يبدو الشرقُ الأوسطُ وكأنّه قد تحوَّل إلى جحيمٍ مُستَعِرٍ، وتفتَّتَت جميعُ البِنى فيه إلى جزيئات صغيرةٍ في إطارِ فكرةِ “الفوضى الخلَّاقة”، ودُفِعَ كلٌّ منها لِيُصارع الآخر، ولم يكن من المتوقَّعِ أن تنالَ تركيا أيضًا نصيبَها من ذلك الشررِ المتطاير من النار المستعرة هناك؛ فها هو ذا النظام الذي تأسَّسَ في الشرق الأوسط إثرَ تفكُّكِ الدولة العثمانية يتغيَّرُ، ولكن ما يتغيرُ فيه ليسَ هو الأنظمة فحسب، بل والخرائط أيضًا.
كانت تركيا تمثل بصيصَ أملٍ بالنسبة للشرق الأوسط؛ لكنَّ جميع المؤشرات الآن باتت تشير إلى أنها عادَت إلى سياستِها القديمة، إذ تدخَّلت في إدارتِها المدنيّةِ منظماتٌ وهيئاتٌ غير مدنية، وفي الحقيقة فإنَّ هذا التدخُّل عادَ بقوّة أكبر، وقد صارت تركيا عضوًا في التحالف الغربي بانضمامها إلى حلفِ “الناتو” في خمسينيات القرن المنصرم، غير أنها عجزت أن تكون دولة تعمل فيها السياسةُ المدنيةُ فقط دون أيِّ تدخُّل في شأنها؛ إذ تحقَّقت مظاهرُ التدخُّلِ غير المدني في تلك السياسةِ في سنوات (1960 و1971 و1980 و1997م) تحت رعايةِ الغرب، هذا ولا شك أن أحداث الثامن والعشرين من شباط/فبراير (1997م) آلَمَتْ بِشِدَّةٍ وأوجعَتْ بقوَّةٍ المحافظين المتدينين الذين هم قلبُ الشعبِ النابض، وقد هُمِّشَت الأحزابُ اليمينيّة واليساريّة الرئيسيّة في فترةِ “ما بعدَ الحَدَاثَةِ” إلى حدٍّ كبير؛ وذلك كنتيجةٍ متوقَّعةٍ لِعدمِ مواجهتهما ما حدثَ، وهذه الأحداث قد مهَّدَت الطريقَ أمام حزب العدالة والتنمية الذي أعلن مؤسسوهم عن تخليهم عن حزب “الرفاه (Refah)” ذو التوجُّه الإسلامي بعد عام (2001م) كما ساهمت لحصولِهِ على دعمِ اليسار الليبرالي والقوميّ والديمقراطيّ جزئيًّا إلى جانب تأييد أغلبية المتدينين والمحافظين في تركيا.
وإليكم ملخصًا بالخطوات الإيجابية التي قام بها الحزب الحاكم في سنوات حكمه الأولى، ثم نظرةٌ تحليليّةٌ لِما حدثَ بعدها:
أ. إن هذا الحزبَ الذي حصلَ على 43% من أصوات الناخبين في انتخابات نوفمبر (2002م) قد نجح في حُكْمِ نسبةِ 66% التي لم تُصَوِّتْ له في تلك الانتخابات لِفَتْرَتَين متتالِيتين ودون حدوث مشاكل ملموسة.
ب. حدث انتعاشٌ في الاقتصاد؛ فانفتحَ المُبادِرون والتجّار ورجال الأعمال الأتراك على الشرق الأوسط وآسيا وروسيا وأوروبا، وتدفَّقَت الأموال والاستثمارات إلى تركيا؛ حتى إن الطبقة المتوسطة في الأناضول والتي لم تدعمها الدولة من قبلُ على مدى تاريخ الجمهورية قد نهضَتْ من عَثْرَتِها ونَشَطَتْ وذلك بعد أن بدؤا يَحْصُلُون على الدعم من الحكومة.
ج. تمَّ إجراءُ العديدِ من الإصلاحات في قوانين البلاد تحتَ شعار “لا تسامح مع تعذيب المواطنين والتضييق على حرياتهم الأساسية”، كما اتَّسَعَتْ دائرةُ حريّة التعبير، وتوالَت الإصلاحات تترًا.
د. عُرقلت محاولات “الكيانات العميقة” من أجل القيام بانقلابات على الدولة، وشُرع في فحصِ ودراسة الفترة السابقة والتحقيق فيها، وهكذا استطاعت السلطة الحاكمة الحيلولة دون وقوع الجرائم التي كانت ترتكبُ سابقًا كالاغتيالات السياسية والجرائم مجهولة الفاعلين والجرائم السياسية الأخرى.
هـ. ظهرت مطالب بحل القضية الكردية، كما بدأ الساسة يسعون في حل هذه القضية الهامة.
و. رحّب الشرق الأوسط بتركيا ومسيرتها نحو التقدم والازدهار؛ ففتح أبوابه على مصاريعها لرجال السياسة والأعمال ومنظَّمَات المجتمَعِ المدنيّ والمثقَّفين الأتراك.
وفي هذه الفترة شاركت في القطاع العام تلك الكيانات المتدينة التي كانت ولا تزال تناضل وتكافح بكلِّ ما أوتِيَتْ من قُوَّةٍ منذ مائة سنة، وبعد أن لاحت بوادرُ التحسُّن والتغير نحو الأفضل في العلاقات سواء على الصعيد الداخلي والخارجي مع المجتمعات الإسلامية إذ انتكسَ كلُّ شيءٍ اعتبارًا من اكتشاف فضيحة الفساد والرشوة التي ظهرت في ديسمبر/كانون الثاني عام (2011م)، والواقع أن هذا الانتكاس بدأ خارجيًا بالتزامن مع التدخل الخاطئ في الشأن السوري الداخلي منذ عام (2011م) وبدأ داخليًا حين سيطرت على حزب العدالة والتمنية فكرةُ “نحن لا نقبل بشريك”.
وكما سيتبين مما ورد في هذا الكتاب فإن تركيا أطلقت الرصاص على قدمها وعلى قَدمِ الشرق الأوسط الإسلامي عام (2011م)، في حين كان من المفترَضِ أن تنهضَ هي والشرق الأوسط من كبوتيهما، وهو ما لم يغفلْه الغربُ يومًا ولم يرغبْ فيه قطّ، وبذلك أصابت نفسها وإياهُ بالعرجِ، فالقوى الداخلية والخارجيّة التي كانت تعرِف بعمليات الرشوة والفساد منذ اليوم الأول لوقوعِها لم تغفر لحزب العدالة والتنمية خطأه، وسارعت من فورِها تهدم تلك المكتسبات التي تحققت بصعوبةٍ بالغةٍ وتسقِطُها واحدةً تلوَ الأخرى، واستعادت “الكيانات العميقة” سيطرَتَها على الوضع من جديد، وبهذا فإن تركيا التي كان يُعتقد أنها تخلَّصَتْ من “الوِصاية” عادت إلى عصر التدخلات الخارجية في السلطة المدنية -بعد مرور عشر أو خمس عشرة سنة على آخرها وقوعًا- بصورة مختلفة، حيث قاد هذه المرة عمليات تحديد الحريات وإقامة نظام مركزي لا يقبل الشريك في السلطة المدنيُّون أنفسهم من الساسة المحافظين المتديِّنين في الحزب الحاكم الذين كافحوا من أجل الوصول إلى السلطة، ومن العجيب أيضًا أن هؤلاء المحافظين الذين كانوا قد عانوا كثيرًا في الماضي من التدخلات غير المدنية في السلطة نراهم اليوم يضطرون إلى التعاون مع أعدائهم في الماضي كي يتستَّروا على عملية الفساد والرشوة التي ظهر جزءٌ منها في الآونة الأخيرة في تركيا.
كما تحوَّلَ النظامُ في مرحلةٍ صادمةٍ وقصيرةٍ جدًّا، إلى شخصيّةٍ متشدِّدَةٍ؛ فانقطعت العلاقاتُ مع الشرق الأوسط، وبدأ الاقتصادُ يَتَدَهْوَرُ، ويضيقُ مجالُ الحرّيّات شيئًا فشيئًا، ولم تكتملْ مسيرةُ حلِّ المسألةِ الكرديّة المؤهَّلة للانفجار ولإحداث صراع عظيم يُنْبِئُ بعاقبةٍ وخيمةٍ، وقُسِّم المجتمعُ المحافظ المُتَدَيِّنُ تقسيمًا انتمائيـًّا بحجّة وجود “كيان موازٍ”، وفي الحقيقة فإنّ هذه الحجّة الواهية تهدفُ إلى غسيلِ أدمغةِ واستقطابِ قطاع ضدَّ قطاع، مما أدّى إلى سوقِ المتدَيِّنين إلى فتنةٍ شعواء؛ وهُيِّئَت الساحةُ لإثارةِ صراعٍ مذهبيّ.
وأول ما يحدث في كلِّ المجتمعات المرشّحة للوقوع في صراعٍ داخليٍّ هو أن تعمى بصيرَتُها تمامًا، فلا يُبصر قادةُ الأقطاب المتنافرةُ ولا المتحدّثون الرسميّون باسمها شيئًا أبدًا، فينثرون الحقدَ، ويدعون إلى الحربِ بعصبيَّةٍ قبَليّة انتقامية (حزبية وجماعية).
والتجربة التي يعيشها المجتمع التركي اليوم يجب تحليلها بشكل دقيق، حتى يتسنى لنا فَهْمِ التغيرِ السياسيّ والاجتماعيّ في تركيا،
وكذلك لِفَهْمِ طبيعةِ العلاقاتِ غيرِ السليمة بين الفئات المتدينة في تركيا، ولا بدّ من بيانِ أن المشكلةَ ضاربةٌ جذورها في الأعماق، وينبغي لأصحاب الوعي والحسِّ الإسلاميِّ والعلماءِ والباحثين الراغبين في تتبُّعِ التغييرِ الاجتماعيِّ- السياسيِّ الوقوفُ على هذا الموضوعِ ودراستُه جيّدًا.
وهذا الكتاب الذي بين أيديكم يتناول ملاحظات إنسان يتابعُ عن قربٍ شديدٍ الأحداثَ في تركيا منذ بدايتِها ويشعرُ بعظيمِ الحزنِ والأسى ممّا يحدث هناك، كما يتناولُ كيفية تأثيرِ الأزمة التي وقعت فيها تركيا على المنطقةِ برمَّتِها.
علينا السعي والعمل، وما التوفيق إلا من عند الله.