إن حادثة زرْع أجهزة التنصّت في أحد المكاتب برئاسة الوزراء كانت “الأمل الأكبر” لمن يتحدّثون عن الدولة الموازية داخل الدولة كلّ يوم دون تقديم أي دليل وبرهان على وجودها، حيث كانوا يكتبون سيناريوهات وهمية ويلقون الرعب في القلوب انطلاقًا منها، إلا أن هذا السيناريو الرهيب قد انهار خلال الأسبوع الماضي[1] -كباقي السيناريوهات الملفّقة الأخرى- حين صرّح نائب رئيس “معهد الأبحاث التكنولوجية التركي (TÜBİTAK)” “حسن بَلَازْ (Palaz)” بأنه تعرّض لضغوطات كبيرة من أجل تحريف حقائق التقرير المتعلق بهذا الخصوص، ويكتب تقريرًا آخرَ موافقًا لهوى الحكومة، وشدّد على أن السبب الوحيد الذي دفع السلطات إلى إقالته من منصبه، هو عدم رضوخه لمطالب الحكومة بتزييف حقائق هذا التقرير بصورة مخالفة للمبادئ العلمية بعد مضيّ عامين كاملين على كتابته وتقديمه إلى المخابرات الوطنية ورئاسة الوزراء، وهكذا خرج بيروقراطي “نبيل” وقلّب الخطة الخبيثة رأسا على عقب، إلا أن هذا الأمر قد ترك في أذهاننا صورة مقزّزة جدًّا.
لم يشهدْ عالمُ السياسة منذ نشأته الأولى على وجه الأرض هذا المستوى من النهج الهجومي.. ولم ينحدرْ مستوى وسائل الإعلام منذ ظهورها الأول إلى الحضيض بهذه الدرجة.. يَكذبون ويُشهّرون ويقومون بالدعاية السوداء ويهاجمون بأشنع الألفاظ والوسائل بحيث يستحي الإنسان أن يستفسر من رفقائه القدماء: “ألم يبقَ لديكم أي مبدإٍ مقدّس تحترمونه؟!” وكأني أسمع من القراء يُجيبون “بالله عليك! أَيَحْترم المبادئَ المقدسة مَنْ كان طمّاعًا جشِعًا لا يشبع ولا يرضى؟!” ولكن ينبغي أَنْ لا يُنسى أنّ كلّ الأمور
لا تنحصر في هذه الدنيا الفانية حتى ينحبس كلُّ معنى الحياة في صناديق الاقتراع.
يَكذبون ويفترون دون هوادة، ولو لم تعمَّرْ هذه الأكاذيب والافتراءات حتى ساعة من الزمن، إذ تظهر الحقيقةُ ويزهق الباطلُ، إلا أن الذي يبعث على الغرابة والدهشة هو أن الكاذب لا يَستحيي من افتضاح كذبه ولا يحمرّ وجهه أبدًا، وقد وصل الأمر إلى درجة أن جريدة تزعم بأنها “إسلامية” نقلت في صفحتها الأولى عن نائب برلماني قد تعرَّض لظلمٍ بعد نشْر تسجيل مصوّر يتضمّن مقاطع مخلة بالأخلاق قوله بأن حركة الخدمة هي مَنْ تقف وراء تسريب هذا التسجيل، إلا أنه لم يمضِ وقتٌ حتى ظهر ذلك البرلماني على الشاشات وأكّد أنه لم يتفوّه أبدًا بحركة الخدمة أو الدولة الموازية، أَمَا كان يجب للكاذب أن يستحي؟! ولكنه لم يستحِ، فبأي وصفٍ نصِف هذا الأمر؟ أَنَصِفُه بالوقاحة أم الجنون أم التجرّد من كلّ القيم والمبادئ، أم بجميع ما ذُكر؟!
إن هؤلاء لا يتورّعون عن استغلال “الهوية الإسلامية” إلى أقصى حدودها، كما أنهم يستعملون “كلّ الطرق والوسائل المشروعة” في سبيل الدفاع عن أخطائهم وكَيلِ الاتهامات للآخرين، إن هذا المنهج لا يتوافق إطلاقًا وروح الإسلام، وإن الكذب رأس كل خطيئة، وقد يُخرج المؤمن من الملّة في نهاية المطاف ويحوّله إلى شيء آخر، وعندها من الممكن أن يرتكب أفظع الجرائم، حفظنا الله وإياكم.
استنطقوا ضمائركم بدلًا من ألسنتكم، وحاسبوا أنفسكم ولو مرة! وأَقلِعوا عن الأخطاء المركّبة من وشْيِ المتطوّعين في حركة الخدمة، العاملين في كافة أرجاء العالم، إلى الدول الأجنبية، وتخلّوْا عن اتهامِ أناسٍ تقفون معهم صفًا واحدًا عند الصلاة في المساجد، واستمِعوا لنداء القرآن الكريم الذي يقول: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾.
حقًّا يا أيها المؤمنون، بالله عليكم أين تذهبون!؟.
“هؤلاء الذين يوجِّهون الاتهام بالتجسُّس إلى فئات وطنية من المجتمع، إما أنهم لا يعرفون شيئًا عن القانون وإما أنهم يسعون لتقويض سيادته بسبب ما يُكِنُّونه من حقد وكراهية، ولعلَّ عدم توافر الأدلَّة الملموسة التي تُثبِت هذه الشبهات والمزاعم هو ممَّا لا يمكن تفسيره كمصادفة بحتة، لأن الزَّجَّ بالآخرين داخل دائرة الاشتباه عبر المناورة بالشائعات والتلاعُب بالشكوك هو خطيئة دينيَّة وجُرْم قانوني على حدِّ سواءٍ“.
[1] من تاريخ كتابة المقال.