• الأسس الإسلامية لظاهرة الجماعة والتجمع

ذكرنا من قبل كيف أن قاعدة علم الاجتماع في الفكر الغربي تشكلت في أثناء التطور التاريخي للمجتمعات الغربية. فالتحولات الكبيرة التي حصلت في الغرب في العلاقات بين القرية والمدينة، والحداثة وما قبل الحداثة، والتقاليد والتجديد، والفرد والدولة، والفرد والمجتمع، كانت حصيلة طبيعية للصراع الذي حصل نتيجة الصراع الطبقي. فهناك تاريخ طويل في الغرب في موضوع النضال من أجل الحصول على الحقوق الفردية وعلى الحريات الشخصية والسياسية.

لم يحدث مثل هذا الصراع في المجتمعات الإسلامية لكونها خالية من الطبقات بالمفهوم الغربي. فقد كان الإسلام حائلاً أمام تشكل هذه الطبقات. وعلاقات المحبة والسلام والتعاون والتساند في الغرب، وجدت قبل الحداثة وفي أجواء القرى والأرياف فقط. وكانت هذه العلاقات تحول بمقياس ما المجتمع إلى طبقات تتنازع سياسياً واقتصادياً وعنصرياً وثقافياً. ولكن الهدم الجذري الذي حصل بعد الثورة الصناعية وظهور الحداثة أزال هذه العلاقات. ولم يكن هناك أي شيء في الغرب يمكن أن يحول دون ذلك. فلم تكن أسسه الدينية ولا تقاليده الاجتماعية والثقافية تستند إلى القوة حتى تستطيع مقاومة هذا الإنهدام الجذري الكبير. بينما كانت مكانة الدين في العالم الإسلامي قوية بحيث لا يستطيع أي شيء الحلول محله لا في الفرد ولا في المجتمع. فقد استطاع الإسلام بتراثه وغناه النفوذ إلى شرايين جميع العلاقات الاجتماعية، وعبر عن نفسه بصور وأشكال مختلفة. بينما يملك الغرب صورة واحدة فقط من الإسلام. لذا فلم يقع أي انفصال بين الإسلام والمجتمع عند ظهور الحداثة مثلما حصل في الغرب. فلم يوجد في العالم الإسلامي ولا في تاريخه ظاهرة الإقطاع ولا البرجوازية ولا ظاهرة المدينة الاقتصادية الحرة. ومن الممكن تعداد فروق أخرى. ولكن ليس هذا موضوعنا هنا.

لا شك أن العالم الإسلامي تعرض أيضاً للتأثير الهدام للحداثة. ومع أن هذا التأثير لم يبلغ قوة وعنف التأثير في الغرب، إلا أنه تأثر بالحداثة من ناحية قطف ثمار نعمها ومن ناحية نتائجها السلبية ومن ناحية المؤسسات الاجتماعية. وإذا استثنينا التفتت في الساحة السياسية وظهور الدول القومية والمؤسسات المرتبطة بها، فإن القيم الإسلامية لا تزال هي محور العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي.

(336-335) فلا يزال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما محور هذه القيم في المجتمعات الإسلامية. واستطاع هذان المصدران الأصليان للإسلام، حفظ هذه المجتمعات وقيمها من الاندثار والتفكك.

أما سبب وضعي هذا العنوان لهذا الفصل، هو لأن جميع التحليلات الغربية لظاهرة الجماعة والتجمع تنطلق من القيم الاجتماعية والتاريخية للغرب. لذا فهي لا تستطيع تقديم تحليل صحيح لظاهرة الجماعة في المجتمعات الإسلامية. وحتى أفضل هذه التحليلات لا تستطيع التخلص من استخدام القيم الغربية عند تحليل الجماعات الإسلامية.

صحيح أن “تونيس” (Tönnies) قام بتحليل جيد للتغيرات الاجتماعية التي حدثت في الغرب، وفصل بمهارة الآليات التي لعبت دوراً مهماً في التجمعات الاجتماعية القديمة والحديثة في الغرب من الناحية الفردية والاجتماعية والروحية والثقافية. غير أنه يرى أن “الجماعة” وعلاقاتها في أفضل صورها هي الجماعة المتشكلة في إطار شكل الحياة في الريف وفي القرى. بينما نرى أن ظاهرة الجماعة في المجتمعات الإسلامية مختلفة من ناحية قواها المحركة الاجتماعية ومن ناحية أسسها التاريخية. فالجماعة عند “تونيس” (Tönnies) تضمحل وتختفي في المدن الكبيرة. بينما نشاهد أن ظاهرة الجماعة في المجتمعات الإسلامية تظهر في المدن الكبيرة والحديثة. كما لا تلعب رابطة الدم ولا رابطة الأرض أي دور على الجماعة في المجتمعات الإسلامية، ولا تجد لها أي قاعدة فيها. كما لا يمكن القول بأن هذه الجماعات المتشكلة في المدن الكبيرة والحديثة تستند إلى نفس القواعد والأسس التي تستند إليها الجماعات المتشكلة في القرى والأرياف لمجرد أن العلاقات بين أعضائها دافئة مثلها. وتجاه ظهور عواطف المحبة والصداقة والمشاركة في المدن الحديثة يتجه المحللون الغربيون على أنها إما بقايا من أخلاق الريف والقرية أي بقايا من أخلاق الحداثة أو أن الحداثة لم تترسخ بعد بجميع مؤسساتها في هذه المدن.

أما “ويبر” (Weber) فهو يؤسس ظاهرة الجماعة على قاعدة “العلاقات العقلانية” (Rational). فحسب رأيه فإن العلاقات الاجتماعية قائمة على صراع المصالح والمنافع دوماً، وغريزة المصالح المتبادلة تدفع الإنسان إلى التجمع. أي، إن هذه الغريزة تظهر بشكل تكوين الجماعات. وهو يرى أن جميع النشاطات الإنسانية عقلانية من ناحية الأهداف أو القيم والمشاعر المشتركة. والمسؤوليات المشتركة تولد مُثلاً وغايات مشتركة. ولكن كل هذا لا يكفي لتفسير ظاهرة الجماعات الإسلامية، لأن غريزة المصالح المتبادلة هي أبعد شيء وأبعد مفهوم عن تفسير الجماعات الإسلامية. (339-338-337-336) أما المشاعر المشتركة بين الأعضاء فليست عاملاً في تكوين الجماعة، بل نتيجة لها.

وتكاد أن تكون الجماعة حسب تعريف “تونيس” (Tönnies) و”ويبر” (Weber) نذيراً للتفتت الاجتماعي. بينما لم يُلاحظ أي تفتت وتبعثر اجتماعي في المجتمعات الإسلامية التقليدية. كما أن العوامل التي تؤسس الروابط في الجماعات وفي المجتمعات الإسلامية لا تشبه الروابط القبلية أو العشائرية. إن التأكيد على الروابط القبلية أو العشائرية أو العنصرية..الخ يُعد في الإسلام تقليداً جاهلياً يجب تجنبه. ويؤكد حديث نبوي شريف أن الإسلام ألغى كل هذه العصبيات.([1]) لأن هذه العصبيات الجاهلية تحول دون تشكل الروابط الإسلامية الاجتماعية الواسعة.

وعلى الرغم من هذا الموقف الحاسم للإسلام فقد عانت المجتمعات الإسلامية بعد عصر الراشدين، الشيء الكثير من هذه العصبيات الجاهلية من الناحية الدينية والاجتماعية والثقافية. ومع هذا فلم تكن هذه العصبيات القبلية من القوة بحيث تؤدي إلى اختلافات في المجتمعات الإسلامية. وفي الأقل فإن مثل هذه العصبيات غير مقبولة من الناحية الدينية. كما لا يمكن -للسبب نفسه- تحليل الجماعات في المجتمعات الإسلامية وإرجاعها إلى مجتمعات إقطاعية لما قبل العصر الحديث. كما لا يمكن إيضاح روح الوحدة في الجماعات الإسلامية والتساند إلا لكونه نتيجة للتطبيق العملي للإسلام في الحياة الاجتماعية. لأن الإسلام نفسه يدعو إلى الخير وإلى الجمال وإلى الأخلاق الحميدة وإلى المعروف وإلى نشر الفضيلة في المجتمع. ويدعو إلى مثل هذه الأعمال الخيرية وإلى التسابق والتنافس فيها بشكل جماعي.([2])

قد يتكاسل الفرد في أعمال البر إن كان وحده، أو حتى لو كان راغباً فيها فلن تكون هذه الرغبة بقوة رغبته وهو يزاول أعمال البر هذه ضمن مجموعة أو ضمن جماعة. وهذا هو الأساس في تكوين الجماعات في الإسلام. أي أنها ليست إلا جماعات انتظمت لنشر الخير والمعروف في المجتمع. وهذه الجماعات تخاطب عاطفة الخير والمعروف في الأفراد وتكسبهم روح التنافس والسباق في الخير.

الجماعة شخص معنوي، وشركة معنوية. أهدافها ومثلها وقيمها تكون معنوية ومتوجهة للأزل. وأقوى المثل وأشد العوامل دفعاً للتضحية هو ما كان متعلقاً بالأبد وبالأزل. وليس هناك من ثمن دنيوي يستطيع التعويض عن هذه المثل والأهداف. لذا فإن أهداف الجماعات الإسلامية متوجهة لنيل رضا الله تعالى وليس لأي نفع دنيوي.

(341-340) لقد كانت الدوافع وراء تشكيل الجماعات في الإسلام على مدى العصور دوافع اجتماعية وتطوعية وذات أهداف مدنية. ولم تكن التجمعات التي تشكلت من أجل أهداف خيرية واجتماعية عبارة عن الجماعات الإسلامية فقط. فقد تشكلت أيضاً العديد من الجمعيات الخيرية والمؤسسات الوقفية والنقابات المهنية..الخ وقامت هذه التجمعات بفعاليتها الخيرية في ظل شعور بأداء عبادة اجتماعية.

ظهرت الجماعات الإسلامية في العصر الحديث، لأنها من حقائق المجتمع الإسلامي. كان ظهور الجماعات الإسلامية الحالية بعد تفتت وحدة الكيان السياسي للعالم الإسلامي. وحاولت هذه الجماعات ملء الفراغ الذي ظهر بعد هذا التفتت السياسي من الناحية الاجتماعية. وكما هو معلوم فإن الصبغة الغالبة في المجتمعات الغربية هي صبغة العلاقات العقلانية. أما في المجتمعات الإسلامية فالصبغة الغالبة هي صبغة التعاون والتساند. وهذه الصبغة تنتج على الدوام أهدافاً ومثلا مشتركة في المجتمع. لذا فإن الجماعات الإسلامية نتاج سياسي واجتماعي خاص وذاتي في التاريخ الإسلامي ولا يمكن تحليلها بالمفاهيم الغربية وبمصطلحاتها حول الجماعات. ولا يمكن الوصول إلى أي نتيجة بالمصطلحات التي استعملها “ويبر” (Weber) أو “ماركس” (Marx) أو “واط” (Watt) أو “جولد سهير” (Goldziher).

إن أكبر خطأ وقع فيه “واط” وأمثاله من المستشرقين (وكذلك علماء الاجتماع الغربيين) هو أنهم نظروا إلى كل جماعة إسلامية أو مذهب إسلامي ظهر في التاريخ الإسلامي، وكأنه مذهب أو جماعة قامت ضد التقاليد الإسلامية والعرف الإسلامي ومعارضاً له. بينما الأمر على العكس من هذا تماماً. لأنه إن استثنينا بعض الحركات الهامشية لم تظهر في التاريخ الإسلامي أي حركة دعت إلى التخلي عن القرآن والسنة اللذين هما المصدران الأساسيان للدين الإسلامي أو إهمالهما. وحتى الحركات الهامشية التي عارضت التقاليد الاجتماعية الإسلامية وجدت نفسها مضطرة للاستناد إلى هذين المصدرين الأساسيين. لذا فهذه الحركات الإسلامية تمثل توسعاً داخلياً ولا تمزق الإطار الإسلامي؛ وهي لا تبحث عن هوية جديدة.

لقد سعى المحللون الغربيون إلى نقل أرضية النزاع الطبقي الذي حدث في الغرب إلى المجتمعات الإسلامية في صورة النزاع القبلي والعصبي والعشائري والمذهبي. فهم يرون أن هذه النزاعات هي النزاعات الاجتماعية الموجودة في المجتمعات الإسلامية، وأن هذه النزاعات تظهر في شكل وفي صور الجماعات والفرق فيها. وهذا قياس سطحي وخاطئ، ولا يوجد له أساس تاريخي ولا اجتماعي. وكما قلنا فإن أكثر الجماعات تطرفاً في المجتمعات الإسلامية تعبر عن نفسها ضمن الهوية الإسلامية.

يكاد لا يوجد في الغرب أي تحليلات استطاعت النفوذ إلى عالم المفهوم الإسلامي. فكلها (343-342) تنظر إلى هذا الموضوع من الزاوية التاريخية والعقلانية. ونحن نعتقد أنه بدون فهم الدور الرئيسي لتأثير القرآن على المجتمعات الإسلامية وقبول هذا الدور، فلا يمكن فهم الهوية الفردية والاجتماعية للمسلمين فهاً صحيحاً.

مفهوم الجماعة لدى محمد فتح الله كولن

يرى فتح الله كولن أن الجماعة هي التي تحقق مبدأ “خدمة الحق والخلْق”([3]) فللإنسان وظيفتان وهدفان رئيسيان في وجوده على هذه الأرض هما؛ “العبودية” أولاً، “وإعلاء كلمة الله” ثانياً. ويمكن تلخيصهما بالقول بأنهما وظيفة “الإرشاد والتبليغ”. وجميع وظائفه الفردية والاجتماعية والأخلاقية مرتبطة بهذين الأساسين. ونظراً لكون “إعلاء كلمة الله” هدفاً سامياً فهو يتجاوز الإرادة والقدرة والتضحية الفردية. وتحقيق وإنجاز هذا الهدف ونقله وتوصيله إلى الجماهير يتطلب وجود جماعة منظمة. والقرآن يشير إلى أن المسلمين “أمة” ويعرّفهم على هذا الأساس من الشعور. ومع أن “الأمة” تعبير عن جميع المجتمعات الإسلامية، إلا أنها وجود تجريدي. ونظراً لأن الجماعات تكون كتلاً تتجاوز الإرادات الفردية، فإنها تأخذ على عاتقها تحقيق بعض الوظائف الاجتماعية للأمة. لذا كان من المهم الاستعانة بالجماعات في المجتمعات الإسلامية. يقول فتح الله كولن:

“فكرة الجماعة مهمة. أي، من المهم وجود فكرة جماعة. حيث يقوم كل فرد بتوظيف عواطفه وأفكاره الشخصية ومشاعره حول فكرة سامية ليتم تحقيق وحدة عقلية ومنطقية. هذا هو التفكير الجماعي”.([4])

الجماعة هي وحدة عقلية ومنطقية وقلبية وروحية، واختيار شخصي. والجماعة في الوقت نفسه تكتل وتجمع أخلاقي، لا تقوم بأي دعوة إجبارية لأنها مرتبطة بالإرادة الحرة للأفراد “…وكل تجمع أخلاقي هو تجمع اختياري يستسلم الأفراد فيه بكامل حريتهم وإرادتهم لهدف التجمع الذي يعد بالسعادة الدنيوية والأخروية. وفي ضمن هذا التجمع لا يسمح الإيمان بماهيته التوحيدية، ولا المحبة بماهيتها المذيبة، ولا الهدف المنشود بسموه لأي سلبيات تنتج من الأنانية. لذا فلا مجال لنمو الأنانية في مثل هذا الجو”.([5])

(345-344-343) الجماعة هي الوعاء المعنوي الذي تذوب فيه أنانيات الأفراد ونوازعهم المنفعية. والحقيقة أن كل شكل من أشكال الأنانية، والتهالك على المصالح والمنافع الشخصية أمر لا أخلاقي. ومع أن للإنسان شخصيته وفطرته الفردية فهو مخلوق اجتماعي، حيث تتبلور شخصيته وأخلاقه داخل المجتمع. “لا يمكن أن نتحدث عن الفرد المنزوي عن المجتمع ونقول أنه ذو خلق أو هو عديم الخلق، علماً بأن الإسلام يعد العيش داخل المجتمع وتحمل بعض السلبيات الناتجة عنه جهاداً”.([6])

أجل، فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”([7]). ولو تأملنا قليلاً ندرك دقة معنى النص. لأن التعامل مع الناس قد يكون مؤذياً في بعض الأحوال. أو لأن من المحال أن يتم إشباع طلبات الإنسان ورغباته كلها. فالناس أنواع وأشكال من الناحية الأخلاقية والروحية والشخصية. وهذا التنوع يولد المشاكل أحياناً. لا سيما إذا أدى هذا التنوع إلى ساحة الأنانية والفردية. عندها تنقلب الحياة الاجتماعية إلى حياة لا تطاق. ولكن مع كل هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول بأن أفضل الناس هم المتعاملون مع الناس، ويعد هذا “جهاداً”. ومن أهم وظائف المجتمع هو إعداد الأفراد –كلٌ حسب قابلياته– ليكونوا أفراداً صالحين للمجتمع “…إن التسامي والتعالي الذي تنتجه وتؤمنه العقيدة والحياة، تستهدف الإخلاص وتطوع الفرد، وتلينه وتذيبه وتحوله إلى إنسان اجتماعي –مع بقاء جميع خصائصه ومزاياه الذاتية– حتى يتحول من قطرة إلى بحر، ومن ذرة إلى شمس، ومن صفر إلى شيء كبير وثمين”.([8]) هنا يشير فتح الله كولن، إلى خاصية معينة في قابلية المجتمع على إذابة الأفراد في وعائه، فالفرد يبقى بجميع خصائصه الفردية. ولكنه يثري في الوقت نفسه بالخصائص الاجتماعية التي يكسبها المجتمع له حتى يكون جزءً من الشخصية المعنوية للمجتمع.

بينما نرى أن النظريات والمعاصرة تقول، إن هوية الفرد تصادم هوية المجتمع. والحقيقة أن هذا الصراع هو خلف معظم مشاكل الهوية الشخصية التي تنتجها وتسببها الحداثة. والنتيجة هي، إما أن يتم التأكيد على الهوية الفردية وإما على الهوية الجماعية.

وعلى خلاف الظن السائد فإن الجماعات الإسلامية المعاصرة لا تذيب الهوية الفردية تماماً ولا تمحوها. بل تثري هذه الهوية وتدفعها للعمل من أجل هدف علوي. فالإخلاص والوجد والعبادة والطاعة تنضج الإنسان. ولكن، إن لم يتوجه الإنسان إلى أهداف اجتماعية فلن يكون في إمكانه الوصول إلى مرتبة “الإنسان الكامل”.

(346-345) ويؤكد فتح الله كولن مراراً وتكراراً على أهمية الجماعة في تشكل الفرد وترقيه في مدارج الكمال عند قيامه بالعمل في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته:

“إن أداء الخدمة في هذه السبيل من أسمى الخدمات. والهدف هو نيل رضا الله، والنتيجة هي السعادة الأخروية. ولكن، إن تلوث هذا الهدف بأي منافع شخصية أو جماعية، تقطعت الروابط التي لها صفة الأبدية والأزلية التي تغذي الفرد والجماعة وتحييها. فيبتعد الفرد عن خطه وتهتز الجماعة وتبدأ أمارات الخسارة بدل الربح في الظهور.

أجل، ينبغى على كل جماعة تربط أعمالها بالله تعالى، أن تحذر من كل أشكال المنفعة الشخصية وأن تبتعد عن أي هدف أو فكر أو خيال دنيوي قاصر. الجماعة الحقيقية هي الجماعة المقدسة التي استسلم أفرادها للأبدية. أو هي -حسب تعبير بديع الزمان النورسي-: “تبدأ الأعمال عند هؤلاء، بالله، فهم يتكلمون من أجل الله، ويجتمعون من أجل الله، ويعملون لأجل الله ولوجه الله، ولأجل الله يقلبون ثواني أعمارهم إلى سنوات، ويطبعون وجه الفناء بطابع البقاء. لأن جميع جهودهم مخلصة تمام الإخلاص، ونقية تمام النقاء، وهي متوجهة نحو العالم الآخر، عالم الأبد والأزل.

لذا لا يمكن القول بأن كل تجمهر هو جماعة. بل إن بعض الكتل التي تسري العداوة بينها ليست بعيدة فقط عن ماهية الجماعة. بل إن زيادة الأفراد فيها تؤدي إلى زيادة الضعف، مثلما تؤدي عمليات ضرب الكسور ببعضها إلى تضاؤل قيمتها. فأصحاب الأنبياء الذين تميزوا بروح الجماعة، شكلوا جماعات قوية مع قلة أعدادهم، وأدوا المطلوب منهم. بل إن عد كل من أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) أمة قائمة بذاتها لا يعتبر مبالغة. ويمكن أيضاً النظر إلى حواري المسيح عليه السلام، وهم قلة وكأنهم جيش قوي. والحقيقة، إن كل فئة قليلة من هذا الصنف ومن هذا المستوى عدت في التاريخ أقوى من العديد من الكتل الجماعية المتنافرة وأكثر بركة منها”.([9])

(347-346)

الحياة الروحية في الإسلام

  • التصوف والطريقة والجماعة

لم تظهر الطريقة كظاهرة اجتماعية في عهد الصحابة والعهد الأول للتابعين. بل ظهر المتصوفة الأوائل في نهاية النصف الثاني من عهد التابعين. ولكن التصوف لم يظهر في هذين العصرين كظاهرة اجتماعية، بل كطريقة في الزهد يسعى وراء الحقيقة مثل الفيلسوف. إلا أن البحث عن الحقيقة لدى الزاهد موجه نحو ساحة القلب والوجدان أو بتعبير آخر نحو ساحة الحرية المطلقة.

بينما يدور الفيلسوف في دائرة مفرغة، ويقوم ويقعد بالنقاش وبالصراع وبالاعتراض وبالتخمينات. رغم ذلك لا يستطيع أن يصل –وإن وصل– إلا إلى حقيقة ميتة لا حياة فيها، أو إلى حقيقة ظاهرية لا يمكن العيش فيها ومعها. نرى أن الصوفي يعيش بسعادة كبيرة في حياة روحية مباركة. ولا يصل إلى هذه السعادة بالمعلومات التي حصل عليها، بل بالرغبة في الوصول إليها والتوحد معها والعيش فيها. ومع أن الصوفي يستعمل الرموز والكنايات التي لا يعرف معناها سوى من ذاق طعم وحلاوة تلك السعادة وعاشها. إلا أنه في النهاية يستعمل اللغة المعهودة والمستعملة. ولا تستطيع الفلسفة إعطاء أي شيء للإنسان حول جو هذه التجارب الروحية والمعنوية.([10]) ونظرة العقل الفلسفي الخالص، تكون قاصرة حول جميع الفعاليات الروحية وحول العالم الداخلي للمتصوف. وما يذكره التصوف الإسلامي عن “الحال، والمقام، والذوق والكشف والإلهام..الخ” ليس ثمرة للعقل والفكر، بل هو ثمرة رحلة قلبية وروحية ومعنوية متصاحبة ومتكاملة مع العرفان. فهو لا يعتمد على المعرفة بل على العرفان والحكمة. ولا يمكن الوصول إلى هذا إلا بعد تجاوز الإنسان وجوده الجسدي والجسماني.

تنمو الملكات الوجدانية والعاطفية في التصوف أكثر من الملكات العقلية. والتجربة الصوفية ترنو إلى قرب العاشق مع المعشوق والحبيب مع المحبوب. وهذا القرب ليس جسدياً ولا مادياً، بل ذوقياً ومعنوياً. وخيال القرب هذا لا يشير إلى المادي المحسوس، بل إلى تجلي أسماء الله الحسنى وصفاته. وهو إحساس سامٍ متعالٍ.

كانت الصوفية هي الأساس في ظهور الطرق الصوفية في المجتمعات الإسلامية كظاهرة اجتماعية. ومع أن عوامل خارجية أثرت عند تحول التصوف إلى مؤسسات وطرق صوفية، إلا أن التصوف –قبل تحوله هذا– نتاج ذاتي للإسلام وللظروف الاجتماعية والثقافية (349-348) والسياسية والفكرية والدينية. وأهم سبب لظهور ووجود التصوف والطرق الصوفية، هو الرغبة في عيش الإسلام كدين بعمق أكثر. وبتعبير آخر فالتصوف هو عيش تجربة دينية عميقة على الصعيد الروحي والمعنوي.

لقد اعتني المتصوفة الأوائل بالزهد واعتنوا بالآيات القرآنية التي تتناول الإنسان ومدى علاقته بالحياة الدنيا والآخرة، وتعامله مع نفسه الأمارة بالسوء، وطريقة سلوكه إلى الله سبحانه وتعالى. كانت الآليات الداخلية للإسلام حتى عهد الفتوحات متجهة نحو الفقه والكلام وجمع الأحاديث وتدوينها. ولكن المتصوفة اتجهوا اتجاهاً آخر، حيث انكبوا على محاولة الفهم العميق للتقوى وللمتقين مثلما جاء في التعبير القرآني. ولا شك أن أصحاب الفقه والحديث وعلم الكلام كانوا أيضاً من المتقين، إلا أن الذين مالوا إلى التصوف أرادوا التعمق في هذا الصدد، ورغبوا في تذوق تجربة روحية عميقة. ثم إنهم كانوا يرون أن أهل الفقه والكلام شغلوا أنفسهم أكثر من اللازم في الأمور اللفظية والشكلية والظاهرية. ويرون كذلك أن علماء الكلام يستخدمون العقل بطريقة منطقية. ويرون أن مطارحات علماء الكلام كانت تستند إلى مهارتهم في النقاش وتزويق الكلمات في أمور لا تدخل في أطر التجارب أمثال “الصفات” و”الأسماء” و”الذات”.

إن أساس التصوف هو محاولة تطهير القلب من غير الله ومن سواه، وتغذية الروح بالأدعية والأذكار وزيادة النوافل. وإذا كان الفقه يمثل العمود الفقري للعقل الاجتماعي وللعبادات والمعاملات في الحضارة الإسلامية، فإن التصوف أهم ظاهرة للناحية الروحية والمعنوية في الإسلام. “…فالتصوف ليس فقط طراز الحياة التي يختاره الصوفي. بل هو نظرة خاصة تعين في الوقت نفسه علاقة الصوفي بربه وبنفسه ثم بالعالم أجمع، وتعين كيفية إنشاء العلاقات مع جميع هذه الجهات. ولكن هذه النظرة في المستوى العام وفي المستوى الفلسفي نظرة دنيوية. غير أن نظرة الصوفيين إلى الدنيا وإلى الدين تختلف عن نظرة الفقهاء وعلماء الكلام. كما تختلف تظرتهم إلى الله وإلى الإنسان عن نظرة الفلاسفة).([11])

اتبع التصوف منذ عهده الأول –الذي نطلق عليه عهد الزهد– مساراً تجاه الدنيا يختلف عن المسار العام. واعتباراً من بداية القرن الثالث الهجري وصل إلى مرحلة النضج، وبدأ فهمه للدين يختلف عن فهم الفقهاء وعلماء الكلام. وبعد القرن الثالث بدأ فهمه يختلف عن النظرة الفلسفية الكلاسيكية.([12]) والخلاصة إن التصوف أثر في كل عهد تأثيراً روحياً كبيراً على المسلمين من ناحية موقفهم من الله والدين والدنيا.

وحتى نهاية القرن الثاني للهجرة لم يكن التصوف ولا المصطلحات التصوفية تشكل ظاهرة واضحة ومتبلورة بعد. بل كان التصوف حالات فردية. فلم تكن هناك تكايا وزوايا مثلما شاهدناها في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث للهجرة. فالمتصوفون الأوائل انشغلوا بمفاهيم من أمثال القلب (351-350-349) والنفس والوجدان، الزهد، العزلة، التقوى، وراء (؟؟؟)، خوف، رجاء، عرفان، إحسان، محبة، عشق، دنيا، آخرة..الخ. بينما اخترعوا في مرحلة لاحقة مفاهيم أخرى مثل: الوحدة، الكثرة، الكشف والشهود، الفناء والبقاء..الخ وعمقوا تجاربهم الروحية حولها. وتحول التصوف في القرن الثالث للهجرة إلى نوع من مؤسسة خاصة وبدأت تهتم في البداية بمفاهيم أمثال: العزلة والسياحة ثم بالزوايا والتكايا. هنا نجد نشاطاً كبيراً في التجمع وتكوين الجماعات، حيث نجد هنا تشكل الحلقات في المساجد بين الصوفيين والتفافاً حول شيخ صوفي في الزوايا والتكايا، وعيش حياة صوفية منظمة وهنا تشكلت المدارس والنحل الصوفية الأولى حول الشيوخ الذين أسسوا هذه المدارس وقادوها، وبدأ سالكو الطرق الصوفية يأخذون تعاليمهم من هؤلاء الشيوخ.

كان التصوف في البداية عبارة عن حياة زهد بسيطة، ولم تكن له أي قواعد أو أسس خارج الدين. ثم تقدم وتحول إلى حياة روحية منظمة تدريجياً، وإلى نظام له طرق رياضة ومجاهدة لعلاج أدواء النفس وأمراضها بعد أن عاش مرحلة انتقالية. كان التصوف هنا عبارة عن التحلي بالأخلاق الدينية ومحاولة فهم الحكم الباطنية للعبادات. ومع أن هذه المرحلة كانت انتقالية إلا أن الطلب والهدف كان لا يزال حياة يزينها الرضا والتوكل والزهد. ويعد ابراهيم الأدهم (وفاة 161هـ) ومعروف الكرخي (وفاة 200هـ) ورابعة العدوية (وفاة 185هـ) وفضيل بن عياض (وفاة 189هـ) أبرز المرشدين الصوفيين في هذه المرحلة الانتقالية.

ثم دخل التصوف إلى مرحلة “الوجد والكشف والذوق”. وهي ألمع مرحلة وأرقاها في التصوف وتشمل العصر الثالث والرابع للهجرة. فقبل هذه المرحلة كان التصوف عبارة عن طريقة للعبادة تفتش عن المعاني الباطنية للأحكام الدينية، وتأثيرها على القلب. وكان كأنه مقابل علم الفقه الذي يهتم بالمعاني الظاهرية للعبادات. بينما تحول في هذه المرحلة الجديدة إلى طريق لتربية النفس وطريقة معرفية جديدة أمام طرق المعرفة لعلماء الكلام. ولم يكتف التصوف بالوسائل التي توصل إلى “الحال” و”المقام” في مجال تربية النفس ومجاهدتها ورياضتها، بل استعمل طرقه كعناصر في تحصيل المعاني الخفية، وتحصيل المعاني الذوقية التي لا يستطيع الآخرون الوصول إليها.([13])

هكذا بدأت مرحلة تحول المؤسسات الروحية إلى “طرق صوفية” وأصبحت هذه الطرق في القرن الرابع للهجرة وما بعده تعني في التقليد الصوفي الطريق المعنوي والروحي (352-351) وجملة الآداب والمراسيم والتعليمات لكل طريقة.

هناك بشكل عام وجهتان للتصوف الإسلامي: الوجهة الأولى هي الوجهة العملية. وهي عبارة عن الزهد وحياة العبادة النابعة عنه. والتوجه إلى الله وترك الشهوات الدنيوية والأهواء النفسية، والتمسك بكل أنواع مجاهدة النفس ورياضتها. والوجهة الثانية هي الوجهة “المعنوية والإشراقية” وهي أحوال القلب والروح والنفس التي انتجتها حياة الزهد ومجاهدة النفس وهي عبارة عن: الوجد، الذوق، والمعرفة (العرفان) والمحبة، والجذبة، والشكر، والإنجذاب والصحو، والمقامات. ولا شك أننا لن نستطيع اختصار تاريخ التصوف الإسلامي في سطور قليلة. كما لا نتناول هنا الانحرافات التي حصلت في التصوف. وطالما بقي التصوف والطرق الصوفية بكل ألوانها ضمن الإطار الشرعي فهي حركة إغناء لحياة العبادة في الإسلام وإغناء للحياة الروحية وتوسيع لأفق الروح. ومع أن بعض الطرق الصوفية المتطرفة التي ابتعدت عن النصوص الشرعية وعن الإطار العام للإسلام وتقاليده قد ظهرت في التاريخ الإسلامي، إلا أن التصوف الإسلامي كان في التاريخ الإسلامي من عوامل الرجوع إلى الوحدة الإسلامية المعنوية والروحية في المجتمعات الإسلامية. وكما قال السيد “س. حسين نصر” فإن التصوف كان هو القلب السري الذي يجدد الدين من الناحية المعنوية والأخلاقية والثقافية طوال مئات الأعوام. ولعب دوراً كبيراً في نشر الإسلام وفي تأسيس العلاقات مع الأديان الأخرى.([14])

(353-352)

التصوف والمظاهر الصوفية عند محمد فتح الله كولن

ليست حركة فتح الله كولن حركة صوفية. صحيح أنه تناول في مسامراته وفي العديد من مقالاته ومواعظه وخطبه المفاهيم العائدة للتصوف وشرح معاني مصطلحاته والحياة الصوفية. وبالمعنى الفردي فهو يعد بحق “زاهداً معاصراً”. إلا أن تصوفه محدد ومحصور في النطاق الفردي. وهناك نوع من التصوف لا يتبنى زهداً بعيداً عن الدنيا وعن المجتمع وتاركاً لهما. فهو يرى أن زهداً رهبانياً ليس فضيلة يشجعها الإسلام، لأن الإسلام في جوهره دين اجتماعي والرهبانية تتناقض مع الحياة الاجتماعية. ولكن فتح الله كولن في المقابل لا يرى من الصحيح الانغماس في الدنيا والتمتع بجميع الأهواء النفسية والمادية. فكما أن الزهد لا يعني ترك الدنيا تماماً، وهو طبعاً لا يعني الانغماس في الدنيا. فالقرآن الكريم يرشدنا إلى الاعتدال في هذا الأمر. فلا يوجد في الخطاب القرآني أي دعوة للانصراف عن الدنيا والابتعاد عنها تماماً. ولكن ربما كان هناك توجيه وتحذير من الانغماس فيها من الناحية الأخلاقية والمعيشية وجعل الدنيا أكبر هم للإنسان.([15]) ففي الفكر الإسلامي هناك ثلاثة أوجه للدنيا، الأول هو المتوجه إليها. الثاني: الوجه الناظر إلى الأسماء الحسنى. أي الوجه المتوجه إلى الساحة التي تتحقق فيها تجليات أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله. والثالث: المتوجه إلى الآخرة([16]) فالقرآن يحذر من الوجه الأول، ويؤكد على أن هذا الوجه زائل وخادع.([17])

الوجه الثاني والثالث يشكلان توجه المتصوفة نحو الدنيا ونظرتهم إليها وطبيعة فهمهم لها. فهم لا يهتمون بالوجه الأول ولا يلتفتون إليه. أجل هناك إشارات قرآنية استند إليها بعض الزهاد من المتصوفة في المرحلة الأولى للتصوف في التاريخ الإسلامي في ترك الدنيا. فهناك آيات كثيرة في القرآن تذم الدنيا. وانطلاقاً من هذه الآيات أرسوا القواعد لحياة عملية وقلبية وروحية. ولا شك أنه نتيجة لهذا السلوك والتصرف فقد ظهرت ثقافة معنوية غنية ومصطلحات ثرية. لذا فلا يمكن اهمال هذه الناحية أو تناسيها. إلا أنه لم يظهر في العهد الإسلامي الأول -عهد الصحابة وفي عهد التابعين نوعاً ما– مثل هذا الترك للدنيا وللحياة الاجتماعية مع وجود عدد كبير من أصحاب التقوى والورع فيهم. ومن المحتمل أن عدم ظهور هذا النوع من الزهد القائم على ترك الدنيا يعود إلى انشغال الصحابة في عصرهم بوظيفة الجهاد وإعلاء كلمة الله، وبوظيفة التبليغ والإرشاد، وجعل هذه الوظيفة أهم من كل (355-354-353) تجربة روحية ومعنوية في حياتهم الخاصة أو في حياتهم الاجتماعية. لم يكن أهم أمر عندهم القيام بتنظيم قواعد الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في الروح، بل عيشه والإحساس به وتذوقه. كان هذا على الصعيد الفردي والشخصي. أما أهم مسألة من ناحية المجتمع والعلاقات الاجتماعية فكانت وظيفة “الدعوة والتبليغ”. لذا فلم ينشأ مفهوم “ترك الدنيا” في هذا العصر الأول ولم يتطور أو يقوى.

أما في العصر الثاني والثالث فقد ظهرت مع زيادة الفتوحات والتحاق حضارات وثقافات أجنبية بالإسلام مشكلة الانغماس في الدنيا، مما حدا بالكثيرين إلى ترك الدنيا وترك الحياة الاجتماعية. كما أن الإسلام تحول فيهما إلى دولة وإلى مدنية. وكسب قوة على الصعيد الدولي، وأصبحت له كلمة مسموعة. أي كانت هناك أعداد كافية من الأفراد القائمين بوظيفة “الإرشاد والتبليغ”، وتكاثف عدد السكان وزاد. فأصبح هناك العلماء والمجاهدون والجنود والإداريون والعامة.

ومن جهة أخرى فعندما أضيف إلى هذا التغير الاجتماعي اشتداد النقاش في ساحة الفلسفة وعلم الكلام، كان هذا داعياً لبعض النفوس التي كانت فطرتها مساعدة للتحول نحو الزهد وترك الدنيا. وفسر فتح الله كولن موضوع ترك الدنيا بأنه يجب أن يكون تركاً قلبياً وليس كسبياً.([18])

وهذا التفسير للزهد يقربه من مفهوم الزهد عند الصحابة. فهو بدأ منذ إلقائه مواعظه وخطبه ومسامراته في مجلسه في الكثير من الأحيان بالتطرق إلى زهد الصحابة وورعهم، وعمقهم في العبادة والطاعة وجهودهم الكبيرة في الدعوة والتبليغ وتضحياتهم. كما تطرق بشكل مستقل وربما لمئات المرات إلى المصطلحات الصوفية من أمثال: الزهد، التقوى، الورع، القلب، النفس، الخوف، المعرفة، المحبة..الخ. ولكن هذا الميل الصوفي ظهر عنده كزهد فردي ولم يجعل التصوف طريقة أو ظاهرة اجتماعية في حركته. بل أكد على الطابع الاجتماعي لجماعته. أما أهداف جماعته فقد حددها بـ”إعلاء كلمة الله، الخدمة، التضحية في سبيل الآخرين، نذر الأنفس للحق تعالى وللخلق. وهي أهداف دينية واجتماعية. وقام بتفسير مختلف لبعض المبادئ التصوفية التي تبعد سالكيها عن الحياة الاجتماعية مثل: “العزلة والخلوة” فقد فسر هذه المبادئ تفسيراً فردياً.

والخلاصة أن فتح الله كولن يؤكد على الصوفية من الناحية الفردية، أما من الناحية الاجتماعية فيؤكد على الفعاليات والنشاطات الجماعية وعلى الشخصية المعنوية للحركة، وعلى نذر النفس للحق تعالى (356-355) وللخلق (الناس). وهذا يتلائم مع السلوك النبوي وسلوك الصحابة في النواحي الدينية وفي مجال التبليغ والإرشاد. فقد عاشوا في ظروف صعبة وفي فقر، ملؤهم القناعة وفي مراقبة ومحاسبة للنفس شديدة. وطبعاً لم تكن حالتهم التصوفية والقلبية ومشاعرهم الروحية دون المتصوفة الذين جاءوا من بعدهم، بل أعمق دون شك. ومع ذلك فلم يتبنوا حالة الخلوة والعزلة عن المجتمع وعن الناس. بل اختاروا سبيل الجهاد في سبيل الله وسبيل الدعوة والتبليغ والإرشاد وفضلوه على كل شيء عداه. وهذا هو المصدر الذي تستند إليه الفعاليات الاجتماعية لجماعة فتح الله كولن.

لاشك أن هناك حركات وجماعات تبنت طراز الحياة الصوفية على الصعيد الفردي وعلى صعيد الحياة الاجتماعية ودعت إليه طوال التاريخ الإسلامي. ولسنا هنا في معرض نقد ومحاكمة هذه الحركات وأفكارها. بل نريد هنا الاشارة فقط كيف أن الحركات التصوفية أدامت وجودها، وشكلت صوراً مختلفة من الحياة الروحية في الإسلام.

ونود الإشارة هنا إلى أمر آخر، هو أن لكلمة “الصوفية” مفهوماً أوسع. فهي تعني الحياة الروحية –مهما كان شكلها– للإنسان الذي يسلك طريقه للتقرب من الله تعالى. ولا يهم أن يكون هذا السلوك متلائماً أو غير متلائم مع أي طريقة من الطرق الصوفية الموجودة. و”الطريقة” بهذا المعنى أمر فردي بكل معنى الكلمة. لأن لكل إنسان يحاول الوصول إلى الله، ويسلك السبيل إليه عالمه وحياته الروحية الخاصة به. وكان الصوفيون القدماء يقولون: “هناك (طرق) بعدد المتوجهين إلى الله وسالكي الطريق إليه”.([19])

ومع أن للتصوف مثل هذا التعريف الواسع، إلا أنه تعريف ينطبق بشكل أكبر على التصوف في القرن الثاني وما قبله. ولكن التصوف تحول إلى بُنية وإلى مؤسسة منظمة، فأصبحت له مصطلحات وتعاليم ومراسيم وآداب متكاملة خاصة به. ولم يعد مجرد تجربة روحية فردية في التوجه إلى الله بقلب سليم وضمن زهد وتقوى فردي. لذا ومن هذه الزاوية فإن سلوك فتح الله كولن يندرج في التصوف الفردي وليس في “الطريقة” الجماعية.

علماً بأن أشكال الطرق الصوفية في أيامنا الحالية تختلف عن الطرق الصوفية في العصر الثالث والرابع للهجرة المستندة إلى ترك الدنيا والاعتزال عنها، لأن الطرق الصوفية المعاصرة علاوة على استمرارها في اتباع نهج التجارب الروحية الفردية، إلا أنها بدأت تقدم أيضاً خدمات اجتماعية إلى المجتمع. لذا يجب ألا نهمل هذا التحول المعنوي والاجتماعي في هذا الصدد. (357) عندما ننظر من هذه الزاوية نستطيع أن نقول بأن العديد من “الطرق الصوفية” بدأت تقترب من شكل “الجماعات”. فهي قد ابتعدت عن مفهوم الزهد المستند إلى الإنزواء وترك الدنيا، أي ابتعدت عن الطرق القديمة. إلا أنها مستمرة في اصولها ومراسيمها وتقاليدها القديمة مع إضافة بعض البصمات الحديثة.

يُعد فتح الله كولن متصوفاً معاصراً وعلى النمط الفردي. ولكن لا يمكن وصف جماعته وحركته بأنها صوفية. لأنها لا تتشابه معها لا في ظاهرتها الاجتماعية ولا في آدابها وأصولها ولا في بنيتها التنظيمية. لأن فتح الله كولن –كما قلنا من قبل– يتناول الصوفية –أو بالأحرى يتناول الحياة الروحية في الإسلام– من المنظور الفردي ويؤكد على أهميتها في توجيه الحياة الاجتماعية للمسلمين. ولكنه لا يتخذ “الطريق” كحركة اجتماعية أساساً. لذا فإن تقويم حركته بأنها “طريقة صوفية” تقويم مخطئ من ناحية الحقائق التاريخية ومن ناحية الآليات الأساسية للحركة.

(359-358-357)

مفهوم الجماعة والشخصية المعنوية

كما ذكرنا سابقاً فإن التصوف في حركة فتح الله كولن يظهر فردياً، بينما يتم التأكيد على الشخصية المعنوية للجماعة. والجماعة هنا تعني وحدة معنوية وشخصية وإطاراً لارادات جميع أفرادها وأفكارهم ومعتقداتهم وطرز سلوكهم وتوجهاتهم. فكل فرد فيها يُذيب أنانيته في الشخصية المعنوية للجماعة مثلما تذوب قطعة ثلج في البحر.

تتشكل هذه الشخصية المعنوية حول محور: إعلاء كلمة الله. فجميع نشاطات الجماعة وفعالياتها وقيمها وأهدافها تتوجه إلى هذه الغاية. ويطلب من جميع منتسبي هذه الحركة أو الجماعة تحقيق هذا الهدف واحترامه وعدم خلط أي مصلحة شخصية لهم به.

من جانب آخر فإن “الشخصية المعنوية” وجود حظي بتجليات إحسان الله تعالى ولطفه وعطائه. فكما يكون الصوفي في التقاليد الصوفية مظهراً لألطاف إلهية خاصة نتيجة تجاربه الروحية، كذلك تحمل الشخصية المعنوية للجماعة قابلية أكثر لظهور تجليات ألطاف الله تعالى عليها. وهي تجليات أكثر بكثير من التجليات المعطاة للأفراد، ولتجاربهم ومسالكهم الروحية. وهناك حديث شريف يذكر بأن رضا الله تعالى ولطفه وإحسانه وتجلياته هي مع الجماعة على الدوام.([20])

يقول الشيخ فتح الله كولن ما يأتي عن الشخصية المعنوية للجماعة:

(… رابطة “الشخصية المعنوية” تعني قيام الفرد بإذابة نفسه في الجماعة وتوحده معها. أما الجماعة فتظهر التحام أفراد حول مثل فكرة واحدة وهدف واحد. وتتشكل الجماعة عند الوصول إلى شعور جماعي. ويقوم الشعور الجماعي بإذابة الفرد في بوتقة الجماعة وتحويل أبعاده إلى بُعد واحد، فلا يصبح هنا فرد بل جماعة. فالفرد أصبح جماعة والجماعة أصبحت فرداً..) والعبادات التي تُؤدى في مثل هذا الجو تسيل وتنصب في حوض بعينه. وحتى لو لم يحدث هذا فإن الشخصية المعنوية للجماعة ترتقي (360-359) بسرعة إلى مراتب معنوية عالية وإلى ذرى شامخة).([21])

إذن فالأستاذ فتح الله كولن يرى أن الشخصية المعنوية للجماعة مهمة جداً وهي عامل مهم لإضفاء البركة على نشاطات وفعاليات الجماعة، وعنصر من عناصر ترقيها المعنوي، ثم إن الارتقاء المعنوي الحاصل بفضل الشخصية المعنوية للجماعة أكثر أماناً في صدد السير والسلوك التصوفي وأبعد عن الغرور والكبرياء. وهذا هو ما يعبر عنه في التصوف بـ”الولاية”.

364-365

القوى الأساسية للحركة:

إن تحليل القوى الداخلية المحركة لأي حركة مهم من ناحيتين: الأولى أنه يساعدنا على النفوذ إلى أعماق هذه الحركة. والثانية: أنه يمنع الوقوع في خطأ فهم الكل عند القيام بتحليلات جزئية وفرعية للحركة. فهذه القوى المحركة تشبه مفاتيح مفاهيم الحركة، ويتشكل السلوك الاجتماعي والذهني حول هذه القوى على الدوام. ومعرفة هذا الأمر يحفظ علم الاجتماع وتحاليل الحركة من الوقوع في الأخطاء العامة. كما يساعدنا على اقتناص أخطاء كل من يقوم بتفسير خاطئ للحركة. فمثلاً في التجربة الصوفية والجو الصوفي الإسلامي يكون من الطبيعي أن يرى الإنسان نفسه صغيراً متواضعاً ويكون في علاقاته الاجتماعية حيياً خجولاً. لذا فإن المراقب الذي يراقب هذا الأمر من الخارج دون أن يكون ملماً بالسلوك الصوفي وبسلوك الزاهدين، قد يفسر سلوك التواضع عند هذا الصوفي وكأنه يحاول على الدوام إخفاء شيء ما عن الآخرين، وكأنه يسلك سبيل التقية. فهل يمكن لمثل هذا الفهم للبواعث الصوفية أن يكون فهماً علمياً؟

إن العمق التصوفي والمعنوي في الإسلام يطلب من كل إنسان أن يكون متواضعاً في علاقاته الاجتماعية والعائلية وحليماً. وهو يستهدف بهذا كمال الفرد شخصياً من جهة وكمال العلاقات الاجتماعية من جهة أخرى. لذا كان من الضروري فهم التأثير الكبير والشامل للدين الإسلامي –الذي يملك عمقاً روحياً ومعنوياً قوياً- على منتسبيه ومعرفة ديناميكية قواه المعنوية ودرجة تأثيرها عليهم. وفي غياب فهم الحياة الروحية العميقة للإسلام لا يمكن إجراء تحليل صحيح للسلوك الاجتماعي والذهني حتى للمسلم الاعتيادي. وعندما نذكر الإسلام الثقافي فهذا يعني الإطار العام للعلاقات الروحية والعقائدية والاخلاقية والاجتماعية للمسلم مع الإسلام، وظهور هذه العلاقات ووضوحها. لذا فعندما ننظر من نافذة الأسس الرئيسية للقوى المحركة نحصل على المنظر العام للسلوك الفردي والروحي والأخلاقي والاجتماعي للمسلمين. لذا فإن الوقوف على طبيعة القوى الديناميكية المحركة لحركة فتح الله كولن من الناحية الدينية والمعنوية والاجتماعية والثقافية من هذه الزوايا، يساعدنا على القراءة الصحيحة للسلوك الديني والاجتماعي والثقافي لهذه الحركة.

ولا شك أنه بجانب المفاهيم المتعلقة بموضوعنا الذي نتناوله في هذه الفقرة، ومعانيها العميقة في الثقافة الإسلامية، فمن المهم تناول انعكاسات هذه المفاهيم في الحياة الاجتماعية الواقعية وكيفية تلقيها وفهمهما وتفسيرها أيضاً. وأهمية حركة فتح الله كولن أنها استطاعت إدخال هذه القوى الأساسية المحركة ضمن الحياة الاجتماعية والثقافية بنجاح. وإلا فإن هذه القوى الديناميكية الدينية والثقافية موجودة في الكتب وفي المصادر الدينية الرئيسة منذ ما يقارب من ألف وأربعمائة سنة. كما أنها موجودة ضمن القوى الديناميكية التي أنتجها الأتراك بعد 366-367 اهتدائهم إلى الإسلام. فقيم قبول الآخرين وقيم روح المسامحة والإنسانية وغيرها من القيم الأساسية، تعد من القيم التي قدمها الأتراك إلى الإنسانية طوال عصور عديدة عندما كانوا سادة العالم. وهذا الخط الذي قلنا أنه يمثل خط فكر جلال الدين الرومي، وأحمد يسوي، والذي أهديناه للعالم هي القيم الإنسانية الرئيسية التي قامت على هذه القوى الديناميكية المحركة.

من جهة أخرى، فإن التركيز على القوى الداخلية المحركة لهذه الحركة، يعني جلب الانتباه إلى أنها هي القوى الموجودة خلف جميع المقولات وجميع أنواع السلوك الاجتماعي للحركة. ففي كل نشاط للحركة، وكل علاقة تؤسسها مع الأوساط الثقافية المختلفة الأخرى. وكل فعالية من فاعلياتها في حوار الحضارات تبقى هذه الحركة مرتبطة بهذه القوى المحركة. ويستطيع كل مراقب يقظ لمس هذا الأمر بسهولة. وكل تفسير لا يتلائم مع هذه القوى الأساسية تفسير زائف، حسب رأيي. ويمكن إدراج العديد من التحاليل الصحفية من الدرجة الثانية في تركيا ضمن هذا التصنيف. فجميع التقويمات في هذه التحاليل من أمثال وصف الحركة بأنها تتبع أسلوب “التقية”.. أو أنها “إسلام راديكالي” أو أنها تسعى لتأسيس “دولة ومجتمع سياسي”. تقويمات زائفة، لأنها لا تملك أي استنتاجات صحيحة مستقاة من العلاقات الاجتماعية والثقافية للحركة، ولا من القوى الديناميكية المحركة لهذه العلاقات الاجتماعية والثقافية للحركة. أي إنها تفاسير غير مشروعة من كلا الجانبين. ومعرفة القوى الديناميكية الداخلية للحركة، ترشدنا إلى الإطار الصحيح الذي نستطيع ضمنه تفسير وتقويم هذه الحركة. فبهذه المعرفة وحدها نستطيع تجنب الخروج عن الإطار الصحيح في التحاليل الاجتماعية للحركة أو الانحراف عنه. والعديد من أنماط شجار الطرشان في السياسة وأنماط الضرب تحت الحزام، يعود إلى هذا الانحراف والخروج عن هذا الإطار. إن العديد من الأقلام غير المسؤولة التي تقوم بالنقد الأدبي والسياسي والاجتماعي تهمل مع الأسف القواعد الخلقية الإنسانية وهذا أمر يبعث على القلق. فالتحاليل بدلاً من أن تكون بناءة نراها تتجه إلى الهدم وهناك مثل عربي قديم يقول بأن لجراح السيف شفاء وليس لجراح اللسان شفاء.

جراحاتُ السنانِ لها التئامُ    ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ

وهذا المثل يصف هذا الشجار والعراك الحالي.

367-368-369-370

هناك أمر آخر أراه مهما في مجال الكلام عن الآليات المحركة أو ديناميكيات حركة فتح الله كولن، وهو أن من أهم خصائص هذه الحركة هي أن آليات هذه الحركة تظللها مُثُل عليا. أي إن من أهم مميزات آليات وديناميكيات هذه الحركة أنها متوجهة نحو الأبدية لأن الإسلام وحي إلهي. أي أنها تتناول الإسلام كدين وليس كأيدولوجية. لأن الإسلام يعد الإنسان بحياة أبدية وبالوصول إلى الحقيقة المطلقة وراء هذا العالم المحدود والفاني. وهذه المُثُل، أي مُثُل الأبدية والخلود موجودة ومندمجة في كل نشاط من النشاطات الاجتماعية لهذه الحركة. وقد يبدو هذا للكثيرين شيئاً معلوماً وبديهياً. ولكن هذه المثل لا تبقى في حركة محمد فتح الله كولن كأقوال وشعارات كلامية مجردة، بل تنقلب إلى خطط فعالة في جميع أوجه نشاطاتها. لذا كان على الأنموذج الإنساني في هذه الحركة تهيئة نفسه لتضحية وإخلاص غير متناهيين([22]) وهذه المثل الممتدة إلى اللانهاية تكسب ديناميكيات هذه الحركة معنى أوسع وأعمق. وتفرز جواً من المشاعر الروحية والمعنوية. لذا نرى أن محمد فتح الله كولن كثيراً ما يتحدث عن المشاعر الروحية والمعنوية.([23]) وهذه المشاعر هي التي أمدت شباب هذه الحركة بالقوة لمجابهة جميع الظروف الصعبة والقاسية في مختلف أرجاء العالم ومواصلة تقديم خدماتهم. وعادة ما تستند هذه المشاعر الروحية إلى قاعدة “إعلاء كلمة الله”.

ولو أردنا تعداد الديناميكيات المعنوية والفكرية لهذه الحركة لاحتجنا إلى كتاب كامل. والحقيقة أنه يجب فعلاً القيام بهذا البحث وكتابة مثل هذا الكتاب. ولاشك أن قريحة محمد فتح الله كولن الواسعة التي لم تتحدد فقط بالعلوم والأفكار الدينية لعبت دوراً أساسياً في هذا الأمر. فإلى جانب علومه وعواطفه الدينية لعب مخزونه الفكري والفلسفي والاجتماعي وتجاربه التي تزيد عن ثلاثين عاماً دوراً مهماً في هذا الصدد. ويستطيع كل مراقب أن يلاحظ أنه على الرغم من تغير الكثير من الظروف السياسية والاجتماعية والمادية والعديد من مواضيع الساعة خلال ثلاثين عاماً فإن الخطوط العامة لدعوته لم تتغير.

ومما يلفت الانتباه أيضاً طريقة تناول فتح الله كولن آليات وديناميكيات حركته ونظرته لها، فموقفه الإسلامي وفهمه للإسلام يعد فهماً محافظاً ومرتبطاً بالنصوص الإسلامية ارتباطاً وثيقاً. إلاّ أنه يملك من جانب آخر فكراً تجديدياً ينعكس على آليات وديناميكيات حركته.

370-371

وكونه محافظاً لا يعني تعصباً، ولا ضيقاً في الأفق. فنظام تفكيره وطراز حركته يدل على الحركة وعلى الحيوية. واهتمامه بالفن والأدب والفكر والفلسفة وغنى لغته وقابليته الفريدة في الخطابة تظهر مدى غنى وثراء محتواه الفكري، وسنقوم هنا باستعراض بعض ديناميكيات حركته باختصار. أما من يطلب تفصيلاً أكثر فيمكن له مراجعة كتبه.

  • سعة الضمير

ربما لا يأخذ هذا المفهوم في حركة محمد فتح الله كولن مكاناً ضمن ديناميكياتها الداخلية. إلا أن النظرة التي اكتسبها هذا المفهوم جعلت له دوراً مهماً له ولجميع الديناميكيات الأخرى. وأنا أعتقد شخصياً بأنه لا يوجد مفهوم في العرف الإسلامي أوسع ولا أغنى من هذا المفهوم. ويفهم من المقالات التي كتبها محمد فتح الله كولن والمواعظ التي ألقاها في السبعينات من القرن الماضي مدى اهتمامه بهذا المفهوم. فهو ينظر من زاوية هذا المفهوم إلى جميع المظاهر الأخلاقية في الفرد والمجتمع. ولكي نفهم طبيعة الإنسان والمجتمع ونظم التعليم التي يطمح إليها محمد فتح الله كولن يجب علينا البدء بالمحتوى الواسع والعميق الذي يحمّله لهذا المفهوم. فهو يشير بهذا المفهوم إلى تدين ناضج ومخلص في الفرد، وإلى مجتمع يملك عمقاً في العلم والعرفان.

وهو أحياناً يعد هذا المفهوم المحك الوحيد للخير وللجمال وللحقيقة، ويراه مقياساً للخير في أي فكر أو كلام أو في أي مشروع موضوع لخير الإنسانية، وأداة لمعرفة عما إذا كان فعلاً لخير المجتمع ولخير الإنسانية أم لا. لهذا نرى محمد فتح الله كولن منذ السبعينات وحتى الآن يؤكد بكل وسيلة أهمية سعة الضمير في الفرد وفي المجتمع. ويرى أنه ما لم يصل الفرد والمجتمع إلى تحقيق هذا المفهوم فليس في الإمكان تحقيق أي نهضة في أي مجتمع.([24])

372-373

بـ- إعلاء كلمة الله (الإرشاد، التبليغ والدعوة)

نستطيع تلخيص هذا المفهوم بالقول بأنه يعني “إيصال كلمة الله إلى الإنسانية جمعاء”. وتعرض ضمن التاريخ الإسلامي للتطور على الصعيد الاجتماعي والفردي والسياسي في مختلف المجتمعات الإسلامية. ويمكن أن نتحدث عن أبعاد ثلاثة له: بُعد الدعوة وبُعد التبليغ وبعد الإرشاد. وعندما يستعمل محمد فتح الله كولن مصطلح (إعلاء كلمة الله) يقصد منه هذه الأبعاد الثلاثة. وهو يربطه بسبب وحكمة وجود الإنسان في هذه الدنيا. فحكمة وجود الإنسان مرتبطة بإعلاء اسم الله وكلمته في الأرض، ويجب أن يعيش الإنسان لتحقيق هذا الهدف. أما ربطه بالجهاد المادي فقط فهو ربط موضعي وظرفي. فالحرب لم تكن في الإسلام أساساً بل شيئاً عرضياً. فالسلام وتطوير العلاقات الحسنة المتقابلة هو الأصل. وإعلان الحرب لن يكون إلا عند وجود غارة وهجوم خارجي. وهذا الإعلان موجود ضمن الصلاحية الرسمية للدولة حصراً. وأي هجوم على أرض الإسلام يعطي الحق للمسلمين في الدفاع عن أنفسهم، ويظهر هنا الجانب المادي من إعلاء كلمة الله وهو الجهاد القتالي ضد المعتدين.

تعرض مفهوم إعلاء كلمة الله عند المحللين الغربيين للتشويه، وصور كأنه دعوة في الإسلام للحرب والهجوم والاعتداء والإرهاب.([25]) ولكي نفهم نظرة محمد فتح الله كولن في هذا الموضوع، ولماذا جعل هذا المفهوم من الديناميكيات الداخلية الأساسية في دعوته يجب الإطلاع على كتابه: (إعلاء كلمة الله أو الجهاد).([26]) ففي هذا الكتاب تحليل عميق لهذا المفهوم، ولماذا عد من الديناميكيات الداخلية للحركة. والمؤكد هنا أن محمد فتح الله كولن يضع هذا المفهوم في أسس حكمة وجود الإنسان على سطح هذه الأرض.([27])

373

جـ- هدف الإحياء

يهتم محمد فتح الله كولن بهذا الهدف اهتماماً كبيراً ويعده من أهم الديناميكيات التي تؤمن يقظة الأمة. ولا يعد هذا الهدف في حضارتنا مجرد تضحية معينة. بل هو بطولة في عالم المثل والنبل أي الارتفاع عن كل مكسب دنيوي، وتجاوزه ولا يستطيعه سوى الذين يهدفون إلى نيل رضا الله تعالى، متسامين على كل منفعة ومصلحة ذاتية.

لذا نرى محمد فتح الله كولن يقول:

“نحن اليوم نحتاج لا إلى هذا ولا إلى ذاك، بل إلى أشخاص يستطيعون أن يقولوا: إنني أرضى في سبيل السعادة المادية والمعنوية لأمتي أن أحرق في نار جهنم”.. إلى الذين يفنون في سبيل الحق والأمة ضاربين عرض الحائط بكل المنافع الشخصية.. إلى الذين يتلوون من آلام المجتمع ويئنون.. إلى الذين يحملون في أيديهم مشاعل العلم مناضلين ضد الجهل والحماقة.. إلى الذين يهبون بكل عزم وبكل إيمان لنجدة الذين ضاعوا في طرق الحياة.. إلى الذين يستمرون في طريقهم دون يأس مثل جواد أصيل.. إلى الذين يتركون نشوة الحياة وزينتها في سبيل إحياء الآخرين”.([28])

377-378

د- نذر النفس للحقّ وللخَلق

يمكن أن يعد هذا امتداداً للديناميكية المعنوية السابقة، أو تعبيراً آخر عنها. ذلك لأن من يعيش للآخرين عليه أولاً أن ينذر نفسه للحق وللخَلق. فكما هو معلوم فإن منبع كل حب هو الله تعالى. وكل حب وكل خير وكل جمال إنما هو من تجليات أسمائه الحسنى. وكما هو معروف من تراث مولانا جلال الدين الرومي والشاعر المتصوف “يونس أمره”: (إننا نحب كل الخلق، لأنه من خلق الله تعالى) وهذا التجلي من الشمول بحيث يغطي جميع ساحات وجود الإنسان. وعندما نفهم جيداً معنى “الخالق والمخلوق” نفهم الفرق الكبير بين أساس المحبة في الإسلام وأساسها في “الفلسفة الإنسانية” (Humanism) في الغرب. فالمحبة هناك محبة فلسفية وبشرية، ولا تحمل أي لمسة قدسية، بينما منبع المحبة في الإسلام –بجميع أنواعها- هو الله تعالى.([29]) ولو لم يكن كل أنواع الحب والحمد والثناء تجليا من تجليات أسمائه الحسنى، لحرمت الإنسانية من المحبة والرحمة والشفقة. لذا كان على كل إنسان في الإسلام أن ينذر لله أولاً كل أنواع الحب والعشق والمحبة.

يقول محمد فتح الله كولن:

(إن أهم مصدر للقوة عند الذين نذروا أنفسهم للحصول على رضا الله تعالى، وجعلوا غايتهم الفوز بمحبة الله هو عدم وجود أي أمل أو هدف مادي أو معنوي آخر. فهم –على غير عادة أهل الدنيا- لا يهتمون بالربح والكسب والرفاه، ولا يشكل هذا عندهم قيمة ولا مقياساً).([30])

382-383

هـ- التضحية والإخلاص والوفاء

من آليات حركة محمد فتح الله كولن وديناميكياتها الداخلية خصلة التضحية والإخلاص. وقد يقول أحدهم: ولماذا تجعل هذه الصفات من مميزات حركة محمد فتح الله كولن مع أنها صفة موجودة في العادات والتقاليد الإسلامية؟. وجواباً على هذا نقول، بأن محمد فتح الله كولن مثلما وسع المفاهيم الأخرى، كذلك وسع هذه الخصال، فهو لا يرضى بالحد الوسط من هذه الخصال في حركته، بل يريد الأفق الأخير لما تستطيع هذه الخصال الوصول إليه. لذا يرد في العديد من كتاباته عند ذكر هذه الخصال تشبيهات مثل “كالجواد الأصيل الذي يعدو حتى يكاد أن ينشق صدره، أو كالنسر الذي أفرد جناحيه للطيران”..الخ.

“التضحية من أهم مميزات رجل الدعوة. فمن لا يعزم على التضحية ولا يأخذها في اعتباره لن يكون رجل دعوة أبداً. ومن لم يكن رجل دعوة فليس هناك أي احتمال أمامه للنجاح. أجل، عليه أن يستعد للتضحية إن كان بماله أو بنفسه أو بمنصبه أو بأولاده وعياله أو بشهرته وجاهه.

وعندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بإرساء قواعد رسالته، قام أولا بنفسه بالتضحية وكان قدوة لأصحابه الذين آمنوا بدعوته حيث نفث فيهم روح التضحية والفداء. وكان هو قدوة حسنة لهم في هذا الأمر”.([31])

385-386

و- التمثيل والتبليغ

هناك الآن على سطح الأرض العديد من المدارس والحركات الفكرية والسياسية والفلسفية والأيدولوجية الممتدة من الماضي إلى الحاضر. ومع أن في بعضها ما هو مفيد وفي صالح الإنسانية، إلا أنها تبدو وكأنها عبارة عن شعارات فقط. أي لم تنزل إلى الواقع العملي في المجتمع. ولا يبين أصحاب هذه الشعارات عن مدى إمكانية تطبيقها عملياً. ولا شك أن لكل فكر ناحية نظرية وأخرى عملية. ومع أن النظرية مهمة إلا أن قابلية أو إمكانية تطبيقها مهم أيضاً. لذا تظهر هنا أهمية الأشخاص الذين يستطيعون تطبيق الفكر في الواقع العملي وتمثيله. فقابلياتهم ولياقتهم وإخلاصهم وكفاءتهم تلعب دوراً كبيراً في هذا الأمر، أي في تمثيلهم للحركة.

ويؤكد محمد فتح الله كولن –منذ السنوات الأولى لحركته- على أمر تمثيل الحركة، ويعده من الديناميكيات الداخلية للحركة. فهو عندما يقدم مقاطع من حياة الأنبياء والصحابة والحواريين المملوءة بالحركة والدعوة والتبليغ، يلفت الأنظار على الدوام إلى هذه الناحية.. إلى مواقفهم الشجاعة وإلى صبرهم وتحملهم وإخلاصهم، ويعد هذه الصفات مهمة مثل أهمية الحركة نفسها. أي إن قابلية أصحاب أي فكر أو دعوة أو جماعة أو حركة في تمثيل تلك الحركة مهمة جداً. بل يرى بأنه إن لم تكن قابليتك في تمثيل الحركة في الواقع العملي كافية فهذا يعني أنك لا تملك فكراً ولا تملك شيئاً تقدمه للمجتمع. ويصف قابلية التمثيل بأنها التوحد بين الداخل والخارج.

يقول محمد فتح الله كولن:

“الذين يحاولون إصلاح الدنيا يجب أن يصلحوا أنفسهم أولاً ويصلوا إلى التوحد بين داخلهم وخارجهم. أجل، عليهم أولاً أن ينظفوا داخلهم من الغل والحقد والحسد وينظفوا خارجهم من أي تصرف أهوج لكي يكونوا أسوة للآخرين. والذين لم يجاهدوا أنفسهم ولم يطهروها، ولم ينتصروا في عالم عواطفهم وأحاسيسهم لن يستطيعوا التأثير في الجماهير مهما كانت دعاويهم براقة”.([32])

393-394

النتيجة والتقويم

من أهم المصاعب التي تواجه أي تحليل يقوم بمراقبة ومتابعة حركة اجتماعية وثقافية في خضم تحولاتها هي تعيين ثوابت تلك الحركة وكذلك تعيين متغيراتها. وبما أن أمر الثوابت والمتغيرات مهم جداً يجب البدء في تحليل أي حركة بتناول هذه الديناميكيات.

تشكل الثوابت ديناميكيات الحركة الرئيسية. أما المتغيرات فتشكل النواحي الظرفية لها. وعند القيام بتحليل حركة ما يتم عادة تناسي أو إهمال هذه العناصر تماماً أو يتم الخلط بينها. وهذا يجعل من الصعب متابعة مراحل التغير للحركة متابعة صحيحة. ولا أقصد من التغير قيام الحركة بتغيير لونها وشكلها بحيث تصبح غريبة عن طبيعتها وأهدافها لمجرد تغير الأحوال والظروف. ولكني أقصد الطريق الذي تخطه الحركة بالمعنى الاجتماعي. لذا تناولت في الكتاب من حين لآخر مسألة أهمية الديناميكيات الأساسية للحركة. وفي النتيجة فإن المديح أو النقد الموجه إلى الحركة سيكون موجهاً إما لثوابت الحركة أو لمتغيراتها. فالتحليل الذي يأخذ في نظر الاعتبار ثوابت الحركة فقط، يرى أن موقف الحركة تجاه المتغيرات الاجتماعية وتجاه التطورات ليس صحياً. والتحليل الذي يحصر نظره على متغيرات الحركة سيتهمها بأنها لا تحافظ على ديناميكياتها الأساسية المحافظة المطلوبة. بينما يقتضي التحليل الصائب النظر إلى كلا العنصرين في آن واحد. وهذا ما فعلته هنا إذ لم أهمل أي عنصر من هذين العنصرين عند تناولي للحركة بالتحليل.

وإذا كان هناك ما يقال عن حركة محمد فتح الله كولن فهو أنها حركة تستحق التحليل. فهي تحمل الكثير من العناصر المهمة المستحقة للتحليل. وعملية تحليل مثل هذه الحركة تحليلا منظماً وعلمياً ليست عملية سهلة. فقد تستوجب تناول تاريخ جميع الحركات الفكرية البشرية. وأي خطأ بسيط قد يفسد التحليل كله. لذا كانت التحاليل الاجتماعية مملوءة بمثل هذه التحاليل الحرة السائبة لكونها سهلة. هذا إذا كان هناك طبعاً مثل هذه التحاليل. وإذا استثنينا الطرق الوعرة التي أنشأتها بعض المفاهيم الجاهزة وبعض البنى الفكرية في الغرب، فليس هناك أي تحليل منظم للحركات الإسلامية. وقد ذكرت هذا الأمر في هذا الكتاب عدة مرات. ولا شك أن أي تحليل لحركة محمد فتح الله كولن ولغيرها من الحركات المشابهة لها في العالم الإسلامي، يجب أن ينطلق من نظرة من داخلها. ولا يستطيع أي تحليل ينطلق من مفاهيم غربية راسخة منذ السابق 394-395-396 ولا أي طريقة أو منهجية غربية الوصول بنا إلى أي نتيجة صحية وصحيحة. فلم تستطع كتابات المستشرقين ولا كتابات تلاميذهم المحليين تقديم أي تحليل صحيح. فكتابات المستشرقين في الحقيقة كتابات أيدولوجية إن تم تدقيقها. والمنهجية التي وضعها علم الاستشراق في هذا الخصوص كانت منهجية ملائمة لمثل هذه الأيدولوجية، وقدمت عالماً من المفاهيم المتساوقة معها. والتسلط الأيدولوجي للمفاهيم الغربية أزعجت حتى بعض رجال علم الاجتماع في الغرب. لذا نكرر القول بوجوب النظر من داخل الحركات الإسلامية عندما يراد تقديم تحليل عن العالم الإسلامي. لقد أحسست طوال بحثي هذا بالصعوبات التي واجهتني نتيجة عدم وجود تقليد راسخ في موضوع التحليل والتفسير. لذا لم أستطع بناء سقف فكري منظوم (Systematik). وما بذلته من جهد في تحليل حركة محمد فتح الله كولن، إنما هو محاولة للفهم من جهة وتجربة لتقديم تحليل منظوم ومتماسك من جهة أخرى. ولاشك أن هناك الكثير مما يمكن ذكره عن هذه الحركة. ولكن جهدنا كان منصباً في الأساس على ذكر العوامل المختلفة التي تشكل النواحي الدينية والاجتماعية والفكرية والثقافية لها. ولاشك أن الموضوع يحتاج إلى دراسة أطول وأدق وأشمل، وأرجو أن يكون جهدي هذا السلم الأول لمثل هذه الدراسة الشاملة المطلوبة.

وناحية أخرى أريد الإشارة إليها وهي أنه لكي نفهم مقولات محمد فتح الله كولن الاجتماعية يجب إلقاء نظرة قريبة على الأحداث الاجتماعية التي وقعت في تركيا في الخمسين سنة الأخيرة. فلم نستطع نحن الدخول في هذه التفاصيل. لقد دخل مشروع الحوار الذي قدمه فتح الله كولن إلى المسرح السياسي في الوقت الذي كان الخلاف السياسي قد بنى جدراناً سميكة من الأيدولوجيات في الأذهان. إن الاستقطاب الذي شهدته تركيا، والتفرق إلى شيع مختلفة ما قبل عام 1980 لايزال مؤثراً في فكر وفي عالم السياسة عند الكثيرين. لذا كانت الأذهان المصبوبة في قوالب معينة ومختلفة تجد صعوبة في الانخراط في الحوار الفردي الذي تمت الدعوة إليه. وعلى الرغم من التحولات الثقافية والأيدولوجية الجذرية التي عاشها العالم كله، كانت الطبقة المثقفة في تركيا تبدي بعض المقاومة على التغير. ونظراً لأنني لا أريد أن أتعب القارئ غير التركي فلن أدخل في تفاصيل ما جدث في تركيا.

ولكي لا يزداد حجم الكتاب فلم أقم باعطاء تفاصيل أو تفاسير طويلة حول الديناميكيات الداخلية للحركة. ولكني أرى بأن أي تحليل يتناول هذه الديناميكيات بالدراسة والتحليل سيقدم صورة أوضح حول حركة فتح الله كولن. كما أن مثل هذه الدراسة ستقدم إطاراً منهجياً لتحليل الحركات المشابهة لحركة فتح الله كولن في العالم الإسلامي. فليست هناك حركة يكون الإسلام مرجعيتها وتخلو من هذه الديناميكيات.

396-397-398

إنني غير متأكد من أن ديناميكيات حركة فتح الله كولن التي تناولتها تمثل القيم المركزية للحركة. ولكني متأكد أن هذه الديناميكيات يسرت لي سبل تعقب الموقف الديني والاجتماعي للحركة. فقد لاحظت أنني لا أتناول موضوعاً إلا ويكون لهذه الديناميكيات تأثير ثقافي عليه بشكل مباشر أو غير مباشر. أي شاهدت أنها تحيط بجميع التأثيرات الدينية والاجتماعية والدينية للحركة.

وموضوع آخر أود التطرق إليه، وهو أنه لا يمكن القول بأنني تناولت الوجه الديني لحركة محمد فتح الله كولن بشكل كافٍ.لم أفعله لسببين: الأول أننا كنا نستهدف إبراز الوجه الاجتماعي والثقافي للحركة في المقام الأول. لذا لم نتطرق كثيراً إلى الوجه الديني للحركة. والسبب الثاني يتعلق بأسلوب هذا البحث. فقد فضلنا استخدام مصطلحات علم الاجتماع في هذا الكتاب، وليس أسلوب المصطلحات الدينية. ولا شك أن السيد فتح الله كولن شخصية دينية في المقام الأول. فهو عالم ديني وواعظ ومفكر نشأ في جو التقاليد الدينية. ولا شك أن الصبغة الدينية موجودة في كل أحاديثه ومقالاته وهي تدل على ماهيته الدينية. ولو تمت دراسة حول الناحية الدينية لحركة فتح الله كولن لكانت دراسة مفيدة وتيسر الاطّلاع على الحركة عن قرب.

وأخيراً يمكن قول ما يأتي عن حركة فتح الله كولن:

  1. إنها ليست حركة سياسية وأيدولوجية.
  2. إنها حركة ناشئة عن جهود مدنية.
  3. إنها تجربة غنية أظهرت مدى ثراء وسعة العلاقات الاجتماعية والثقافية في الإسلام.
  4. إنها أنشأت نظاماً إنسانياً واجتماعياً غنياً. وإنها حركة مخلصة متسمة بالتضحية وقائمة على العطاء الاجتماعي وليس على السلب الاجتماعي.
  5. إن لها بُنية تقوم باحتضان المجتمع بجميع طبقاته.
  6. إنها تقوم بجمع وصهر والتوفيق بين القيم الدينية والمثل الاجتماعية.
  7. مع أنها لا تؤكد كثيراً على القابليات الفردية، إلا أنها تُكسب منتسبيها شخصية وماهية اجتماعية واسعة.
  8. مع أنها ليست طريقة صوفية بالمعنى الكلاسيكي، إلا أنها أيضاً ليست حركة دنيوية (Seculer) بالمعنى الحديث للدنيوية.
  9. إنها حركة تؤكد من الناحية الدينية والثقافية على وحدة العلم والدين والعقل والقلب. وإنها تدعو من الناحية الاجتماعية إلى الحوار وقبول الآخر، وتؤكد من الناحية العملية على العمل الإيجابي.
  10. إنها حركة لا تبتغي مصلحة مادية دنيوية، ولا تبتغي من نشاطها الوصول إلى هدف سياسي.

([1])  العجلوني، كشف الخفاء، 1278، تاريخ الطبري 2/146

([2])﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(المائدة: 50)

([3]) الحق هنا اسم من أسماء الله الحسنى. (المترجم).

([4]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 186.

([5])  M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 186.

([6])  الترمذي، صفات القيامة 55، ابن ماجة، الفتن، 23.

([7])  رواه الترمذي (2507)، وابن ماجة (4032)

([8]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 186-187.

([9]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 187-188.

([10])  أنظر إلى: “التصوف” لمؤلفه أبو الأعلى العفيفي. مطبوعات “إيز” (İz). صفحة 20-21

([11]) أنظر إلى: “التصوف” لمؤلفه أبو الأعلى العفيفي. مطبوعات “إيز” (İz). صفحة 92

([12]) أنظر إلى: “التصوف” لمؤلفه أبو الأعلى العفيفي. مطبوعات “إيز” (İz). صفحة 92

([13]) أنظر إلى: “التصوف” لمؤلفه أبو الأعلى العفيفي. مطبوعات “إيز” (İz). صفحة: 81، 115

([14]) أنظر إلى: “قلب الإسلام” لمؤلفه س. حسين نصر. صفحة 49 نشريات “كَلَنَك” (Gelenek).

([15]) M. F. Gülen, Sonsuz Nur, 2/472-484; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 40; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 193; Kur’an’dan İdrake Yansıyanlar, 2/307-313; Kalbin Zümrüt Tepeleri, 1/72; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 157; Fasıldan Fasıla, 4/109.

([16]) أنظر إلى “الكلمات” لبديع الزمان سعيد النورسي. الكلمة 32، الرمز الخامس.

([17]) أنظر: سورة الأنعام (6/32). سورة العنكبوت (29/64) سورة محمد (47/36). سورة الحديد (11/20)

([18]) M. F. Gülen, Kur’an’dan İdrade Yansıyanlar, 2/307-313; Kırık Testi, s. 203.

([19]) أنظر إلى: العفيفي، ص 116

([20]) الترمذي: الفتن، 7

([21]) M. F. Gülen, Fasıldan Fasıla, 1/172.

([22]) M. F. Gülen, Örnekleri Kendinden bir Hareket, s.112-120; Işığın Göründüğü Ufuk, s.138-261; Çağ ve Nesil, s.22; Günler Baharı Soluklarken, s.86; İrşad Ekseni, s.215

([23]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s.20-21, 51-53; Zamanın Altın Dilimi, s.146-148; Buhranlar Anaforunda İnsan, s.93; Işığın göründüğü Ufuk, s. 27, 183, 190; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 25, 37, 88, 111, 219; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 2, 84, 112; Fasıldan Fasıla, 2/87, 4/15.

([24]) M. F. Gülen, Fatiha Üzerine Mülahazalar, s.189-190; Ölçü veya Yoldaki Işıklar, s. 101; Kalbin Zümrüt Tepeleri, 1/113; Kırık testi, s.212-215; Sohbeti Canan, s.166; Hak Karşısında Konumu ve Duruşuyla İnsan, Sızıntı, Şubat 2004; İnsanın Konumu, Sızıntı, Mart 2004; www.herkul.org, Kırık Testi, Ayaklarımızı Kaydırma Allah’ım, 7 Mart 2005; www.herkul.org; Kırık Testi, Meçhul Kahramanlar, 18 Nisan 2005; www.herkul.org, Kırık Testi, En Önemli Vazife, 27 Eylül 2004.

([25]) M. F. Gülen, İlayi Kelimetullah veya Cihad.

([26]) تمت ترجمة هذا الكتاب من قبل الاستاذ إحسان قاسم الصالحي ونشر ضمن منشورات دار النيل

([27]) M. F. Gülen, Fasıldan Fasla, 4/87; İrşad eEkseni, s.17, 200; Prizma, 1/206, 226, 4/49, 57, 261; Kırık Testi, s. 110; Kendi Dünyamıza Doğru, s.166; Işığın Göründüğü Ufuk, 131; Kırık Testi, s. 443

([28]) M. F. Gülen, Yitirilmiş Cennete Doğru, s. 128.

([29]) M. F. Gülen, Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s.185, 187, 189; Beyan, s. 48, 55, 113, 142

([30]) M. F. Gülen, Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 37, 119; Beyan, s. 93, 126; Yeşeren Düşünceler, s. 109, 110; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 107; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 54; Kırık Testi, s. 105; Gurbet Ufukları, s. 67; İslam Dünyası, Sızıntı, Mart-2004; İlim ve Araştırma Aşkı, Sızıntı, Haziran-2004; Mehmet Gündem, M. F. Gülen’le 11 Gün, s. 220 

([31]) M.F.Gülen, İrşad Ekseni, s.188-189

([32]). Gülen, Ölçü veya Yoldaki Işıklar, s.208

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.