قد يبدو العنوان غريبا في شقِّيه: الأوَّل “بايكان”، والثاني: “الثالث الموضوع”؛ وما ذلك إلاَّ أنه وُلد مِن رحم غيرِ المألوف لدينا، وعُصِر من صلب الغرابة في عُرفنا الفكريِّ واليوميِّ. ولكنَّني سأحاول ضمن “نظرية الوعاء الحضاري” أن أجلِّي معناه، وأؤسِّس لمبناه، وأصوغ معالمه، وأشرع في اختبار قدرته التفسيرية؛ فهو إذن “مصطلح جديد”، وهو بالتالي مدخل لمفهوم جدير.
الأصل اللغوي والاصطلاحي
أمَّا في أصل الكلمة، فإنَّ “بَايْكَان” هو اسمٌ لشركةٍ، تصنع المدافئ المنزلية والصناعية في تركيا، علامتها تكتب بالحرف اللاّتيني “Baykan”، ودلالة اللفظ لغويًّا لم أجدها في القاموس المترجِم، ولعلَّه اسمٌ لعلَم؛ لكنَّ الشقَّ الأوَّل من المصطلح، بالحرف الصغير “bay”، يعني “السيّد”
وأمَّا عبارة “الثالث الموضوع” فهي من قبيل المشاكلة لمبدأٍ في المنطق، يعرف بـ”مبدأ الثالث المرفوع” وهو من المبادئ الأولية، ومعناه: “إذا صدقتْ إحدى القضيّتين المتناقضتين، كذبت الثانية، والعكس بالعكس، ولا ثالث بينهما”.
قصَّة ميلاد المفهوم
وقصَّة ميلاد المفهوم، هي أنَّني منذ نزولي أرض الأناضول مقيمًا، وأنا أحاول توصيف المجتمع والعلاقات الاجتماعية في تركيا، وفي المحيط الذي أتحرَّك ضمنه بالخصوص: فهل هو من نوع “النمط التعاقديِّ”، أم هو من نوع “النمط التراحميّ”؛ باعتماد ما صاغه المفكِّر عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- من خصائص للنظامين والنمطين، في مشروعه الفكري الجادِّ.
علما أنَّ المصطلحين من إنتاج علماء الاجتماع في الغرب، وأنَّ عمل المسيري لم يقتصر على مجرَّد النقل، بل أضاف وأبدع، واستطاع أن يوجد أبعادا وتطبيقات أخرى، من خلال تجربته وحياته الشخصية في مذكراته المعنونة بـ”رحلتي الفكرية”، ومن خلال دراسته للرؤية الكونية للجماعات اليهودية، وبخاصة باعتماد “الجماعات الوظيفية” نموذجا للتحليل، في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”.
ولم يكن من اليسير عليَّ التسرُّع في الحكم، ولا اختزال التصنيف، وبخاصَّة مع “حالة تركيا”، وبالأخصِّ مع محيط “الخدمة”.
فقدَّر الله “قصَّة المدفأة”، ثم جاء الجواب على أنَّه نمط “ثالثٌ موضوعٌ”، وليس “مرفوعا”، أي هو ملتقى للنظامين، ومجمع للمنهجين، وتناغم بين النمطين، حتى وإن بدا أنَّهما متناقضان ظاهرا؛ إلاَّ أنهما غير متناقضين عقلا وواقعا. كيف ذلك؟
المدْفأة الملهِمة
في يوم باردٍ، كان الثلج يؤذن بالهبوب، دخلتُ المنزل بعد نهارٍ طافح بالعمل، فإذا المدفأة قد تعطَّلت، وأنا الغريب في بلد غريب، ولا أعرف ما يحمله الليل من أمر غريب؛ ثم إنَّ البرد قد لا يرحمُ، ومعي فلذاتٌ زغبٌ، وتحت مسؤوليتي بناةٌ أمرَ بهنَّ الرسول الكريم وأوصى!
ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الخلاص؟
لو كنتُ في محيط “النمط التعاوني”، لاحتميت بالجوار، وبالأقربين، ولأعلنتُ لهم ما أنا عليه؛ ولحُلَّ المشكل بالمرحمة، والتعاون، والإيثار… على أيِّ شكل من الأشكال كان.
ولو كنتُ ضمن “نمط تعاقديٍّ”، لأعملتُ آلة العقود، والتدخُّل السريع، والنظام المحسوب؛ ولحُلَّ المشكل بهذه الطريقة فقط.
ولكنني، فجأة وجدتُني في “نمط تراحمي – تعاقدي”، بكلِّ الخصائص التي قد تبدو متناقضة، أو أنها لا تلتقي في مجتمع ما. وهو ما أطلقتُ عليه اسم “نمط بَايْكَان”، أو “نمط الثالث الموضوع”.
بايكان، أو الثالث الموضوع
من جهةِ “التراحم”، لم يمرَّ وقت سريع، وقد سألتُ أحد الإخوة الباحثين مجرَّد سؤال عن طريقة إيجاد مَن يُصلح المدفأة؛ حتى جنَّد صديقا آخر، فجاؤوا بالسيارة مِن بعيد، وتركوا مهامَّهم ومشاغلهم، متدثرين بمعنى “التفاني في الخدمة”، التي وُطِّئوا ووُطِّنوا عليها، وما إن وصلوا البيت، حتى تجنَّدوا لإصلاح المدفأة، بلا تكلُّف ولا تردُّد؛ وكان صديقٌ ثالث يهاتفني كلَّ ساعة، ويتابع القضية، ويُبدي تألمه وتخوُّفه، ويقترح الحلول؛ ويخشى أن تبيت البنات على البرد -حسب تعبيره-، أو أننا نفتقد الماء الساخن للوضوء… فكان قلبه الرحيم يدقُّ على إيقاع مشكلتي البسيطة، حتى غمرني بالحبِّ وبالعطف من حيث يدري أو لا يدري.
ومن جهةِ “التعاقد”، هاتفَ الصديقان، وهما في البيت، شركة “بَايْكَان”، وكان من الجهة الأخرى للهاتف موظِّفة، تُدير محاولات الإصلاح الأولى عن بعدٍ، لعلَّها تكون سهلةً، ولا يتكلَّف ذلك انتقالُ فريق الصيانة، ولا يكلِّف صاحب المدفأة مزيدا من الدفع، أو يحمله إلى فقدان الثقة في “الماركة المسجّلة” للشركة.
وبعد أمدٍ، تبيَّن أنَّ الخلل لا يمكن تصليحه إلا بحضور الخبير، فعقدَت الشركة موعدًا ليوم غدٍ، على أن تتَّصل بالصديق ليريها المكان؛ وما أسرع الغدُ في مثل هذه الظروف، حيث كنتُ في البيت، وكان الصديق يسيِّر العملية بالهاتف، من بعدٍ… حتى رنَّ جرس الباب، ودخل الشاب الحرفيُّ، في بدلة محترفة، وبسمتٍ هادئ، بينه وبين صديقي الهاتف المحمول، لأنني لا أتقن اللغة التركية طبعا…
اجتهد الشاب المرسَل من الشركة، حتى أصلح الخلل؛ وهاتف الشركة، فعرف أنَّ الضمان قد انتهى منذ زمن؛ ثم غيَّر قطعة الغيار، وعيَّن المقابل، فقبلتُ، وكان بين يديه جهازان، أحدهما موصَل بالإنترنت، والآخر طابعة صغيرة، بحجم اليد، لطباعة الفاتورات.
سلَّمني الموظَّف الخبير الفاتورةَ، وأخذ نسخةً منها، وبها: تاريخ الإخبار عن العَطَل، والساعة والدقيقة: 2012/10/01/ – 18:50، ثم تاريخ الإصلاح والساعة والدقيقة: 2012/11/01/ – 17:50، واسم موظف الإصلاح، ثم نوع الإصلاح بالرموز، ثم ثمنُ العملية وقطعة الغيار… فدفعتُ المقابِل، ودفِئت واطمأننتُ؛ ولكن ما كان يحدث في العقل والقلب من فوران، فاقَ الحال المادية اليسيرة، وغطَّى على الحرارة الشتوية المطلوبة، والتي استعدتُها بحمد الله تعالى: إنها الحيرة من هذا النظام البديع، ومن هذا النمط الجديد!. ويوم غد، التقيتُ بصديقي “المتراحم”، صاحب الهاتف، فقال: “هاتفتْ الشركةُ “المتعاقدة”، لتتأكَّد مِن تمام الإصلاح، ومِن أنَّه لم يحدث خلل بعد العملية”.
هل عايش المسيري هذا النمط الجديد؟
لو كنتُ ضمن “نمط تراحمي”، في الجزائر مثلا، سأجد الحلَّ “التعاوني” بسهولة، وسأجد من يساعدني ويعينني، ولكن هيهات أن أجد “الخدمة الواضحة”، و”العقد الصريح”، و”الصيانة الفعالة”، بهذه الجودة وبهذه السرعة. واسأل الناس -إن شئتَ- عن “أصحاب الحِرف”، تجدْ أنَّ لكلٍّ منهم قصَّة مع حِرَفيٍّ، فإن لم تكن هذه حالهم جميعا، فهي حالهم غالبا. ولعلَّ البعض منَّا عدَّها “قدرا مقدورا” لا فكاك عنها إلى يوم الدين؛ ولقد كان الجاحظ في ذكره لمثالب “أصحاب الحرف” ممن يعتقد ذلك.
ولو كنتُ في سياق “نمط تعاقديٍّ”، في كندا مثلا، فإنَّ آلة “التعاقد والنظام”، و”الصيانة السريعة”، و”الوضوح في الحقوق والواجبات”، ستعملُ بلا هوادة، وستوجِد لك الحلَّ العمليَّ بسرعة، وقد تكلِّفك رزنامة ثقيلةً من “التفاصيل”؛ لكنك يقينا ستفقد “الدفء القلبي”، و”المرحمة الإيمانية”، والجهة التي تغمرك “بالحبِّ والحنان”… وقد تتراكم البرودة عندك، فتكون برودتين: برودة مادية، وأخرى معنوية. وهذا الوضع إن لم يكن عامًّا، فهو الغالب طبعا.
أمَا وإنك في “تركيا”، وللناس أصول وجذور لا تخفى، ودماثة الخلق سمة غالبة، وطبيعةٌ في الناس؛ وداخل تركيا أنت في محيط “تربَّى على يد مجدِّد مصلح”… فالتراب، والماء، والهواء، والشمس… جميعها قد تكاثف للعناية “بشجرة الحياة” هنا… إنها شجرةٌ أصلها ثابت راسخ، وفرعها شامخ سامق “في السماء”، وهي بحمد الله تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا(إِبْرَاهِيم:25)…
أمَا وإنَّك كذلك، فإنَّ النمط لن يكون أبدا تعاقديا غربيا؛ ولن يكون أبدا تراحميا شرقيا… وإنما هو “خلطة عبقرية ذكية” جمعت إلى خصائص الشرق مميزات الغرب، ومزجت حركيات الغرب بروحيات الشرق؛ فالنمط إذن هو “تعاقدي رحيم”، أو هو “تراحمي منظَّم بالعقود”…
وفي تقديري إنَّ الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، لم يعايش مثل هذا النمط الجديد، لكنه كان ضمن “نمط تراحميٍّ مفرط” في مصر، ومثله في أيِّ بلد عربيٍّ آخر؛ ثم انتقَل إلى “نمط تعاقديٍّ صارم” في أمريكا، ومثله في كلِّ بلد غربيٍّ أوروبيٍّ؛ فهو لم يذق طعمه واقعيا، ولم ينعم به في حياته اليومية؛ غير أنَّه تصوَّره نظريا، ودعا إليه فكريا؛ ذلك أنه نمط يعود بنا إلى “الفطرة السليمة”، وهو أصلا الحال السنَنية التي أرسى الإسلام قواعدها، وصاغ القرآن أسسَها، فتمثَّلها رسول الرحمة والعهود، محمَّد عليه أزكى السلام؛ ثم تلقفها منه الصحابة الكرام، واقتفوا أثره؛ حتى جاء الأعراب، بعد قرون، فاختلط عليهم الأمر، وسرت الفوضى في حياتهم.
للتمثيل لا للحصر
الحقُّ أنَّ حادثة المدفأة ليست الوحيدة، وإنما لها العشرات من مثيلاتها في تجربتي القصيرة هنا بتركيا؛ ولكنَّ “التصورَ والحكم والموقف” قد اكتمل بهذه المناسبة، وفي هذه الحادثة، فكانت بمثابة “لحظة أرخميدس”. وإلاَّ فالواحد منَّا يعايش يوميا هذه القدرة على “المرحمة التي لا حدَّ لها”، وكذا “النظام والانضباط الذي لا يحيد ولا يحابي”…
وفي كلِّ ذلك، أدعو الله وأسأله أن يقدِّرنا “ضمن وعائنا الحضاري” في دوائره المنداحة، على الوصول إلى مثل هذا المقام العليِّ؛ ذلك أنَّ الكثير من الوقت، والطاقة، والمال، والعلاقات، والفكر… يُهراق ويُغتال، ويقع ضحيَّة أخطاءٍ وتصرُّفاتٍ نصِفها أحيانا بالتراحم، وبالأخوة، وبعدم التكلُّف… وقد نستغرب لو أنَّ أحدا من الأقارب -مثلا- ذكَّرنا بعقد بيننا وبينه، ولقد نعتبر ذلك فقدانا للثقة، فنعاديه، ونعلن أنه “لم يعد من جماعتنا”، فهو من “خارج السرب”.
والتحقيق أنَّ المولى جلَّ وعلا يقول: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(البَلَد:17)، في آية.. ويقول في آية أخرى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(العَصْر:3).. وفي آيةٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ(الْمَائِدَة:1)…
فبهذا، وبذاك، تجد الحياة سبيلها إلى السعادة والراحة واليسر؛ وبغياب أحدهما، أو كليهما، تكون الحياة جحيما، ونصلى نارها جميعا. وما جمال المعنى إلاَّ في الجمع بين “التواصي بالمرحمة، وبالحقِّ، وبالصبر”؛ وفي “الوفاء بالعقود”، استجابة لأمر ربِّ الأسباب والمسبِّبات، سبحانه، وهو إله النتائج والمقدِّمات، أكرم به من إله عزيز حكيم.
من الفكر إلى الفعل
هذا الفصل، ليس للتسلية، ولا هو لمجرَّد سرد المعلومات، وإنما هو إحلال للفكر والفطنة أولا، ثم محاولة لإرساء الحركية والفعل، ثانيا؛ وعلى كلِّ قارئ تحريكُ مقدَّراته ومواهبه، واستثمارُ عواطفه ومعارفه، لتصحيح ما يمكن تصحيحه، وبناء ما يجمل بناؤه؛ لعلَّ الله تعالى ينظر إلينا بعين الرحمة، ونحظى بالسعادتين في الدنيا: “سعادة طاعته، وسعادة عنايته”… ثم ننال “السعادة الأبدية”، يوم لقائه، ثمرةً “للوفاء بالعقود”، وكذا نتيجة “لرحمته بنا وحبه لنا”؛ وهنالك في الجنة سيسود نمط واحدٌ، لا نمطان، ولا ثلاثة: النمط التراحمي المطلق. وعلى الله قصد السبيل.
Leave a Reply