رجاءً خذوا نفَسا عميقًا، ومن ثم ابدؤوا برحلة تأملية قصيرة عبر الزمن إلى فترة وجيزة قريبة وليست ببعيدة. ماذا تتذكرون عمّا سماه البعض بـ”خلاف حركة الخدمة مع حزب العدالة والتنمية؟” إليكم بتذكرة بسيطة لكي تتمكّنوا من تحليل الوضع بشكل أدق.
تعلمون أن الأستاذ فتح الله كولن تعرّض لوعكة صحية مفاجئة قبل فترة وجيزة، وإثرها تم نقله إلى المشفى في حالة إسعافية. وبما أنني كنت في زيارة شخصية له في تلك الآونة، كتبت في مقال سابق ما يلي: “كان رئيس الوزراء السيد “رجب طيب أَرْدُوغَانْ (Erdoğan)” في مقدمة المتصلين للاطمئنان على الوضع الصحي للأستاذ فتح الله كولن، اطمأن على صحته، مخاطبًا إياه بأسلوب غاية في اللطف، متمنيا له الشفاء العاجل، ورد عليه الأستاذ بنفس الأسلوب اللطيف قائلا: لقد أتعبتم أنفسكم وشغلنا بالكم يا دولة الرئيس“ وبعد تبادل الحديث -والذي اطمأنّ من خلاله الأستاذ أيضا على صحّة سيادة رئيس الوزراء- حان موعد الوداع، وعندئذ طلب كل واحد منهما الدعاء، ولو كنتم حاضرين في تلك اللحظات التي تستحق المشاهدة والسماع والتفكّر فيها والتي جرت في جو غاية في الصدق والإخلاص بين الطرفين، لقلتم لمن يريد الوقيعة بينهما “حسبكم يا بُغاة الفتنة والفساد! كفوا عن النفخ في نار الفتنة”.
بعد هذه الصورة التي عرضناها في الأعلى، قام الأستاذ فتح الله كولن على الفور بنشر بيان شكر وامتنان من صفحتين موجّه إلى كل من قام بالاطمئنان على صحته مع ذكر الأسماء بمن فيهم رجال الدولة والسياسة، ورجال الأعمال، والصحفيون، ومما لا شكّ فيه أن أهم جزئية في بيان الشكر ذاك كانت تشير إلى سيادة رئيس الوزراء، إذًا ماذا حدث؟ وما الذي جرى حتى انقلب جوّ الألفة والصدق والإخلاص ذلك رأسًا على عقب.
الذي حصل أنه فجأة طَفَتْ على واجهة الأحداث مشكلة حول مشروع قانون يتعلق بإغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي، ويشهد الله بأننا تمنينا كثيرًا بأن يتم تعديل وتصحيح خبر ذلك المشروع، وفي اليوم الأول من نشر الخبر خرج بعض المسؤولين وصرحوا بأن ذلك النبأ عار من الصحة، ليته كان كذلك.. إذن لتمكّنّا من رأب الصدع ودرء الفتنة عن أنفسنا على أقل تقدير، وكلما قام أحد المسؤولين بالتصريح بأن مشروع القانون هذا كذب وليس له أساس من الصحة، توضّح لنا أكثر فأكثر بأن هنالك أزمة مقلقة قادمة، إذ لم يكن من المعقول لدولة آمنت بمبدأ الديمقراطية التداولية واعتمدت سيادة القانون أن تسنّ مشروع قانون يتصل مباشرة بقطاع خاص له ما له من التفاصيل بهذه السرعة دون أن تستوعب تفاصيل الموضوع ودون أن تتشاور مع القائمين على القطاع.
نحن -صحيفة زمان- كنا وما زلنا نعترض على فكرة إغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي عنوة عبر إصدار مشروع قانون، وسبب موقفنا هذا أصلا يتوافق مع التصريحات الأخيرة للمتحدث باسم الحكومة الذي قال: “إن اغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي أمر مناف للدستور، وأنه غير مقبول تحت أي ذريعة كانت”، كما يحق لنا أيضًا، أن نسبق ذلك بخطوة متقدمة ونقول بأنه لا يمكن إغلاق أو تحويل أي مؤسسة للقطاع الخاص في دولة حقوق وحريات عبر اللجوء إلى أسلوب سنّ قانون
أو طرح مشروع قانون يؤطر ويمهد لهذه الخطوة، مع العلم بأن التغير الذي لمحناه في لهجة المتحدث باسم الحكومة لا يعني بالضرورة تغير الأمر الواقع، إن أفضل طريقة لإغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي -إن كنتَ تريد ذلك- هي أن تقوم بتطوير المناهج والأساليب في مجال التدريس والتعليم بحيث تصل إلى درجة من التطور تقنع من خلاله أولياءَ الطلاب والمواطنين بأنه لم تعُد هنالك حاجة لإرسال أبنائهم إلى المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي، وبالتالي يقوم المواطن بوضع الأقفال على أبواب تلك المعاهد بنفسه، ولكنه لا يمكنك أن تمارس الإكراه القانوني على تلك المؤسسات بغية إغلاقها تحت أي ظرف كان.
وللأسف ما زالت هنالك أطراف تريد تمييع الموضوع عبر الدخول في تفاصيل ونقاشات عقيمة بدل القيام بتقديم الأسباب المقنعة والموضوعية المتعلقة بمشروع القانون هذا، بينما نحن قدمنا وجهة نظرنا بهذا الشأن، ومنذ البداية، ضمن إطار الحقوق والمتطلبات الديمقراطية وما زلنا محتفظين بهذا الرأي فيما يتعلق بهذا الخصوص، ومن المفيد أن نعبر عن موقفنا ونسعى إلى إقناع الأطراف المعنية أو الناس الذين لا يفهموننا أو الذين يريدون جر الأمور إلى مسارات أخرى لتحقيق مآربهم الشخصية.
لا تتعبوا أنفسكم عبثا أيها السادة! ليست هنالك أية مشكلة سياسية، فمحاولاتكم المتكررة لتشويه صورة الطرف الذي تدعونه بـ“الجماعة” ستبوء بالفشل لكون حركة الخدمة ليست حركة سياسية أصلًا، ومن خلال اتهاماتكم الوهمية بأن هنالك صراعًا من أجل السلطة أو منافسة ليّ الذراع بين حركة الخدمة والحكومة لن تفيدكم بشيء، بل ستتسببون بصدمة من اليأس تصيب الناس من خلال قيامكم بتحريف الموضوع عن مساره، نحن -صحيفة زمان- قمنا بتحديد موقعنا وموقفنا منذ البداية، ووجهنا رسالة إلى أعلى السلطات في الحكومة مفادها: “أنتم من تحكمون هذا البلد، نكنّ لكم الاحترام (مثلما كنا نكنّه للحكومات السابقة) وندعوا لكم بالتوفيق والسداد، وإذا قام أحد من طرفنا أو من يدّعي أنه من طرفنا بمطالبتكم بتخصيص موقع أو مكانة مرموقة له في هرم السلطة نؤكد أنه لا علاقة لنا بذلك الشخص، وإن كانت هنالك أية علاقة لنا به فسنعتبر هذه العلاقة بحكم المنتهية اعتبارا من تلك اللحظة، لكن نفيدكم علما، بأنه في حال علمنا بوقوع إساءة لجهة ما بسبب صلَتِها بنا سنتأثر كثيرا، ولكننا لن نحرمكم من دعائنا”، وإننا لم نتزحزح من موقفنا هذا قيد أنملة، وما زلنا نكنّ كل الاحترام لخيارات السلطة السياسية كما أننا لم نطمع يوما بأي مقام أو موقع إداري أو سياسي.
من الملاحظ أيضا، حتى في المراحل التي كانت فيها العلاقات بأفضل حالها، كان هنالك البعض ممن يحاولون وباستمرار زرع الخلاف بيننا
من خلال اختلاق الأخبار التي لا تمت للواقع بصِلة أو من خلال النميمة، وبذلك تمكنوا من نشر أوهام وحكايات كاذبة في المجتمع، كما أصبحنا نجد أيضا أناسًا كانوا في الماضي القريب ممن يصرخون بأعلى أصواتهم “بأن هذه الحكومة لا بد وأن تسقط”، بل وأكثر من ذلك كانوا يقومون بأبلسة وشيطنة الدولة انطلاقًا من أفكارهم الأيديولوجية فحسب، أما الآن فتجدهم يؤلّهون الدولة ويتمترسون في صف الدفاع الأول عن الحكومة، وفي هذا الحال، لا نظن بأنهم يفعلون ذلك حبًّا بالدولة والحكومة، بل
من منطلق تطبيق التعليمات الدنيئة التي تم تلقينها لهم من الجهات المجهولة التي تدعمهم، وبذلك يحاولون إظهار كل مكونات ومؤسسات المجتمع المدني التي هي خارج مظلة الدولة بمظهر “العدو المحتمل”، بيد أن مكونات ومؤسسات المجتمع المدني مثل رجال الأعمال والمؤسسات الإعلامية المدنية تعتبر من العناصر التي لا يُستغنى عنها في الديمقراطيات التي تتبنى التشاركية، كما أنه لا يمكن اعتبارهم كمصدر تهديد للنظام القائم.
مع تحريض شهوة السلطة والحكم في تركيا، تبتعد تركيا عن ثقافة الحكم والتحاكم شيئًا فشيئًا، وبالتالي يتم فهم كل كتلة وكأنها متفقة وتتماشى مع الكتل التي تتماهى معها، والبعض ممن يتبنون وجهة النظر هذه ويتصرفون على أساسها سيقومون بوضع كتلة أو جماعة أخرى في مرمى أهدافهم غدًا في حال استطاعوا التخلص من”حركة الخدمة” اليوم، حتى الوضع الراهن لا يمكن السكوت عنه، مع أننا لا يمكننا القول بالقطع بأن هنالك أناسا قد شمروا عن سواعدهم من أجل إيقاع الجماعات بين بعضهم البعض أو بوجود فرق مشكّلة من قبل الحكومة تعمل من أجل عزل جماعة معينة أو تقوم بتطبيق إستراتيجيات خفية عبر تشكيل جماعة جديدة بدعم من الدولة، وفي حال كان هنالك أناس وفرق تعد لمثل الخطط التي ذكرناها، فهذا لن يرضى عنه الله ولن يرضى عنه عباده، لكون تلك الخطط لا تندرج تحت السلوكيات الإنسانية أو الإسلامية.
نحن ندعو أهل الإنصاف إلى رؤية الحقيقة والتحري عنها مجددًا بالرغم من وجود الضباب والدخان الكثيفين اللذين يغطيانها، فربما اليوم أو قريبًا ستتفرق غيوم الفتنة هذه، وسنقف في موقف لا بد وأن نتقابل وجها لوجه فيه، كما أننا نُدرك وتدركون أيضًا بأنه لن يمكن إلغاء طرف على حساب طرف آخر في هذه الدولة لكي ترتسم البسمة على وجوه جهات أخرى بغية إرضائهم، أو أنه لن يمكن أن تحدث واقعة “كربلاء” جديدة تقضي على جذور العالم الإسلامي، بمجرد وجود من يخططون ويقومون بإعطاء التعليمات لتحقيق ذلك.
انطلاقا مما سبق، علينا أن نكون منصفين، وأن نكون على يقين بأن كل من تجاوز حدوده في الإساءة لهذا المجتمع سوف يمثل أمام محكمة الوجدان الجماعي والرأي العام وأنه سينال جزاءه العادل أمام التاريخ، وعلينا الالتزام بهذا القدر من رد الفعل، لأن تجاوز ذلك سيكون بمثابة التحريض على الفتنة وصب الزيت على النار، وهذا سيكون وباله أكبر من أن يُحتمل.
التقارير المخابراتية السرية والمخاوف المتعلقة
بينما كانت التجاذبات والنقاشات مستمرة بخصوص المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي تم نشر بعض التسريبات المتعلقة بمجلس الأمن القومي للعام 2004م في جريدة “طَرَفْ”، إثر ذلك قمنا نحن -جريدة الزمان- بالتعبير عن أسفنا حيال ذلك، لإمكانية تأثير تلك التسريبات سلبًا على مسار عملية المطالبة بالحقوق المسلوبة والبحث عن العدالة، وتأكيدًا لموقفنا نشرنا ما يلي: “كم كنا نتمنى أنه لم يتم التوقيع على تلك الوثيقة، بالرغم من معرفتنا بثقل شروط تلك المرحلة، لأن الكلام يطير ويتلاشى بينما الحبر والكتابات تبقى على الورق، وبالتالي فإن تحميل تلك الوثيقة معنى أكثر من مضمونها وإيقاع الفتنة بين الناس سيكون خروجًا عن جادة الصواب“.
نحن توقفنا عند ذلك الحد، أي في المنتصف بين التمني بعدم وجود تلك التواقيع على تلك الوثيقة وبين معرفتنا بالشروط العصيبة في تلك المرحلة التي كانت تجبر على تلك التواقيع، ومع ذلك فإن الإصرار على إغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي قد أيقظ لدينا رغبة التساؤل فيما إذا تم البدء بتطبيق قرارات وثيقة “مجلس الأمن القومي (MGK)” المتخذة في عام 2004م، حتى إن الأستاذ فتح الله كولن قال مُبديًا شكوكه: “أجد صعوبة في الشعور بحسن الظن حيال ذلك”.
ولسوء الطالع، ظهرت بعض الوثائق الرسمية السرية تعود لعام 2013م وتتضمّن السجلات الأمنية والتقارير المخابراتية حول مجموعة من الأشخاص، وفي الحقيقة هذه الحادثة استدعت بعض الإيضاحات حولها، وكم تمنيت شخصيًّا أن يخرج أحد من مسؤولي الحكومة ليوضح هذا الأمر وبالتالي يثلج صدورنا لكي نتمكن من استنشاق نفس عميق، حتى إنني فرحت كثيرًا حينما اتصل بي أحد المسؤولين هاتفيا وقال بأنهم سيصدرون توضيحًا حيال ذلك وقلت لزملائي: “سيكون هنالك تصريح حكومي لبيان خفايا تلك التقارير المخابراتية السرية غير القانونية، دعونا نتابع ذلك في إطار النوايا الحسنة، ربما تخف حدة الفتنة…” للأسف بالرغم من مرور فترة طويلة من الزمن، لم يصدر أي تصريح أو توضيح من طرف الحكومة بهذا الخصوص، مع الإشارة بأن المقاربة المبدئية التي صدرت من السيد “حسين جَلِيكْ (Çelik)” كانت مرضية نوعًا ما، إلا أنها لم تتطرق إلى التفاصيل التقنية المتعلقة بالموضوع، وبالرغم من ذلك، قمنا بنشر تصريحات السيد “جَلِيكْ” كعنوان جانبي عريض في جريدة الزمان، لكي نعكس ونبين للجماهير ولو من باب الصحافة بأن موقف الحكومة لا يتفق مع ما تحتوي عليه تلك التقارير.
فيما بعد، فجأة بدأت الاتهامات الثقيلة تطال الصحفي “محمد بَارَانْسُو (Baransu)” وجريدة “طَرَفْ (Taraf)” التي نشرت الأخبار المتعلقة بتلك الوثائق السرية، حتى بلغ الأمر بأن قامت السلطات الثلاث؛ التنفيذية والقضائية والتشريعية برفع دعاوى قضائية ضد هذا الصحفي والمؤسسة الإعلامية -جريدة “طَرَفْ”- التي يعمل لها، بل وقام السيد رئيس الوزراء باتهام مَنْ نشر تلك الوثائق بخيانة الوطن، مع أن واقع الحال يشير إلى أنه ليست المرة الأولى التي يقوم بها هذا الصحفي أو المؤسسة التي يعمل لها بنشر مثل هذه الأخبار أو الوثائق، مع العلم بأنه حين قامت المؤسسة الإعلامية المذكورة بنشر عشرات الأخبار التي تتعلق بحكم الوصاية العسكرية لم يقم أحد بوضعها في مرمى سهامه، بل قام البعض من الصحفيين الذين صنفوا تلك الأخبار بالسبق الصحفي بالتصفيق والانحياز لتهمة “الخيانة” المعطوفة على المؤسسة الإعلامية -جريدة الطرف-، وهو ما يدفعنا إلى الاستغراب والتأمل بخصوص هذه المواقف التي تظهر الصورة الحقيقية لواقع الحال الذي يبعث على الحزن والقلق.
اللعنة على جميع أشكال الوصايات! إذ إن الوصاية العسكرية ووصاية الأوساط غير السياسية والوصايات المشكلة من قبل الحكومات تكسو الهيكل العظمي للديمقراطيات وتسلب قدرتها على التفكير، إذًا كيف يمكننا تحديد معنى الوصاية؟ فالجواب واضح وجلي: أن لا يسمو أحد فوق القانون والحقوق، وأن لا يحقّ لأيّ شخصٍ كان باستخدام القانون أو تفسيره حسب هواه الشخصي، وبأن تكون مكانة المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية وباقي عناصر ومكونات السلطة والحكم محفوظة ومحدّدة مثل الأحزاب السياسية، كما هو الحال في الدول الديمقراطية.
إن ديمقراطيتنا تمر بمرحلة امتحان صعبة يمكننا تجاوزها بالصبر والحكمة واللجوء إلى القانون، لكن هنالك قوى الشر ومراكز خبث وضعت مخططات سيئة، وتبذل حاليًا جهودًا جبارة للقيام بأعمال مشبوهة، ومن ثمّ تلفيق التهم لجهة معينة بريئة من فئات الشعب، ومن الواضح أن هناك مؤامرة جديدة حاكتها تلك المراكز الخفية لإجراء عملية جديدة تستهدف إبراز أحد الأطراف بعينه كـ“متهم اعتيادي“.
لذا علينا أن ننظر إلى الأمور بنظرة مبنية على المبادئ، وأن نُحدّدَ عديمي الشرف الذين يتسللون إلى أسرار الحياة الخاصة للبشر ويصوّرونها في الأشرطة، وينشرونها بعد ذلك في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وبالتالي يتعيّن تقديمهم للعدالة لإنزال العقوبة اللازمة عليهم مهما كان الأمر، وفي هذا الإطار، لا بد من التذكير بأن الفشل في الوصول إلى المتهمين الذين نصبوا فخاخًا لنواب الحزبين “الجمهوري الشعبي (CHP)” و”القومي التركي (MHP)” كان خطأ فادحًا، وإذا ما لم يتمّ الكشف عن تلك الأعمال القذرة عبر الوسائل القانونية ستتوجّه أصابع الاتهام إلى شريحة معينة من الناس التي لا علاقة لها بالأمر، كما ستحوم الشبهات حولها دائمًا.
يبدو أن الأجواء ستزداد احتقانًا كلما اقتربت الفترة الانتخابية، كما جرت عليه العادة دائما، ولذلك فإن حاجة تركيا إلى ديمقراطية شفافة وتشاركية وقابلة للمحاسبة تزداد شيئًا فشيئًا، والحل يكمن في التمسُّك بالديمقراطية بشكل جماعي، وليس من خلال تجاهل الحاجة للديمقراطية التشاركية والصراع مع الشعب.
دعوة إلى العدل والإنصاف
شاءت الأقدار أن تشهد تركيا التطورات التي حدثت على خلفية أكبر قضية فساد ورشوة في تاريخها، في الوقت الذي وقعت حوادث مماثلة في العديد من بلدان العالم؛ مماثلة في الصورة والظاهر، مغايرة تمامًا في الحقيقة والجوهر!
يعلم الجميع واقع الحال لدينا، فالسلطة الحاكمة في تركيا تتدخّل بكل وسيلة ومناسبة وبصورة دائمة في التحقيق الذي تجريه النيابة العامة وتتهم فيه أربعة وزراء وأبناءَهم بتُهَمٍ خطيرةٍ بحيث تقشعر منها الجلود، ومنذ الأيام الأولى من بدء التحقيق، تمّ عزل عدد كبير من القيادات الأمنية، وتعيين نائبين عامين إلى جانب النائب العام الذي أطلق التحقيق، وتعميم تغيير مناصب الكوادر الأمنية والشرطية في جميع أنحاء تركيا، فضلًا عن الضغوطات التي تمارَس ضد كل من يدعم عملية التحقيق، بما فيهم وسائل الإعلام المختلفة، وإهانة الأبرياء واتهامهم بتشكيل “عصابة”.. كل ذلك من أجل إسدال ستار أسود على أعمال الفساد…
بينما خيّم هذا المشهد الغريب على تركيا مثل الكابوس، شاءت الأقدار أن تشهد عدد من بلدان العالم أحداثًا مشابهة، مثلما حدث في إسبانيا، إذ كان رئيس الوزراء الإسباني “ماريانو راخوي” في رحلة خارجية، داهمت الشرطة المقر الرئيس للحزب الحاكم في إسبانيا، وأجرت عملية تفتيش في المبنى لمدة 14 ساعة، سعيًا للعثور على الأدلة، أي نوع من الأدلة؟ أدلة الفساد المالي! أرأيتم ماذا فعل رئيس وزراء هذا البلد؟ أأنّب الصحفيين بقوله “التزموا الأدب والأخلاق”؟! أعزل ضباط الشرطة من وظائفهم؟! أتحدّث عن لعبة ومؤامرة دولية؟! بل على العكس تمامًا، صرّح من العاصمة البلجيكية بروكسل التي وصلها لحضور قمةٍ للاتحاد الأوروبي أنه ليس هناك ما يبعث على القلق، ثمّ أضاف “لقد أصدرت جميع التعليمات اللازمة لتوفير كافة التسهيلات حتى يتمّ التفتيش والتحقيق على نحو مطلوب”، هل ساءت سمعة رئيس الوزراء الإسباني أو لحقت أضرار بشرعية حكومته إذ قال كذلك؟! بل إنه فعل ما تقتضيه مبادئ سيادة القانون والدولة الديمقراطية.
كذلك وقعت حادثة مماثلة أخرى مثيرة للاهتمام أيضًا، وهذه المرة في اليابان، إذ يزعمون بأن حاكم طوكيو “ناوكي إينوزي” قبض من شركةٍ رشوةً بمبلغ 500 ألف دولار لما كان نائب حاكم المدينة، واعترف الحاكم بأنه اقترض العام المنصرم من الشركة لأغراضه وحاجاته الشخصية، ولكنّه سدّد جميع ديونه للشركة، مشدّدًا على عدم تقديمه أي امتيازات للشركة المعنية، وعلى الرغم من أنه أدلى بهذه التصريحات، إلا أنه أعلن في الوقت ذاته عن استقالته من منصبه لكي لا تواجه الحكومة اليابانية أي مشاكل وصعوبات في استثماراتها العملاقة لدورة الألعاب الأولمبية العالمية، قولوا لي -بالله عليكم- إن لم يكن هذا السلوك نبلًا وفضيلة فما هو إذًا؟!
ليس هذا فحسب، فقد هنّأ رئيس الوزراء اليوناني “أنطونيس ساماراس” ضباط الشرطة الذين اعتقلوا وزير النقل اليوناني السابق لاستخدامه لوحة مزوّرة تابعة لسيارته الفاخرة من نوع سيارات الدفع الرباعي، ثمّ عقّب قائلًا: “كل من يخالف القانون فلا بد من اعتقاله ومعاقبته”، وهل تعرفون أين قال رئيس الوزراء اليوناني هذا؟ إنه أدلى بهذا البيان في مؤتمر صحفي في بروكسل، فهل سقط من عيون العالم وفقد هيبته عندما صرّح بذلك رئيس الوزراء اليوناني الذي تستعد بلاده لتسلّم الفترة الرئاسية للاتحاد الأوروبي بعد حوالي أسبوع؟
وقد وقعت قبل بضعة أيام حادثة شبيهة تنطوي على الدروس والعبر لما استقال “فرناندو لورنزو” وزير الاقتصاد في “أوروغواي” -الواقع في الجزء الجنوبي الشرقي من أمريكا الجنوبية- بسبب اتهامات الرشوة أيضًا، لقد استقال الرجل عندما وردت مزاعم بأنه تلقى رشوة من شركات الطيران في العطاء الذي طُرح العام الماضي[1]، لقد استقال سعيًا منه إلى “تسهيل العملية القضائية”، أما رئيس أوروغواي “خوسيه موخيكا” فوصف سلوك الوزير بـ”الأخلاقي”، ومن ثم أتبع “لقد قطعت الحكومة كافة علاقاتها مع صديقنا حتى تبرّئ المحكمة ساحته”.
من الممكن أن تحدث انتهاكات في كل بلد، وأن يتورّط بعض الأشخاص في أعمال غير قانونية لعدم وجود رقابة تامة على تصرفاتهم، في مثل هذه الحالات، ينبغي التحقيق في كل صغيرة وكبيرة، وكشف الغطاء عن جميع من تورّط فيها، بغض النظر عن هويته ومكانته، بدلًا من الزعم بأنه “لا يخرج منا من يرتشي ويسرق“، ولا شكّ أن اللجوء إلى نظريات المؤامرة، وإصدار ضجيج وصخب بقصد خلق حالة من الخوف والهلع لدى الناس، في وجود معلومات ووثائق ثابتة تدلّ على اتهامات الرشوة، لن يحل المشكلة أبدًا، فضلًا عن ذلك، فإنه كلما حدثت تدخلات في السلطة القضائية، وكلما انتُهك القانون تزداد صحة وقوة المزاعم الواردة في هذا الصدد.
إلى جانب كل ذلك، يجب على الذين يشعرون بثقل الرسالة الإسلامية على كواهلهم أن يبدوا اهتمامًا إلى درجة قصوى لقضايا الفساد والرشوة، بمقتضى الإيمان بالله تعالى وبالآخرة، فقد غادرَنا الرسول وانتقل إلى الدار الآخرة بعد أن استودع فينا قوله الذي لا يزال يدوّي في أرجاء السماء والأرض “وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” (صحيح البخاري: الأنبياء، 54).
ووقف عمر بن الخطاب ذات يوم يخطب في الناس، فما كاد يقول: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا حتى قاطعه أحدهم قائلًا: لا سمع ولا طاعة يا عمر! فقال عمر بهدوء: لِم يا عبد لله؟ قال: لأن كلًّا منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته، وأنت أصبت قميصين، فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد لله بن عمر ، فبين عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.
أهذه الأحداث عبارة عن الأساطير والحكايات والمناقب الفارغة؟!
بالله عليكم كونوا منصفين! فلا يعمدنّ أحد إلى تغيير سياق الموضوع، فما المصالح والثمرات التي من الممكن أن تجنيها حركة الخدمة -التي تستلهم أفكارها من العلامة محمد فتح الله كولن- من وراء أضرار تلحق بالحزب الحاكم في تركيا؟! فبدلًا من المؤامرات الوهمية، يتعيّن علينا أن نركّز على ما هو إسلاميٌّ وإنساني وقانوني، أجل، من الممكن إلهاء المشجّعين في المدرجات وإغراؤهم بمزاعم لا أساس لها لفترة من الوقت، ولكن من المستحيل أن تستسيغ الضمائر مثل هذه المزاعم وتطمئنّ إليها في وجود المعلومات والوثائق والحقائق الثابتة، ولا ريب أن اختلاق جريمة، ثم البحث عمن يمكن إلصاقها به، واستخدام قوة الدولة ضد “التهديدات الداخلية” الوهمية، إنما هو جريمة أعظم من جريمة المزاعم الواردة بخصوص الرشوة والفساد.. ولا يمكن تحمّل تبعات ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة…
“إننا نمرُّ بفترة من الفوضى يحيط بها كثير من الأكاذيب والافتراءات، بعض الدوائر السياسية يرى أن من حقه الافتراء على الناس، والبعض الآخَر يقضي يومه في اختلاق الأكاذيب، ولكن هذه الأكاذيب والافتراءات ستُحدِث جروحًا كبيرة في كل شريحة من شرائح المجتمع“.
[1] الحادثة المذكورة وقعت عام 2013م.