أسيء فهم أسلوب الحياة الصوفي في كثير من الدوائر المتشددة والدوغماتية في أنحاء العالم الإسلامي، فبعض المسلمين يأملون في نيل حياة سهلة سعيدة في الدنيا والآخرة دون أن يقوموا بما عليهم لتغيير ظروفهم؛ ولا ينتسب كولن إلى أيٍّ من هاتين الفئتين، فنظرته إلى الروحانيات قائمة على نهج قرآني إسلامي يشجع سلوكًا روحيًّا يتمثّل في الخدمة الفعّالة للإنسانية والمجتمع، ولا تعرف عنه أية سلبية أو فكر هدّام في تاريخ مواعظه على طول مسيرته داعيةً وكاتبًا إسلاميًّا مِعطاءً في خمسة عقود، كان خلالها ناشطًا اجتماعيًّا ومفكرًا وداعية مسلمًا مخلصًا على علم متعمق بكل ما في الإسلام من دقائق ورقائق.

بعض الطرق الصوفية المعاصرة تُدرِّس السلبية على أنها أسلوب حياة، وكثير من هؤلاء يظنون أن حسن النية في القلب يكفي لجعل الفرد قادرًا على إدراك أي درجة من السمو الروحي والسعادة الدنيوية؛ أما في نظر كولن فأيّ نهج إسلاميّ إذا لم يقدر أن يداوي الأمراض الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، فلا قيمة له عند المسلمين بوصفهم مؤمنين عليهم أن يهبوا حياتهم كلها للنهوض بالمجتمع، ولا يقومون بهذا الواجب في المجتمع أو مع إخوانهم في الإنسانية من منطلق الأفضلية أو أنهم أهدى من غيرهم؛ وهذه الرؤية هي أساس نظرة كولن المتحررة في فهم المبادئ القرآنية أو تفسيرات القرآن، لكن كولن يحاذر جدًّا أن يترك شيئًا واحدًا من التكاليف الدينية أو سلوكًا ترسخ منذ أمد وإن كان لا يُدرك مغزاه، فهو عصريّ لا يجمِّل نفسه بالرموز الإسلامية، لكنه لا يرفض أي سلوك تقليدي للمسلمين ألبتة؛ فتأييده للتقوى كما دعا إليها الغزالي والرومي تأييد صريح، ولا شبهة فيه لدى أحد من عامّة المسلمين رجالًا ونساء.

لم ينتهج كولن الأسلوب الانتهازي في حواره مع أبناء الديانات أو الحضارات الأخرى، بل وجد في منهج المحبة والمودة الذي يسلكه مع البشر جميعًا ما يسهل وجود تفاعل وحوار حقيقي بين أهل الديانات المختلفة؛ ويؤمن كولن بالتعايش السلمي مع الآخرين في سبيل هدف مشترك، هو بناء مجتمع إنسانيّ راق؛ ولتحقيق ذلك الهدف ينبغي قبول كل شخص كما هو دون أن يكون مضطرًا للتخلي عن مبادئه الدينية أو الفكرية أو الأخلاقية، وكولن مثل الرومي لديه إيمان قويّ جدًّا بأن أي فعل روحي صادق له قيمة جوهرية عند الفاعل والآخرين من حوله.

ويرى كولن أن الكرامة الإنسانية والروحانيات الصادقة لا ينفكان عن الروح البشرية، التي تصبو إلى بلوغ الحقيقة العليا للوجود الإنساني في الأرض، فلا حدود لما يمكن للروح الإنسانية أن تصل إليه من آفاق روحية، ومن ثم لا يمكن لأحد أن يدعي أي فضل له على غيره في التقوى أو الكرامة الإنسانية، وقد تثور في المجتمعات الإسلامية مشكلة كبيرة إذا ما حاول الناس أن يحددوا درجة الصدق أو الكذب في تدين أي مسلم أو مسلمة، تقول «عارف»:

“يتغلغل الرومي في أعماق أخلاقياتٍ تشكِّلُ الإطار الخلقيّ للمجتمع ببحثه عن كيفية الانتفاع بها وتطبيقها، فتأمّلاته المتأنية الناتجة عن التحليل والتركيب المستفيضين لا تبصرنا بما ينجم عن أنماط تفكير معينة من مخاطر وسلوكيات خاطئة، وتقدم في نفس الوقت العلاج والنصح لتصحيح الخطأ ليتكيف مع الصواب، فهو بهذا لا يمارس دور الناصح الأمين فحسب بل يربط بين ألغاز الحياة ومفارقاتها لتدعيم أرواحنا حتى نقاوم وندفع كل اعوجاج وخبث غير إنساني”[8].

لا يمكن لأي إصلاح سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي حقيقي أن يستمر فترة طويلة دون تغيير جوهر المجتمع؛ ذلك أن القيم الجوهرية لأي مجتمع هي مزيج لمجموعة كبيرة من الظواهر الراسخة الناتجة عن مصادر متنوعة: المنظومة الدينية الثقافية، والعرف، والنماذج الاقتصادية، والقيم السياسية الاجتماعية…، وللرومي إسهامات متنوعة قيمة جدًّا في جوانب كثيرة من الحركة الإنسانية والإسلام، ويمكننا أن نلقي نظرة جديدة على الرومي في القرن الحادي والعشرين لندرك ما هو سر إسهاماته في المُثُل العالمية للإسلام والحركة الإنسانية عمومًا؟

جمع الرومي في كتاباته وأنشطته الروحية كنوز الحضارة الإسلامية من القرن السابع الميلادي حتى القرن الثاني عشر، وشَهِد أطول أزمة سياسية يومئذ، ولم يحبطه أو يؤثر في معنوياته صعود الحكام المسلمين وسقوطهم، فما يشغله هو القضايا الأساسية لنشوء وتطور المجتمعات الإنسانية من خلال بوتقة الأخلاقيات والروحانيات، وكان عالَمُ الإبداع والمجال الروحي الذي عاش فيه الرومي عالمًا ذاتيًّا؛ لأنه يلحظ قدرة الخالق على الخلق، وعالمًا موضوعيًّا أيضًا، فشخصيته الدنيوية كم وكم أفادت من الأنشطة العقلية للبشر.

لم يكن الرومي يرغب في التقليل من التصورات عن مكانة الله والبشر في الأرض أو في السماء؛ فآفاق النشاط البشري تأخذ خصائص الخلق الغيبية عن البارئ جل وعلا، وكان توق الرومي لاكتشاف مزيد من الألغاز والأسرار في الأرض مهمة إلهية؛ ليتعرف المرء على المضمون الحقيقي للروح البشرية ورحلتها نحو السماء، وهذا البحث الدؤوب عن حقيقة الإنسان يقتضي تفتيشًا محكمًا لروح المرء بغيةَ تحقيق التكامل مع الطبيعة الإنسانية للبشر أجمعين، وأحسن دينورشوييف عندما عبّر عن ذلك بقوله:

“عمل الرومي على نشر علاقات المحبة مع اليونانيين والعرب والأتراك والأوروبيين، أي مع أتباع الديانات والعقائد المختلفة كلها، فالرومي مقتنع بأن الله واحد أحد يتصرف في البشرية جمعاء، والطرق إليه كثيرة متعددة، وأي فكر يعارض ذلك المثل الأعلى العالمي قد يسبب العداوة بين أبناء الديانات المختلفة، وقد يثير البلبلة والتشوش فيؤدي إلى التعصب، والموضوع المحوري عند الرومي هو تحديد دور البشر ومكانتهم في الأرض بوصفهم عناصر فاعلة في الإصلاح بين الأعراق والمواقف الاقتصادية والاجتماعية التي تؤيدها النظم السياسية المختلفة في أرجاء المعمورة، وتجعل البشر جميعًا متساوين عند الله؛ ولتحقيق هذا الهدف الأسمى للحركة الإنسانية شاءت إرادة الله أن يجتمع البشر على الحوار للحفاظ على البشرية بما فيها من تنوع في الثقافة والحضارة”[9].

استطاع الرومي قبل ثمانية قرون أن يرى المشكلة الرئيسة للإنسان الحديث الذي ما زال يشعر بالحيرة في علاقاته مع شركائه في الإنسانية؛ وحجر الزاوية في مذهبه الروحي أننا بُعثنا لتوحيد الناس لا لتفريقهم، فرسولنا  وحّد كثيرًا من القبائل العربية تحت راية الإسلام، وسرعان ما بزغ العرب لأول مرة في تاريخ البشرية ليكونوا أمة؛ ورغم أن المسلمين الأوائل قاموا في مدة زمنية وجيزة بتحويل دولتهم الصغيرة في المدينة المنورة إلى إمبراطورية يحكمها الخليفة المسلم إلا أنه لم يحدث ألبتة أنهم حاولوا إنشاء دولة للعرب والمسلمين وحدهم، فمفهوم الخلافة هو شكل للدولة العظمى لا تشابه بينها وبين الدولة القومية التي تعد أحد إفرازات الاحتلال، وما انقسم المسلمون حول قضية الخلافة إلا أيام نهوض نظام الدولة القومية.

ونجا الشعب التركيّ تقريبًا من هيمنة آثار الاشتراكية الملحدة أو الشيوعية، ونجت تركيا أيضًا من تجربة المسلمين التقليدية مع الاحتلال الأوروبي؛ فقد تعرضت الشعوب المسلمة الخاضعة لحكم المحتل الأوروبي لضغط هائل؛ لتتنازل عن كثير من تراثها الإسلامي؛ وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر انجرف الأتراك العثمانيون في تيار المدّ القومي الذي تحول إلى علمانية كاسحة، وهذا لا يعني أن المظاهر الإسلامية أو طريقة حياة المسلمين التقليدية كانت مرفوضة في ظل حكم أشكال النظام العلماني التركيّ المختلفة في القرن العشرين، ويرى الرومي أن جميع الحروب إما لا معنى لها وإما حمقاء، فماذا عن الحروب الأيديولوجية؟ لهذا السؤال إجابات كثيرة عنده كلها يحفل بالمحبة والمودة واحترام الآخرين.

وجاء فتح الله كولن «روميُّ تركيا الحديث» بصوت متميز يدعو إلى حوار الأديان والحضارات، ويميز كما الرومي بين فئتين من الناس في المجتمع المسلم: أصحاب «الإسلام الكتابيّ» أي الذين يستندون في أحكامهم وتطبيقهم للإسلام إلى المصادر الرئيسة للإسلام وهو الكتاب والسنة، وأصحاب «الإسلام التقليدي» الذين لا نصيب لهم من الإسلام إلا ما وجدوا عليه آباءهم، وازداد هذا التقسيم قوة وحِدّةً منذ مطلع القرن التاسع عشر، وراحت جماعات إسلامية تحاول التوصل إلى كيفية لأداء رسالة الإسلام الحقيقية، فوقع كثيرون فريسة الحيرة لتركيزهم المفرط على المظهر الخارجي للإسلام، ولم يثمر النزاع بين العلمانيين في البلدان الإسلامية والإسلاميين بأنواعهم في حل هذه المشكلة؛ وبينما كان المسلمون يجتهدون في تصوير نبيهم مصلحًا اجتماعيًّا وصانع سلام، وصف بعض أهل الأديان الأخرى أيضًا النبيَّ محمدًا  بأوصاف رائعة، فمثلًا يقول المهاتما غاندي:

“صرتُ مقتنعًا أكثر من قبل بأن السيف لم يكن هو ما حقق للإسلام مكانه ومكانته يومئذ على خريطة الحياة، بل إصرارُ النبي على التواضع وإنكارُه التام لذاته وحرصُه على احترام عهوده وإخلاصُه البالغ لأصحابه وبسالتُه وشجاعته وثقته المطلقة بالله وبرسالته، هذا هو ما أزال العقبات وذلَّل له الصعاب لا السيفُ، فأحاديث النبي كنز من الحكمة ليس للمسلمين فحسب بل للبشرية قاطبة”[10].

ولطالما نسي  كثير من المطبقين لأحكام أهل الذمة أيام الأزمات أن كنز الحكمة أو طريقة الحياة في القرآن والسنة ليست مقصورة على هذه الجماعة من المسلمين أو تلك، بل هذه الموارد متاحة للبشرية جمعاء، ويمكن لأي شخص الاستفادة منها بشيء من الإيمان بالإسلام، ذكَّر الرومي المسلمين بذلك قبل ثمانية قرون، وفي القرن الحادي والعشرين نرى رسالة مشابهة لكولن عن الإصلاح الشخصي والاجتماعي، وهي توضح أن حركة الخدمة حركة شاملة روحية واجتماعية في الوقت نفسه، وهذا ليس من السهل إدراكه في الحركة؛ ومن الصعوبة بمكان في هذا الصدد التمييز بين الرومي وكولن، فما زال الوقت مبكرًا جدًّا لتحديد ما سيخلفه كولن لنا وراءه من تراث؛ وكولن لا يعنيه النشاط السياسي، ولا ينوي أن يؤسس طريقة صوفية خاصة به، فليس من السهل إذًا العثور على فارق بين الرومي وكولن.

يقول دينورشوييف:

“أهم إسهامات الرومي في نمو وتطور الحكمة الصوفية الإسلامية أنه نجح في المزج بين الجوانب النظرية للتصوف وبين أهميتها في تحقيق الوحدة بين مختلف أنواع الطرق الصوفية، فمن المهم عند الإنسان الحديث أن تعثر العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة على إجابات سليمة للمشكلة المتأصلة في نظامه الصوفي ليتمكن الإنسان من حلها؛ ولقصائد الرومي انتشار واسع بعد ترجمتها على يد ريوكيرتا، واستطاع الفيلسوف الألماني الشهير «هيجل» بعد قراءتها أن يلمح في الرومي فورًا الحس الصوفي الفلسفي المرهف والموهبة الشعرية الراقية في مؤلفاته «الزاهد» و«الروح الفلسفية»”[11].

بدأت ترجمة أعمال كولن تظهر في الغرب، وعلينا الانتظار لنرى كيف ينقد الكتاب الغربيون كولن ويقيمونه باعتباره الامتداد المعاصر للرومي، ولكن يمكننا القول بثقة: إن كولن ليس عالمًا إسلاميًّا تقليديًّا أو صوفيًّا له طريقة خاصة، إنه يجمع كثيرًا من السمات الأساسية للفقيه والداعية، أما العلماء التقليديون اليوم فينحصر دورهم في المحافظة على المعرفة المستمدة من المصادر الإسلامية ثم سردها حينما يطلب منهم ذلك، ويسميهم بعض الكتاب «ناقلين»[12].

وفي عصر المعلومات هذا لن يكون لهؤلاء الناقلين دور يذكر في حل أي مشكلة مهمة يعاني منها المسلمون، ففي كل بلد عدد جمّ من الناقلين للإسلام والثقافة الإسلامية العاجزين عن القيام بدور القيادة في عملية الإصلاح الجارية في مجتمعاتهم، وهذا ما جعل كثيرًا من أفراد النخبة المسلمة يسعدون لرؤية كتاب مثل المودودي وقطب، ويرون أنهم يمكن أن يلبوا حاجة العصر؛ والحق أن هؤلاء المفسرين للأيديولوجيا الإسلامية من منطلق ثقافة دينية سياسية كانوا يريدون استعادة الإسلام في بلدانهم بأي طريقة، وهنا أيضًا يُعد كولن استثناءً من الظاهرة العامة في العالم الإسلامي المعاصر، فهو لم ينس أمر وطنه لكن رؤيته لإحياء الروحانيات الإسلامية حظيت بتركيز أوسع بكثير من قضية صعود الإسلام السياسي في أي بلد إسلامي آخر، يقول المفكر الإسلامي التركي البارز علي بولاج:

“مع قدرة كولن على الحكم بصحة أي حديث نبوي بشكل دقيق له تفسيراته بخصوص القضايا المعاصرة، وهذا النوع القيادي الجديد يستعين بالمصادر الأمّ من كتاب وسنة، ولديه دراية جيدة بالعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي والعلوم الحديثة والتطورات الجارية، والحقيقة أن فعالية القائد تضعف بغياب أيٍّ من هذه السمات كما هو الحال مع العلماء الأتراك الآن المنفصلين عن العالم المعاصر، والمثقفين الأتراك الذين لا يعلمون شيئًا عن الإسلام والتاريخ”[13].

يشكل صعود الإسلام السياسي مأزقًا خطيرًا لدى معظم البلدان والجماعات الإسلامية المعاصرة، وساعد على انتشار التطرف والتعصب في مناطق كثيرة من العالم، ووجدت القوى المحتلة أنه من الأسهل تنفيذ سياسة «فرِّقْ تَسُدْ»، فلم يتحزب كولن لأي طرف في العداء القائم في العالم الإسلامي بين العلمانيين والإسلاميين في معركتهم الأيديولوجية للسيطرة على جهاز الدولة الفاسد الذي خلفه المحتل الأوروبي وراءه.

نعم، كولن امتداد للرومي في الدعوة للسلام والتوافق العالمي من أجل البشر جميعًا على أساس فهم أعمق للمبادئ الإسلامية، لكن نود أن نضيف أن كثيرين منا غير مدركين تمامًا لجسامة المهمة الخاصة بإصلاح مجتمعاتنا وجماعاتنا بما يتفق مع القيم الإنسانية المتأصلة «الفطرة».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مايمول أحسن خان، فتح الله كولن الرؤية والتأثير تجربة فاعلة في المجتمع المدني.