قبل نشر خريطة هذا الكتاب أمام أعين القارئ الكريم، وتحليلها، لا مندوحة لي أن أنوه إلى أن لمؤلف هذا الكتاب، كلاما حول القرآن مبثوثا في بطون عدد من كتبه ومقالاته غاية في الروعة؛ كلاما جذابا ومثيرا لكل من سمعه. ذلك أن المؤلف إضافة إلى جدة الفكرة وعمقها، يتميز بشاعرية قل نظيرها. فتأمل قوله وهو يتحدث عن القرآن الكريم، في كتابه أسئلة العصر المحيرة: “كلما شاب الزمن وتقدم ازدادت شبابية القرآن الكريم. فكلما تقدمت العلوم والتقنية فهِمْنا الآيات المتعلقة بالعلوم فهمًا أكثر وأعمق وأصح، أجل! كلما مرّ الزمان تَجدد شبابُ القرآن، فكما يزداد نضج الإنسان وقدرة ذهنه على التحليل والتركيب، وإن ضعفت قدرة ذاكرته، تزداد تجاربه وخبرته بمرور الزمن، كذلك الأمر بالنسبة للجماعات؛ أي كلما شاب الزمن وشاخ انفتحت قنوات جديدة وعروق جديدة وتوسعت وزاد سعي الإنسان وظهرت علوم جديدة تشرح لنا أسرار الكون وغوامضه. فعلم الفيزياء يظهر أمامنا وكأنه العلم الذي ينمو على الدوام في عروق الزمن ويغذيه ويتوسع ويعكسه. والأمر نفسه وارد أيضًا بالنسبة لعلوم الكيمياء والفلك وفيزياء الكون والطبّ والعلوم الأخرى…”. ونحن نقرأ للكاتب قد نتوقف أحيانا لنجدد النظر في المقروء، هل نقرأ نصًّا تاريخيًّا، أم رواية أدبية، أم قواعد علمية، أم دعوة دينية؟ نعم هو كل ذلك، إنه أسلوب ومنهج فتح الله كولن.
خريطة هذا الكتاب محل القراءة، يمكن تقريب تضاريسها حمولتها إلى القارئ الكريم عبر تحديد الجغرافيا والحيز الذي احتله كل عنوان أو مجال في الكتاب. حيث نجد أن الحيز الأكبر الذي استحود على هذا الكتاب، وكان مركب المؤلف لبلوغ مرامه، هو مجال الحقائق والتطورات العلمية بالفصل السابع بحوالي 120 ص تقريبا. وبعد في هذه الخريطة يأتي الحديث عن التصوير النفسي بالفصل الثالث بحوالي 80 ص. وهذا الذي ذكرناه احتلّ ما يقارب نصف الكتاب، وبعده يتحدث الكاتب عند فهم القرآن والأخبار الغيبية وذلك بالفصلين الخامس والسادس بحوالي 50 ص لكل واحد منهما. وقد حاولت تقريب هذه الصورة من خلال هذا الرسم :
ومحل الشاهد في هذا البيان، مهم جدًّا بالنسبة لمن يعرف المؤلف. أي أن الأستاذ كولن معروف بأنه رجل تربية وزهد وتصوف. كما أنه رجل دعوة وإرشاد. والطبيعي بالنسبة لعالم تلكم مواصفاته، هو سياحته في مجال التربية والدعوة ليس إلّا، وقد حفل التاريخ بأعلام بهذه المواصفات. لكن الجديد عند فتح الله كولن، هو أنه خرق هذا العرف، بل الحقيقة التاريخية والواقعية، وذلك محل تميز الرجل. والذي جعلني أتوقف عند هذه القضية، ذلك التفرد الذي نلمسه في جل كتابات المؤلف. وما دامت المناسبة شرط، فإن كلام عالم زاهد صوفي عن القرآن الكريم بالمنهج والأسلوب الذي بين أيدينا، جدير بالدرس والتحليل.
فالمؤلف وهو يتحدث عن القرآن الكريم، البيان الخالد، فاجأني عبر تخصيصه حيزًا كبيرًا في هذا الكتاب لقضيتين مهمتين في فصلين، استحوذا على جزء مهم من صفحات الكتاب. القضية الأولى بالفصل السابع حين جعل للمجال العلمي حظًّا أكبر من بين باقي المجالات، وهو ليس حديثًا خبريًّا سرديًّا، بل يظهر لي والله أعلم أنه عمل إبداعي جديد من حيث الشكل كما المضمون. أما من حيث الشكل فقد جدد فتح باب، لفهم القرآن طالما نادى به مفكرون كبار في العصر الحديث، من أمثال محمد بن عبد الوهاب والأفغاني وتلاميذه، وعلي عزت بيكوفيتش، ووحيد الدين خان ومحمد الغزالي ومالك بن نبي وفريد الأنصاري والشاهد البوشيخي وغيرهم. وذلك في تناغم مع مقدار وحاجة الإنسان لفهم القرآن في هذا العصر، فلا إفراط ممل ولا تفريط مخل. بل إنه اختار من القضايا العلمية ما هي حية ومتداولة بين الناس كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
والقضية الثانية بالفصل الثالث وتهم الجانب النفسي في القرآن الكريم. لعمري وكأن الرجل جمع المطلوب من أطرافه. أليست هاتين القضيتين هما حديث العالم في الآونة الأخيرة؟ ألم يكن سبب نقد بعض خصوم الإسلام لعلماء ودعاة العصر إغراقهم في الوعظ والإرشاد، في وقت تتسابق الدول في مجال العلوم والتكنولوجيا؟ ألم تكن الجائحة التي حلت بالعالم في هذه الأيام سوقا لعلماء النفس والاجتماع، كل يحاول الإدلاء برأيه وتسويق بضاعته؟ نعم لقد وفق الرجل وهو يعايش أمراض عصره، في وضع اليد على جانب مهم من الداء. فإنسان هذا العصر لا يلتفت إلا إلى ما يزاحمه من هموم ومشاكل وما يشغله من حاجات ورغبات. وبهذا الصنيع يؤكد المؤلف بأنه راهب بالليل نعم، ولكنه فارس بالنهار أيضا؛ وبذلك حاز قصب السبق في زماننا، في الدعوة والإرشاد كما في التجديد والإصلاح؛ وفي الفقه كما في التنزيل.
إن خارطة الكتاب تشهد على الحيز الكبير الذي خصصه المؤلف، وهو يمتطي صهوة العلم والنفس الإنسانية، ليبلغ هدفًا أساسيًّا دوخ المسلمين اليوم، وهو كيف نفهم القرآن فهما معاصرا؟ كيف يمكن للمسلمين أن يتمسكوا بكتابهم وفي الوقت نفسه ينافسوا غيرهم ويزاحموهم بل يتفوقوا عليهم.
وأنا أقرأ هذا الكتاب فقد أثارني تراجع ترتيب وحجم صفحات الحديث عن المجال التربوي في كلام المؤلف ضمن خريطة الكتاب. والحال أن المؤلف فارس الميدان التربوي بدون منازع.
إن سحر أسلوب المؤلف في الكتابة والتأليف، لا تخطئه عين القارئ في كل مكتوباته. ذلك أن الرجل وهو يتحدث في المجال العلمي أو النفسي أو غيرهما، يشدك إليه شدًّا، تُحسه وأنت تقرأ له، كما عبر لي عن ذلك غير واحد من الباحثين. إنه سحر أسلوب الرجل؛ وإن كل ذلك بالنسبة إليه دعوة وإرشاد، سواء تحدث في المجال العلمي أو النفسي أو غيرهما، إنها الدعوة في أسمى صورها… إنه الأسلوب القرآني الذي نالت من الرجل الفاظه ومعانيه حتى خالطت تفكيره وتعبيره.
(يتبع)