أولاً: التربية والتعليم من المهد إلى اللحد
الأسس التي يقوم عليها مشروع الأستاذ فتح الله كثيرة ومتعددة، ولكن التربية والتعليم هما المرتكزان المحوريان في رؤية فتح الله الشمولية. فهو عندما يتحدث عن التربية والتعليم يستحضر فكر بديع الزمان سعيد النورسي الذي يذكر بأن الأعداء المعنويين للإنسان هم: الجهل والفقر والفرقة، وبأن لكل مرض من هذه الأمراض علاج، فالفقر يعالج بحث الناس على ممارسة التجارة والعمل والكسب الحلال والاجتهاد. وأما الفرقة فيتغلب عليها بالحوار، وبث ثقافة التسامح، وحسن إنصات الأطراف بعضها لبعض، والاقتناع بأن هناك دائما حيزًا للالتقاء والتفاهم، ومجالاً مشتركًا في الرؤى والأفكار يمكن الاشتغال حوله وعليه. وأما الجهل فيداوى بالتربية والعلم والمعرفة، على أساس أن التربية والتعليم هي المكون الذي يسبق جميع المكونات الأخرى.
حافظ فتح الله على الترتيب نفسه عندما كان يؤسس فكر الحركية والعمل، ولذلك جعل من محاربة الجهل المنطلق الأول لكل عملية بناء وتشييد. ومن يتتبع خطواته في محافظة “إِزْمِير” على الخصوص سيلاحظ كيف كان حريصا على تأسيس ضوابط تربوية وقواعد تكوينية، تستهدف إيجاد جيل من الرجال حملة المشروع وحملة الأمل في المستقبل.. رجال مرتكزين على التزكية الروحية وإشباع العقل والفكر، مجهَّزين بكل ما يحتاج إليه من زاد يمنح المناعة والقوة. ولكي يكون هؤلاء الرجال في مستوى طموحاته كان لا بد من أن يشحنهم بروحانية مرحلة تاريخية بعينها هي مرحلة عصر السعادة. لقد رسخ في روح فتح الله وعقله أن الذين سيحملون مشروع البحث والإحياء هم نماذج إنسانية تشبه الصحابة رضوان الله عليهم جميعا.
وما تميز به الأستاذ وكان سببا في تحقق حلمه هو أنه لم ينعزل في برج عال ينتظر ويحلم وحده، بل قرن النظرية بالتجريب والتطبيق، ولا شك في أن هذا النظام الذي تأسس على مدى خمسين سنة لم يكن ليصل إلى ما هو عليه الآن من النضج والانسجام لو لم يكن الأستاذ نفسه قدوة لهؤلاء الرجال في التفاني والتضحية وفي استحضار السنة النبوية في شخصه وسعي حثيث لتجسيد أخلاق القرآن في شخصه.
لا شك في أن رؤية الأستاذ فتح الله في تفعيل رؤية بديع الزمان سعيد النورسي قد عرف الكثير من التحولات وإعادة النظر في بعض عناصرها المطبقة، خاصة إذا تم استحضار التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها تركيا في القرن الماضي. لكن مشروع إيجاد منظومة تستطيع تجاوز الجهل ظلت تتحرك دون أن تتوقف، إذ لا يجوز الظن بأن مؤسسة التربية والتعليم عند الأستاذ قد وُلدت ناضجة مكتملة منذ البداية.
وبعبارة أخرى إن نظام محاربة الجهل في منهج فتح الله الإصلاحي، قد مر بالكثير من مراحل التجريب والتعديل قبل أن يستقيم وفق الصورة التي هو عليها اليوم، والتي تتيح للدارس وصفها بالمشروع المتكامل والناضج.
إن تركيز فتح الله على التعليم والتربية يأتي من اقتناع فكري ومنهجي هو استحالة تصور النهضة والبناء و التأسيس دون إصلاح منظومة التربية والتعليم. ولذلك يبدو الأستاذ فتح الله متشبّعا بشعار “طلب العلم من المهد إلى اللحد”، بل إن الإنسان بالنسبة للأستاذ فتح الله يأتي إلى العالم عاجزا ومحتاجا، وهو لا يستطيع تجاوز عجزه وحاجاته إلا بالتربية والتعلم، إذ يقول: “نولد عاجزين وجاهلين لضوابط الحياة، ونضطرّ إلى إصدار صراخ من أجل الحصول على المساعدة. وبعد عام بالكاد نستطيع الوقوف على قدمين والخطو بضع خطوات، والمفروض أن نميز بين الخير والشر، وبين ما فيه مصلحة وما فيه مفسدة، ونحتاج إلى عمر كامل لتحصيل النضج المعرفي والروحي. فدورنا الأساسي هو الوصول إلى الكمال وصفاء الفكر والتصرفات والمعتقد… والغاية هي الارتقاء إلى مقام الإنسانية الحقيقية التي تستحق الحياة السعيدة والأبدية في العالم الآخر”.
الإنسان في عرف الأستاذ ليس مجرد جسد وعقل، بل هو روح كذلك. وروحه تحتاج إلى أن تتغذى وأن تشبع. والإشباع يتم بمعرفة الله تبارك وتعالى، والاعتقاد به. أي تحتاج إلى التربية بصفة عامة والتربية الدينية على الخصوص.
التربية واجب مقدس، فهي تعكس اسم “الرب” أي المربّي والمرشد، وهي تتحقق بالقدوة الحسنة.. فالتربية الحقة والتعليم الصحيح يرفع الإنسان إلى مصاف الإنسانية، وتجعل من الفرد عنصرا مفيدا للمجتمع ونفسه وللعالم كله.
التربية والتعليم مسألة حيوية بالنسبة للفرد والمجتمع، لكن إذا كان الجميع يستطيعون تلبية رغبات أجسامهم، وتربيتها، فإن القلة هي التي تستطيع تربية الروح والمشاعر. ولذلك كان رفع مجتمع من المجتمعات وإعلاؤه متصلاً برفع الأجيال إلى مصاف الإنسانية الحقة. والوصول إلى هذه النتيجة السامقة، ليس له سبيل إلا سبيل الرؤية التربوية الواضحة الجلية، كالرؤية التربوية المتصلة بدين سماوي كامل متكامل.
ثانيًا: التربية والتعليم نشاط الخدمة المركزي
سبق أن أشرنا في مكان سالف أن قطاع التربية والتعليم هو القطاع الحيوي بالنسبة لـ”الخدمة” بل يمكن القول بأن التربية والتعليم هي المجال الحيوي الذي تعرف به “الخدمة”، ولذلك يغلب على الأستاذ فتح الله كولن صفة “رجل التربية” أو كونه مربيا وعالم تربية بالمفهوم المعاصر، لأن الأستاذ فتح الله كولن صاحب نظرية تربوية عميقة تجمع بين عدة جوانب، أخلاقية وفكرية وفلسفية، بالإضافة إلى جوانب أخرى تطبيقية.
نظرية التعليم عند الأستاذ فتح الله ترتكز على أسس أهمها المربِّي والمربَّى أو المتعلم، ثم المدرسة باعتبارها مجالا لا باعتبارها مصطلحا. فقد تحولت هذه المكونات عند الأستاذ فتح الله كولن إلى مجال لإحداث التغيير. فنظرية التربية تبدأ في الحقيقة من البيوت، أو المحاضن الصافية التي تحقق التميز النوعي والتميز التربوي. إن الأستاذ فتح الله بما أوتي من بعد نظر وطاقة روحية ورصيد معرفي حوّل هذه البيوت التي استلهم فكرتها من نموذج دار الأرقم بن أبي الأرقم في العهد المكي من المدرسة النبوية المحمدية إلى فضاءات تربوية ومساحات نورانية من أجل إحداث التغيير والبناء المنشود. لقد جعل من هذه البيوت وسيلة لتغيير الناس وتغيير واقعهم، فكانت هذه البيوت بمثابة المعمل الذي يصنع اللبنات الضرورية لكل بناء، أو لنقلْ إنه قد ساعد الناس على إدراك الطاقة الكامنة فيهم. ودفَعَهم إلى توظيفها التوظيف الحسن بما يعود بالفائدة على المجموع وفي المقدمة المجتمع والوطن.
ركز الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي في قضية التغيير على الفرد، وجعل منه المنفذ لتحقيق التغيير والإصلاح. وإذا كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي قد ركز على النخبة، فإن الأستاذ فتح الله ركز على الجماهير الواسعة وعلى عموم المجتمع. بعبارة أخرى إذا كان النورسي قد ركز على التغيير الذاتي الفردي من أجل الوصول إلى المجتمع، فإن الأستاذ فتح الله كولن قد ركز على المجتمع كله باعتباره بوتقة واحدة متكاملة لا يمكن لأي مشروع حضاري وعمراني أن يسير دون أن تكون هذا الوحدة منسجمة ومتجانسة في الحد الأدنى. ولذلك بيوت الحدمة محاضن تشع بالنور والحياة لما كانت تقوم به من إعداد لرجال يطلق عليهم الأستاذ فتح الله “فِدائيُّو المحبّة” إذ يقول: “إن فِدائيِّي المحبّة ينظمون أنفسهم بشعور المحبة تجاه بيئتهم، وحتى حدتهم وغضبهم له طابع المهابة والجدية، لأنه يسعى للتنظيم والتقويم، أي يكون على الدوام مقيدا وبناء”.
لقد أطلق على هؤلاء الكثيرَ من التسميات والكثير من الأوصاف. فقد اعتبرهم إنسانا جديدا “ومجانين” لما يثورون عليه من قيم فاسدة وينشرونه من قيم إيجابية تتجاوز كل المقاييس المألوفة، وهؤلاء لا يمكن تكوينهم ولا إيجادهم إلا من خلال مكون تربوي مدروس، تعتبر محاضن النور أحد أهم أسسه.
جذور المنهج التربوي وأسسه عند الأستاذ فتح الله كولن ينبغي البحث عنها في المراحل الأولى لحياته، وخاصة في المرحلة التي قضاها الأستاذ مشرفا على وقف “كستانة بَازَارِي” (أو سوق الكستانة). لقد بدأت معالم الرؤية والمنهج الإصلاحي عنده تتخلق في هذه المرحلة. وقد كان من الممكن ألا يكون لهذه المرحلة الجنينية ثمار إيجابية لو لم تجد رجلا نجيبا يستطيع أن يمد التجربة بروحانية وطاقة عرفانية أخذت في التكون هي الأخرى. لقد وجد الأستاذ فتح الله نفسه أمام معطيات واقعية متناقضة، وتاريخ مليئ بالتجارب الإنسانية العميقة والخالدة ومستقبل يلوح في الأفق واعد المعالم، لكنه متلاطم الأمواج في الوقت نفسه. لقد كان الأستاذ فتح الله يلمس بعقله وروحه أن هذه المعطيات كلها تبدو متناقضة وأنه -لكي يفك التوتر بينها ويجعلها عناصر للبناء- لا بد من إيجاد الخيط الرابط والناظم لها حتى تحقق آمال الإنسان في كل مكان. كان النورسي رحمه الله يدرك بعينيه الثاقبتين أن العالم الإسلامي يحمل في أحشائه ثقافة أوربا وعلومها وبأنه سيلدها يومًا ما، وأن أوربا حامل بقيم الإسلام وبأنها ستلدها يومًا من الأيام. أما فتح الله كولن فقد كان يرى الإصلاح الحقيقي يبدأ أولا باستيعاب حقيقة العصر وبفهم حاجاته ووضع اليد على أمراضه، وتوظيف علومه للمصلحة وليس للمفسدة، يقول الأستاذ فتح الله مبرزا هذه الحقيقة: “إن من لا يعرف مجريات عصره كمن يعيش في دهليز مظلم، عبثا يحاول أن يبلغ شيئا عن الدين والإيمان إلى الآخرين، فعجلات الزمن والحوادث ستُفقده التأثير إن عاجلا أو آجلا”.
وليس فقط معرفة حقيقة العصر بل معرفة ثقافة العصر، إذ كيف يمكن التصدي للثقافة المنحرفة وكيف السبيل إلى معرفة مدى انحرافها أو عدمه إن لم تكن هنا معرفة دقيقة بثقافة هذا العصر.
لا شك في أن الأستاذ هنا يتحدث عن المبلّغ ووظيفته، لكن أليس المربي والمعلم مبلّغا، أو ليس المربَّى مشروع مبلغ في المستقبل، لأن العبرة هنا ليست بالمهمة التي يقوم بها الإنسان والوظيفة التي سيؤدّيها في مستقبل حياة، بل العبرة بما يبلغه عن لسان الحال. فإذا كان الداعية والخطيب والعالم والمعلم يبلغون بلسان المقال -كل حسب مجال اهتمامه- فإن هناك مبلغين آخرين يبلغون بلسان الحال، وهؤلاء هم أفراد المجتمع المثالي فردا فردا، أو الجتمع الإيجابي فردا فردا. لقد أدرك الأستاذ فتح الله كولن انطلاقا من وعي ذاته أولا ووعي واقعه ثانيا أن المنفذ الأساسي إلى الإصلاح والتغيير هو التربية والتعليم، حيث يقول: “مستقبل كل إنسان متعلق بما تأثر به وانطبع عليه في طفولته وشبابه من دروس التربية والسلوك. فإن كان قد قضى طفولته وشبابه في جو إيجابي يربّي المشاعر العلوية توقعنا كونه إنسانا يُحتذَى به من الناحية الفكرية والخلقية”.
ويقول مبرزا المسار الوحيد للإصلاح وبناء الأمة وبناء الحضارة: “إن إصلاح أي أمة لا يكون بالقضاء على الشرور، بل بتربية الأجيال تربية صحيحة، ورفعها إلى مستوى الإنسانية الحق. وعندما يبذر البذور المقدسة التي هي عبارة عن خليط من الشعور الديني والتاريخي والأعراف في أرجاء الوطن، فسترى نبتات وشتلات عدة وهي تنبث في موضع كل شريحة”.
وبكلام أدق إن التربية مهمة خطيرة وعنصر فعال في الإصلاح والتغيير، ولذلك فإن من لا يفقه ولا يعرف دقائقها وخصوصياتها وخلفياتها ومنطلقاتها فلن ينجح في بناء هذا المجتمع الصالح. وأتصور أن البحث في موضوع التربية وفلسفتها عند الأستاذ فتح الله يحتاج إلى دراسات خاصة وبحوث مستقلة من أجل إدراك كل الأبعاد الظاهرة والخفية في فلسفته التربوية مع ربطها بجانبها التطبيقي الذي تجسّده حركة الخدمة في كل أبعادها. وحسبنا في هذا المقام العمل على مقاربة المعالم الأساسية في مشروعه التربوي.
يظهر جليا أن الأستاذ فتح الله يعتبر أن التربية والتعليم من خلال “الخدمة” عصب البناء والتشييد والعمران والحضارة. إنه هو السباحة في المجال الحيوي كما يطلق عليها سمير بودينار.
يميز الأستاذ فتح الله بداية بين التربية والتعليم، فالتربية هي الإطار الكبير الذي يحتوي التعليم، لأنه كما يفهم من مضمون كلام الأستاذ فتح الله كولن لا يمكن لمهمة التعليم أن تنجح إذا لم يتم رعايتها بنظرة تربوية دقيقة، يقول: “المربيات والمربون الذين لم يتتلمذوا على يد خبيرة، ولم يتلقوا التربية من مصدر موثوق يشبهون العمي الذين يحملون المصابيح لإنارة الطريق أمام الآخرين. والوقاحة وعدم التربية المشاهدة عند الصغار تدل على عدم صفاء النبع الذي يتلقون منه التربية. وعدم التوازن الموجود في العائلة من ناحية التصرف أو الفكر ينعكس في روح الطفل ويتضـاعف هنـاك. ومنه يسـري طبعاً إلى المجتمع”، “يجب أن تولى أهمية لدروس التربية والثقافة الدينية في المدارس بقدر الأهمية المعطاة للدروس الأخرى في الأقل، حتى تتربى أجيال قوية في خلقها وسلوكها وروحها فيحولوا ربوع هذا الوطن إلى جنة والتعليم شيء والتربية شيء آخر. فمن الممكن أن يكون أكثر الناس معلمين، ولكن القلة فقط منهم يستطيع أن يكون مربيًا.”
يكشف عمقُ هذا الكلام عن تمييز الأستاذ بين التربية ومهمة التعليم، وذلك بجعل التربية أساسًا للتعليم.. لأن التعليم مسألة تقنية، وباستطاعة كل الناس ممارسة التعليم، لكن القادرين على التربية قلّة. وقد كان الأستاذ يلاحظ بأن الدولة تبذل ما في وسعها من أجل التعليم، لكنها كانت تبدو عاجزة عن تربية الأجيال. كما أن التربية التي قد تقدم في هذا التعليم تربية تفسد أكثر مما تصلح أو تفسد ولا تصلح، ولذلك كانت التربية أسبق على التعليم، لأنه إذا كان التعليم مسألة تقنيات، فإن التربية هي الطاقة التي تحركه وفق مرام محددة ينبغي الوصول إليها.
يؤكد فتح الله كولن في الكثير من كتاباته أن أهم هدف في حياة الإنسان هو البحث عن المعرفة الحقة. والمجهود الذي يبذله الإنسان في هذا الاتجاه يسمى تربية. وهي مسلك للارتقاء والوصول إلى المكانة التي يستحقها باعتباره كائنا كاملا، وباعتباره أرقى المخلوقات، بل إن الإنسان يحتاج إلى عمره كله لكي يصل إلى الكمال، وإلى مرتبة الإنسان الكامل، أو أن يصل إلى مرحلة الكمال الروحي والمعرفي.
يرى الأستاذ فتح الله أن المهمة الأساسية التي يتوجب على الإنسان القيام بها هي أن يحاول الوصول إلى صفاء الفكر والمنهج والمخططات والمعتقد، والقيام بدور العبودية للخالق، والعمل على إدراك دوره في نظام الوجود، وصولا إلى إدراك حقيقة الإنسان الحقيقي الذي يستحق منحة الخلود في الحياة الأخرى، فكل هذه المقومات لا يمكن أن تدرك إلا بالتربية. فإنسانية الإنسان متصلة شديدة الاتصال -في رأي الأستاذ- بمدى صفاء المشاعر، علما بأن الإنسان الممتلئ بمشاعر سيئة هو في الحقيقة شبه إنسان، وإنسانيته تحتاج إلى إثبات. وإذا كان الجميع يستطيع تربية وبناء الجانب الجسدي المادي، فإن قلة هم الذين يستطيعون تغذية الروح والمشاعر، ويملكون القدرة على الوصول إلى المصدر الذي تصدر منه، ويستطيعون بلورة المناهج التي تمكّن المتلقين من اكتساب روح التربية والتعليم.
ثالثًا: كيان الإنسان في ظل الحياة المعاصرة
لقد أغرقت المدنية المعاصرة في فصل الإنسان عن جانبه الروحي وحصرت نظرتها له في الجانب المادي، بل إن الفلسفة قد جعلت الكيان الإنساني مجرد مادة، وعلى أساس ذلك بنت فلسفتها المرتبطة بالإنسان في كل مجال بهدف واحد هو إشباع رغباته المادية.. وظلت فلسفة التربية منحصرة في الإجابة عن أسئلة الجسد وكيفية إشباع رغباته التي لم يعد لها حد، وصار الإنسان من هذه الزاوية مجرد وسيلة تستهلك ما طوره التقدم الصناعي من حصيلة تستجيب لهذا الجانب.
فالأستاذ فتح الله كولن عندما ينظر حوله لا يجد سوى هذه الحقيقة. وما حصله من معارف، وخاصة اطلاعه على أفكار الفلسفة الحديثة بما فيها الفلسفة المادية قد جعل منه مفكرا واعيا بما يحيط بإنسان العصور الحديثة. وعلى عادته فهو لا ينتقد لأجل النقد، ولكنه ينتقد من أجل البناء، ولا ينتقد إلا من خلال إعطاء البديل الفكري أو النظري، بل والبديل العملي.
قد تكون أفكار الأستاذ فتح الله كولن في مجال التربية أفكارا متداولة وأفكارا سُبق إليها، لكن ما يميز التربية عنده هو اقترانها بفعل عملي. لقد أدرك الأستاذ فتح الله كولن منذ وقت مبكر أن لا بد من وجود مجال حيوي تطبق فيه الأفكار وتنزل فيه، فكانت المدرسة بمفهومها الشامل.
رابعًا: التربية مدرسة ومدرس
أغلب من تحدث عن المستقبل ربط ذلك كله بالتعليم وخاصة تعليم الشباب وتربيتهم، لأن الشباب هم مستقبل كل أمة، ومن لا يهتم بشبابه لا يعنيه مستقبل أمته في شيء، ولذلك يقال إذا حددت الحال التي تريد لشبابك أن يكونوا عليها في المستقبل أقول لك طبيعة المستقبل الذي تريد لأمتك والحال التي ستكون عليها هذه الأمة في المستقبل.
ومن هذه الزاوية فالأستاذ فتح الله كولن أكثر مفكري العصر الحديث اهتماما بهذه الحقيقة، إذ لم يتوقف عند باب التنظير بل تجاوز ذلك إلى الفعل والتطبيق، إنْ من خلال الممارسة الفعلية لعملية التربية والتعليم، أو من خلال وضعه لمنهج عملي بتعهد الشباب في المنامات وبيوت الطلبة، أو من خلال إقناع الناس وخاصة أهل المال والاقتصاد ببناء مدارس ومعاهد من مستوى راق، في الشكل وفي طريقة التدبير والتسيير وفي طبيعة مخرجاتها. وفي هذا الإطار ينبغي الإشارة إلى أن من أهم ما يتصل بالعملية التربوية هو إعداد الإطار الكفء للقيام بهذه المهمة الخطيرة، وهم المدرسون؛ فهذه الفئة تقع على عاتقها مهمة توجيه النشء توجيها سليما وفق مبادئ تحدد مسبقا.
فالمدرسة عند الأستاذ مختبر يمنح الإكسير ويمنح الحياة، ويداوي أمراض الناس. والذين يقومون بذلك هم المربون والمعلمون. فالمدرسة هي المكان الذي نتعلم فيه كل ما يتعلق بالحياة الدنيا والحياة الأخرى، إذ تشرح الضروري من الأفكار والوقائع، وتتيح للمتعلم فهْم محيطه وحقيقة إنسانيته، وتمهّد السبيل لإدراك معاني الأشياء والوقائع، لتنقل المتعلم بذلك نحو الانضباط الفكري والأخلاقي، ونحو الصلاح والقدرة على النجاح وعلى الفعل الإيجابي. إن المدرسة بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن معبد أو بيت عبادة، ورجال الدين فيه هم المعلمون والمربون، وأما المصلون فهم هؤلاء الذين يأتون من أجل تحصيل التربية والمعرفة.
المربي الأصيل هو الذي يزرع البذور الصافية الطيبة ويعتني بها كما تعتني الأم بصغارها، لأن من أهم مهام المربي هو الاعتناء بكل طيب وجميل؛ فهو يوجه المتعلمين والأولاد في حياتهم ويساعدهم على مواجهة الأحداث والوقائع، وعلى مواجهة العالم.
العملية التعليمية قد تكون مرتبطة بتلقين مجموعة من المهارات والكفايات التعليمة والتقنية، وقد تكون نقلا لمجموعة من المعلومات.لكن التربية أعمق بكثير، لاسيما إذا ارتبطت برؤية تربوية سامية، فإن المخرجات ستكون من مستوى قوي جدا.
هذا هو عمق ما يراه الأستاذ حين يميز بين وظيفة التعليم ومهمة التربية. فهما شيئان مختلفان، لأن الكثير من الناس يستطيعون تعليم الآخرين، لكن قلة منهم يستطيعون تربيتهم. وأفضل منهج في نظر الأستاذ في مجال التربية هو التربية الدينية.
خامسًا: مفهوم المدرسة عند الأستاذ فتح الله كولن
كانت المدرسة حاضرة في كل مراحل تكوين الخدمة. وهنا لا نقصد المدرسة بمفهومها المادي، ولكن نقصد المدرسة بمفهومها العام والمعنوي. فالمدرسة بمفهومها المعنوي أو المؤسسي ظلت هي الإطار القوي الذي تتمحور حوله الخدمة. فقد نتصور تخلي الخدمة بصفة عامة عن مؤسساتها أو أن تترك بعض المجالات، لكنها حتما لن تترك مؤسسة المدرسة. فهي حاضرة بصورة مباشرة وغير مباشرة في كل محطات الخدمة.
وعلينا التمييز في هذا الإطار بين ما تقدمه مؤسسة المدرسة من معطيات أخلاقية وقيم، وبين ما تقدمه من معطيات علمية ومعلومات وأفكار. فقد يكون المستوى الثاني -القائم على المعلومات والمعارف والكفاءات التي تؤهل المتعلم للقيام بدوره داخل المجتمع في حدود الجوانب العملية- قويا وضروريا، لكن هذا الجانب المعرفي والمعلوماتي إنما هو مجرد مجال تقني يحتاج إلى عنصر أهم مرتبط بعمق الإنسان الذي يحمل هذه المعطيات، وهذا هو ما تقوم به المدرسة في المستوى الأول، أي إنها تعد الجانب الروحي والمعنوي في هذا الإنسان، وتعد الأرض التي ستنبت فيها المعلومة والفكرة لكي تثمر جنات وارفة الظلال، وتلد انبعاثا ونهضة.
والمتأمل في حياة فتح الله كولن، وفي تاريخ الخدمة بصفة عامة سيلمس أنه في عمقه تاريخ مسلك مدرسي بالمعنى الأول، ومؤسسة المدرسة حاضرة في كل شيء. ألم يكن مسجد الشرفات الثلاث مدرسة حاسمة في حياة الأستاذ، وفي الثكنة العسكرية وأثناء التجنيد، وفي السجن؟! ألم تكن مرحلة الإشراف على مدرسة “كَسْتَانَة بَازَارِي” مرحلة مدرسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟! ألم يكن الأستاذ فتح الله يرضى بالقليل وينفق راتبه على طلبته؟! ألم تكن المخيمات مدرسة؟!
لقد كانت مؤسسة المدرسة حاضرة في جميع مراحل البناء الحركي للخدمة. وقد تبدو بيوت الطلبة والمبيتات والمخيمات، والسكن الداخلي، ومجالس الصحبة ومحاضن التربية التي طوّرها الأستاذ أوجهًا مختلفة ومتنوعة للمدرسة.. فالمدارسة في عرف الخدمة بسيطة في صورها وأشكالها، لكنها دقيقة في أبعادها وفي منهجها؛ فهي تدين لرؤية الأستاذ وحركيته بالشيء الكثير، فقد طور منهجا بنفسه وغذّاه بروحه وعاش جميع تفاصيل نجاحه وفشله، بل عاش بنفسه أهم مراحله مطاردته عندما كانت السلطة الحاكمة ترى في بيوت الطلبة وفي المنامات والداخليات خطرا يهدد مستقبل البلد.
في هذه المؤسسة يترقى المربَّى -وليس المتعلم- روحيا، ويُربَّى على القيم والأخلاق، وتجعل منه القدوة الحسنة صورة نموذجية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المتحمل لمسؤولية كبرى، وهي مسؤولية إعداد الأجيال القادمة في المدرسة بالمفهوم العام.
استفاد الأستاذ فتح الله كولن من ملاحظات الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي وقف على الاختلالات الخطيرة التي ميّزت المدرسة من شكلها التقليدي، وفي شكلها الأوربي الحداثي الوضعي، حيث لاحظ بأن المدرسة التقليدية عاجزة بما تقدمه عن أن تكون مدرسة للعصر، وأما المدرسة الحديثة بسبب إغراقها في الوضعية وحصر نظرها في المعرفة المقطوعة عن النظرة الدينية لم تكن قادرة على أن تقدم النموذج القادر على البناء والتشييد. ولذلك فقد عاش بديع الزمان ردحا من الزمن على أمل أن يُقنع من يستطيع إنشاء مدرسة أطلق عليها اسم “مدرسة الزهراء” حيث تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية لكي تكون دليلا على أن لا تَعارُض بينهما بل يكمّلان بعضهما البعض. ولمّا يئس من ذلك وأمام ضغط الواقع وأحداثه قرّر التضحية بحياته وسعادته الخاصة. واعتزل العيش في وسط المجتمع يهيّئ أرضية لمن يتواصل معه روحيا ويحوّل أفكاره إلى منجز حقيقي. وأظن أن الأستاذ فتح الله كولن كان هو العقلية الفذة التي كان النورسي يحلم بأن تسير برؤيته الإصلاحية وتجعل منها قاعدة لتوسيع دائرة الفكر الإصلاحي. لقد مكّنته كتابات النورسي من أن يسلك مسلكا معرفيا وحركيا ذي توجهات متعددة، وليس طريقا أحادي الاتجاه.
إن المدرسة وفق المنظور الذي يؤمن به الأستاذ فتح الله الذي سيصنع الخدمة تحتاج إلى بنية تحتية، وهذه البنية التحتية تقوم على الإنسان. لقد ركّز الأستاذ فتح الله في منهجه التربوي على دفع الناس إلى إعادة اكتشاف هويتهم في أعماقهم وبعثها من كمونها وإحيائها من جديد. بعبارة أخرى لقد ركّز على دفع الناس إلى اكتشاف ذواتهم من خلال الإسلام ومن إعادة بعث إشراقات الدولة العثمانية.
لقد عمل الأستاذ على بعث إسلام نابع من الخصوصية التاريخية لتركيا باستحضار روح التقاليد الإسلامية في الدولة العثمانية ومزجها بمفهوم الوطنية التي أعاد شرحها بالقول إنها ليست استحضارا لجانب الدم والجنس، بل باستحضار تاريخ البذل والعطاء والتكافل والتسامح والعيش جنبا إلى جنب.
لقد كان الأستاذ فتح الله كولن قبل البدء بتنفيذ مشروعه أو حلمه البعثي في حاجة إلى ماض صلب يكون الإسلام أصلا فيه وأصلا له. كانت عودته إلى التاريخ العثماني بمختلف تجلياته الروحية والمادية، وخاصة روح الفتوة والدروشة. لقد آمن فتح الله بضرورة بعث تلك الروح المتسامحة والمتعاونة التي كانت تعم كل الفئات التي تعيش تحت سلطة الدولة العثمانية. وأما الإسلام الذي يعتقد الأستاذ فتح الله كولن أنه يستطيع القيام بهذه المهمة السامية فهو “الإسلام” في صفائه الأول كما تلقّاه الرسول عن ربّه U، وكما بلّغه إلى صحابته الكرام. ولذلك لم يوظف قيم الإسلام توظيفا أيديولوجيا.
لقد كانت بيوت الطلبة والمنامات والصحبة والأقسام الداخلية هي الوسائل الموظفة من أجل غرس قيم البذل والعطاء والتضحية والتفاني والفتوة وتحمل المسؤولية، ولم تكن الأبعاد الأيديولوجية التي كانت حركات أخرى في المرحلة نفسها تحاول غرسها في بعض الأوساط. لقد عمل الأستاذ على غرس هذه القيم باعتبارها قيما تقدم خدمة، وهذا من أجل التمهيد للثورة التربوية الكبرى.
سادسًا: مرتكزات التربية عند فتح الله كولن
ترتكز الرؤية التربوية عند الأستاذ فتح الله كولن على ثلاثة مرتكزات هي: غرس القيم، وتلقين العلوم والمعارف، ثم الانضباط الفردي.. على أن لكل هذه العناصر ارتباط متين بعنصر أمتن وهو نيل رضى الله تبارك وتعالى. فالتربية التي يريد الأستاذ والتي اجتهد وعمل من أجلها تتغيا إيجاد إنسان له شعور بالمسؤولية تجاه ذاته والآخرين وواقعيه.. ودليل ذلك هو استعداده للتضحية من أجل الآخرين، أي أن ينفي ذاته من أجل الآخرين.. لأن من شأن هذه القيمة أن تصنع إنسانا زاهدا فيما عند الآخرين حيث يطمع أن ينال رضى الله تبارك وتعالى. ولذلك فهذا الإنسان لا يركض خلف ما يركض خلفه الذين تشبّعوا بقيم من أجل أهداف أيديولوجية. فهذا النموذج الإنساني لا يمكن أن ينخدع بشعارات السياسة والسياسيين، لأن السياسة حسب منظور الأستاذ سياسات، وأخطر ما فيها هو أنها تفرق وتصنع العداوة، حيث يقول: “السياسة موجودة في كل أمر. أما سياسة الذين يهيّئون لإيقاظ الأمة وبعثها من جديد فهي إيثار أمر الأمة على كل شيء وتقديمها على كل شيء وعدم التفكير في أي مصلحة شخصية واستفراغ الجهد في مصالح الأمة”.
ما يزال الأستاذ إلى اليوم وهو في أمريكا يقوم بدور المربي والموجه في إعداد الأطر المهيأة أفضل تهيئ للقيام بالمهام العامة للخدمة. ولذلك فإن محيط الأستاذ فتح الله اليوم محيط جامعي، أو بالأحرى لقد فتح كولن جامعة للتربية العليا وليس للتعليم العالي، وهي جامعة لا يدخلها سوى من توفرت فيه شروطٌ أهمُّها الاستعداد المعنوي والروحي لاستقبال الواردات العرفانية، بالإضافة إلى الاستعداد الذهني والفكري والمعرفي الذي يؤهّل لأن يكون الإنسان على استعداد للتجاوب معرفيا وعلميا مع أفق الأستاذ.
وما يزال إلى اليوم يقوم بدور الأستاذ المربّي وفق نمط تقليدي متجدد، إذ يتحلق حوله طلبته ويطلب إليهم واجبات محددة هي عبارة عن قراءات دقيقة في أمّهات الكتب والمصادر يُتوّجُها الأستاذ بتعليقات وإضافات. والمتأمل فيما درّسه الأستاذ من مصادر في مجالات مختلفة من العلوم الشرعية، يرى أنه يرمي إلى هدف محدد، وهو بناء رجال على دراية دقيقة بالعلم الأصيل. علما بأن جامعة الأستاذ هذه لا يلتحق بها سوى المتفوّقين من خرّيجي الجامعات، فالقضية تتعلق ببناء مجتهدين قادرين على ربط روح الشريعة بما سيلحقون به من حيثيات الحياة العامة.
ظلت جهود الأستاذ فتح الله لعقود تتبلور تحت نار هادئة، في هدوء تام دون أن تثير حولها الضجيج عكس ما كانت تفعل العديد من الحركات الإسلامية ذات التوجه الأيديولوجي والسياسي. ورغم محاولات التضييق على حركة فتح الله ورغبة جهات معينة من داخل دواليب الحكم والمجتمع المدني جر فتح الله كولن والحركة إلى ميدان الصراع والتطاحن، فقد أبى فتح الله والذين تربّوا في مدرسته إلا أن يحافظوا على الظهور بمظهر الحركة المسالمة التي تريد مصلحة الوطن دون أن تكون لها مطامع وتطلعات سياسية. لقد كانت هذه المرحلة مرحلة حاسمة في تاريخ الحركة، لأنها هي التي مكّنت الأستاذ من أن يمدّ خيوط الثقة بين حركة الخدمة وبين مختلف فئات المجتمع، لأن الأستاذ فتح الله كولن يؤمن بأنه لكي يكون للأفكار صدى ولكي يكون لأي مقترح استجابة، ينبغي جعل الناس يثقون فيما يفكر فيه وفيما ينجزه من أفعال على أساس الفكر والعلم والبحث عن مصلحة الوطن والأمة، بل ومصلحة الإنسانية كلها. كانت هذه المرحلة مرحلة حاسمة في تاريخ المشروع الإصلاحي ومشروع البعث والنهضة، وبعبارة أخرى لقد كان الأستاذ فتح الله يهيئ الكادر البشري “الجيل الذهبي” وينتظر الفرصة المواتية لكي ينطلق في المجال الحيوي الذي هو التعليم.
يرى الأستاذ الدكتور “رجب قَايْمَاقجَان” أن العهد الجديد في تركيا وفي العالم والتحولات التي جاءت بها العولمة قد أحدثت تغييرات جوهرية فى فلسفة التعليم حسب الحاجات التي تحددها الدولة أو نظام الحكم، ووفق التوجهات العامة المراد الوصول إليها، يقول: “لا يمكن أن يقال إن مفهوم التعليم الإلزامي والتعليم للجميع الذي تشكل مع الدولة القومية الحديثة هو نشاط بعيد التقييم. إن تنشئة المواطن المناسب للدولة القومية كان أحد الأهداف الأساسية للتعليم. ومع العهد الجديد حدثت تغيرات جوهرية في فلسفة التعليم. والآن أصبحت تنشئة الأفراد الذين يتبنّون القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان إحدى الأهداف الأساسية للتعليم في المدارس”.
سابعًا: التربية الشمولية
ومن هذا المنطلق فإن الأستاذ فتح الله كان مستعدا فكريا وحركيا لتحويل التغيير إلى فرصة تاريخية لا يجود بها التاريخ والعصر إلا قليلا. ولذلك يرى “رجب قَايْمَاقْجَان” أن حركة الخدمة تأتي “في المقدمة في تحويل التغيير إلى فرصة مقارنة مع منظمات المجتمع المدني الأخرى. أما المجال الأكثر فاعلية في استفادة كولن من الإمكانات التي أتت بها العولمة فهو “التربية”. كان واضحا تأثير الأهمية التي أعطتها رؤية كولن للتعليم المدرسي الجيد بصفة خاصة في إطار قراءة روح العصر قراءة جيدة وتحويل التغيير إلى فرصة. وبالتالي يمكن أن يطلق على هذه الحركة أنها “ظاهرة تربوية””.
لم يكن الأستاذ فتح الله والذين تربّوا على يديه في البدايات أو طلائع الجيل الذهبي يمتلكون إعدادًا وعدة كافية، بل كانت عدة الأستاذ فتح الله كولن ورجال الخدمة آنذاك الرؤية الواضحة في مجال التربية والتعليم. لقد كان الأستاذ يؤمن بما يمكن أن يُطلَق عليه كما يقول “رجب قائماق جان “التربية الشمولية”.
لم تكن هذه التربية الشمولية مجرد رؤية أو نظرية، بل كانت مسلكا تربويا شرع فيه الأستاذ فتح الله عقودا قبل ظهور الفرصة الذهبية. وذلك لأن الأستاذ فتح الله كولن كان يدرك أن المشكلة المركزية في وطنه تركيا وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله هي مشكلة التربية والتعليم، وأن أسباب مشاكل العالم كله وفي تركيا على الخصوص متصلة بطبيعة النظم التربوية وبطبيعة المدرسة. رأى الأستاذ فتح الله أن المدرسة التقليدية التي كانت تدرس العلوم الدينية وتدرس علوم الآلة بالإضافة إلى علم الكلام والمنطق والحساب والأصول، كانت عاجزة عن تقديم هذه العلوم وفق نمط يبث فيها الحياة ويبعث الحياة فيمن تلقاها.. أجل، كانت تعاني من عجز تام في طريقة تبليغ المعرفة وفي المبلِّغ الذي يبلِّغ وفي المتلقي أو المبلَّغ إليه، نظرا لوجود هوة عميقة بين ما تقدمه المدرسة التقليدية وبين التحولات التي كان الواقع الاجتماعي قد دخل فيها، ولم يكن بمقدور المتخرج من هذه المدارس مواجهة تحديات الواقع.
أهم انتقاد وجهه الأستاذ للمدرسة التقليدية هو أنها أوصدت أبوابها أمام العلوم الطبيعية، رغم كونها عنصرا حتميا في تكميل أبعاد العلوم الشرعية والعلوم الدينية، يقول “رجب قايماقْ جان”: “يرى فتح الله كولن أن مشكلة التربية مشكلة جوهرية في العالم المعاصر وليس في تركيا فحسب، ويرى أن أساس أزمة المجتمع الحديث هو تمزق روابط التكامل بين العقل والقلب في التربية والفكر العلمي، إذ يقول أن الفكر العلمي الحديث والنظام التعليمي قطع الصلة بين جميع الوشائج الإنسانية والاجتماعية والفكرية وبين المقدسات بطريقة وضعية منذ عدة عصور. ومن ثم فهما يمثلان لدى الأستاذ أهم الأسباب في الأزمات الأخلاقية والمعنوية والفكرية التي تتعرض لها المجتمعات الحالية. كما يرى كولن أن الحل لهذه المشكلة يكمن في تحقيق التكامل بين العقل والقلب في التربية وفقا لرؤيته الشمولية حول إلى العلاقة بين الإنسان-الكون-الله”.
يرى قايماق جان أن رؤية الأستاذ فتح الله كولن أو مشروع الخدمة في الأصل “حركة تربوية”، لكن منظورها التربوي يقوم على جملة إضافات مركزية في أصل التعليم. ومن هذه الإضافات التي تعتبر اليوم القيمة المضافة التي تقدمها المدرسة بمفهومها المؤسسي في إطار الخدمة، اعتبارها القلب والعقل عنصرين متكاملين على أساس أنه لا ينبغي الفصل بينهما ولا ينبغي التركيز على جانب دون آخر، بل ينبغي التركيز عليهما معا. وهو ما يطلق عليه التربية الشمولية، وهي شمولية من هذا الجانب، أي من جهة نظرتها للإنسان على أنه كيان متكامل، لأن الإنسان يحتاج إلى إشباع الجانبين المتضمنين في أصل تكوينه، حيث يقول الأستاذ فتح الله كولن: “إنسـانية الإنسان لا ترتبط بجسده المادي الفاني فحسب، بـل ترتبط بروحه المشتاق إلى الأبدية والخلود كذلك. وهذا هـو السبب الكامن وراء عدم وصـوله إلى الإشـباع والرضا أبـدًا، حيث يعامَل وكأنه جسد فقط”.
ولا نستهدف بالتربية الشمولية التي يتحدث عنها “قايماف جان” تمكين المتربي والإنسان بصفة عامة من أن يتعرف على حقيقته وهويته، ويدرك ماهيته، ويتأهل لمعرفة خالقه فحسب.. بل بالتربية نتمكن كذلك من الحد من “التأثير الطاغي لهذا التوجيه من الأحاسيس التي استقرت في الطبيعة البشرية لتحقيق مقاصد وأهداف معينة، ولكشف الطرق الموصلة إلى الكمال أمام هذه الأحاسيس التي تبدو وكأنها ضارة. وذلك بتوجيهها إلى كل ما هو جميل وطيب، وتعمل على تقوية شعور الفضيلة وقوة الإرادة والقدرة على التفكير وحب الحرية لدى الفرد، وحب الحرية يعني العبودية الحقيقة لله”.
إن النموذج الذي يقتبس منه، ويسترشد به الأستاذ فتح الله، ومن خلال إرشاده مؤسسةَ المدرسة، هو سيرة النور الخالد وسيرة الصحابة الكرام خلال فترة عصر السعادة. في هذه المرحلة يكمن النموذج الذي تُقتَبس منه الصورةُ التي تحقق هذه التربية الشمولية، أو لنقل التربية المتكاملة. وفي هذه الدائرة فإن المعرفة التي يحصّلها المتربي في مؤسسة المدرسة يجب أن تكون وسيلة لإضافة ما يتيح له الاتصال مباشرة مع الخالق سبحانه. يقول الأستاذ محددا صفة الإنسان الذي يستحق وراثة الأرض: “التوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والشعور.. هذا التوجه الذي يشكّل جوابًا عن تمايل البشر وحَيْدهِ في انسياق البشرية بفرضيات سوداء في مرحلة زمنية معينة، سيكون خطوة مهمّة باسم الخلاص الإنساني. ولقد أشار بديع الزمان النورسي إلى أن البشرية تتوجه في آخر الزمان بكل طاقتها إلى فنون العلم والمعرفة، فتستمد كل قوّتها من العلم، ويمتلك العلم مـرة أخرى الحكم والقوة، وتصير الفصاحة والبلاغة وقوة البيان موضوعا في سبيل قبول الجمهور للعلم، وموضع اهتمام الجميع.. وذلك يعني عودةُ الحياة إلى العلم والبيان. ولا نرى سبيلاً غير هذا، يخلصنا من أجواء دخان الأوهام وضبابها المحيط ببيئتنا، ويوصلنا إلى الحقيقة، بل إلى حقيقة الحقائق. فإن عبورنا لفراغ قرون، وبلوغنا حدّ الإشباع في المعرفة، وإثبات وجودنا وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى بتعمير خراب حس الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن، لا بـد له من إمرار العلم في منشور الفكر الإسلامي، وتمثيله والإفادة عنه. وقد شهدنا في تاريخنا القريب خللاً ملموسًا في الفكر العلمي وتزلزلاً في توقير رجال العلم يصعب تعميره، بسبب تشتت التوجهات والأهداف حينا، أو اختلاط المعلومة بالعلم، والعلم بالفلسفة حينًا آخر”.
يبدو انتقاد الأستاذ للمدرسة الحديثة أو للمدرسة في صُورتها الغرْبية التي حطت رحالها في عالمنا شديدا. فقد كوّنت هذه المدرسة أجيالا من الشباب والرجال تعلقت عقولهم وقلوبهم بالمادة وبالطبيعة، فكانت أن قادت الأمة إلى الهاوية وإلى الانهيار.. ولتجاوز هذه الأزمة وما صنعته من ويلات لا بد من التجديد الذاتي للذات “في ظل الفكر العلمي الذي نشحن به شبابنا، وبتمازجهم تمازجا كاملا بالعلم والفكر، كما فعلنا ذلك قبل الغرب بقرون مديدة”.
وبكلام دقيق إن الأستاذ فتح الله يؤمن بأن الأجيال التي ستربّى في مؤسسة المدرسة، ويُراعَى في تربيتها العلاقة التكاملة بين القلب والعقل ستكون أجيالا ذهبيّة غير مغتربة عن ذاتها وهويتها.
ثامنًا: من المدرسة النظرية إلى المدرسة العملية
أهم ما يميز الأستاذ فتح الله كولن باعتباره رجل تربية وباعتباره معلما ومدرسا مارس وما يزال يمارس أشرف مهنة وهي مهنة التدريس. هو أنه قرن النظرية بالتطبيق، وربط النقد بإعادة البناء. ولذلك حث رجال الخدمة والمؤمنين بفكره بضرورة الإقدام على فتح المدارس. فكانت الانطلاقة من إِزْمِير في سنة 1982م مع فتح أول مدرسة وفق المناهج التي تحددها الدولة والجهات الرسمية المشرفة على قطاع التعليم. لكن على أساس الرؤية التي عمل الأستاذ على مدى أكثر من ثلاثة عقود على إيجاد البنية التحتية الفكرية والبشرية المؤهلة لكي تقوم المدرسة بدورها. وبالموازاة مع المدارس أنشئت العديد من الأقسام التحضيرية أو “الدرْس خانات” التي كانت تقوم بتأهيل الطلبة لدخول الجامعة، من خلال حرص الأستاذ المربي على تلقين التلميذ أو المتربي العديد من المهارات وتمكينه من جملة من الكفاءات العلمية والمعرفية التي تؤهله لأن يكون متفوقا في دروسه.
يؤكد الأستاذ فتح الله في كل مرة أنه لا علاقة عضوية تربطه بالمدارس، وأن ما يسمّى اليوم اصطلاحا بـ”مدارس فتح الله كولن” أو “المدارس التركية” المنتشرة عبر ما يزيد عن 160 دولة، والتي يتجاوز عددها 2000 مدرسة، ليست على علاقة مباشرة بالأستاذ فتح الله كولن، إلا فيما يتعلق بالفكرة والرؤية التي أقنعت مجموعة من رجال الأعمال بجدوى الاستثمار في مجال التربية. والاستثمار المراد هنا هو الاستثمار في الإنسان الذي سيصير عنصرا إيجابيا لذاته ولوطنه وللإنسانية كلها دون إهمال جانب الربح والاستفادة الاقتصادية، علمًا بأن الربح والاستفادة الاقتصادية في مؤسسات الخدمة ليس هو الهدف الأولى أبدًا.
كثيرا ما يُتساءل عن علاقة هذه المدارس بعضها ببعض وعما إذا كان هناك من إطار يجمع كل هذه المؤسسات، سواء تلك التي في تركيا أو التي توجد خارج تركيا.. جواب هذه القضية ليس متيسرا أو سهلا لأن هذه المدارس في أصلها مجموعات، وكل مجموعة منها تابعة عضويا لشركة من الشركات التي تنشط في مجال التربية.. بمعنى أن كل مؤسسة تتمتع بالاستقلال المادي وتدبّر أمورها باستقلالية تامة. يضاف إلى ذلك أن ما تحصله أو تحققه هذه المؤسسات من أرباح يتم استثماره داخل الشركة نفسها ويوظف في الغالب في تطوير أداء المؤسسة وفي بناء مدارس أخرى في تركيا أو في الخارج.
وما يؤكد هذه الاستقلالية هو تلك المنافسة الشريفة القائمة بين مختلف هذه المؤسسات في إطار تطوير أدائها وتقوية فرص نجاحها في مهمتها الأساسية المتمثلة في التربية والتعليم. وبعبارة أخرى لقد تحولت التربية في إطار الخدمة إلى مجال للاستثمار. وفي هذا يمكن أن نقف في تركيا على مجموعة من الشركات التي أنشأت في الغالب أقساما إعدادية، ففي إسطنبول اشتهرت مجموعة فيم (FEM) ومجموعة أنافن (ANAFEN)، ومجموعة الفاتح (FATİH)، ومجموعة جوشكون (COŞKUN)؛ وفي محافظة إزمير اشتهرت كُورْفَز (KORFEZ) ويامانْلر (YAMANLAR)، وفي أنقرة العاصمة اشتهرت مَالْتَبَه (MALTEPE) سامانْيُولو (SAMANYOLU)… وتفتح كل مؤسسة من هذه المؤسسات مدارس لها أو فروعا في أكبر المدن التركية، وتحظى هذه المؤسسات باحترام كبير لدى العائلات نظرا لجودة التعليم الذي تقدمه، ونظرا للعناية التي تجدها من الأطر التربوية. ولا يعني هذا أنه لا يوجد هناك هيأة استشارية وتوجيهية تقوم بالتنسيق على مستوى المناهج وتبادل التجارب واقتسام نتائج النجاح الذي تحققه.. ويبدو أن هذا الحقل ذا خصوصية كبيرة، ولذلك فهو يحتاج إلى دراسة خاصة، نرجو أن تتاح لنا فرصة القيام بها لاحقا.
تعتبر المدينة الساحلية “إِزْمِير” مهد الخدمة، فهي المدينة التي مارس فيها الأستاذ فتح الله الخطابة والوعظ في مساجدها الكبيرة. وقد كانت المدينة معروفة منذ العهد العثماني بانخراط أهلها في إطار جمعيات وتجمعات مهنية.
كان “وقف المعلمين الأتراك” أو “وقف معلمي تركيا” أهمّ وقف أسّسه محبّو الأستاذ فتح الله كولن وتلامذته في إزْمير حيث استهدف جمع الأطر التعليمية تحت إطار واحد، ولما كان هؤلاء أنفسهم آباء فقد كان الغرض كذلك هو دعم أبنائهم في تمدرسهم. بعد مدة من إنشائه شرع الوقف في إصدار مجلة سِيزِنْتِي (Sızıntı) 1979م قبل الانقلاب العسكري الذي حدث في 1980م، والذي غير الواقع السياسي التركي إلى حد بعيد. ستصير هذه المجلة فيما بعد أهم مجلات الخدمة. وأسندت كتابة المقال الافتتاحي للمجلة للأستاذ. عملت المجلة على إرساء ضوابط المنهج الذي تتبنّاه في مجال التربية. وما كان يميزها هو تلك المقالات العلمية التي كانت تنشر بجوار المقالات الأخرى في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وخاصة في المجالات الدينية والإسلامية. وتعتبر المجلة اليوم من أهم المجلات في تركيا، بل هي اليوم مؤسسة قائمة بذاتها ولها أنشطة مهمة. ولا شك أن “وقْف المعلّمين” هذا والهيئات التي صدرت عنه يمكن أن تعتبر المحطة التي يلتقي عندها أغلب المدارس التي تعرف بـ”مدارس فتح الله”.. فهي التي تقوم برسم الإطار النظري والفكري الديداكتيكي بهذه المدارس. ومن ثم يمكننا أن نقول بأنه إذا لم تكن هناك علاقة عضوية وإدارية واقتصادية تربط بين هذه المدارس فإن الإطار النظري والفكري من أجل تطوير أداء هذه المؤسسات التربوية بصفة عامة هو الموحد القوي والعنصر والأساسي والمركزي.
أنشأت الخدمة -أو المُقتنعون بفكر الأستاذ- العديد من المدارس وقاعات الدرس والجامعات في المدن الكبرى وفي الولايات البعيدة، إضافة إلى وجود ملحوظ على المستوى الخارجي خاصة في منطقة آسيا الوسطى ومنطقة البلقان. ومنذ أن استقر الأستاذ فتح الله كولن في أمريكا للعلاج زاد النشاط التربوي والتعليمي في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك أوربا وأمريكا.
وكما أشرنا سالفا فإن مفهوم المدرسة عند الأستاذ فتح الله كولن يرتكز على الجمع بين القلب والعقل أو بين المعرفة والقيم، في إطار ما يطلق عليه التربية الشمولية. وإذا كانت مدارس “الخدمة” تلحّ على قضية القيم، فإن هذه القيم لا تقدم بصورة جافة أو تدرَّس كما تدرس المواد الأخرى، لأن الغاية من هذه المدارس هو تكوين نموذج إنساني متشبّع بالقيم وله كفايات معرفية وعلمية تؤهله لأنْ يُساهم في بناء وطنه. ولذلك فإن القيم تقدم بصورة انسيابية من خلال القدوة الحسنة وفي إطارٍ تبرز فيه شخصية المعلم المربي الذي هو أهمّ عنصر في المنهج الذي وضع ضوابطه الأستاذ فتح الله كولن نفسه.
فقد كان باعتباره معلّما ومدرّسا هو أول من ربّى تلامذته بالقدوة الحسنة. فتاريخ الأستاذ فتح الله كولن قد وضع أهم خطوات هذا المنهج، من خلال الأساليب التي عامل بها الأستاذ تلامذته في المنامات أو في البيوت وفي المخيمات، لتنتقل هذه التجربة إلى القدر الواسع من الأطر التربوية. ومن هنا فإن للمعلم جملة من المميزات يجب أن يتحلى بها لكي يقوم بمهمته على الصورة المثلى. فالمربي شخص له استعداد لمرافقة المتعلم، وهو إنسان يقوم ببناء شخصية المتربي الأخلاقية وبناء سلوكه من أجل الوصول إلى استيعاب حقيقة خلقه، حتى يكون قادرا على تحمل المسؤولية وعلى التسامح. وليس معنى ذلك أن علاقة المربي بتلميذه تقف عند حدود المدرسة وحجرة الدرس، بل هي علاقة تستمر في البيت ومع العائلة. وذلك لأن هذا المربي يعتبر نفسه مسؤولا عن تلميذه في المدرسة وخارج المدرسة. فعلى المربي تقع مسؤولية كبيرة جدا، ألا وهي إنشاء “الجيل الذهبي” وإنشاء “جيل الأمل”، وهذه المهمة تحتاج إلى مربّ يعي دوره على أكمل وجه. ولذلك كانت المدرسة بمفهومها الشامل عند الأستاذ فتح الله كولن مختبرا لا يقوم بتقديم المعلومات والكفايات المعرفية فحسب، بل هي مؤسسة تعلّم المربي كيف يثير أسئلته الوجودية وأسئلة خلقه ودوره في هذا الوجود. ففي المدرسة يتعلم المتربي كل ما يتعلق بالحياة الدنيا والحياة الأخرى. ولكي تكون المدرسة مؤسسة ذات جودة عالية فإن المتعلم يجب أن يجد في المدرسة كل ما يريده من اهتمام وحب، ويجب أن يتقن لغته الأم، وأن يلقن التربية الروحية والقيم السامية، فالهوية الاجتماعية يجب أن تتأسس على هذه الأسس.
يقول “رجب قَايْمَاقْ جَانْ”: “مدارس كولن هي مدارس خاصة، لذلك يحق لها اختيار معلميها من كافة الزوايا. فإن أعظم الفروق التي تراعيها هذه المدارس عند اختيار معلميها هو توظيف الناجحين في تخصصاتهم، والذين يجيدون تربية الإنسان تربية شمولية.”.
المعلم أستاذ مقدس يصوغ الحياة ويرشد الأمة ويعلو بأخلاقها وشخصيتها، إنه هو من يعجن الأم والأب معا. وكل عجين لم يخرج من يديه فلا طعم له. إنه بطل المحبة والتسامح الذي يعرف طلاّبه بجميع صفاتهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم.
وعلى العموم فإذا كان الأستاذ فتح الله يتحدث على أن غاية وجود الإنسان هو التبليغ، فإن المعلم وفق المعايير التي يضعها التصور الإسلامي هو أهمّ المبلغين. وإذا كان الأستاذ يؤكد بأن التبليغ هو غاية وجودنا، فإن ما يقوم به المربي والمعلم هو عمق التبليغ. ولذلك فإن روح التبليغ ومعاييره هي نفسها المعايير التي تؤطر مهمّة المدرس في رؤية الأستاذ. ومن أهم تلك العناصر نجد عنصر “التضحية”. لقد انبنى المشروع التربوي للخدمة في كليته على التضحية بالمال والنفس والوقت وأشياء كثيرة. لقد نجح الأستاذ بفضل تأثير خطابه من أن يغرس في عروق المعلمين حب التضحية، فهاجروا إلى المناطق النائية وتركوا الأهل وبذخ العيش ويسر الحياة، وغامروا بأرواحهم عندما اختاروا عن طواعية السفر إلى مناطق تعاني من الحروب ومن صعوبة الطقس والجغرافية القاسية للقيام بالمهمة المقدسة، وهي إنشاء “الجيل الذهبي”.
Leave a Reply