1– العقيدة والفكر الديني في رؤية الأستاذ فتح الله كولن
وإلى جانب العناصر السالفة فإن مفهوم الثقافة يتعزز بقضية العقيدة الصحيحة. وقضية العقيدة الصحيحة متصلة شديد الاتصال بالفكر الديني عند الأستاذ فتح الله كولن بصفة عامة.
لا شك أن الفكر الديني عند الأستاذ فتح الله عميق الغور، واسع الرؤية، دقيق الاتصال بالأصول إلى درجة كبيرة.. بل إن الفكر الديني بصورة عامة وليد هذه الأصول ووليد ميراث الذات الثقافي، أو هو ميراث الثقافة الذاتية كما يطلق الأستاذ فتح الله عليها.. ولهذا فإن تناول الجانب العقدي في فكر الأستاذ ينبغي ربطه في كل المراحل بخصوصية المشروع الحضاري الذي ينطلق في ضوئه الأستاذ فتح الله.
إن الأساس الذي يحرك “الخدمة” ويحرك الدعوة بصورة عامة هو الدين وأفكاره المتقدمة. ولن نبالغ إذا قلنا بأن سر ذلك هو الفهم العميق والدقيق لمقاصد الدين، بالإضافة إلى دراية بسبل ومسالك تفعيل هذا الفكر الديني واقعيا. فالفكر الديني لا ينبغي أن يظل مجرد أفكار، ومجرد رؤى وتصورات وأفكار حبيسة في دائرة النظر، بل ينبغي أن تتحول إلى سلوك.. بل يمكن القول إن أهم ما أضافه الأستاذ فتح الله باعتباره مفكرا إصلاحيا وباعتباره رجلا حركيا هو تمكنه من نقل الفكر الديني من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي. وأهم ما يتم التركيز عليه في هذا الإطار هو جانب العقيدة. وتناوُلُ الأستاذ فتح الله من هذه الزاوية يعتبر أمرا دقيقا جدا، وموضوعا متسعا باتساع القضايا التي تطرق لها طيلة حياة التبليغ المستمرة منذ أكثر من خمسين سنة، ارتباطا بمجريات الواقع وتشعب مستوياته.
فقد كانت العقيدة من أهم قضايا التي تعرض لها فتح الله في أغلب خطبه وفي محاضراته وفي كتبه نظرا لأهميتها عنده، فلا مجال للحركية دون عنصر العقيدة التي تقوم بمهمة توجيه الفعل والحركية. فالعقيدة هي التي تحافظ على توازن علاقة الإنسان بواقعه ووجوده كله، ومن السهل إدراك العوامل التي تجعل الأستاذ فتح الله يهتم بموضوع العقيدة والفكر الديني كل هذا الاهتمام، وذلك بإنعام النظر في خصوصية “حركة الخدمة” التي تلحّ على إلغاء الأنانية الفردية والجماعية وإرجاع كل فضل وكل توفيق إلى الله تبارك وتعالى.. إذ ليس هناك أدنى مجال لمجرد الظن بأن النجاح والتوفيق هو من البشر ومن نجاعة المناهج والخطط المتبعة في تنزيل الأفكار والرؤى. والمتأمل في كتاب “القدر في ضوء الكتاب والسنة” سيدرك الأبعاد العقدية التي تأسست عليها رؤية الأستاذ فتح الله كولن، خاصة عندما يتناول موضوع الإرادة في علاقتها بالقضاء والقدر، إذ تظهر صعوبة تناول القضية العقدية نظرا للعوامل الآتية:
العامل الأول: هو تعدد مستويات الفكر الديني بصفة عامة عند الأستاذ فتح الله والفكر العقدي على وجه الخصوص عما ذكر سالفا.
العامل الثاني: تداخل فكر الأستاذ فتح الله وارتباطه بروح الدين، لأن منطلق أفكار الأستاذ وحلوله وتحليلاته من الإسلام. فكل مشاريع الخدمة المختومة بروح العصر والحداثة، توجهها الفكرة الدينية أو الرؤية الدينية. ولذلك فإن الفصل بين مستويات هذا الفكر مجرد فصل إجرائي أو صوري، لأن الأفكار في ظل منظومة الأستاذ فتح الله الإصلاحية لا تدرك كل مراميها إلا في دائرة مظاهر تنزيلها وتطبيقها.
العامل الثالث: حاجة الأستاذ فتح الله في كل ما كتب إلى استحضار روح العقيدة السليمة في كل ميادين الحياة، وخاصة في مجال شحذ الهمم وترغيب الناس في الفعل والعمل. ولذلك فإن العقيدة حاضره في عموم رؤية الأستاذ، بل نستطيع القول إن كل رؤية وتصور وموقف وسلوك صدر من الأستاذ متصلة بخيط ناظم هو العقيدة الصحيحة المتسامية، والتي يعاد ضبطها وتقويتها في كل وقت وحين في عالم المعنى الذي تبدو ارتباطات الأستاذ به أكثر قوة من ارتباطه بالعالم المادي.
يخبر جميع من عاشر الأستاذ أنه يعيش حالات روحانية قلّ نظيرها، تقوم على مجاهدة النفس وتصفية الروح والابتعاد بهما عن كل ما يكدر صفاءهما من هموم الدنيا والأهواء… وذلك بإلزام نفسه بضروب من العبادة لا يستطيعها الآخرون، فهو يعتبر العبادة بكل مظاهرها والإكثار منها من خلال النوعية والكمية هي مفتاح التوفيق والنجاح. فالأستاذ فتح الله كولن -كما يذكر ذلك تلامذته المقربون منه- كثيرا ما تنتابه حالات حزن شديد يخرج بعدها وقد امتلأت روحه. ودخول الأستاذ في مثل هذه الأحوال مرتبط بحالات استشعار قصوى باقتراب أزمات الواقع.
لا شك أن هذه الرياضة الروحية تحتاج إلى عقيدة قوية وإلى ضرورة تجديد معانيها في القلب والروح، فلا يقدم أمرًا، ولا يوجه الناس أو ينصحهم أو يحثهم على عمل وإنجاز دون أن يكون للعقيدة أثر في ذلك، بعد أن تختمر وتنضج في معمل الروح.
2– روح العقيدة روح الإصلاح والانبعاث
إن مشروع الأستاذ الإصلاحي يستمد قوته من حضور مقومات العقيدة السليمة في كل مراحل بنائه. وهنا مكمن التميز في فكر الأستاذ فتح الله.
فما مقومات العقيدة عند الأستاذ فتح الله كولن؟
وما القضايا الأكثر إلحاحا عليه؟
الأستاذ فتح الله مسلم سنّي ماتُريديّ العقيدة، لكنه عندما يتكلم في العقيدة الأشعرية تحسبه أشعريا كما يخبر بذلك بعض تلامذة الأستاذ.. فالأستاذ وإن كان ماتريدي العقيدة يعمل على بناء رؤية عقدية تنسجم مع روح المشروع الإصلاحي الذي يتبنّاه، وهو المشروع الذي يتطلب أن تكون قضية العقيدة فيه أمرا يسهل استيعاب العموم له، خاصة إذا استحضرنا أن الأستاذ فتح الله يخاطب عموم الناس، وإن كان يخص المقرّبين منه بمستويات خطاب عالية في الجلسات الخاصة، لكنه في مواعظه وفي الخطب المنبرية وفي المحاضرات وفي غير ذلك من المناسبات التي يكون العموم أكثر حضورا، يحرص على يكون الخطاب في مستوى إدراك العموم.
وبغضّ النظر عن طبيعة المنطلق العقدي للأستاذ فإنه لا يخرج عن دائرة أهل السنة والجماعة. فمنهجه في علم الكلام وفي العقيدة هو منهج أهل السنة الذي يبتعد عن الخوض فيما لا يجوز في حق ذات الله تبارك وتعالى.
منهج الأستاذ فتح الله في باب العقيدة منهج متجدد يستفيد من مصادر كثيرة من بينها الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي كان موضوع التوحيد والعقيدة من أهم ما ركز عليه في رسائله من خلال رفعه لشعار “إنقاذ الإيمان”. شيد النورسي في رسائله منظومة عقدية حية تخاطب العقل والروح، وتوظف من أجل ذلك الحقائق العلمية والكونية، بل يمكن القول بأن رسائل النور كتاب في علم الكلام جعل موضوعه الأساسي إثبات وحدانية الله وإثبات قدرته ووظف من أجل ذلك عددا كبيرا من الدلائل الوجودية وغيرها، ولا شك في أن جوانب من منهج النورسي ظاهرة في منهج الأستاذ فتح الله.
فإذا كان النورسي هو متكلم العصر الحديث -كما يذكر ذلك الدكتور محسن عبد الحميد- فإن فتح الله قد استفاد كثيرا من أفكار النورسي، لكنه طبعها بشخصيته، وصبّها في قالب خاص يمزج بين المقاربة العقلية، والحقيقة العلمية وضوابط الإقناع والحوار مستفيدا في ذلك من الخطاب القرآني ومنهجه في ذلك، ومسترشدا بالمنهج النبوي في إضاءة هذا الخطاب، دون أن ننسى أن انتماء الأستاذ إلى المذهب الحنفي يجعله أكثر قربا إلى استعمال الفكر والعقل في باب الاجتهاد، وذلك لأن المذهب الحنفي وخاصة في باب الفقه أكثر المذاهب الأربعة توظيفا للعقل والفكر. وإذا كان المذهب الحنفي أكثر المذاهب الأربعة توظيفا للعقل، فإن المذهب الماتُريديّ في العقيدة يتموقع في موقع وسط بين المذهب الأشعري والمذهب الاعتزالي. وتكمن دلالة ذلك في كون الأستاذ فتح الله ميالا إلى الرؤى الفكرية التي تستطيع توحيد مختلف التصورات الفكرية في مجال العقيدة، بالإضافة إلى أن هذا التوسط يتيح لفتح الله المتكلم التوقف عند حدود الرؤية التي تقف عند حدود الفكر العقدي القديم الذي كان يضع حدودا معينة لا يجوز تجاوزها تأدّبا مع الله.
كتب فتح الله الكثير في باب العقيدة، بالإضافة إلى خطبه المنبرية ومجموع فتاويه وإجاباته على مختلف الأسئلة المتعلقة بالعقيدة وبالقدر والتي جمعت في كتب، لكن لم يترجم من هذه الكتب إلى العربية سوى كتابين: الجزء الأول من سلسلة “أسئلة العصر المحيرة” وكتاب “القدر في ضوء الكتاب والسنة”.. وهناك كتب في هذا الموضوع مطبوعة باللغة التركية مثل “في ظلال الإيمان” و”البُعد الميتافيزيقي للوجود” إلا أنها لم تترجم إلى العربية بعدُ.. ولذلك فإن الذي نقف عليه لا يمثل سوى جزء يسير من الرؤية الكاملة لفلسفة العقيدة والقدر في رأي الأستاذ فتح الله.
3– منهج بسط العقيدة عند الأستاذ فتح الله
إن منهج تلقين العقيدة عند الأستاذ لا يخرج عن منهج أهل السنة والجماعة كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ففتح الله المربّي والمعلم لا يفتأ ينبّه إلى عدم الاشتغال بما لا فائدة من الخوض فيه، وخاصة القضايا ذات البعد الكلامي، بمعنى أن الأستاذ يميز بين القضايا العقدية التي تربط الإنسان بالخالق وفائدتها في تقوية هذا الإنسان، حتى يكون كائنا يحسن معرفة الخالق من خلال كل مكونات الكون والوجود. ولذلك عندما تطرح عليه أسئلة متعلقة بذات الله أو متعلقة بأمور الغيبية يعتبر كل ذلك نوعا من سوء الأدب مع الله تبارك وتعالى، يقول في أسئلة العصر المحيرة جوابا على سؤال وُجّه له عن جوهر الله وماهيته: “أجل، فنسبة ما يراه الإنسان في هذا العالم يبلغ فقط خمسة في المليون تقريبا، وكذلك نسبة ما يسمعه. فمثلاً لا يستطيع أن يسمع صوتًا اهتزازه 40 تردد في الثانية. كما إذا تجاوز هذا التردد الآلاف فلن يسمع أيضًا. إذن فحاسة السمع عند الإنسان محدودة، ولا تدرك هذه الحاسة إلاّ نسبة صغيرة في المليون. كما أن مجال بصره وسمعه محدودان جدًّا. إذن كيف يستطيع هذا الإنسان المحدود في علمه وبصره وسمعه أن يتجرّأ ويسأل: لماذا لا يرى الله؟ وكيف هو؟ إن طرح الإنسان مثل هذا السؤال ومحاولته نَسبَ الكمية والكيفية لله تعالى أو محاولة التفكير في ذاته جرأة وتجاوز للحد”.
لا شك أن الجواب يحمل في طياته الكثير من الأبعاد التربوية التي تقوم على توظيف المنطق العقلي، حيث نلاحظ حرص الأستاذ على تقديم أجوبة علمية منطقية قريبة من مستوى إدراك الإنسان. وضمنيا فالأستاذ فتح الله كولن عندما يقف على مثل هذه القضايا، إنما يوجه انتباه الناس إلى أن المنهج الأسلم هو منهج السلف ومنهج أهل السنة والجماعة.
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام في تحليلات الأستاذ هو إلحاحه على الأسلوب الذي يتوجب به تناول القضايا الكبرى كقضايا العقيدة. فعلى الرغم مما نلمسه من دراية معرفية وعلم في أجوبته في مختلف الحقول المرتبطة بالإنسان وحقل العقيدة والقدر ضمنها، فإنه يبدو حذرا في كل إجاباته. وهذه ناتجة فيما نرى عن رغبته في إظهار التواضع العلمي رغم علمه الواسع. ومما هو معلوم فإن العديد من المهتمين والباحثين يجمعون على أن الأستاذ فتح الله مجتهد، بل هناك من يعتبره أحد مجتهدي القرن ومجدديه، لكنه لتواضعه يرفض اعتبار نفسه مجتهدا ومجددا. ومن يقف على فتاويه يكتشف قدرة كبيرة على استخراج الأحكام وجعلها متماشية مع روح العصر، لأن علمه يتيح له ملاحظة بعض ما وقع فيه بعض الفقهاء من مجانبة للصواب، والرد عليهم بتواضع جم.
4– غاية العلم في ضوء العقيدة الصحيحة
قضية العقيدة والقضاء والقدر عند الأستاذ فتح الله كولن قضية تحفيز وشحذ همم، ولا يشتغل بها لذاتها وإنما يشتغل بها من أجل إعلاء الهمة وبعث الحياة في الروح وشحنها بالطاقة التي تسعفها في التعامل مع الواقع وقضاياه بكل قوة وبكل ثقة في الله تبارك وتعالى، لأن الأصل في الإنسان -كما يتصور الأستاذ فتح الله- هو مدى همّته في القيام بالواجب الذي أمره به. يقول مبرزا بتركيز كبير هذه الرؤية: “لا تظهر إنسانية الإنسان واضحةً إلا عند محاولته التعلم ثم تعليم غيره وتنويره. والذي لا يحاول التعلم -مع كل جهله- ولا يفكر بذلك ولا يجدد نفسه بما تعلمه ولا يكون قدوة لغيره هو إنسان بالصورة فقط وليس بالسريرة. أما الأمور التي يجب تعلّمها ثم تعليمها للآخرين فيجب أن تكون متعلقة بكشف ماهية الإنسان وأسرار الكون. وكل علم لا يكشف أسرار النفس الإنسانية ولا ينير النقاط المظلمة في الوجود ولا يحلّ العقَد المستعصية لا يعد علمًا.
إن الغاية من تعلم العلم هو اتخاذ المعرفة مرشدًا وهاديًا للإنسان ولتنوير الطرق التي ترقى بالإنسان نحو الكمالات الإنسانية. لذا فالعلوم التي لا تتناول الجانب الروحي للإنسان تكون عبئًا على صاحبها. وكل معرفة لا توجه الإنسان إلى الأهداف السامية ليست إلاّ عبئا للقلب والفكر لا فائدة منها. (….) يُعد العلم الذي وضحت غايته وهدفه وسيلة بركة دائمة لصاحبه، وكنـزا لا يفنى. والذين يملكون مثل هذا الكنـز يكونون بمثابة نبع ماء سائغ شرابه يرِده الناس طوال حياتهم وبعدها، ويكونون وسيلة خير. أما الفرضيات الجوفاء التي تلقي الشكوك والريب في القلوب، وتعتم الأرواح والتي لا تملك أهدافا واضحة فهي كومة من المزابل التي تطير حولها الأرواح الكدرة واليائسة وتكون فخا ومصيدة للأرواح”.
ولا شك أن تعلم أمور العقيدة وما يلزم من أمور التوحيد، ومعرفة الخالق وشروط التأدب مع الله، كلها عناصر تندرج فيما يتوجب على الإنسان معرفته. ولذلك فإن اشتغال الإنسان بصفة عامة بعلم الكلام قد لا يعود بنفع كثير، بالإضافة إلى أن هذا الأمر ليس هو مدار التكليف الإلهي للإنسان.
يهتم الأستاذ كثيرا بقضية العلم في ضوء قضية العقيدة، ولذلك دلالته في منهجه. القائم على ضرورة محاربة أعداء الإنسان الثلاثة: “الجهل” و”الفقر” و”التفرقة”.. ولا يقف الأمر عند الأستاذ عند هذه النقطة بل يتجاوز ذلك إلى بيان الأمر بالقول: “من المهم تخليص العلوم الحالية من الجمود والخمود ومن العبثية، وهذا يساعد على فهم مسألة المواضيع التي يهتم بها العلم بوضوح. كما يؤدي إلى قيام الإنسان بأداء ما يقع ضمن حصة إرادته وذهنه، ويستطيع آنذاك مشاهدة مكتسبات أحاسيسه وقلبه مشاهدة باطنية. عندئذ ينقلب المثقف إلى لسان فصيح وإلى قلب يستطيع قراءة الكون الموجود والموضوع أمامه ككتاب مفتوح سطرا سطرا. علما بأن من المستحيل تجاهل أن الكون لا يختلف عن كتاب، ولا سيما في الأوامر التكوينية، أي أوامر الخلق، حيث أن “القلم” كان أول ما خُلق، لذا كان أول أمر في القرآن المنـزل هو ﴿اِقْرَأْ﴾”.
يلح الأستاذ فتح الله كولن في هذا النص الجميل على عدة مسائل أساسية أهمها قضية العلم الحديث وما يطرحه من إشكالات في دائرة أن العلم الحقيقي هو العلم الذي ينفض عنه غبار الكسل والإهمال ويقود إلى إدراك الكون وقراءته قراءة الكتاب بغاية الاستفادة منه في تحصيل العلم الصحيح والعلم الحقيقي الذي يدل على الخالق ويزيد تعريفا بعظمته وقدرته. فالكون من هذه الزاوية يدل -كما يرى الأستاذ فتح كولن وكما بين ذلك بديع الزمان سعيد النورسي- على الخالق ويهدي إليه، بمعنى أنه كلما زادت قابلية الإنسان لإدراك العلم الحقيقي زادت مساحة التوحيد وإدراكه لذات الله تعالى، وهذا هو ما يريد فتح الله كولن الإشارة إليه في بيانه لمفهوم ﴿اِقْرَأْ﴾ باعتباره أول ما نزل من الوحي على رسول الله يقول: “الأمر الإلهي ﴿اِقْرَأْ﴾(العلق:1) أمر ودعوة ووظيفة إلهية وجهت إلى أشرف المخلوقات الذي تجلت فيه جميع الكمالات، ومن ثم إلى البشر أجمعين. وهذا الكون المعروض أمام أنظارنا لنتأمله ونفهم معناه ومحتواه، والشاهد على النظام الذي أنشأه الخالق، وعلى قدرته وعظمته وجماله… هذا الكون ليس إلاّ تجليا من تجليات اللوح المحفوظ. لقد جعل الله كل شيء في هذا الكون من أحياء أو جماد -عدا الإنسان- “قلمًا” لكي يقوم كل موجود بوظيفة تسجيل ما أُودع فيه من تجليات وحكم”. “إذن فإن ﴿اِقْرَأْ﴾ رمز للتوحد وللتكامل وللتكميل، ورمز للمشاهدة والتقييم والرؤية إلى جانب الحدس، وتعبير لساني عن هذه المعرفة الباطنية، وهو يحمل دلالات كبيرة لنا لكونه أول أمر موجه إلينا”.
فعدم الاشتغال بقضايا علم الكلام تبرره جملة مبررات منها أنه فوق مستوى إدراك الإنسان، ولأن الاشتغال بهذه القضايا ليس هو الغاية من خلق الإنسان، بالإضافة إلى أن الخوض فيها لا يعود بالفائدة على المجتمع والإنسان. يقول: “فمن أنت أيها الإنسان، وماذا تعلم أصلاً لكي تتجرأ وتحاول إدراك الله تعالى؟ إن الله تعالى منـزَّه عن الكيف والكم، وهو منـزه عن أن تحيط به مقاييسك الناقصة. فلو سافرت بسرعة الضوء تريليون سنة إلى عوالم أخرى ثم راكمت تلك العوالم بعضها على بعض لما بلغ ما شاهدتَه بالنسبة إليه تعالى ذرة أو هباءة”.
ولا ينبغي أن نظن أن الأستاذ ينادي بضرورة ترك علم الكلام، بل إننا نتصور أنه يعتبر الاشتغال به فرض كفاية، إذا اشتغل به البعض سقط عن البعض الآخر.. لكنه ضروري للثقافة الذاتية لأنه الوسيلة التي يدافع بها عن “منظومة المعتقدات الإسلامية بالأدلة العقلية والنقلية، والحفاظ على استقامة فكر المؤمنين، ورد الشبهات والشكوك التي تثار أو يحتمل إثارتها ضد الدين، وحراسة “العقائد الإسلامية الحقة” في إطار السنة السنية إزاء بعض التيارات الفلسفية الخاطئة”.
فإذا كان الغرض هو حماية الدين الذي هو أساس الميراث الثقافي فإن الاشتغال بقضايا علم الكلام يصير ضرورة، لكن شريطة البقاء في إطار الكتاب والسنة. ولا يرى الأستاذ بأسا من الانفتاح على مختلف أبواب العرفان شريطة ألا يدخل الفكر في قضايا ضالة، يقول: “وقد حرص قسم من المفكرين والعلماء على البقاء في إطار الكتاب والسنة ولم يسوقوا رأيا منهم في هذه المسائل، في حين أن البعض الآخر لم ير بأسًا في مد البيان بالبرهان وإثرائه بالعرفان، وتوسيعِه بالمحصلات الصوفية والفلسفية، بل رأوا أن الاشتغال بها على هذا الوجه خدمة للدين. صحيح أن التوسع على هذا النحو قد أَدخل إلى النظام الفكري الإسلامي أفكارا ضالة من رواسب الميراث القديم، لكن الواقع أيضًا أنه فَتَحَ أمام المسلمين آفاقًا عظيمة وواسعة”.
فهو يدعو إلى الاشتغال بما يدل على الله تعالى ويشير إلى عظمته من تأمل في مخلوقاته وفي الكون وفي الذات الإنسانية نفسها، لأن كل ذلك جزء من علمه تعالى.. “وجودنا ظل من نور وُجوده، وعلمنا نفحة من العلم الإلهي المحيط بكل شيء. أجل هناك في مستوى ما طريق لمعرفة الله تعالى والوصول إلى اكتساب مرتبة العرفان، ولكن هذا الطريق ليس الطريق الاعتيادي لمعرفة الأشياء، بل طريق مختلف تمامًا. والذين يحاولون معرفة الله بسلوك طريق منحرف هم قسم من البؤساء الذين لم يستطيعوا التغلب على غرور النفس، ولم يعرفوا الإلهام الباطني، ولم يذوقوه. لذا تراهم يقولون: “لقد فتّشتُ عن الله فلم أجده”. وهذا تعبير عن ضلال كبير وقول زائف باسم العلم والفلسفة”.
ربط الأستاذ فتح الله علم الكلام وقضاياه بالسلوك الذي يتوجب أن ينعكس في كل عمل وفي كل مشروع، بل ينبغي أن يكون الشعار المركزي في جميع المشاريع الحضارية التي أوحى بها لمحبيه فانطلقوا يحققونها بكل حماس وثقة في نجاحها، وفي كونها ستبني المستقبل بتوفيق الله. و”الخدمة” باعتبارها حركة مجتمعية نابعة من عمق حاجات المجتمع التركي على أساس كونه مجتمعا ينتمي إلى العصر الحديث، دون أن يكون منسلخا عن أصوله الثقافية، وتركيز الأستاذ فتح الله كولن على العنصر العقدي في الفعل والحركة وجعل ذلك محركا للخدمة، فيه اعتراف ضمني بأن كل شيء متّصل بالله. فالتوفيق والحركة من الله وبالله.. فالله باعتباره الخالق المتحكم في كل شيء والمتصرف في الكون والوجود بكل حرية، وباعتباره المهندس الأول الذي خط خارطة الكون والوجود بكل توازن ودقة متناهية، يستطيع أن يجعل من حركة الإنسان وخدمته الخالصة لوجهه تعالى جزءا لهذا التوازن. وكأن الخدمة باستحضارها لحقيقة التوحيد تدخل في إطار الهندسة الكبرى التي يريد خالق الوجود لوجوده السير عليها. بعبارة أخرى إن الخدمة جزء من هذا التوازن ما دامت تتحرك في ضوء العقيدة الصحيحة وفي ضوء روح الإسلام.
فالخدمة -من مقترب آخر- هي البوتقة التي يتآلف فيها “الإنسان-الكائنات-الله”، لأنها تجتهد في أن تعيش روح الإسلام. وما يقصده الأستاذ بروح الإسلام ليس الحال التي يوجد عليها الإسلام في الوقع الحاضر، بل هو شيء آخر، يقول: “وإذ نقول “روح الإسلام” لا نعني حاله الذي يبدو في واقعنا الحاضر ومن زاوية نظرنا ووِجهةِ تقويمنا له، باهتا وذاويا وفاقدا بَريقَ جاذبيته السماوية. بل بألوانه ورقوشه البراقة، وكما كانت -ولا زالت- أرواحٌ طاهرةٌ تستشعره فتتذوقه، وكما أحسَّه إنسانُ عصرِ السعادة وعاشه. هذا الروح لا يزال كالبحر الذي لا تسكن أمواجه، طاهرًا أبدًا، نديًّا، عميقًا لا يتكدّر قط بالأوساخ الفكرية لأي زمانٍ أو مكانٍ. لكنَّ الوصولَ إليه وتمامَ الاستفادة منه يتطلب تثبيتا للنية وتسديدا لزاوية الـنظر، وعلوا في الهمة وثباتا في المثابرة، وصدقا في التوجه وثقة بالأصل الذي ينتمي إليه”.
لقد قدم فتح الله كولن علم التوحيد والعقيدة الإسلامية وفق نمط منسجم مع المشروع المركزي، وهو بناء الإنسان روحيا ووفق نمط يجعل من هذا الإنسان مخلوقا فاعلا في الكون والوجود، ووفق نمط تتجلى فيه حقيقة “الإنسان العبد لله” المكلف بمهمة إعمار الأرض ونشر الفضيلة. على أن الفارق بين العبادة والإعمار فارق إجرائي، وإلا فإن العبادة لا تنفصل عن الإعمار.
لا يتردد فتح الله كولن في الإجابة عن القضايا التي يراها ضرورية والتي تحتاج إلى التوضيح مخافة وقوع الناس تحت تأثيرِ جاهلٍ يفسد من حيث يريد أن يصلح. ولذلك فهو يوظف أجوبته في إطار تربوي عندما يسأل سؤالا من مثل “لماذا تستحيل رؤية الله؟ وكيف يجاب على من يطرح مثل هذه الأسئلة؟”.
يؤمن الأستاذ فتح الله بأن ترك السؤال معلقا دون جواب قد يحدث بلبلة فكرية لدى السائل. ولكي يمنع ذلك يجيب إجابة عقلية منطقية تعتمد الإقناع وتراعي التبسيط حتى يتسنى لكل الفئات إدراك المراد. يقول باسطا جوابه على السؤال السالف: “الرؤية مسألة إحاطة. فمثلاً هناك جراثيم في جسم الإنسان، وقد توجد ملايين من البكتريا أسفل سنّ واحدة، وهذه البكتريا تستطيع بما أُوتيت من قابليات وإمكانيات نخر سن الإنسان وتخريبها. ولكن الإنسان لا يستطيع سماع صوتها أو ضجيجها كما لا يحس بها ولا بوجودها. كما أن هذه البكتريات لا تستطيع رؤية الإنسان ولا الإحاطة به. ولكي تستطيع الإحاطة به عليها أن تكون في موضع مستقل وخارجي عنه، وتملك في الوقت نفسه عيونًا تلسكوبية. إذن فعدم قدرتها على الإحاطة بالإنسان تمنعها من رؤيته، وهي لا تستطيع سوى رؤية ما موجود أمامها فقط. بعد هذا المثال من العالم الأصغر، لنعط مثالاً من العالم الأكبر: تخيّل أنك جالس أمام تلسكوب كبير يستطيع رؤية أمكنة على بعد أربعة مليارات سنة ضوئية. ومع ذلك فمعرفتنا حول الكون وحول المكان تعد قطرة في بحر. قد نستطيع معرفة بعض النظريات غير الواضحة تمامًا حول المجال أو الساحة التي يغطيها ذلك التلسكوب وبعض المعلومات أيضًا، ونسعى انطلاقًا من هذه الفرضيات والمعلومات لنصل إلى فرضيات ومعلومات أخرى كذلك. ولكننا لا نستطيع الإحاطة الكاملة بالكون ولا بماهيته ولا بإدارته ولا بشكله العام ولا بمحتواه، لأننا مثلما لا نملك إحاطة كاملة في العالم الأصغر، كذلك لا نملك مثل هذه الإحاطة التامة في العالم الأكبر”.
يرسم الأستاذ فتح الله من خلال جوابه هذا معالم منهج تربوي يقوم على الإقناع بالمنطق والعقل، وعلى دعم المتلقي بكل ما يقرب الأفكار من خلال ذكر الأمثلة العقلية التي لا يختلف حولها العقلاء من الناس، بالإضافة إلى توظيف منهج المقارنة الضمنية التي تحتاج العقل والدليل الملموس، ولا يعارض المنطق العلمي وقواعده.
بالتحليل العقلي الملموس يدرك كل عقل متوازن أن السؤال في حد ذاته أكبر من أن تدرك حقيقته. وبهذا تبرز أداة ناضجة من أدوات الأستاذ في تطبيق منهج عرض العقيدة وترسيخها. فلسان حاله يدعو كل واحد إلى تصور ذاته في دائرة الإحاطة الإلهية بالقول: “وأنتم… أنتم الذين تُعدون بالنسبة لهذه الأكوان أجزاء ميكروسكوبية كيف تستطيعون ادعاء إحاطتكم بالكون والمكان؟ بينما الأماكن كلها والأكوان كلها تعد أشياء ميكروسكوبية بالنسبة إلى عرشه تعالى الذي هو مجرد محل تنفيذ الإرادة والأوامر الإلهية… أليس هذا اشتغال بالعبث؟ فإذا كان الأمر هكذا فقسْ أنت درجة العبث في محاولة الإحاطة بالله تعالى”.
أشرنا سابقا إلى أن الجانب العقدي في فكر الأستاذ فتح الله مرتبط بمنهجه الدعوي بصفة عامة. وهو وسيلة دعم لرؤيته الفاعلة في الواقع. ولذلك كان هذا المنهج منفتحا على كل النماذج الإنسانية باعتبار ما فيها من خيرية. وبقدر انفتاحه يسعى بكل الوسائل الفكرية إلى منع انتشار الفكر الإلحادي والرد عليه. فإذا كان الإنسان هو العنصر المركزي الذي يحظى باهتمام الأستاذ فإنه يجتهد من أجل تحصينه. بعبارة أخرى إن الأستاذ فتح الله كولن عندما يركّز على العقيدة الصحيحة في تعالمه مع الإنسان، يركز على المرامي الإصلاحية والحضارية والإنسانية التي يتطلع إلى الوصول إليها، وكأن الإنسان المهزوز العقيدة لا يمكنه السير بمشروع الأستاذ الإصلاحي نحو أهدافه ومراميه القريبة والبعيدة. ولذلك نلاحظ كثرة إلحاحه على هذه الجوانب، والدليل على ذلك هو استمراره في الإلحاح على أبناء الخدمة ومتطوعيها ورجالاتها على قتل الأنانية الذاتية والجماعية. إنها فلسفة التسفير عند الأستاذ، أي “تَسْفِير” النفس وجعلها سفْرا، وليس صفرا، لأن الصاد صوت مجهور إيقاعُه مرتفع لا يوحي بالتواضع.
5– الإلحاد والسقوط
لفهم الأبعاد المتحكمة في رؤية الأستاذ بخصوص العقيدة، يلزم الرجوع إلى ما قبل سقوط الدولة العثمانية. فقد كان من بين أسباب سقوطها انتشار الفكر الإلحادي والتنكر للدين. وقد وصف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي هذه الوضعية من خلال حديثه عن المذهب الطبيعي الذي كان انتشر آنئذ، وهو سبب من بين الأسباب التي جعلت الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يعلن مشروعه الكبير “إنقاذ الإيمان”. ولم تكن الفترة التي تبعت قيام الجمهورية وإعلان العلمانية بأحسن حالا في هذا الباب. لقد عاصر الأستاذ فتح الله كولن استمرار انتشار الفكر الإلحادي والفلسفات التي قدمت للشباب على أنها فلسفات تقدم الوجه الحقيقي للإنسان، فهرع الشباب إليها دون تعقّل أو تدبّر ودون أن يجدوا مرشدا يرشدهم.. وكأنهم قد نُوّموا تنويمًا، فانتشرت أولا فلسفة فرويد تحت مصطلح “اللبيدو” الذي جرح مفهوم الحياء لدى الناس، ثمَّ طغت الفلسفة الوجوديَّة لـ”جان بول سارتر” و”كامو” فجردت حصون الحياء وجعلتها أثرا بعد عين. حتى غدا الشاب يستيقظ صباحا فيصفق للفوضوية، وفي الظهر يقف احتراما للنظام الماركسى اللينينى، وفي العصر يحيّي الوجودية، وفي العشاء قد ينشد نشيد هتلريا. ولم يعد هناك شاب يلتفت أبدا إلى جذور روحه، ولا إلى شجرة أمته، ولا إلى ثمار هذه الشجرة.
رأى فتح الله بعينه كل هذا الفساد الروحى والتدني الأخلاقي، فسعى جاهدا يحمل سيف الكلمة والقلم والتوجيه والوعظ والإرشاد، شارحا ومبيّنا فساد هذه الفلسفات الإلحادية وأثرها الخطير وأنها لا تصلح منهجا ينتهجه المسلم في حياته من أجل إحياء عصر نهضته.. بل لنقلْ إنّ تصدّي الأستاذ فتح الله كولن للإلحاد يرجع إلى إيمانه العميق بأن هذا الوباء غريب عن التربة وعن الواقع وعن أصوله، لأن التربة التي هي هدف الأستاذ فتح الله تربة لا تحيى إلا بالتوحيد وبالإسلام. ولذلك فهو يعتبر أن أحد معوقات الانبعاث والإحياء والانطلاق من جديد هو أن يتوهم المجتمع أن عوامل النهوض تكمن بالدرجة الأولى في التنكر للثقافة الذاتية والتمسك بثقافة غيرية هي ثقافة الغرب الذي جعل من الفلسفة الإلحادية سببا من أسباب التقدم والعصرنة، حيث يقول: “لنضع جانبا بلبلة التكوينات الجديدة في العالم. نحن لا نصدق بولادة شيء جديد من الهندام الرأسمالي القديم أو أحلام الشيوعية، أو تكسيراتها الاشتراكية أو هجين الديمقراطية الاجتماعية، أو خرق الليبرالية البالية. الحقيقة أنه إن كان ثَمّ عالم مشرع الأبواب لنظام عالمي جديد، فهو عالمنا نحن، وسيتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن”.
فالأستاذ في هذا المقام يعطي لموضوع الإلحاد أهمية خاصة ويوظف من أجل دحض الأفكار الإلحادية كل الوسائل العقلية والمنطقية، بل لا يتوانى عن مخاطبة الملحدين بأوصاف تبين قيمتهم في نظر المجتمع، ولا يتوانى عن بيان تدني رؤاهم بالنسبة لمستقبل الأمة والمجتمع، مرجعا السبب المباشر للإلحاد إلى “الجهل” باعتباره آفة كبيرة تنخر كيان المجتمع، ولذلك توجب التصدي بكل الوسائل، يقول: “إن أوّل بيئة ينمو فيها الإلحاد هي البيئة التي يسود فيها الجهل ويغيب عنها القلب. فكتل الجماهير التي لا تتلقى تربية وتغذية روحية وقلبية ستقع -إن عاجلاً أم آجلاً- في براثن الإلحاد. وإذا لم تتدخل العناية الإلهية فإنها لن تستطيع إنقاذ نفسها. إذا لم تبذل الأمة عناية خاصة في تعليم أفرادها ضرورات الإيمان ولم تظهر الحساسية اللازمة في هذا الأمر وتركت أفرادها في ظلام الجهل، فإن هؤلاء الأفراد يكونون قد دفعوا لتقبل كل إيحاء معروض عليهم”.
الإلحاد عند الأستاذ مجرد انحراف نفسي وعناد فكري مسبق ومزاح طفولي، لكن بعض الشباب لم يتمكنوا من التخلص من تأثير أفكاره التي أكل الزمن عليها وشرب، متوهمين أنها حقائق علمية وهي أبعد ما تكون عن ذلك، ومرد ذلك هو أن هؤلاء الشباب لم يتلقّوا تربية روحية كافية.. فالإلحاد “من الناحية الفكرية هو إنكار الله وعدم قبوله. وفي مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود. أما في مستوى العمل والسلوك فيتبنّى الإباحية ويدافع عنها”.
ونظرا لأهمية موضوع الإلحاد نلاحظ أن الاستاذ فتح الله لا يقف عند حدود إثارة الانتباه إلى خطورته بل يذهب إلى حد تحليل أسباب انتشار وبيان العوامل التي تساعد على انتشاره في المجتمع، وهي تتلخص في عاملين:
العامل الأول، هو انهدام الحياة القلبية للإنسان. ومن هنا يفهم السبب الذي يجعل الأستاذ فتح الله كولن كثير الإلحاح على جانب الحياة القلبية وعلى الجانب الروحي في اهتمامه بالإنسان، بل إن أحد أهم الأسس التي يركز عليها الأستاذ في حركته الإصلاحية هو ضرورة تقوية الحياة القلبية للفرد والجماعة، يقول: “بما أن الإلحاد يعني الإنكار، فإن انتشاره متعلق بانهدام الحياة القلبية وسقوطها. طبعًا يمكن الإشارة إلى أسباب أخرى كذلك. الإلحاد من الناحية الفكرية هو إنكار الله وعدم قبوله. وفي مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود. أما في مستوى العمل والسلوك فيتبنّى الإباحية ويدافع عنها. انتشر الإلحاد فكريًّا نتيجة إهمال الأجيال الشابة ونتيجة سوء التطبيق في دور العلم ومعاهده، إضافة إلى اكتسابه السرعة والقوة بتلقّيه المساعدات من جهات كثيرة”.
ويقول أيضًا: “إن الحوادث التي انبثقت كل منها من يد القدرة الإلهية والتي كل منها رسالة إلهية، هذه الحوادث -أو بتعبير آخر قوانين الطبيعة هذه- أصبحت في يد الإلحاد وسيلة لاستغفال الأجيال وساحة لبذر بذور الإلحاد. مع أنه سبق وأن كتب آلاف المرّات في الشرق والغرب وذكر أن قوانين الطبيعة هذه ليست إلا آلية تعمل بدقة واتساق واطراد ومعملا ذا انتاج وفير. ولكن من أين أتت هذه القدرة على الإنتاج ومن أين أتى هذا النظام؟ أيمكن أن تكون هذه الطبيعة الجميلة التي تسحر النفوس والأرواح مثل شعر منظم ونغم موسيقى نتيجة مصادفات عمياء؟ إن كانت الطبيعة -كما يُتوهم- قوة قادرة على الإنشاء والخلق، فهل نستطيع إيضاح كيف استطاعت الطبيعة الحصول على مثل هذه القدرة؟ أنستطيع أن نقول أنها خَلقت نفسَها؟ أيمكن تصديق مثل هذه المغالطة المرعبة؟! أما إن كان القصد من ذكر الطبيعة هو الإشارة إلى القوانين الفطرية، فهذا أيضًا خداع آخر؟ ذلك لأن القانون -بتعبير القدماء- عرض من الأعراض، والعرض لا يقوم إلا بوجود الجوهر.. أي أنه إن لم يتم تصور جميع الأعضاء والقطع التي تكوّن شيئا مركبا أو جهازًا حيويا ما، فلا يمكن تصور مفهوم القانون المتعلق بهذا الجهاز. وبتعبير آخر فإن القوانين قائمة بالموجودات، فقانون النمو يظهر في البذرة، وقانون الجاذبية يظهر في الكتل وفي الحيز (المكان)…الخ. إذن فإن التفكير في القوانين قبل التفكير في الموجودات والزعم بأن هذه القوانين هي منشأ الوجود ليس إلا خداعا”.
وأما العامل الثاني، فيكمن في فطرة الشباب. إذ إن رغبات الشباب لا تعرف الشبع. ورغباتهم في حرية مطلقة لا قيد عليها. هذه الميول الغير المتوازنة تكون قريبة من الإلحاد. “فمثل هذه النفوس تقول: من أجل درهم من اللذة العاجلة فإني أتقبّل أطنانا من الألم في المستقبل، وهكذا يهيّئون عاقبتهم الأليمة، وينخدعون باللذة الموهومة التي يقدمها لهم الشيطان ويقفون في شرك الإلحاد مثلما تقع الفراشات التي تحوم حول النار”.
إن فتح الله في إطار نظرته إلى الشباب يقترب من نظرة الأستاذ بديع الزمان الذي ركز على القضية نفسها ووصف للشباب الدواء الذي يحميهم من هذه المزالق. لكن وصفة الأستاذ فتح الله تبدو أكثر أهمية، لأنها لم تقف عند حدود الوصف، بل تجاوزت ذلك إلى ممارسة العلاج. ويلمس ذلك كله من خلال منهج التربية الذي حرص الأستاذ على تطبيقه منذ أن كان مشرفا على مدرسة “كَسْتَانَة بَازَارِي” بإزْمير، حيث بدأت معالم بيوت الطلبة تتشكل وتتكون، إذ صارت هذه البيوت محضنا يفتح أبوابه للشباب ويرعاهم ويربطهم بالخالق. الأمر الذي وقاهم من الوقوع في براثين الكفر والإلحاد وغيرها من المخاطر التي تهدد الشباب في هذا العصر المفتون.
مسك الختام
وعلى العموم فإن أفكار الأستاذ في مجال العقيدة يمكن اعتبارها مدرسة جديرة بالدرس والاهتمام. يضاف إلى ذلك أن منهج تناول العقيدة منهج يعتمد على الإقناع بالحجة العقلية والتذكير الروحي. وفي هذا الإطار نلاحظ أنه مستوعب لكل ما كتبه علماء الكلام القدامى وغيرهم، فتراه يستحضر الكثير من الأفكار الخاصة التي تحتاج إلى كفاءة علمية دقيقة وإلى قدرة كبيرة على الفهم والاستيعاب. وما أروع تمييزه بين واجب الوجود وممكن الوجود حيث يعبر أن مسلك علماء الكلام يؤدي إلى التوحيد، لكنه يستطرد موضحا أن هناك مسلكًا آخر أسهل وأقرب، حيث يقول: “والحقيقة أن علماء علم الكلام عندما حكموا عن طريق مفهوم “الدوْر والتسلسل” بنفي الأسباب وإسنادها إلى مسبب الأسباب أي إلى الله تعالى، ذكروا أن كل شيء “ممكن الوجود” وأن كل الأسباب والعلل تستند إلى “واجب الوجود”، ففتحوا بذلك منافذ إلى التوحيد. غير أن من الممكن الوصول إلى هذه النتيجة عن طريق أسلم. أجل! ففي كل أثر من آثار الخالق جل جلاله نرى ختمه وسكّته وآيته. لذا فليس هناك دليل واحد بل آلاف الأدلة على وجوده. فمنذ بدأت العلوم بمحاولة الكشف عن أسرار الكون، كان كل علم يشير بلسانه الخاص إلى وجوده ويعلن عنه بأجلى صيغة. وهناك كتب قيمة جدًّا كتبت في هذا الموضوع”.
Leave a Reply