يسعى “فتح الله كولن” في كتاباته كلها إلى بعث “لغة الروح” من جديد، واستنهاض مواتها من تحت التراب… فهذه اللغة -للأسف الشديد- كادت تندثر في هذا العصر المجدب، وتغيب عن الوجود.. فقد نأت أكثر الأقلام عنها، وأهملت الكتابة بها أو العناية بشأنها، واختارت عن قصد مرةً وعن غير قصد مرة أخرى لموضوعاتها لغاتٍ تفتقر إلى العمق الروحي والوجداني، فجاءَت جافَّةً مجدبةً قلَّما تبلُّ غلة قلب، أو تروي عطش روح.
والأستاذ “فتح الله” بإجماع النقَّاد والمعنيين بشؤون الإنسان الفكرية والروحية من الباحثين والمحققين، هو واحد من أعظم رجالات القلب البشري في هذا العصر؛ لا أقول في بلاد الأناضول، بل في أرجاء العالم قاطبة… وهو بإجماع الدارسين متمّم لما بدأ به “النورسي” من فتوحات عظيمة في مجاهيل القلب والروح والفكر في رسائله “رسائل النور”.
فجوهر الروح الديني هو الإيمان بالبقاء، والإيمان بأنَّ الذات الإنسانية عالم كامل وكون عظيم، وهو منبع خوالجنا وأحزاننا وأفراحنا.. ومن هذا الإيمان انبثقت أفكار “كولن” بشمولية النظر، وعمق الفهم والإدراك؛ فراح يطيل النظر فيما تقع عليه عيناه من صور ورسوم على الورق، فقام يفسر ويؤوّل، وبنظره الثاقب اكتشف خفايا الصور وما توحيه من معانٍ وأفكار.. فشرع يرسم الصورة من جديد ليس بالقلم والفرشاة وعيون الكَامِيرات، بل بالكلمات والعبارات.. فإذا الصورة كائن حيّ تهمس وتتكلم بما تنطوي عليه من معان وأفكار.
فهذا الإدراك لمعاني الصور لا يتأتى لإنسان محدود الزمان والمكان والتفكير والشعور، لأن “الواقع الصوري” وإنْ بدا محدودًا في النظرة الضيقة المبتسرة، غير أنه في الحقيقة له ارتباطاته الكونية وعلائقه بالطبيعة والحياة والإنسان.. فالصور الصامتة للمتأمّل الحصيف تقول ما لا يقوله ألْف لسان ولسان.. فقد طمس الكلام من حقائق الأشياء أكثر بكثير مما كشف من أباطيل.
و”كولن” ذو خيال خصب واسع، وهو لذلك يقرض الشعر، فسعته من سعة خياله، وفهمه للصورة مصاغ من معدنه وكنـزه.
فهذا الكتاب -عزيزي القارئ- إنما هو لوحات غاية في الجمال مرسومة بالكلمات والأفكار والمعاني كما أوحته هذه الصور الفوتغرافيه.. فهي فكر وأدب وفنّ ونظرات دقيقة في الإنسان والكون والحياة، وهي بعد ذلك كله غذاء قلبي وروحي للجوعى من أصحاب القلوب، والعطشى من أصحاب الأرواح.
وسيطالع القارئ في هذا الكتاب، ومن خلال التأويلات التي يرسمها لهذه الصور، تلك الشعلة الدائمة المتوقّدة في روحه وفي عقله، ويلمس قدرته الفائقة على إلباس -حتى الجمادات- شيئًا روحيًّا مذكّرًا بالمبدع العظيم سبحانه وتعالى.
ولغة الروح التي يعرفها الأستاذ “فتح الله” جيدًا قراءةً وكتابةً، هي التي تملي عليه أفكاره، فيقيدها في المتن القصير والعبارة الموجزة، هذه المتون والعبارات قد يستغرق شرحها عِدَّة صفحات.
إنه هنا لا يستشهد بالآية من القرآن الكريم، ولا بالحديث من السنة المطهرة، ولكنه يأتي بروحَيهما أو بما يشيران إليهما مرةً من بعيد، ومرةً من قريب.. فانطلاقاته كثيرًا ما تكون من الأشياء الملموسة والمرئية إلى ربِّ الأشياء ومكوّنها.
إن “المألوفات” عنده هي “معجزات” إذا نظرنا إليها بعمق وتأمَّلنا ما ترمز إليه من “القدرة والحكمة والعلم” من ضمن أسماء الله الحسنى… أضف إلى ذلك أنّ هذه النصوص من السهل الممتنع التي يفهم منها القارئ على قدر موروثاته الثقافية والفكرية والروحية. وكما أنّ القرآن الكريم يفتح في كُلّ آياته بابًا على العقل، ونافذة على الروح والوجدان، ثم يترك للقارئ حرّية الاستقراء والاستنباط، فمؤلف هذا الكتاب يفعل الشيء نفسه متأثرًا بالقرآن، فيفتح في هذه النصوص أبوابًا على العقل وأبوابًا أخرى على القلب والضمير، ثم يترك للقارئ حرّية الفهم والتأويل دون تدخّل منه.
ولا يفوتني هنا أن أذكر أنّ بعض صور الكتاب قد تجمع بين النقيضين، وتؤلف بين الضدّين، من أجل المزيد من إلقاء الضوء على المعنى الذي يريد المؤلف التركيز عليه؛ فالشكل عنده أو بالأحرى “الصورة” تخدم المعنى، وقد يكون العكس، فيخدم المعنى الصورة كذلك.. فكلاهما “المعنى والصورة” يخدمان مقاصد هذا الكتاب وغاياته الأعماقية الفكرية والوجدانية.. إنه يريد أنْ يفضي هنا بجميع مكنونات صدره مستنطقًا كونيات الأشياء ومتحدثًا باسمها وبلُغتها، محركًا بهذه اللغة الحِسَّ الجامد، والفكر الكليل، والوجدان العليل.. إنه هنا يربط بين جوّانية الإنسان وحتمية العالم البَرَّاني.. فالنـزعة الفنّية التي يكتب بها نصوصه نابعة من الإنسان وشوقه الأبدي لتأكيد ذاته وإنقاذ نفسه من الفناء والعدم، وفي هذه الصور وفي مستوحاة الأستاذ منها قوة متحركة وجذوة متّقدة، لأنها مصاغة من قلبه ومن روحه بشاعرية فنّية مبدعة، هي بمجملها طراز جديد من الفكر المبدع يستوحي الصورة ويستنطقها أو ينطقها هو بما يريد فتتضح معمَّيات الأشياء والأفكار.
فالوجود كله صور وظلال، صور شبحية وظلية لحقائق غيبية “ماورائية”، تعجز عقولنا عن إدراكها، وتقصر مفاهيمنا عن استيعابها، فتسيل ظلالها من عالم الملكوت إلى عالم الملك.. أو إنْ شئت قلت، هي أشباح ذلك العالم.. أو إنْ شئت قلت، هي أطياف تطوف في أذهاننا ومخيلاتنا كمرايا تعكس من حقائق الأشياء على قدر ما تطيقه أفكارنا ومخيلاتنا منها.. فالصور هي تجسيد لخفايا المعاني، نفهم منها بعض ما تعكسه علينا من مجردات المعاني. فالتجريديّون من المفكرين والفلاسفة والفنّيين يلجأون إلى التجسيد والتصوير لكي يعطوا لتجريداتهم أشكالاً ترمز إلى خفايا ما يكنّون من أفكار ومعان.. فالجنة نفسها التي هي من تجليات أنوار الرحمة والقدرة شاء الله تعالى أن تكون جسدية حسية لترمز إلى قدرته تعالى ورحمته بعباده.
ومن هنا جاء اهتمام “كولن” بـ”الصورة”؛ فالصورة عنده كائنات حيّة يمكن أن نفهم عنها وتفهم عنَّا إذا نحن تكلّمنا معها بلغة الروح التي يحسن الأستاذ التكلم بها.. وهي تُخفي من المعاني أكثر مما تظهر، وترمز إلى مَعالِمَ من عالمي الملك والملكوت، اللذين يرتبطان ببعضهما ولا ينفصلان.. فإذا هو تحدث عن “عالم الملك” وَشَّاهُ بألوان من “عالم الملكوت” وإنْ شاقه شيء من عالم الشهادة ربطه بمثله من عالم الغيب… فكلامه كله يدور في مستويات فكرية عالية، وانتقالات ذكية بين “النسبي” و”المطلق” و”المتناهي” و”اللامتناهي”، وبين جزئيات الحياة وكلّياتها، وجزئيات الكون والطبيعة وكلياتهما.
ولإيمانه بـ”الكلمة” وبقدراتها على الخلق والإبداع والإنشاء والتغيير استخدمها ووضعها في مكانها المناسب من “النّص” المرصود لهذه العمليات التي هي الغاية الأساس من كل الإبداعات الفكرية والفنّية.. ومن أجل ذلك كان يعتمد “العنوان” لكل ما يريد قوله أحيانًا، ثم يشرع في الشرح والتبيان، وأحيانًا أخرى يشرح ويفصل ثم يجمع ذلك كله بأوجز عبارة بمثابة عنوان لما فَصَّل وشرح.
وكما أنّ صاحب النظر الواسع والعميق يمكن أن يرى في قطرة الماء الواحدة بحرًا واسعًا، وفي الذرة عالَمًا، فكذلك القارئ الحصيف يمكن أنْ يصغي إلى خفقان قلب الكون خلال سطور هذا الكتاب وخواطره وأفكاره، ثم يتلمس وجدانه فيجده قد اخْتُطِفَ منه وصار جزءًا لا يتجزّأ من وجدان هذا الكتاب، ومن مشاعره وعواطفه… وإني لأحسب أنّ “الكلمة المبدعة” التي يتلهف عليها العالم المتمدّن سيجدها في محتويات هذا الكتاب. إنّ امْتزاجًا غاية في الروعة الفنّية بين كل شيء في السماء مع كل شيء في الأرض في نشيد ملْحمي واحد سيشكل عالمًا لحنيًّا يطرب نفوس طلاب الأدب والفن والفكر الصافي والوجدان النقي.
إنّ مَنْ يطرق أبواب هذا الكتاب إنما يطرق أبواب مملكة واسعة الأرجاء من المشاعر والأفكار. وقراءته تعلّمنا كيف نعيش في مستوى عالٍ من الحدس والشعور المرهف والحس الرفيع، مثلما نعيش بأذهاننا وأفكارنا.. وأنْ نكون على استعداد على الدوام لنرى صور الأشياء المحيطة بنا من كل جانب وهي طافحة بالإيماءات إلى خالق الصور ومنشئ الأجساد والأرواح .
إنّ نضالاتنا الذهنية تبدو بلا معنى إذا نحن لم نُدخِلْ إلى حومة النضال معنا قوى أرواحنا ومشاعرنا وخيالنا وأحاسيسنا وكل لطائفنا الأخرى لنستقوي بها جميعًا في هذا النضال في مواجهة مِحَنِ الفكر والإيمان. إننا ملزَمون جميعًا أنْ نضرب عاليًا في معارج الرقي الإنساني. وأيّ توقّف عن هذه الغاية سيدفعنا دون شعور مِنَّا إلى دركات سفلية مظلمة تفقدنا البصر والبصيرة؛ فالروح المنكفئة على نفسها ستصاب بالبرداء والارتعاش عند دخولها عالم الأرواح الحركية الحارة، شاعرةً بالغربة بينها، وبالدونية تجاهها. إنّ شيئًا من الاستفزاز الروحي سينتابنا ونحن نجوس خلال هذا الكتاب، وهو ما يقصد إليه المؤلف في كل كتاباته، وهذا بالقطع سيساعدنا على تلقّي الإشارات الغيبية لولا ما عندنا من كبرياء واستعلاءات جاهلية تحول بيننا وصفاء السمع ونقاء الرؤية.
لقد أثقلتنا الآثام ودنّستنا الدناءات، فغلظت مشاعرنا، وتورمت أحاسيسنا، ولم نعد كما كنا ذلك المركز الاستشعاري الذي تهزّه نسائم الغيب، وتحركه إلهاماته، وتقوده لاستكشاف آيات الله في صور الأشياء وتعكس من معانيها الشيء الكثير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وخلاصة القول فالكتاب في سطور:
- انطباعات صور على صفحة وجدان شفّاف.
- قلم حي يبعث الحياة في الجامد والموات.
- نظر مجنّح الخيال يرى في الصورة ما لا تراه العيون.
Leave a Reply