نحو أنموذجنا الحضاري
مرَّ عام منذ الانطلاقة الأولى لمشروع “نسمات” شهد فيه تداعي نخبة من جلة الكتاب والمفكرين والباحثين المعنيين بالمنهاج الفكري للخدمة من مختلف أنحاء العالم، للإسهام في الأعداد السابقة بما يقارب الخمسين نشرًا، ما بين دراسات ومقالات أكاديمية رصينة لكتاب غربيين وعرب موثقة بالهوامش والمراجع، وحوارات مع نخبة من مثقفي العالم العربي والإسلامي، ورسائل علمية حديثة نوقشت في رحاب الجامعات العربية، وقراءات متميزة لمؤلفات صدرت حديثًا للأستاذ كولن أو لغيره ممن كتبوا عن الخدمة، ورحلات وثائقية راصدة للنموذج وموثقة له سواء في منطلقَه داخل تركيا أو امتداداته خارجها قبل الأزمة الراهنة، ثم شهادات لشخصيات وازنة على امتداد الرقعة الجغرافية للعالم.
وشهد التنوع الموضوعي الذي برز في تلك الإصدارات مدى ثراء أنموذج الخدمة، فهي -على حد تعبير أحد المفكرين الذين حاورتهم نسمات في هذه الإصدارة- مليئة بالدروس والإيجابيات ذات الأبعاد المختلفة، علميًّا ومعرفيًّا وتربويًّا وأسريًّا وتعليميًّا؛ بما يمثل شبكة متكاملة من الإنجاز الحضاري، ومن ثم أوجب هذا المفكر على الباحثين والمعنيين بالشأن الحضاري الانكباب على هذه التجربة بمختلف اللغات وتعريف الآخر بها، لأنها تنتمي إلينا وننتمي إليها، ولأن أبناءها استطاعوا بمنجزهم الحضاري فيها أن يقدموا نموذجًا جديدًا يمكن للغرب أن يُنصت إليه وأن يستفيد منه حتى يفهم أن الإسلام قادر على إبداع تجارب وأنماط في التطوير والخبرات والتنمية الإنسانية والحضارة. ولعل ذلك هو عين ما يقوم به مشروع نسمات عبر محاوره المختلفة التي أُعلن عنها فور الانطلاقة.
لقد كانت تلك هي البداية، ولا زال في جعبة الخدمة الكثير الذي لم تفصح عنه بعد، ورغم صعوبة الانطلاقة الأولى لهذا المشروع “نسمات” البكر الوليد، وظرف المحنة الراهن الذي يلقي بظلاله على النموذج بأكمله، فإن في استمرار هذه الانطلاقة وتلبية هؤلاء النخبة من الباحثين والأكاديميين رُقى وتعاويذ طاردت وطردت عفاريت اليأس والقنوط التي تسرح في مثل هذه الأجواء العاصفة الهوجاء وتطيح بكل منجز فكري وحضاري بكل غشم وجور وطغيان.
وليست إصدارة نسمات وحدها التي تحمل مشعل النور هذا الذي يشق ظلام المرحلة الحالك، بل يقف إلى جوارها موقع رصين دائم التحديث بزبد الأفكار ونخب الأسرار التي تفك أكواد النموذج، وتكشف عن كلمات أسراره كلمة تلو أخرى، وقد نسل منه كتاب نسمات الأول “مواقف في زمن المحنة” الذي جمع كل حوارات الأستاذ كولن الإعلامية ومقالاته ورسائله، بعد محاولة الانقلاب الفاشل في يونيو 2016.
وعلى عتبات العام الثاني من خلال الإصدارة الخامسة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمواصلة السير قُدُمًا بكل عزم وإيمان نحو غايته المثلى التي يرضاها لنا، والله ولي التوفيق.