الحمد لله القائل في محكم تنزيله المبين، إشادة بعباده المكرمين: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ(ق:33)، سبحانه وهو القائل عن الروح: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً(الإِسْرَاء:85).
والصلاة والسلام على من أسمع القلوب نداء الوجود الأزليِّ، المتربع على عرش الوجدان، محمد النبي الصفيِّ الصادق الأمين؛ القائل عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: «ألا إنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(متفق عليه). وهو القائل فداه قلبي وروحي: «إنَّ قلوب بني آدم كلَّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد»(رواه مسلم).
والدعاء موصول إلى الله تعالى أن يملأ قلوبنا بمحبته، ويثبتها على الإيمان بمحجَّته، ويسلِّمها من كلِّ ضلال وفساد وانحراف عن شريعته.
وبعدُ،
فإنَّ “نظرية المعرفة” تناقش ما يعرف بمصادر المعرفة؛ وهي تحشرها في “العقل” أو “الحواس”، ولقد تتقدَّم خطوة فتجمع بينهما؛ وقد أبعِد القلب عن ساحة المعرفة قرونا طويلة، حتى غدا العلمُ مرادفا للعقل وحده، وباتت المعرفةُ تعبيرا عن الفكر بمفرده؛ فضاع أهمُّ مصدر للمعرفة بين ثنايا المجادلات والمحاورات والصدامات البشرية، فها هي اليوم تصطلي جحيم هذا الجفاء المقيت، ولا تزال، ولن تزال؛ ما لم تتصالح مع ذاتها، وتستعيد علاقتها الحميمية مع قلبها، وتقيم التناغم الفطري بين الروحيِّ والماديِّ، وبين الجوانيِّ والبرَّانيِّ.
ولو سألنا عن أيِّ جامعة، أو مدرسة، أو مركز للبحث من أيِّ بلد كان: ما هي الوحدات التي تدرَّس؟ وما هي التخصُّصات؟ وما هي المدخلات والمخرجات؟ وما هي المناهج والآليات والتطبيقات؟… بل، ما هي الفلسفات والسياسات والغايات من وجودها؟ لما تردَّدنا لحظة في الحصول على جواب، وهو أنَّ كلَّ ذلك رهين بالعقل والفكر، وبالحواسِّ والأجسام؛ أمَّا مخاطبة القلوب، فهي من تخصُّص الدين، والتصوُّف، والرياضات الروحية عموما. أو هي تجربة فردية غير قابلة للتعميم.
ولنسأل الأستاذ المجدِّد محمد فتح الله كولن ذات الأسئلة، ونحن نتفيأ ظلال “النور الخالد”، مستعينين بمصادر ومؤلَّفات أخرى، مما ترجم إلى العربية، سائلين الله التوفيق والسداد.
القلب والروح في تراث الأستاذ
لا يخفي الأستاذ اهتمامه المعرفيَّ الشديد بالقلب والروح، جنبا إلى جنب مع الفكر والعقل؛ وذلك ما يظهر جليًّا في عناوين كتبه ومقالاته؛ فمن بين أبرز مصنَّفاته نسجِّل كتاب “ترانيم روح، وأشجان قلب”، وكذا “ونحن نقيم صرح الروح”، ثم في التصوف-الحركي نطالع “التلال الزمردية، نحو حياة القلب والروح”، في أربعة أجزاء. وبصيغة مجازيةٍ نقرأ للجهاد روحًا، وذلك في كتاب “روح الجهاد وحقيقته في الإسلام”؛ وبصيغة الوجدان، التي هي مركَّب من هذا وذاك، نقرأ عنوانا لكتاب آخر هو: “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”. ولا يمكن أن يُغفل أهمُّ مؤلَّف للتعامل اليومي، وللتربية والتزكية، وهو “القلوب الضارعة”، الحاوي لأدعية منتقاة من القرآن الكريم، والسنة الطاهرة، والتراث الإسلامي النير؛ ألَّفها الأستاذ وجمعها وحقَّقها؛ وهو الآن مصدر للواردات والفيوضات.
أمَّا باللغة التركية، فضمن سلسلة “الجرّة المنكسرة” التي تزيد على إحدى عشر مجلَّدا، يحمل الجزء التاسع منها عنوانا مثيرا، يلقي الحسرة على قلب من لا يعرف اللغة التي بها يقتحم حما هذا السفر، والعنوان هو “إبرة القلب”؛ كناية عن إبرة بوصلة القلب، الموحِّد وجهته نحو القطب الواحد الأحد، الفرد الصمد؛ بلا تشتت ولا إشراك، ولا تردُّد ولا جحود.
أمَّا عناوين المقالات، فهي من الكثرة بحيث يتعذر في هذا البحث المختصر أن نتتبعها كاملة، ويكفي أن نعرض نماذج منها، من مثل: “مهندسو الروح الربّانيون”، “عندما تنبض القلوب برقّة”، “الأرواح المحلّقة في الذرى”، “القلب السليم مركب النجاة”؛ وما ورد بصيغ مرادفة أو مجازية كثير جدا، من مثل: “نحو عالمنا الذاتي”، “ونحن نولّي وجوهنا شطر أنفسنا”، “العالم الداخلي”، “القرب والبعد”… وغيرها كثير.
هو قطعة من قلبه، ونسمة من روحه
يقول الدكتور أحمد عبّادي عن “النور الخالد”: “إنَّ الأستاذ كتبه لنفسه، قبل أن يكتبه لغيره؛ ولذا كانت محتوياته أبحاثا فيها كدح ومكابدة من قِبل الأستاذ؛ لكي يتعرف أكثر على محبوبه، فلا يخطئ في حقِّه، ويستطيع أن يوفيه بعد ذلك مستحقَّه…”؛ أمَّا الأستاذ جمال تُرك، فيردِّد دائما مقولته الموحية: “مَن أراد أن يعرف الأستاذ، فلْيقرأ النور الخالد؛ ذلك أنه مرآة لحقيقة الأستاذ، وكشف لمكنوناته”.
ولقد أوحت لي عبارة الأستاذ جمال أن أؤلّف كتابا، لو قدر الله أن يتمَّ، يكون عنوانه: “الأستاذ بقلم الأستاذ، ترجمة تحليلية من خلال النور الخالد”.
والحقُّ أنَّ القارئ لهذا الكتاب، يجده من المقدِّمة إلى الخاتمة صوتا واحدا، يرشح بالمعاناة والشوق والاحتراق؛ ومن ثم فإنَّ فتح الله لم يؤلف “النور الخالد” بعقله ومحفوظاته فقط، وإن كان متحكِّما في تفاصيل السيرة النبوية تحكُّما لا نظير له؛ وإنما سبكَه قبل ذلك بقلبه ووجدانه، وأودعه عيونا من أسرار روحه.
في بيان سبب التأليف يقول الأستاذ: “وكما قلت لإخواني مرارًا: إنني عندما أذهبُ إلى المدينة المنوَّرة أجد رائحته العطرة محيطة بي، إلى درجة تشعرني وكأنني سأقابله بعد خطوة واحدةٍ، وكأنَّ صوته الشجيَّ الذي يحيي القلوب يقول لي: “أهلاً وسهلاً.. ومرحبًا.” ثم يضيف مؤكِّدا: “أجل، إنه حيٌّ ونضرٌ في صدورنا إلى هذه الدرجة، فكلَّما تقادم الزمن ازداد نضارة وطراوة وحيوية في قلوبنا”.
وعن منزلة الحبيب المصطفى، موضوعِ هذا المؤلف، يقول فتح الله: “إنَّ الزمن يتقادم ويشيخ، وإنَّ بعض المبادئ والأفكار تتعفَّن وتتهاوى، أمَّا منزلة الرسول محمد r فستبقى متفتِّحة في الصدور كأكمام الورود العبقة أبد الدهر، وستبقى نضرة في القلوب على الدوام”.
ثم إنَّ الأستاذ، رغم كلِّ ما لاقاه من معاناة، ورغم كلِّ ما كابده من مخاض عسير، لم يطمئنَّ إلى أنَّ قلبه قد احترق حقًّا، وأنه بلغ حبَّ المصطفى المبلَغ الذي يليق به، فراح -كعادته- يلقي اللوم على نفسه، ويسائل روحه، فائلا: “إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدَّون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبَّه… حبَّ سيد السادات حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته r؟”.
ويصدق أن نقول: لو أنَّك شرَّحت قلب الأستاذ لطفح منه رشح “النور الخالد”؛ ولو أنك لامست روح الأستاذ لأصابك لفح من شهاب “النور الخالد”؛ ثم لو أنكَّ حلَّلت “النور الخالد” تحليلا دقيقا، للاح لك شبحُ الأستاذ، مِن هنالك، من بعيد، وهو يذرف الدموع السخينة ويقول: “كلُّ كلام في مدحه r جميل؛ فإن وجدتم شيئا نابيا، فمنّي ومن أسلوبي، أمَّا ما يتعلَّق بفخر الكائنات فكلُّه مشرق وجميل”.
ولقد نقل بعض طلبة الأستاذ أنَّه أوان إلقائه “النور الخالد” دروسًا في جامع “والدة سلطان” بحيّ “أُوسْكُودَار”، كان كلَّما تقدَّم إلى درس اعتقد وآمن، وحضَّر نفسه وقلبه، على أن يكون هو آخرُ مواعظه، وأنه سيلقى حتفه بعد ذلك، ولقد يودع السجن، أو يصاب بمكروه؛ ومن ثمَّ جاءت هذه الخطب النارية في منتهى الصدق، وهي بحقٍّ: نصائح مودِّع للخلق، ولآلئ مقبل على الحقِّ.
لسان القلوب
يقول فتح الله: “القلْب مصدر للخزائن، بحيث إنَّ الله تعالى الذي لم تسعه السموات والأرض يتجلَّى في هذا القلب. لا الكتبُ ولا العقول ولا الأفكار ولا الفلسفات ولا البلاغة والفصاحة ولا السموات والأرض ولا الكائنات بأجمعها تستطيع الإحاطة بالله I، بل تعجز عن التعبير عنه؛ القلب فقط يستطيع أن يكون -ولو بمقياس صغير- ترجمانًا له. أجل، للقلب لسان لم تسمع الآذان بيانًا مثل بيانه، وبلاغة مثل بلاغته. إذن، فعلى الإنسان أن يقطع المسافات في قلبه، وأن يبحث فيه عن مبتغاه، فيصل إلى ربه هناك، ويفنى في حبه، علمًا بأن الله I أرسل رسوله محمدًا r إلينا من أجل هذا”.
ولقد أوتي رسولنا الحبيب مفاتيح القلوب، فهو الذي يتربَّع على عروش قلوب الناس وأرواحهم، ولذا ناداه العارفون، وخاطبه المنصفون، بقولهم: “أنت -يا رسول الله- في قرار قلوبنا أبدًا، تعزُّزا ودَلالاً وإن غبت عن العيون. فإنْ كانت قلوبنا ما زالت تنبض بالحياة فإنَّما هي من الإكسير الذي سقيتها أرواحنا. وإنْ كانت صدورنا مفتوحة لك، فهي بفضل جاذبية رسالتك واستيلائها على الألباب. وإذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب، فلم نسمع نحن -بدورنا- مِن آفاق أرواحنا أنفاسَك المُحْيِيَة، فسنصفرُّ كالأوراق التي يلتهمها الخريف، ونصير سببًا لهبوب أنسام الحزن في أفقك. وكم كنا نتمنى ألا نتطاير أشتاتا مع الخريف، وألا نكون وسيلةَ حزن يطرأ عليك… لكن هيهات هيهات!. ولقد جئتَ لتنفخ الروح في القلوب الميتة، ففعلت وأديت ووفيت بما اعتمدتَ عليه من منبع المدد والعناية…”.
ولقد صفَّ مؤلِّف “النور الخالد” جملة من الأسئلة الكونية، قال عنها: “لا أستطيع إهمالها ولا الهرب منها”، وهذه الأسئلة جاءت على صيغة التقريع والتأنيب للذات وللضمير، وعلى شاكلة المحاسبة المضنية التي ألِفها المقرَّبون، وحمل فتحُ نفسه عليها في كلِّ حين؛ ومما جاء فيها:
أنَملك قلبًا لائقًا بسلطان القلوب هذا؟
هل هذا السلطان مستريح في مجلسه من القلوب؟
هل قلوبنا مفتوحة له على الدوام؟
أنلاحظه في قيامنا وقعودنا، في أكلنا وشربنا؟
أنلاحظ محمدًا r بقلوبنا في جميع حركاتنا وسكناتنا؟
أنسير في جميع شؤون حياتنا على الخط الذي رسمه لنا؟”
هي أسئلة تقريعية لا تنتظر الجواب، لكنها تبحث عمَّن يتلحم بها وتلتحم به، فيتخذها ديدنه بكرة وعشيا، حين الصحَّة وأوان المرض، بل في جميع الظروف والأحوال؛ فتكون بذلك “وقودا” لقلبه وعقله، ومحرِّكا لفكره وفعله.
ينقل فتح الله -في هذا السياق- عن نبيّنا الأواب الأواه، وعن رسولنا الأسوة القدوة، أنَّه r “تحمّل عِبْئًا كبيرًا وثقيلاً مثل عبء النبوة ثلاثة وعشرين عاما، وقام بإيفاء حقِّ وظيفته بنجاح منقطع النظير؛ لم يتيسّر لأي صاحب دعوة آخر… وبمثل هذا الروح، وبهذه المشاعر المضطرمة بحب الله، كان يتقدَّم ويقترب من الهدف المنشود ومن النهاية المباركة…لقد أدّى مهمَّته بحقٍّ، وقام بالتبليغ على أفضل وجه. لذا فقد كان مستريح الضمير، مرتاح النفس، مطمئنَّ القلب، وكان يتهيأ لملاقاة ربه… كان إنسان مراقبة للنفس مراقبة حسَّاسة جدًّا، لذا فقد قضى حياته كلَّها في إطار هذه المراقبة الحسَّاسة يسائل نفسه: هل استطعت أن أبلِّغ رسالتي كما يجب؟! وهل عشت لتحقيق الهدف الذي من أجله أرسلني الله تعالى إلى الناس؟!”.
فداك روحي ومهجتي يا سلطان القلوب، إني أشهد في موكب الشاهدين “أنَّك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمَّة، وكشفت الغمَّة، ومحوت الظلمة، وجاهدت في الله حقِّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد”.
ظلام يسيطر على الأرواح
ليس “النور الخالد” كتاب “رواية” وتحقيق علميٍّ محايد؛ بل هو جرٌّ للزمن الحاضر نحو زمن الأنوار، ودفع لهذا العصر وجهة خير الأعصار؛ فالمؤلِّف يسعى جاهدا أن يوظِّف جميع ملكاته ومقدَّراته، ليحمل الناس على “تجاوز الزمان والمكان”، حتى يمكنهم أن ينتصروا على “ضغط الآن” وعلى “تفاصيل الحياة”. ومن ثمَّ راح يصف عهدنا هذا بأنه “عهد اهتزَّت فيه عقيدة التوحيد”، وقال عن مثل هذا العصر: “إنه يعدُّ عهدًا مظلمًا؛ ذلك لأنَّ الإيمان بالله U الذي هو نور السموات والأرض، إن لم يحكم جميع القلوب، سيطر الظلام على الأرواح، واسودَّت القلوب؛ فمثل هذه القلوب المظلمة تبتلى بقصر النظر عند مراقبة الأحداث، وتكون رؤيتها متعكرة وغير صافية، ويعيش صاحب مثل هذا القلب كالخفافيش في دنيا الظلام”.
ولا يفوت فتحَ الله أن يمثِّل لهذا العهد بفتنة الشيوعية، مستشهدا بحديث للرسول الأكرم r، وقد توجَّه يومًا نحو الشرق وقال: «ألا إنَّ الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قَرْنُ الشيطان»(متفق عليه).
فقال: “هناك احتمال قويٌّ أنَّ الرسول r كان يريد بهذا الحديث الإشارة إلى الفتنة التي ستظهر من جهة الشرق كبديل لأوروبا الظالمة. وكلمة “قرن” الواردة في الحديث تأتي بمعنى القرن الموجود في الحيوانات، أو تأتي بمعنى “العصر”، وأنا أرى أنَّ المعنى الأخير هو المعنى المقصود، أي أن القرن هنا يأتي بمعنى العصر أو العهد، أي أن “قرن الشيطان” معناه “عصر وعهد الشيطان” وهو نقيض “عهد النبوة”. فهذا النظام الشيوعي قائم على الإلحاد وعلى الإباحية وعلى جميع المفاسد الشيطانية التي تحاول التسلل إلى القلب عن طريق النفس الأمّارة… ومع أنَّ هذا النظام الشيوعي الذي يُعَدّ الابن غير الشرعي للنظام الرأسمالي يحتضر في هذه الأيام إلاَّ أنه لا يزال يعدُّ ألد أعداء الدين والمقدسات والمواريث التاريخية، ولا يزال كابوسًا مخيفًا، وأنا أعتقد أنَّ رسول الله r يطلق على هذا العهد الذي سيطر فيه هذا النظام الشيوعي على مساحات واسعة من العالم… يطلق عليه “العهد الشيطاني” أو “القرن الشيطاني” ويحذر أمته من هذا الوباء ومن هذا البلاء”.
لكن، هل سجن فتح الله قلبه وعقله في وصف هذه الفتن، وراح يسوق لها أدلَّة وشواهد من “أحاديث فتن آخر الزمان”؟ أم أنَّه أشغل نفسه وأجهدها بحثا وتنقيبا عن المخرج، وعن الملاذ الآمن، عالما عاملا، مبغضا للقنوط والتقنيط، كارها لليأس والتيئيس؟
الجواب مستساغ عند فتح الله كشربة ماء بارد في ظهيرة يوم حارٍّ، وهو ولا شكَّ متمثل في العودة إلى الحقِّ سبحانه، والمجاهدة والمكابدة لأجل “حياة القلب والروح”.
حياة القلب والروح
يقول فتح الله: “إنَّ الذين استطاعوا الخلاص من سجن الجسم، ووصلوا إلى مرتبة حياة القلب والروح، يستطيعون عيش الماضي والمستقبل معًا وفي الوقت نفسه”.
والقدوة في مثل هذه الحياة الطيبة هم رسل الله وأنبياؤه، والسؤال هو: “لِمَ لا يوجد سلطان الرسل في الآخرة وفي الدنيا وأمام الملائكة وأمام الأنبياء في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها؟”.
أمَّا الجواب فهو: “أجل، إنه يوجد وسيوجد”.
أمَّا الإجراء الذي أفصح عنه مؤلف “النور الخالد” وكشف به عن سرٍّ من أسراره، فهو قوله: “سأجعل من كلِّ ما ذكرتُه أساسًا وقاعدة لِما سأذكره؛ لأنَّ تعيين زاوية النظر إلى الأنبياء وإلى نبيّنا r مهمٌّ جدًّا. فإن كان فهْم الأولياء والأصفياء والأبرار والمقرَّبين وحدسهم -دع عنك الأنبياء العظام- يحتاج إلى صفاء روحيٍّ وإلى نقاء قلبيٍّ خاصٍّ، فكيف يمكن فهْم الأنبياء في هذا العالم الماديِّ الغليظ الذي تكثر فيه الحجب والأستار؟ إذن، فلكي نفهمهم، فإنَّ علينا التوجُّه إليهم بكلِّ استعداداتنا القلبية، ولطائفنا الروحية، وبكلِّ دقة واهتمام وتركيز. فإن كان المطلوب فهم شخصية رسول الله r، فإنَّ هذه الدقة والاهتمام والتركيز يجب أن يزداد أضعافًا مضاعفة، هذا علمًا بأنَّ درجة معرفة كلٍّ منا وفهمه يتبع درجة قوة نظرته القلبية، ولكن لا أحد يستطيع أن يفهمه ككلٍّ أو يحيط به إحاطة تامَّة، فهو كما قال البوصيري:
وكيف يُدرِك في الدنيا حقيقتَه
قومٌ نيامٌ تَسلّوْا عنه بالحُلُم
يا براعم الأمل!
لكنَّ فتح الله، كذلك، لا يتوقَّف به المسير في محطَّة التنظير، وإنما يواصل رحلته نحو “شباب الخدمة الإيمانية والقرآنية”، ووجهة قلوب “كلِّ مسلم، موقن” ممن بلغه أو يبلغه صوته؛ فيخاطب الجميع، بلا استثناء، خطابا روحانيا، قلبيا، صادقا، من شأنه أن يحرِّك الكوامن، ويزعزع المواجد، فتنهمر الدموع بحارا ووديانا من أعين “بكت وتبكي خشية لله”؛ وأوَّل عين يلحقها “الاحمرار”، في هذا المقام، هي عين فتح الله؛ وأوَّل “شهقة” تملأ الآفاق بكاء، في هذا الموقف الجلَل، هي شهقة فتح الله.
وفي ذلك يقول، مخاطبا سامعيه وقارئيه:
“أجل، ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين وإقامتها في الدنيا مرة أخرى. فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم أضاء أطراف العالم الغارق في الظلام، وأنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظللت بأوراقها وأزهارها كلَّ الأرجاء.
كانت كلُّ كلمة لأمَّتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة بمثابة أمر. وستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة تلك العهود الزاهرة والتخلص سريعًا من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم… يأمله من يعيش فوق التراب ومن هو مدفون تحته. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله محمد r وهو يتجول بروحانيته بينكم ويربت على أكتافكم ويبتسم لكم، وإن كنتم لا ترونه أو تحسُّون به.
أنتم تستطيعون نشر الأمن والطمأنينة فيما حولكم إن بقيتم أمناء ولم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا، انفتح لكم قلب الإنسانية جمعاء على مصراعيه، وستتربعون في هذا القلب كما تربَّع أجدادكم من قبل. ولكن لا تنسوا أبدًا أنَّ شرط الوصول إلى هذه النتيجة، وإلى هذه الذروة، مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.
فإن كنا نريد أن نكون أمَّة لها وزنها وكلمتها في الشؤون الدولية المهمَّة، ونلعب دورًا بارزًا في تأسيس التوازن الدولي -حيث إنَّنا مضطرون أن نكون كذلك- فيجب أن نكون ممثلين للحق وللعدالة وللاستقامة وللأمن”.
وعد، وبُشرى، وشرط، وفراسة، وتخطيط، وأمل، وعمل… كلٌّ هذه المعاني الجليلة ترشح بها هذه الفقرة النورانية، المنبثقة من قلب خفَّاق، ومن وجدان دفَّاق؛ وممن لا يلوي على أحدٍ، وهو يعيد للقلب مكانته في منظومة التغيير والإصلاح؛ من غير إضرار بالعقل، ولا إقصاء لأيِّ مصدر آخر من مصادر الحقِّ والحقيقة، ولا تنكُّر لأيِّ منبع آخر من منابع المعرفة والعرفان؛ وهذا ما اصطلحنا عليه في بحثنا هذا بـ”هندسة القلب والروح”.
ألا ما أروعها من هندسة، تذكِّرنا بالمعمار سنان في جمال بنائه، وبالسلطان الفاتح في جلال بنيانه؛ وقبل ذلك وبعده، تربطنا بسيد المهندسين، وإمام المعماريين، وأفضل الخلق أجمعين، سدينا وحبيبنا صادق الوعد الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
والحمد لله ربٍّ العالمين.
Leave a Reply