الإسلام بالإنسان.
يتحدث الأستاذ بروح جماعية من خلال إلحاحه على “نون الجماعة”، فهو يركز على الذات الجمعية المتفرقة في كل مكان من هذا العالم، لكن هذه الذات الجماعية تلتقي عند مرتكز الثقافة. فـ”نحن” هذه ليست مرتبطة بحيز زماني ولا بحيز مكاني محدد، بل هي تعم الماضي والحاضر والمستقبل، وتعم كل مكان.. ولذلك كانت عناصر هذه الثقافة كما سبقت الإشارة إلى ذلك خارج حيز الزمن والمكان معا، إنها فوق الزمان كما يقول الأستاذ.
إن المعتقدات والمكتسبات التي تتشكل منها هذه الثقافة وتنبني عليها هي عناصر مندرجة في الروح وغافية في اللاشعور، “تُحفِّزها المقومات الداخليةُ للعقل بين فينة وأخرى، بواسطة دوافعَ وأسباب مؤثرة في هذه المكتسبات، فتنشطها وتُفعِّلها وتنشئها فتصوِّرها في أشكال؛ فأحيانًا في ذات شكلها القديم وأحيانًا في تَماثُلٍ قريب من شكلها القديم، ولكن ربما بلون باهت. غير أن هذه المكتسبات مهما كانت مندرجة في طبع الإنسان فلا تَظهر في الحاضر مجدَّدًا بعين الذات القديمة، لأن كل يوم جديد هو عالم خاص بذاته، وإذ يطلع يطلع بخصوصياته، وإذ يغيب يغيب بخصوصياته.. لذلك لا نريد أن نكرر مكتسباتنا القابعة في اللاشعور كشيء قديم تمامًا، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف. بل القول الأصوب أن نعيش تلك المكتسبات بزيادة ألوانٍ وأعماقٍ طرية، صحيحةَ النسب، ومستمدةً من الأصل”.
يتأمل الأستاذ فتح الله في الثقافة من زاوية الثابت والمتحول. فالثابت هو تلك الأصول التي تنير الطريق وتوجه الرؤى وتضبط الأفكار. وأما المتحول فهو ما يستطيع الإنسان أفرادا وجماعات تقديمه لذاته ولجماعته وللعالم كله انطلاقا من تفاعله الإيجابي مع مرتكزات ميراثه الثقافي، وانطلاقا من خصوصية الفترة التاريخية التي تنتمي إليها الذات المتفاعلة.
ما يريد الأستاذ التنبيه إليه هو أن لكل جيل ولكل عصر خصوصيته وهي خصوصية تسمح للجميع بأن يثبت ذاته وأن يبني شخصيته وأن يكون بسلوكه وفاعليته إضافة نوعية إلى مسيرة الحضارة والعمران، بل الأكثر من ذلك هو ملتزم بأن يضيف إلى المكتسبات الكامنة في أعماقه. بعبارة أخرى عليه بعث هذه الخصوصيات، وطبع حياته من خلالها بطابعه الخاص الذي تتجلى فيه شخصته في الزمان والمكان.
ماذا نستفيد من هذا التصور؟ نستفيد منه أن فتح الله حريص على أن يقوم أهل كل عصر ببناء حاضرهم وألا يقفوا على أبواب الماضي مادحين. وهو عندما يثير هذه القضية يطرحها بمنطق المجيب عن سؤال العصر المتعلق بعلاقة الذات بالقديم وبأصولها، كيف ينبغي النظر إلى القديم وكيف ينبغي التفاعل معه؟ يرى فتح الله بأننا ملزمون بإعادة إحياء البيئة الطيبة التي صنعت حضارة تعتبر اليوم من أقوى ما قدمته الإنسانية عبر تاريخها الطويل.
5– مفهوم جديد للثقافة
يرى فتح الله أن الأسس التي قامت عليها حضارة الماضي أيام كان المسلمون يعيشون نضارة الأسس الثقافية في أعماقهم، ينبغي أن تكون هي الأسس نفسها التي ينبغي أن تقوم عليها شخصية الحاضر.
الجدير بالذكر في هذا المقام هو أن فتح الله كولن يبني أسس مفهوم جديد للثقافة، فالثقافة في منظور الأستاذ تتجاوز ذلك السلوك الثقافي والتصرفات التقليدية التي اكتسبتها الأمة بمرور الزمن، من خلال توسيع الدائرة ملاحظا بأن الأمم التي ارتبطت بالإسلام في وقت من الأوقات قد اكتسبت بفعل ذلك سلوكا تَجذَّر في أعماقها وتحكم في تصرفاتها وكوّن لوحده اللاشعور. ولذلك فإن الثقافة في منظور الأستاذ هي جزء من روح الإسلام، إن لم تكن هي الإسلام نفسه، بمعنى أنه إذا لم يكن بمقدور الإنسان في مكان ما وفي زمن ما التخلص من روح الإسلام وهو يحاول الانطلاق إلى الآفاق البعيدة، فهو ملزم بأن يكون الإسلام في حد ذاته هو الموجه الأول في كل نهضة وانبعاث، وأن يكون هو أساس كل انطلاق إلى المستقبل.. وبعبارة أخرى إذا كانت مذاهب فكرية كثيرة تلح على عنصر الثقافة في بناء حاضر ومستقبل مجتمعات كثيرة، فإن الأستاذ لا يلغي ذلك بل يعيد بناء مفهوم “الثقافة” ليعطيه بعدا إسلاميا. إنه المفهوم الإسلامي للثقافة من وجهة نظر الأستاذ فتح الله إذ يقول: “وثَمّ أسس راسخة نجد أنفسنا مُلزَمين بأن نربط كلَّ مضمونٍ ومفهوم وأسلوبٍ فكريٍ وتفسير ومقاربة بتلك الأسس. حتى إن الثقافة بألوانها المختلفة تحوم وتدور في محيطها، وتنهل من مناهلها، وتتغذى بغذائها، وتنمو بها، ثم تتحول بفضلها إلى حال فوق الزمان والمكان”.
Leave a Reply