• الخصائص الأساسية للعلم وللتفكير العلمي في الغرب

قبل الانتقال إلى رأي محمد فتح الله كولن وقناعاته حول العلم والفكر والتطور العلمي، نودّ العروج إلى الخصائص الأساسية للعلم ولمفهوم العلم في الغرب. فهذا سيوضح موقفه تجاه الفكر الغربي أوّلاً وسيساعد في فهمنا لنظام تفكيره ثانياً. لا شك أن فتح الله كولن كان يملك خلفية ثقافية جيدة. لأنه كان يتابع منذ السنوات الأولى من شبابه الفكر الغربي. وعلاوة على جانبه الديني والاجتماعي فهو يملك خلفية فكرية وفلسفية قوية.

ولكن فعالياته الاجتماعية والدينية –كما ذكرنا سابقاً– غطّت على قاعدة الجانب الكفري عنده. وقد شرعت تركيا بالتعرف إلى جانبه الثقافي والفكري هذا شيئاً فشيئاً بعدما أجريت معه في التسعينات حوارات ولقاءات من قبل وسائل الإعلام، حيث تناولت خلالها مواضيع رئيسية؛ كالسياسية والثقافة وشؤون الدولة والديمقراطية، ومسائل الفكر والعقل، والحوار وقبول الآخر، والمسائل الأخلاقية والفنية والفلسفية. بينما لم تكن تركيا حتى تلك الأيام –عدا المحيط القريب منه- لا تعرف سوى فعالياته الدينية فقط.

كان السبب الكامن وراء هذا هو الوضع السياسي والفكري الذي ساد تركيا منذ عهد التنظيمات حتى الآن. لأن المرحلة التي بدأت بالتنظيمات، غيرت تقاليد العلماء القديمين وغيرت شخصياتهم الاجتماعية، ثم جعلت هذه الشخصية تتلائم مع المرحلة الدنيوية التي كان يمر بها الغرب، ثم قامت بتجريدهم عن البيئة العلمية والفكرية. وراح العلماء يتحولون إلى “مثقفين” في العهد الجمهوري. فمفهوم “الثقافة” مفهوم حديث ودنيوي. والمثقف هنا هو الشخص الذي انفصل عن تَراتُبيّة وميراث الفكر التقليدي واتبع  التقليد الفكري الغربي. وقد حولت مرحلة التقليد الغربي جميع طرق التفكير التقليدية وعلاقاتها ومفاهيمها المتعلقة بالعلم وغيرتها. فلم تعد مفاهيم العلم-المعرفة، والشخص المتنور-المثقف، والمفكر-والمفكر الحديث..الخ، تقابل إحداها الأخرى. وكانت من النتائج المهمة لهذا التحول الفكري والذهني، انفصال الفكر الديني التقليدي عن العلوم الاجتماعية وعن العلوم الوضعية تماما. وأدى تحول الفلسفة والفكر العلمي إلى فكر دنيوي بحتٍ (Seculer)، إلى إضعاف التاثير الاجتماعي والعلمي للعلماء التقليديين وتهميشه.

لقد أثار محمد فتح الله كولن -إلى جانب هويته الواعظة العالِمة- بعمقه الثقافي الفكري، انتباه الرأي العام في تركية التي تعيش هذه التحولات. لم يكن فتح الله كولن (196-195-194) خريج المدارس الحديثة، بل نشأ من المؤسسات التقليدية وعلى يد العلماء تقليديين. لذا أثار حيرة بعض الأوساط العلمانية التي نظرت إليه من زاوية دنيوية (Seculer)، بل عدّه البعض شخصاً خطيراً. فلم يكن يخطر على بال أحد منهم (بسبب تعصبهم للجو الثقافي الغربي) أن يكون لعالم ديني اهتمام بالمسائل الفلسفية والفكرية والاجتماعية، وبالمسائل الثقافية اليومية، بل يرونه أمراً مستحيلاً. لأنهم كانوا يرغبون أن تبقى هذه الأمور حكراً على المثقفين وعلى العلماء المعاصرين. وكما كان للعلماء القدماء، سلطة سياسية واجتماعية وثقافية، وموقعاً مهماً في المجتمع، كان لزاماً أن تنتقل هذه السلطة في المجتمعات الحديثة إلى المثقفين الجدد وإلى العلماء الجدد. لذا لم يكونوا يرغبون في تقاسم هذه السلطة مع أحد. لقد استمر هذا الوضع سنوات عديدة. ولكن جاء فتح الله كولن ليغير هذا الوضع بهويته الثقافية والاجتماعية، وكان هذا أمراً صعباً وإن لم يكن مستحيلاً.

وكما سنرى فيما بعد، فإن المشكلة في نظر محمد فتح الله كولن لم تكن مشكلة تنوير أو تغريب (اتباع الغرب وتقليده في كل شيء). وكان يدرك أنه ما من نص في القرآن الكريم أو في السنة النبوية-اللذين هما المنبعان الرئيسان للإسلام- يصادم العلم أو التفكير الصحيح. لأن الإسلام كان يحثّ على العلم وعلى التفكير وعلى البحث العلمي بمقياس أكبر بكثير من جميع الأديان الأخرى. وكان يحثّ حتى المؤمن الاعتيادي أن يؤسس علاقة واعية مع محيطه ومع الوجود والأشياء والطبيعة. وكان القرآن الكريم يعد تأسيس العلاقات المنظمة الواعية مع الطبيعة والوجود، عاملاً في زيادة الإيمان. ولنا عودة إلى هذا الموضوع مرة أخرى.

والحقيقة أن هذا الأمر الذي رأيناه في شخص فتح الله كولن، كان في الحقيقة انعاكساً صغيراً للفصام الذي حدث في الغرب بين الدين والعلم، ثم انتقل إلى العالم الثالث. فالنزاع الذي حصل في الغرب بين المسيحية والأوساط العلمية والفكرية، أدّى إلى فصل كامل بينهما. ولن ندخل هنا في تفاصيل هذا الموضوع الواسع، غير أن فك العلم عن الأمور المقدسة، أي تحوله إلى أرضي ودنيوي وقطع صلته مع السماء (Seculer)، كانت له نتائج سياسية واجتماعية ودينية وثقافية عديدة. وربما كانت أهم نتيجة هي تحوّل الدين بكامله إلى أمر أخروي، وحصره في النظام السكولاري (الدنيوي) بين جدران الكنيسة وفي قلوب الأفراد.

هذا التطور الذي حدث في الغرب، وهذا الانفصال الذي وقع بين الدين والعلم، انعكس وانتقل إلى جميع أنحاء العالم، مواكباً مراحل التغرب بشكل أوسع. ومع أن الدين الإسلامي لا يحمل أي مشكلة مع العلم، إلا أن المشكلة التي حدثت في الغرب في هذا الخصوص، انتقلت إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي عن طريق التقليد.

وقامت الطبقة المثقفة، والحكام والإداريون الذين يديرون العالم الإسلامي، بنقل هذه المشكلة التي عاشها الغرب، والموجودة في أساس المسيحية وفي صلبها -نتيجة عمى في البصيرة وخطأ في الأيدولوجيات- وإلصاقها(196) بأساس الدين الإسلامي، راغبين في وضع الدين الإسلامي في قفص الإتهام، وإصدار حكم جائر عليه. وقد أدّى هذا التطور إلى انكسار تقاليد العلماء الكلاسيكيين والفكر الإسلامي. إلى درجة أن أغلب الأبواب الرسمية كادت توصد أمام الاشتغال بالعلم وبالمسائل الفلسفية والثقافية. والخلاصة أنه وضعت في شخص فتح الله كولن، جميع صفحات حركة التغرب التي بدأت منذ قرنين، أمام المحك وأمام النقاش والبحث من جديد. فهذه هي خلفية هذه المسألة وتاريخ ماضيها.

ولنتعرف الآن إلى الخصائص الأساسية للعلم وللتفكير العلمي في الغرب. لا شك أن الأمر الذي سأقف عنده سيقدم نظرة عامة فقط. وقد يوافقني بعضهم على تصنيفي الذي أدرجه هنا أو لا يوافقني، ولكنه سيبقى ضمن إطار موضوعنا. ولا ريب أن للفكر الغربي أسساً مهمة أخرى غير التي ذكرناها هنا. وقد توجد فيه عناصر أخرى تكون أصلح في إلقاء الضوء عليه وبيانه من العناصر التي أوردناها هنا. وأرجو أن يعذرني المتخصصون في هذه الساحة وأكون عند حسن ظنهم. لأن غايتنا هنا ليست ذكر جميع تفاصيل تاريخ الفكر الغربي ومدارسه المختلفة. إنما سنكتفي بإلقاء نظرة عامة عليه. وسنتناول الفكر والعلم الغربي من ثلاث زوايا. وأنا أعتقد أنها ستكون كافية لبيان القوانين التي تحكم نمط الفكر والعلم الغربي وتبين النظرة والسلوك لديهم.

(197)

أ- البعد العقلاني والموضوعي (البعد الكوني):

العلم الغربي، هو العلم الذي ولد بعد الانقلاب العلمي في أوروبا، والذي يستعمل الآن ويُدرس ويطبق في جميع جامعات العالم ومؤسساته العلمية والتكنولوجية. وهناك أيدولوجية معينة هي “العقلانية”، تشكل أساس إنتاج هذا العلم وتترافق معه وتنتجه على أسس واضحة بعد أن شطبت جميع التقاليد الأخرى وقضت عليها. حيث يطلق عليها اسم “الطريقة العلمية” أو “الأسلوب العلمي”. وهو بخطوطه العريضة يعلّمنا، بماذا تشبه هذه الدنيا وكيف نستطيع تغييرها حسب حاجاتنا.

وعلاوة على “العقلانية”، نرى في 198–199 العلم أداة واحدة فقط في معرفة العالم وفي إعطاء معنى له. ولكن العلم تجاهل البدائل الأخرى وقدم نفسه كبديل وحيد، ووعد بحل جميع المشاكل الإنسانية والمادية والاجتماعية. وقد كرروا لنا لسنوات عديدة، بأن عقلانية العلم وصوابه يمكن أن تتم البرهنة عليه بالتجارب، وأن هذا العلم كونيّ الشمول. ولكن مفكرين معاصرين أمثال (Kuhn) و(Wallerstein) و(Feyerabend)، بدأوا يشككون في هذا ويضعون أدوات “العقلانية” فوق المشرحة.([1]) فحسب رأي (Feyerabend)، أنه على الرغم من النجاحات المدهشة للعلم في القرنين الأخيرين، فهو ليس إقليد الحقيقة الساحر، وليس عقلانياً بكامله، وليس مرتبطاً بأساليب ومقاييس كونية شاملة. فهو ليس خالياً من النواقص والشوائب ولا يخدم مصالح الإنسان دائماً. وعلى الرغم من أنه لا يملك أي ميزة عن التقاليد الاجتماعية الأخرى، فقد أسس العلم الغربي هيمنة على كل جزء من أجزاء العالم. ليس لأنه عقلاني بل لأنه استطاع –بفضل استعانته بالدولة، أي بالقوة– القضاء على جميع الثقافات والقيم الأخرى، بعد أن أعلن أنها خارج العقل وخارج العلم.

تأسس العلم الغربي على يد الرواد الأوائل من أمثال، “نيوتن”. فقد تأسس على يده العلم الغربي، على أساس أنه علم قطعي لا شك فيه. وكان هناك افتراض أساسي، هو أن هناك قوانين موضوعية توجه جميع أحداث الطبيعة، وأن البحوث ستكتشف هذه القوانين. عند ذلك نستطيع معرفة المستقبل ومعرفة الماضي بصورة كاملة. وأن هذه القوانين هي التي توجه الكون والدنيا والإنسان والمجتمع. وقد تكرر في الغرب ذكر، أن هذا المفهوم للعلم ليس إلا شكلا من أشكال تحول الفكر المسيحي إلى الطابع الدنيوي. فهنا نرى أن “الطبيعة” توضع مكان “الله”، وأن قطعية العلوم تحل محل حقائق الدين، وتحل العقلية المادية الحديثة محل الفهم اللاهوتي القديم للكون.([2])

وفي السابق كانوا يذكرون أن هناك علاقة -وإن لم تكن علاقة مباشرة وكلية- بين الإنسان والوجود والإله. فقام علماء الطبيعة باختزال هذه العلاقة إلى علاقة ميكانيكية. فانقلب مفهوم الكون الذي يضع الإله في المركز، إلى عالم لا يوجد فيه سوى الإنسان وسوى العلاقات المادية.

 

200-201-202

بـ- البعد الوضعي والتقدمي:

دفعت الانقلابات العلمية الغربية التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، الفكر الغربي شيئاً فشيئاً إلى أحضان الفلسفة الوضعية (Pozitivisim) في القرن التاسع عشر. وأدت النظرة الميكانيكية التي نمت وتوسعت بجهود واكتشاف علماء من أمثال “غاليلو، كبلر، كوبرنيكوس، نيوتن..” وغيرهم، إلى قالب فكري مادي بحت. وذلك بعون من النظرة العقلانية (Rationalism) وسند منها.

إن الوضعية التي أخذت الصبغة التجريبية في فلسفة العلم، تستند إلى المشاهدة والتجربة عند قيامها بتفسير الوجود. وهي بهذا تخط للعلم حدوداً هي حدود حواس الإنسان.

قام العديد من الفلاسفة الوجوديين، من أمثال “سان سيمون، وكومت وماخ وكيرجاكارد وسارتر” وغيرهم، بتقديم الفلسفة الوضعية إلى الجماهير ضمن قالب فلسفي وسياسي. والحقيقة أن الفلسفة الوضعية قلصت حدود العلم وحصرتها في نطاق الحواس الإنسانية وفي نطاق التجارب. فكما صاحبت أيدولوجية العقلانية علومَ الغرب، كذلك صاحبت أيدولوجية “التقدمية” و”التطور”، هذه الفلسفة الوضعية. وكما تحتاج الفكرة الميكانيكية إلى “القطعية” و”الجزم” كذلك تحتاج الفلسفة الوضعية إلى “التقدمية”.

ولكن مع تقدم العلوم، ظهر أن القطعية في فيزياء “نيوتن” لا تصح إلا في نطاق ضيق وفي النظم (Systems) البسيطة. لذا ظهرت الحاجة في تفسير هذا الكون المعقد غاية التعقيد إلى نظم أوسع وأشمل. وهذا ما تعجز عنه النظرية العلمية الميكانيكية. وقد أشار (Wallerstein) إلى هذا، ونقد “القطعية” و”الجزم” الموجودين في فيزياء “نيوتن” نقداً لاذعاً.([3]) ثم أعلن إفلاس النظرة الوضعية وهو يقيم “الغموض” (Uncertainty) مكان “القطعية” (Certainty). ولكننا نراه يتهرب من التقدم أكثر في هذا الموضوع، لأنه يخشى أن يؤدي نقده للقطعية، إلى الوصول إلى بُعد ميتافيزيقي. لذا نراه يتحول إلى الساحة الاجتماعية والاقتصادية. وهو –كغيره من مفكري الغرب– يتهرب من تناول الغاية النهائية للكون، لأن مثل هذا التدقيق سيقودهم في النهاية إلى نظريات الخالق.

تقوم بعض المفاهيم والمصطلحات أحياناً بوظيفة الخداع والإخفاء والتضليل. ومن أهمها المفهوم “العلمي”.

(203-204-205) فعندما يُراد سدّ سبل الشجار أو النقاش في فكرة أو أيدولوجية أو حكم انحيازي أو حتى في قطعية، يكفي في أغلب الأحيان أن يوضع في البداية، كلمة “العلمي”. بينما سبق وأن شاهدنا على مدار التاريخ كيف أن العديد من الأفكار والفلسفات التي قدمت على أنها “علمية” و”تقدمية” لم تكن صحيحة إنما كانت خادعة.

قام عهد التنوير في القرن التاسع عشر بتوسيع نظريات التطور، وجعلت بعض مفاهيم التقدمية أصناما مقدسة، وأرسيت قواعد العلم الحديث وقواعد العقلانية على هذا الأساس. أي على أساس الأيدولوجية التطورية. وحسب هذه النظرة فإن العلم يتقدم دون أي توقف منذ أربعة عصور. ومع أن كل اكتشاف يأتي بأسئلة ومشاكل جديدة، إلا أنه يأتي أيضاً بحلول لها ويفتح ساحات بحوث جديدة. وعندما طرحت نظرية التطور في القرن التاسع عشر، طرحت فكرة أن للطبيعة أيضاً تاريخاً تطورياً مما قوى فكرة “التقدمية”. وبما أن الإنسان جزء من الطبيعة فهو والمجتمع الإنساني يتقدم إذاً، ثم إن لهذا التقدم قواعده الخاصة التي يمكن اكتشافها وتعيينها.

قام المفكر “ت. س. كون” (T. S. Kuhn) في كتابه المشهور (بُنية الثورات العلمية)، بإثبات أن للعلم أيضاً -مثله في ذلك مثل الثورات السياسية- بُنية أيدولوجية، استناداً إلى العديد من الوقائع والمعلومات التاريخية. وكان بحثه هذا متوازياً ومكملا لبحوث “ك. بوبر” (K. Popper) حول النظرية الوضعية للعلم. وهو يقول بأن الفكر العلمي والتقدم المعروض إلينا، والذي تم فرضه علينا، إنما يعبر في الحقيقة عن قيم معينة. وهذه القيم ليست مُطْلَقَة إذ يمكن تغييرها. فما كان صحيحاً بالأمس يحتمل ألا يكون صحيحاً اليوم. أي أن هناك نظرات علمية عديدة. لذا فهو يرى أن الذي يعين أي شيء هو التقدم وليس الفكر العلمي فقط بل تملك الظروف الاجتماعية والتاريخية والمفاهيم الدينية والجمالية نصيباً ملحوظاً في هذا الصدد.

207-208-209

جـ- البعد السياسي والأيدولوجي (العلم والقوة والدولة)

وجدت على الدوام علاقة قوية بين “المعرفة” (Knowledge) و”النظام الاجتماعي”. ونحن نلاحظ بشكل خاص –لا سيما في العهد المتأخر من القرون الوسطى– وجود علاقة مباشرة بين المعرفة والقوة.([4]) كان من أهم عوامل التوتر آنذاك؛ بدء سقوط النظام الإقطاعي في القرن الثالث عشر، وظهور الدول القومية القوية، ظهور هزات ثقافية واقتصادية باكتشاف العالم الجديد (قارة أمريكا) ومن ثم بتوسع الآفاق الفكرية. تطوّر المساهمة الثقافية نتيجة اختراع المطبعة وانتشارها، تشتّت الوحدة الدينية في أوروبا الغربية بعد الإصلاح الديني المتمثل في المذهب البروتستانتي…الخ. وكان الضعف الذي لحق بالسلطة البابوية في روما، يستدعي علاقة ضرورية بين العلم والقوى السياسية. كما أدت الحروب المذهبية التي انتشرت في أوروبا –لا سيما بين أعوام 1618-1648م– والتي دعيت بحروب الثلاثين عاماً، إلى الاهتمام بدور العلم في إقامة النظم أو في هدمها.([5])

إن عسكرة العلم ليست مقصورة على القرن العشرين. بل إن القوى الحاكمة استندت إلى العلم منذ فجر التاريخ. فقد انتبهت الحكومات منذ ذلك الحين وحتى الآن، إلى أهمية علوم الرياضيات والعلوم العسكرية وعلاقتها بالاقتصاد. كما ارتبط علم الفلك لمئات السنين بالرحلات البحرية، بالسيطرة على السياسة على المدى البعيد.

لم يتناول أي كاتب أو مفكر، العلاقة القوية الموجودة بين العلم والقوة السياسية، مثل الفيلسوف “فرنسيس بيكون”. فهو يرى أن العلم يجب أن يبقى بأجمعه تحت سيطرة وإدارة القوة السياسية أي النظام السياسي.([6]) وفكر “بيكون” هنا يستند إلى أساسين: انتشار فلسفة الطبيعة (أي معرفة علم الأسباب)، ثم انتشار القوة (أي توسع الامبراطوريات التي يقيمها الإنسان). ولو أردنا التعبير عن فكره بشكل أوضح، لذكرنا بأنه يقول: “إن علم الإنسان وقوته شيء واحد”.

إن تحول العلم إلى قوة سياسية وأيدولوجية، شكل أسس الاستعمار الغربي في القرون الثلاثة الأخيرة. ولكن لماذا احتل العلم –الذي هو أداة واحدة من أدوات معرفة العالم– أسبقية أمام الأدوات الأخرى؟ قام العالم الأمريكي -الاسترالي الأصل– “فيرباند” (Feyerabend)، بوضع الأسس الفلسفية للعلم الحديث على المشرحة. وأثارت بحوثه في سبعينات القرن الماضي، اهتمام الأوساط العلمية في الغرب. ذكر بأن العلم قد قُدِّس، بل تحول إلى نوع من الكنيسة كاد يدعى بـ”كنيسة العلم”. واستبعد من أي قصور فيه. أي: “أصبح الموقف من العلم الآن، الموقف نفسه من كنيسة روما في القرون الوسطى. فما تقوله الكنيسة هو الحقيقة، وكل شيء آخر يعد باطلاً، وهذراً صادراً عن أعداء الدين المسيحي.

 

209-210

إن الإيمان بالعلم وبتفوقه تجاوز الحدود إذ انقلب إلى عقيدة، وأصبح جزءاً أساسيا من قاعدة الديمقراطية، مثلما كانت الكنيسة تشكل النسيج الأهم في المجتمع الغربي سابقاً. غير أن الكنيسة افترقت عن الدولة. وأصبح العلم والدولة متداخلان الآن”. هذا ما يقوله (Feyerabend). ويستمر قائلا، بأن العلم ليس إلا أيدولوجية واحدة من بين أيدولوجيات متنافسة عديدة. ويمكن البحث عن أسباب تحول العلم إلى عقيدة في الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. حيث بدا العلم منقذاً، لذا تم تقديسه.([7]) إن الأيدولوجيات يمكن أن تتشوه وتنقلب إلى أديان وعقائد. والتطور الذي حدث في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، مثال جيد على هذا.

لقد أرسيت قواعد العلوم المساعدة للعلوم العسكرية في القرن التاسع عشر، كما أرسي علم الأنتروبولوجي،([8]) والأثنولوجيا،([9]) وعلم الاجتماع في ذلك القرن. لأن هذه العلوم لعبت الدور الرئيسي في تبرير استعمار العالم الثالث وجعله مشروعاً.

211-212-213

د– البعد الديني والميتافيزيقي:

هناك تعريف علمي للبعد الديني والميتافيزيقي في منظومة الفكر الغربي. إلا أن هذا التعريف لا يملك القوة والمكانة التي يملكها تيار العلوم الطبيعية التي تتناول الإنسان والطبيعة والعقل والتجارب. لذا بقيت النظريات الإلهية ونظريات الخلق ضعيفة، نتيجة التطورات السياسية والأيدولوجية في الغرب. ومع أن العديد من النظم الفكرية التي وضعها العديد من العلماء والمفكرين الغربيين، تستند إلى الإيمان بوجود الله. إلا أن التطورات العلمية التي حدثت فيما بعد، والنظرة المادية والفلسفة الوضعية التي قويت، استطاعت أن تهمش هذا البعد الديني والميتافيزيقي. ولا شك أنه كان للفكر الكنسي حول الوجود والعلم، دوراً وعاملاً مساعداً في هذا الأمر. فالقوة السياسية والاجتماعية التي اكتسبتها الكنيسة طوال القرون الوسطى، أقلقت الأوساط العلمية. وبدأت الحركات الإصلاحية تناقش جميع الادعاءات الرسمية الكنسية. ومع ذلك فإن الفكر العلمي في الغرب كان حتى في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لا يزال يفسح وبمقياس كبير، مكاناً للقيم الميتافيزيقية. وكان الهدف من الكون ومن البحوث العلمية هو الوصول إلى الله وكشف تجليات أسمائه. ولكن التطورات العلمية والنظرات الجديدة، بدأت تناقش حدود البعد الديني والميتافيزيقي في الفكر العلمي في هذا العصر وفيما مضى. مع أن معظم العلماء من أمثال “كبلر، وغاليلو، ونيوتن، وبويل، وديكارت، وبباركلوس” بل حتى “باكون” كانوا من المؤمنين بالله. وسأقوم هنا بإيراد مقتطفات من بعض ما ذكره “س. شابين” (S. Shapin) في كتابه “الثورة العلمية”

في القرون الوسطى قامت الكنيسة بتبني فلسفة الطبيعة عند أرسطو، وألبستها لباس الفكر المسيحي. وبعد فترة طويلة من عمليات محاولة التكييف بين الفكر المسيحي وبعض النظرات الوثنية، وضعت التناقضات بينهما جانباً. وهكذا تبنت الكنيسة فكر أرسطو و”غالن” و”بطليموس” و”أنسلم” و”توماس الأكويني” في العلم والطبيعة والكون. حتى إن أفكار هؤلاء اعتبرت من المقدسات التي لا يجوز التشكيك فيها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد عد النظام الكوني الذي قدمه بطليموس، المستند إلى أن الأرض هي مركز الكون، حقيقة كنسية رسمية لا يجوز المساس بها، واستمر هذا المفهوم حتى تقديم “كوبرنيك” و”غاليلو”، نظرية أن الشمس هي مركز الكون وليست الأرض. وقد أدى هذا التناقض بين النظرتين إلى عهد مظلم من محاكم التفتيش.

لم يكن يقصد غاليلو، تصدي الدين ونقضه. فقد كان عالماً مؤمناً. ولكنه كان يرى أن الكون هو كتاب الله ويجب أن يحترم مثل احترام الإنجيل. ثم على علماء الطبيعة أن يُحترَموا كرجال الدين المسيحي. ولكن جهوده 213-214-215لم تفلح بل قدم إلى محكمة الكنيسة الكاتوليكية في روما. بينما كان الدين المسيحي ومثله الميتافيزيقية أهم محرك للبحوث العلمية. فهذه البحوث والاكتشافات العلمية كانت ستقوي الدين وتبرهن على أن الله تعالى هو الحاكم الوحيد للكون. كان القول السائد آنذاك هو: “عندما تؤسس الإنسانية حاكميتها وسيطرتها على الطبيعة، سيعود المسيح عيسى مرة ثانية وسيحكم العالم ألف سنة”. ويعتقد العديد من المثقفين أن المسيحية كانت تستخدم العلوم الطبيعية في القرن السادس عشر والسابع عشر في نشر المسيحية. والحقيقة أن الذين تبنوا نظرة “كوبرنيكوس” في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانوا يهاجمون فكرة أن الإنسان مركز الكون، وبالتالي كانوا يرفضون فكرة أن الأرض مركز الكون، حيث يرونها كوكباً من الكواكب الأخرى الدائرة حول الشمس، رغم أنهم كانوا مسيحيين متدينين. ولكن الأمور تطورت فيما بعد إلى صراع بين الدين والعلم. وعندما أرسى فلاسفة الطبيعة النظرة الميكانيكية الكونية، لم يكونوا يستهدفون مهاجمة المُثل المسيحية.([10])

عندما كانت النظرة الميكانيكية تتشكل، ولد مفهوم جديد ألا وهو “كتاب الطبيعة”. يقول “ر. بويل” (R. Boyle) (1691-1627): “إن كل صفحة من صفحات كتاب الطبيعة الجسيم الهائل، مملوءة بالأحاجي والحروف الهيروغلوفية الحقيقية. ولكن تطالعنا هناك الأشياء بدلا من الحروف والتعابير. ولكن كانت التعابير في هذا الكتاب الضخم، عن طريق الكائنات الحية والجامدة وليس عن طريق الحروف والكلمات”. ثم إنه يصف العلماء بأنهم “رهبان الطبيعة”.

أما “ن. مالبرانش” (N. Malebranche) (1638-1715) فيقول: “عندما أرى ساعة، أعلم أن جميع تروسها الموضوعة بدقة، لا يمكن أن تكون نتيجة المصادفات بل نتيجة عقل واع. لذا فكيف يمكن أن تكون الخلايا المختلفة في الإنسان وفي أنواع الحيوانات، نتيجة المصادفات؟! إن هذا أهم أساس للعقيدة الدينية. وكلما ازداد العالم علماً في علوم الطبيعة، ازداد خشوعه أمام الله تعالى الخالق كل شيء”.

لقد أصبح مفهوم “كتاب الطبيعة” بدءً من القرن الخامس عشر وانتهاء بالقرن السابع عشر، الأساس الفلسفي والعلمي لوجود الله. فالله تعالى كتب كتابين: الأول هو “الكتاب المقدس” والثاني هو “كتاب الطبيعة”. ولكن علماء القرنين التاسع عشر والعشرين، وضعوا العلم في قالب علماني ووضعي. وكان ثمن هذا التحول العلماني، أن نظريات الخِلْقَة راحت تضعف وتتضعضع. ثم أدت نتائجه السياسية والاجتماعية إلى مشاكل ومشاجرات كبيرة، تناولت المفهوم العلمي الغربي من الألف إلى الياء. وفي الأصل أنه ظهر في عهد مبكر، مفهوم الإلهيات ومفهوم الميتافيزيقيا في الفكر العلمي الغربي، لكنه لم ينتقل إلى ميدان الأعمال الجادة في الحياة العلمية.

(217-216)

2– نظرة محمد فتح الله كولن إلى العلم الغربي ونظام فكره

يختلف فكر محمد فتح الله كولن عن الفكر الغربي اختلافاً جذرياً في العديد من النقاط. أو بالأصح فهو يعارض الأسس الأيدولوجية والفوضوية التي تسللت إلى الفكر وإلى العرف العلمي للغرب. فهو ينتقد أوّلاً البعد المادي في الفكر الغربي. لأن الفكر الغربي يُبعد الوحي السماوي عن المصادر العلمية، ويحصر العلم والمعرفة في نطاق الظواهر والوقائع المادية التي يحصل الإنسان منها بواسطة حواسه، على المعلومات العملية والتجريبية. حيث يرى أن هذا الأمر يضيق قنوات المعرفة والعلم، ويحرم الإنسان من المعارف الميتافيزيقية. كما يَعُدُّ الفلسفة الوضعية (Positivism)([11]) والفكر التقدمي والعقل الصرف، أداة أيدولوجية في العلم الغربي حيث يظهر ارتباط العلم بالقوة والغلبة.

يقول محمد فتح الله كولن في مقدمة كتاب له: “منذ بضعة عصور شرعت النظريات المادية والوضعية، بالهيمنة على ساحة العلم والفكر والضغط عليها. حيث فُسّر الوجود والجماد، والكون والحوادث تفسيراً وضعياً، وأُقصي الفكر الميتافيزيقي عنها تماماً. هذه النظرة المادية أرجعت تفسير الكون والظواهر فيه، إلى نوع واحد فضيقت بذلك قنوات الوصول إلى الحقيقة. وعلى الرغم من قيام الغرب بفحص الوجود والطبيعة كرات عديدة وبأسلوب تجريبي، إلا أنه لم يتناولها بآلياتها الداخلية، ولا بأجزائها وذراتها ضمن وحدة متكاملة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. وكانت النتيجة أن الإنسان وجد نفسه في تناقض مع عقله فكره وروحه. وأمام هذه الضغوط المستمرة شعر روح الإنسان تجاه حقائق نفسه أي تجاه “الحقائق الأنفسية”([12]) بالغربة”.([13]) وبمعنى آخر، فإن محمد فتح الله كولن يرى أن “أزمة الغرب وضياعه وحيرته يعود إلى إيمانه بالفلسفة الوضعية والفلسفة الطبيعية”.([14]) وبمضي الوقت أصبحت الغاية من البحوث في الغرب، هي “الدنيوية” (Secularism)، أي مسح كل أثر ديني، بل تحولت الغاية إلى إنكار كل شيء وإلى إرسائه على أساس من الإلحاد. ثم إنه يرى أن أساس النزاع بين الدين والعلم في الغرب، هو مرحلة هذه الفلسفة “الدنيوية”. (218-217) وهو يقوّم هذه المرحلة من الناحية الفكرية، فيقول بأنها المرحلة التي فُقد فيها التوازن بين الله والكون والإنسان. ولم تستطع الكنيسة صيانة هذا التوازن. لأن ممثلي الكنيسة أعطوا انطباعاً روحياً (Spiritual) مبالغاً فيه، واستهانوا بالطبيعة وبالبحوث العلمية وبالفكر التجريبي. وأكدّوا على الجانب الملكوتي([15]) للأشياء، وأن غاية الحياة هي فهم معنى الروح وجوهره. كما احتقروا الجانب المادي من الأشياء واستهانوا به، بل انكروه.([16]) وكلما اتجه هؤلاء إلى الجانب الروحي للأشياء. ازداد توجه علماء الطبيعة نحو الجانب المادي الصرف للأشياء. وكانت النتيجة أن الصراع بين الدين وعالم العلم انقلب إلى “صراع بين الدين والعلم”.

ويرى محمد فتح الله كولن أن صراع الدين والعلم في الغرب، كان محصوراً بأوروبا العصر الوسيط فقط. فهو يقول: “فمثلاً لا نرى مثل هذا الصراع في عهد العصر الأول في اليونان، ولا في مصر، ولا في وادي الرافدين ولا في الهند ولا في الصين. ويرجع هذا إلى أسباب أنثروبولوجية واجتماعية وتاريخية. فكما نلاحظ في الأدب السنسكريتي، فإن العلوم جميعاً في هذه الحضارات، بدءً من علم الفلك (Astronomy)، إلى علم النجوم (Astrology)، إلى علم الرياضيات، إلى علم نشأة الكون (Cosmology)، كانت تُتناول ضمن مركب ثلاثي من الدين-العلم-السحر. ونظراً لعدم وجود دافع علمي جدي وحثٍّ عليه، فلم يكن هناك أي موضوع يتناقض مع المستوى العلمي الموجود آنذاك. والأمر نفسه نراه في الصين. لأن الكونفشيوسية كانت تستند بكاملها إلى قواعد خلقية، ولم تكن تملك طابعاً دينياً حقيقياً. من ثم لم يكن هناك في هذا النظام الأخلاقي أي شيء يتناقض مع الدين أو يخاصمه.

أما أديان مصر القديمة، ووادي الرافدين، فكانت أديان ذات طابع أسطوري. وعلى الرغم من تقدم العلوم فيها مثل علوم الفلك وعلم نشوء الكون وعلم الطب، فإنها لم تكن قد بلغت المستوى العلمي التجريبي والعقلاني، وهنا أيضاً لا نستطيع فصل العلم عن الدين والسحر”.

أما اليونان. كانت علوم مصر القديمة وعلوم وادي الرافدين، أحد مصادر العلم والفكر اليوناني. ولكن اليونان كانت تملك اتجاهاً اجتماعياً مختلفاً. كانت كل حضارة من الحضارات السابقة المذكورة تملك طوال عصور التاريخ تجارب مختلفة في ساحة تأسيس الدول، وإن كانت في مستويات مختلفة. إلا أن اليونان القديمة(219-218) كانت تملك صفة “الفردانية” (Individualist) بكل معنى الكلمة. ومع أن هذه الفردانية اعتُبرت أمراً شاذاً من زاوية السياسة والتاريخ إلا أنها كانت هي الواقع. لذا فقد حازت على بعض مزايا الفردانية. لأن أسلوب وصفة الفردانية المسيطرة على اليونان القديمة لم تسمح بتشكل طبقة دينية حاكمة. أما الوضع لدى العرب في العهد الجاهلي، فإن الشعراء والمفكرين كانوا هم الذين يمثلون العقيدة والأفكار المقدسة. وكان هؤلاء منفتحين على التفكير الحر وعلى البحث العلمي. من ثم فلا يمكن أن ينشأ أي نزاع بين الدين والعلم في مثل هذا الجو. يقول محمد فتح الله كولن: “كان الدين في العهود القديمة تحت حكم السلطة السياسية. أي، إن أي حركة ضد الدين كانت تُعدّ حركة ضد السلطة السياسية. وكان أي تصرف صادر من مفكر أو شاعر ضد الدين، يؤدي إلى قلق وإلى نقاشات حادة في المجتمع”. والخلاصة أن محمد فتح الله كولن يريد هنا أن يلفت الأنظار إلى عدم وجود أي أساس اجتماعي للنزاع بين الدين والعلم في اليونان القديمة.

إذن، فكيف كان الوضع في اليهوجية؟ هناك العديد من التناقضات بين العلم الحديث والمعطيات التاريخية الكامنة في الكتاب المقدس لديهم (وهو العهد القديم)، في خلق الإنسان، وضع الكون والوجود، الشخصيات والحوادث التاريخية. ولكن الغريب، أنه لا يُرى، لا في التوراة ولا في المجتمع اليهودي، أي نزاع أو تضارب بين الدين والعلم. ويُرجع محمد فتح الله كولن هذا الأمر، إلى الصبغة الدنيوية المفرطة للدين اليهودي، وإلى الظروف التاريخية التي توفرت له. فهو يقول: “لقد قام الدين اليهودي في كل عهد بتبجيل الحياة اليومية والمُثل الدنيوية. وقد نظّم للإنسان جانبه الميتافيزيقي دون أن يضيّق على سعة الحياة الدنيوية وقنواتها. كما حرص على إرشاد الإنسان بالبحث عن حل دنيوي حتى في أسوأ الظروف الحياتية. كما أن العهود القلقة والصعبة التي مر بها التاريخ اليهودي، لم يدع فرصة ولا مجالاً لأي نزاع بين الدين والعلم عندهم. لم يتسنّ لليهود طوال التاريخ إنشاء دولة حقيقية ومنظمة إلا فترة قصيرة. وقد تعرضوا للعديد من الضغوط الاجتماعية وللعديد من الخصوم الأقوياء، كما تعرضوا للتهجير. وقد أدّى كل هذا إلى تساند اليهود فيما بينهم تسانداً قوياً وعميقاً لا يمكن مشاهدته عند أي مجتمع أو عند أي قوم آخر، مما جعلهم يقظين ضد أي خصومة أو نزاع يفرقهم ويزرع الخلاف بينهم).([17])

وهو يعتقد أن الوضع يختلف لدى المسيحيين بشكل بارز. فيقول بأننا إن استثنينا عهد المسيح (عليه السلام) وعهد الحواريين والقديسين، فإننا نرى أن بوادر النزاع بين الدين والعلم ظهرت بعد هذا العهد مباشرة. وفي العهد الأول لانتشار المسيحية، توسعت أطر المنظمات بحيث أحاطت بجميع أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية، بدءً من تفسير الكون والوجود وانتهاءً إلى أساليب التربية. ولهذا ظهر ومنذ العهود الأولى وحتى الآن في العالم المسيحي –ظاهريا– نقاش ديالكتيكي ونزاع بأساليب مختلفة وفي مستويات مختلفة. وكما ذكرنا آنفاً فقد تم التأكيد في المسيحية، وبإصرار، على الطبيعة الثنائية للإنسان. وتقتصر التعاليم التربوية في المذهب الكاثوليكي بالاهتمام بالجانب المعنوي للإنسان. وفي الوقت نفسه يتم تحقير الجانب المادي والرغبات المادية “الجسدية” عنده.

 

220-221

فالمؤمن الحقيقي يجب أن يراقب جانبه هذا مراقبة صارمة وأن يهينه ويضغط عليه، وحريته وجانبه الإنساني يتعمق بدرجة ضغطه على جانبه الجسدي المادي. فالمسيحية بتعبير آخر، هي عيش الآخرة في هذه الدنيا وتطبيق الحياة المثالية للآخرة وأنموذجها في حياته الدنيوية. أي الهروب من أراجيف هذه الدنيا بحجة “أيدولوجية الخلاص”. وجود الإنسان في هذه الدنيا شر، وأهم وظيفة للفرد هو البحث عن طريقٍ للابتعاد عن دنيا الشرور هذه. ويرى محمد فتح الله كولن، أن “أيدولوجية الخلاص” هذه، هي التي أوحت إلى المسيحيين حتى في العهد الأول للمسيحية، بأن يوم القيامة قريب وأن ملكوت الله سينزل إلى الأرض قريباً. وقد أدت هذه المشاعر النفسية والروحية إلى قول القديسين المسيحيين: “ماذا ستنفعنا في الآخرة قيامنا بمناقشة الأمور الدنيوية هنا؟”

ثم إن هناك آيات عديدة في الإنجيل ضد العلم والمعرفة بشكل مباشر أو غير مباشر. لأن الإنجيل يرى أن الحب بنّاء، أما العلم فيؤدي إلى الغرور.”من المعلوم أن كلا منا يملك علماً، ولكن العلم يؤدي إلى الغرور”.([18]) وحسب بعض نسخ الإنجيل كان العلماء على رأس المعارضين للسيد المسيح (عليه الصلاة والسلام): “كان المسيح يُعلّم كل يوم في المعبد. إلا أن رؤساء الكهان والفريسيين كانوا يبحثون عن طرق لقتله”.([19])

ومع أنه يمكن مناقشة عماً إذا كانت هذه الآيات واضحة في بيان الصراع بين الإنجيل والعلم، إلا أن الموقف العلمي للكنيسة في القرون الوسطى ضد العلم قوّى هذا الصراع من الناحية العملية. وقد استندت المسيحية طوال العصور الوسطى إلى فكرة “الخلاص” وإلى إهانة الحياة الدنيوية وذمها وانتقاصها. وحاولت إقامة إمبراطورية حياة روحية ومعنوية. ورضخت جميع المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية إلى حكم الكنيسة التي تضع المحرمات التي لا يمكن لأحد منا مناقشتها. ويرى محمد فتح الله كولن أن قيام الكنيسة بتقديم التعاليم المسيحية بكل هذه الضغوط هو الذي شكل أساس الصراع بين الدين والعلم. أي يرى أن تطور العلم في الغرب كان نتيجة المعارضة الشديدة التي ظهرت ضد هذه الضغوط الكنسية.

221–222

في البداية كان هذا الصراع مخفياً، لأن سلطة الكنيسة كانت قوية ومسيطرة على كل ساحة. ولكن بدأت هذه السيطرة تضعف مع الإرغام الاعتقادي شيئاً فشيئاً كلما تقدم العهد الحديث. وبجهود “كوبرنيك” و”غاليلو” و”نيوتن”، انفتحت الأفواه المكممة. وانعكس جو هذه الحرية في الأوساط المسيحية. حيث ظهرت حركة “لوثر” و”كالفن” ضد الآراء الرسمية للكنيسة. أصبح هذا الجو هو المنطلق لحركات التجديد والإصلاحات الكبيرة التي فتحت الأبواب للتطورات العلمية الحديثة. وانعكست هذه الحركة على الساحة الدينية، حيث ارتفعت الدعوة بأن الإنسان يستطيع الاتصال بالله دون الحاجة إلى وساطة الكنيسة، ويستطيع أن يتضرع إليه ويتعبد في كل مكان دون الحاجة إلى مؤسسة مثل الكنيسة. ويرى فتح الله كولن أن الفكر الغربي بدأ –بعد هذه التطورات– بواسطة “ديكارت” و”سبينوزا” بتخفيف جو الصراع هذا. فديكارت مثلا قدم فلسفته حول الثنائية (Dualism).([20]) فهو يقول بأن للعلم ساحته الخاصة به، وهي ساحة “الطبيعة”. ثم إن له (العلم) غاية وهدف أيضاً. وعلم الرياضيات والتجارب هي الأدوات المستعملة للوصول إلى هذا الهدف. أما ساحة الدين فهي النواحي الروحية والمعنوية والدار الآخرة. ولكل ساحة من هاتين الساحتين وسائلها وعلاقاتها وأهدافها الخاصة بها. يقول فتح الله كولن: ” إن الصراع بين الدين والعلم قد خف بهذه الأفكار، إلا أنه كان شكلياً ومؤقتاً. إذ ما لبث أنصار الفكر الديكارتي أن أوقدوا شعلة الصراع مرة أخرى”.([21]) واستمر هذا حتى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث اكتمل فيهما انفصال الدولة عن الكنيسة، وتكامل ظهور الدول القومية. وانتهى الصراع بانسحاب الدين والعلم كل منهما إلى ساحته الخاصة به.

ثم يحاول فتح الله كولن شرح وتشريح أسس الصراع بين الدين والعلم في الإسلام. فالإسلام يتناول الإنسان ككل. يتناول عقله وقلبه وروحه. والنظام (System) الذي جاء به الإسلام، بجميع مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، يفتح أبوابه لكل التطورات العلمية والحقائق الكونية. بل إنه يعد الكون كتابا يجب قراءته وتأمله وإجراء التجارب فيه، وهو يشعر بالإحترام والتبجيل لهذا الكتاب النابع من تبجيله للخالق الذي خلقه وصوّره وقدّره. بل إن القرآن الكريم ذكر وقبل عصور بأن الأرض ليست ساكنة الحركة، بل تدور حول الشمس،([22]) والشمس تدور حول نفسها في الوقت الذي كان علم الفلك آنذاك يتصور أن الأرض هي مركز الكون.

223-224

وهو يرى بأن القرآن الكريم بذكره أسس الحوادث الطبيعية والشريعة الفطرية والتأكيد عليها، لعب دور الرائد للعلم وللتفكير الحر. كما أن آيات عديدة في القرآن الكريم مثل ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾([23]) تشير بوضوح إلى “العلوم التجريبية” و”العلم العقلاني” في الأوامر الإلهية التكوينية. وهذان المثالان كانا يشكلان أسس التفكير الحر والعلم الحديث في العهد القريب لأوروبا. حيث كانت الكنيسة قد أسست ثقافة تقليدية متوارثة عن الآباء يمكن أن نطلق عليها “ثقافة الأسلاف” أو”ثقافة الآباء”. إذ كانت ثقافة ذات قيم ثابتة وجامدة. وكانت هذه الثقافة موجودة في أساس الفلسفة السيكولائية في القرون الوسطى. وحسب رأي فتح الله كولن، فإن على رأس ما انتقده القرآن الكريم، هو الظن والتخمين والتقليد والشعارات الجامدة. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾([24]) وهكذا نرى أن القرآن يرفض هنا –وفي مواضع أخرى عديدة– مثل هذه السيكولائية الشعاراتية، ومثل هذا الفهم لثقافة الأسلاف، ويدعو بدلاً من هذا إلى البحث والتفكير والتأمل. ويعطي فتح الله كولن أمثلة أخرى من الآيات القرآنية التي تؤكد على هذا الأمر، منها ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾([25])

﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾،([26]) ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾،([27]) ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾،([28]) ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾،([29]) ويؤكد انطلاقاً من هذه الآيات اهتمام القرآن الكريم بالتفكر والتأمل والبحث والعقل. ثم يقف طويلا على التطورات الفكرية والعلمية التي شهدتها القرون الأولى للإسلام انطلاقاً من زاوية نظرته العلمية هذه. وطوال القرون الثلاثة الأولى استعمل المفكرون المسلمون الفكر العقلاني المستند إلى التجارب، واستطاعوا تسجيل نجاحات مبكرة في العديد من فروع العلم أكثر مما استطاعته أوروبا. وكان هذا مؤشراً على خاصية الحضارة الإسلامية وطابعها المميز.([30]) وبعد أن يتناول فتح الله كولن هذا الموضوع باختصار، يشير إلى أنه لا يوجد أي أساس للصراع بين الدين والعلم لا تاريخياً ولا فكرياً في الإسلام. ويعد مثل هذا الاتهام ظلماً كبيراً للإسلام ومخالفة للحقائق التاريخية.

يقوم محمد فتح الله كولن بنقد الفكر الديكارتي للفكر العلمي الغربي، ولمنهجه الميكانيكي. فكما هو معلوم يقوم المنهج الديكارتي، بإرجاع جميع الظواهر الطبيعية والحوادث البيولوجية والفيزيائية والنفسية، إلى القوانين الرياضية والكمية التي

224-225

تحكمها، محاولا إنشاء منظومة علمية متكاملة وواسعة. ثم قدم شروحاً ميكانيكية وحتمية وقطعية في جميع العلوم الطبيعية. كان العديد من العلماء من أمثال “كوبرنيك” و”غاليلو” و”كبلر” و”بويل” و”باسكال” و”باكون” من أنصار هذه النظرة. لقد عدوا جميع المعلومات والعلوم السابقة ركاماً غير مفيد. لذا كان بيكون يقول بأنهم سيبدأون كل شيء من جديد. أما ديكارت فكان أكثر تطرفاً، فهو يقول بأن ما كان يدعى في السابق فلسفة لم تقدم أي شيء له قيمة، ورمى (ديكارت) جميع الكتب القديمة التي قرأها جانباً، وحبس نفسه في غرفة.([31])

ولكن لم تتحقق هذه الادعاءات الحديثة الشكل. فكما يقول العلماء المعاصرون لم يستطيعوا حل جميع المعضلات في الطبيعة وفي الإنسان وفي المجتمع، ولم يستطيعوا فك ارتباط المناهج بالقديم.

يقول محمد فتح الله كولن عن ادعاء الشمولية وعن هذا الغرور العلمي، بأنه عبارة عن وهم: “لم يشهد أي قرن من القرون في تاريخ العالم، من اكتشافات واختراعات تكنولوجية ومن غنى ورفاه مثلما شهده النصف الأخير من هذا القرن (القرن العشرين). ولكنه لم يشهد أيضاً مثل هذه السطحية والشكوك والتردد والجهل للعلم الحديث تجاه الملكات والقابليات الروحية والمعنوية واللدنية للإنسان. لقد ساد الاعتقاد في المحافل العلمية بأن جميع القيم المقبولة حتى ذلك الحين، ستصفى وتزال من الوجود. وأن العقل سيقوم بتسليط الأضواء على جميع الأشياء وبالتالي سيقوم العلم بحل جميع الألغاز المتعلقة بالوجود والأشياء. وأن علوم الفلك والفيزياء والكيمياء ستكتشف كل ما في الكون من أقصاه لأقصاه وتحل جميع المشاكل في الطبيعة”.([32])

قامت الفيزياء الحديثة بعد “ماكس بلانك” بتقديم مفهوم جديد –مثل فيزياء النواة والفيزياء الميكانيكية للموجات– يهدم أوهام من كان يبحث عن كل شيء في المادة، ويتطلع إلى الوجود من خلال زجاج مضبب.([33]) (…لقد أدت هذه التطورات إلى الإشارة إلى وجود عالم آخر غير منظور، إلى جانب العالم المنظور. وهذه التطورات الأخيرة الحديثة تدفعنا إلى فهم جديد وتفاسير جديدة. لذا فإن ارتباطنا السابق العجيب بالفكر التجريبي وبالفكر الوضعي الذي تحوّل إلى صنم مقدس، وبالعقلانية الغربية، قد انفك لكي نأخذ طريقنا من الارتباط المادي بالطبيعة إلى حياة قلبية وإلى روحانية رحبة وإلى حياة أخروية أبدية..)([34])

ويؤكد محمد فتح الله كولن في مقالة أخرى، بأن طبيعة العلم الوضعي، لا تقول شيئاً مطمئناً ومشبعاً حول الإنسان وحول الكون بالمفهوم الحقيقي: “..لم يستطع لا الذكاء الإنساني ولا العلم ولا المنطق، أي إيضاح وتفسير حقيقي حول بداية الكون ونهايته، ولا حول الخلق وأسرار الحياة.

 

226-227

إن هذه المواضيع المهمة للإنسان والتي شغلته منذ القديم لا تزال ألغازاً يقشعر منها الذكاء الإنساني وقوة إدراكه.. إن العلم الإنساني والذكاء الإنساني لا يستطيعان فهم الحوادث الخارجة عن أحاسيسنا، ولا فهم الوحي والإلهام وطبيعة الحدس، ولا منابع العلم والعرفان، ولا حقيقة الأحلام التي هي عبارة عن صندوق أسرار. ومنابع المعرفة للروح فوق الزمان والمكان. كما يوجد هناك الاطلاع على أسرار أعماق النفس الإنسانية.. كل هذه الأمور أمور ميتافيزيقية لا يمكن إيضاحها، استناداً إلى مبدأ “السبب-النتيجة”. ولا إيضاح كيفية تأثيرها على العالم المادي، ولا حوادث الكرامات، ولا الأنفاس الخارقة غير الاعتيادية ولا أدعيتها. ولا يزال معظم الناس يلتجئ في هذه الأمور إلى الحلول التي يقترحها الدين، ويبحث عنها فيما وراء السماء.”([35])

والخلاصة، إن البعد المادي والإلحادي للعلم الغربي، لم يدخل إلى هذه الساحات من دنيا المعرفة في الإنسان، لأنها الساحات الميتافيزيقية للدين، وهي ساحات لم تنضج ولم تتطور، بل بقيت قزمة في العلم الغربي. علماً بأن الأدوار الأولى للحضارة الغربية –كما يقول فتح الله كولن– قد تناولت كلا من العالم المادي والعالمَ الميتافيزيقي والمعنوي،([36]) وحاولت –وإن لم تكن بنجاح كامل– مزج الدين والعلم في بوتقة واحدة. ولكن العهد السكولائي أخل بهذه الموازنة لصالح الكنيسة ثم عاشت أوروبا –بعد الحواريين– فترة “غنوصية” (Gnosticizm)([37]) طويلة. وقد تأثرت العلوم الإلهية المسيحية بالفلسفة اليونانية (الهيلينية) تأثراً كبيراً. وكان هذا التأثر يعني تحويل العقيدة إلى تفسير علمي بطريقة غنوصية، أي كانت هذه الغنوسطية شكلا فجاً من السكولائية.([38]) وللسكولائية بنية فجة وعجيبة، وهي تقوم في الغرب كنظرة خاصة للألوهية أكثر من كونها لاهوتاً. والحقيقة أن أساس هذا الفهم يرجع إلى الفيلسوف الاسكندري “فيلون” الذي طور الغنوصية اليهودية. قام فيلون بمزج تعاليم أفلاطون و”زينون” على أساس من الفيثاغورسية منتجا فكراً يمزج بين العلم والفكر اللاهوتي (50 ق.م.). ثم قام الفلاسفة المسيحيون من أنصار مدرسة فيلون بتطوير تعاليم محفوفة بالأسرار لا يفهمها سوى المثقفون النصارى. كانت هذه التعاليم تنظر إلى الدنيا من زاوية الآلام. والذين لا يتجرعون هذه الآلام ولا يصبرون عليها، لا يصلون إلى الحرية المقدسة، فالدنيا نتيجة لخطيئة.([39]) وبنى الغنوصيون

227-228

النصارى عام 144م كنيسة، حيث أرسوا قواعد أول مدرسة حول هذه النظرة إلى الدنيا. وكانوا يهتمون بقراءة رسائل القديس بطرس في الأخص. لم يستطع هؤلاء الغنوصيون إرساء تعاليم قوية، ولكنهم ساعدوا على إكساب اللاهوت المسيحي صبغة فلسفية. وكما هو معلوم فإن السكولائية -التي شكلت أساسها، تعاليم أباء الكنيسة والتعاليم الغنوسطية– استمرت طوال القرون الوسطى. وقد هيأ العهد الطويل من اللاهوتية أساس النزاع بين الدين والعلم في الفكر الغربي. حيث أن التوازن بين الدين والعلم، كان يميل مرة لصالح الدين، ومرة لصاحل العلم. أي أن الفكر الغربي بات على الدوام أسير هوية ذات بُعد واحد. “..دخل الإنسان الغربي في القرون الوسطى إلى طريق ذي بُعد واحد، وبنى تفسير كل شيء وإيضاحه بنظرة لاهوتية. أما العصر الحديث فلم يركز نظره إلا على الأشياء وعلى الطبيعة ولم ير شيئاً سواهما، أي ولد هذا الفكر الحديث بطريقة شاذة وغير طبيعية، وسقط عاجزاً قبل أن ينضج ويتطور. أما عصر العلم والتكنولوجيا الحالي، فقد بالغ أكثر، إذ تطلع إلى الأشياء من زاوية مادية ضيقة ومن منظور يجعل الإنسان محور العالم. وبدلاً من القيام بتعريف الإنسان بهويته وبماهيته الحقيقية وبمعناه الصحيح قام بقطع جميع علاقات الإنسان بالله. وركز نظره على القوانين الطبيعية حتى اختنقت أرواحنا وذهلت، وأفسد التوازن الموجود بيننا وبين الوجود”.([40])

وهذا البعد الأحادي للعلم، وصل في العهد الأخير إلى حد جعلنا سطحيين تماماً تجاه آلياتنا وقابلياتنا الروحية. فقد طور هذا العلم، تكنولوجيا قامت بتضخيم القوة المادية في الإنسان إلى درجة تهديده وتهديد البيئة والطبيعة… “لقد أصيبت العلوم الوضعية ولا سيما في نهاية القرن الماضي، بالغرور والصفاقة إلى درجة أنه رأى “روبان آلوس” (Ruban Alves) و”باول فيربند” (Paul Feyerabend) و”رينيه كانون” (Rene Guanon) -الذين يعدون لسان العلم الحديث والمتحدثين باسمه- بضرورة لجم لجامه بل حتى صفعه ليعود لرشده.. والحقيقة أن الإنسانية توجهت في الربع الأخير من القرن العشرين للخلاص من بعض القيود والأصنام الفكرية، وحققت نجاحاً معيناً في هذا الصدد. ولكن لا يمكن القول بأنها تخلصت من عادتها القديمة، لأنها لا تزال تعد العلم والتكنولوجيا، المرشد الحقيقي والرائد الذي لا يخطئ، ولا تزال غير مدركة أبعاد عبوديتها في هذا المجال”.([41])

وهكذا يتبين أن محمد فتح الله كولن، يؤكد في مقالاته على البعد الأحادي للعلم 228 في الغرب، ويذكر بأن الصراع بين الدين والعلم الذي ظهر في الغرب، يستند في الأساس إلى الفهم الأحادي لكل من الأوساط العلمية والأوساط الكنسية.([42])

229-230

العلاقة بين العلم والحتمية (Determinisim)([43])

يسعى محمد فتح الله كولن -في مقالاته وأحاديثه- عند إبدائه رأيه في العلم بجلب الانتباه إلى العلاقة بين السبب والنتيجة، أي بين العلة والمعلول، ويراها سنة من السنن الإلهية في نظام الوجود. ويرى بأن من أهم عوامل تأخر العالم الإسلامي من الناحية العلمية –إضافة إلى عوامل أخرى– هي عدم رعاية العلماء المسلمين لهذه العلاقة الموجودة في كل صفحة من صفحات كتاب الكون.

وكما ذكرنا من قبل، فإن الفكر العلمي الغربي انطلق من أساس ميكانيكي وآلي في تحليله للعلاقات الموجودة في الكون وفي الوجود، بتطوير ما يسمى بالنظرية الحتمية وبالغ فيها. وكان من النتائج المهمة لهذا الأمر “التفسير المادي” للفكر العلمي، وبنسبة تعمقه في المادة واكتشافاته للعلاقات المادية، أصبح بعيداً عن المعنى وعن البعد الميتافيزيقي لهذا العالم. لذا أنشأ حضارة ذات بعد واحد. وبتعبير آخر، فإنه على الرغم من قيام المفكرين الغربيين بالاستعانة سابقاً بشقي المفهوم الموجود في الفكر الإسلامي وفي الفكر الغربي حول “كتاب الكون” الذي هو نتيجة تجلي “الإرادة” الإلهية، و”الكتاب المقدس” الذي هو تجلي صفة الكلام الإلهي، إلا أنهم تركوا فيما بعد الاهتمام بالكتاب الثاني (أي الكتاب المقدس). من ثم بقي الفكر الغربي سطحياً في موضوع الإنسان ووجوده في هذه الدنيا، وحكمة وسبب وجوده وعلاقته مع الله تعالى. أما العالم الإسلامي فقد أهمل الكتاب الأول واكتفى بالكتاب الثاني فقط. وكانت النتيجة أنه، مع كون حياته الروحية وعقيدته في الربوبية والدار الآخرة، حياةً دافئةً، إلا أنه بقي متأخراً في الساحة العلمية.

لذا نرى أن محمد فتح الله كولن، كلما تحدث عن التطور والبحث العلمي، أشار إلى هذين الكتابين بشكل واضح وصريح أو بالإيماء إليهما.([44]) ولا بد من إلقاء نظرة على فكرة “الحتمية” في الغرب، لكي نفهم موقف فتح الله كولن منها بشكل أفضل. لهذه الفكرة تاريخ طويل يبدأ من القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين، بل حتى الآن عند بعض التيارات الفكرية الديالكتيكية المادية. وقد أرسيت قواعد الفلسفة الحتمية في الفكر الفلسفي وفي العلوم الطبيعية من قبَل باكون ونيوتن وديكارت و”لومونوسوف” و”لابلاس” و”سبينوزا”. ثم من قبَل الماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر. وهذه النظرة الفلسفية والعلمية تنفي إرادة الله وإرادة الإنسان بشكل كلي. وترى أن جميع ما يجري 230-231-232 في الكون من حوادث، إنما يجري بعوامل القوانين والنظم الداخلية الموجودة فيه، ولا يعطي أي مكان لأي قوة خارجية أخرى. وكل ما يجري إنما يجري حسب رابطة “السبب-النتيجة” فلا شيء يظهر من العدم ولا يمكن تحويل شيء إلى العدم. وحسب هذه الحتمية القاطعة، لا دخل للإرادة الإنسانية في سير الحوادث في الوجود. لذا فلا يمكن الحديث عن حرية الإنسان. لأن ما يجري في الوجود من تغيرات واحدات هي خارج سيطرة الإنسان، وتجري بفعل عوامل معينة.

هناك أجنحة أكثر اعتدالا من أنصار الحتمية، حيث يعترفون للإنسان بحرية محدودة. أما بخصوص القوانين الطبيعية فهم أيضاً يرونها حتمية. وحاولت المادية الديالكتيكية تقديم صورة ثورية لنظام الوجود، فادعت بأن العالم يشكل بذاته حقيقة. وأن هذه الحقيقة لم تظهر بعامل فوق الطبيعة. وهي ترى أن طبيعة الوجود في تغير دائم، وأن هناك عللاً وأسباباً وراء أحداث الطبيعة وميلا إلى التغير والتبدل. ويحدث هذا التبدل والتطور، بحيث لا ترجع أي جزيئة إلى حالتها السابقة، بل تكون في مستوى أعلى.

تكمن أهمية الحتمية في تاريخ الفلسفة والعلم، في كيفية اكتشافها للقوانين الطبيعية، وفي طريقة تطبيق هذه الحتمية على المجتمع وعلى التطورات العلمية. لأن شكل التطبيق هذا أدى إلى نتائج سياسية وأيدولوجية واجتماعية خطيرة. وقام علماء الاجتماع مؤخراً بنقدٍ لاذع لشكل تطبيق الحتمية على الإنسان وعلى المجتمع بشكل صارم وفج. فهؤلاء يرون أن الأسباب والعوامل الموجودة في العالم المادي، تنطبق بمقياس معين فقط على الحوادث الاجتماعية. كما عارضوا كون هذه القوانين تنفي إرادة الإنسان أو تأثير بعض القوى الخارجية. وإلا كان معنى هذا، أسر الإنسان في دائرة الجبر المطلق وتعطيل إرادته تماماً. ومع ذلك فإن اعتراف علم الاجتماع بحرية إرادة الإنسان لم يكن يعني أي اعتراف بتدخل إرادة إلهية سامية. ولكن يجب التسليم بأن البحث في الطبيعة عن علاقة الأسباب بالنتائج –رغم آثاره الاجتماعية والسياسية السلبية– قد طور العلم، وكان عاملاً في اكتشاف السنن الإلهية في الكون.

ويصرح محمد فتح الله كولن بأن هذه العلاقة بين السبب والنتيجة، شكلت القوة الدافعة وراء المكتشفات العلمية وبحوثها. ولكنه يعترض على التطبيق غير الصحيح له والتطبيق الشامل الذي يستبعد الأهداف الإلهية والإرادة الإنسانية ويطفئ لهيب الذكاء الإنساني ودوره. كما يشير فتح الله كولن، إلى أن العلاقة العلية سارية حتى في الحياة الاجتماعية، وإن لم تكن بنفس سريانها القطعي في العالم المادي. ويدلل على هذا بالقول، بأن التكرار في التاريخ يدل على هذا. لأنه متى ما كانت العوامل متشابهة كانت النتائج متشابهة. وهذا يعطينا درساً في وجوب تعيين تصرفاتنا وسلوكنا لكي نستطيع الوصول إلى أهدافنا في المستقبل.

“إن مراعاة الأسباب -ضمن إطار الأسباب- وظيفة يجب القيام بها، وتجاهل هذه الأسباب نوع من الجبرية. والطريق الوسط هو مراعاة الأسباب، واتخاذ 232-233 التدابير اللازمة دون ترك أي فجوة أو ثغرة، ثم الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه. يجب أخذ “السبب-النتيجة” و”العلة والمعلول” بنظر الاعتبار والاعتراف بالعلاقة بينهما شريطة ألا ننحرف في دنيا الفكر إلى حتمية (Determinism) صارمة، بل إلى طريق وسط يفتح فرجة لحتمية مشروطة. ولا أدري هل سيُقبل هذا التأويل ويعد عذراً مقبولا أم لا؟ ولكني أقول بأن مبادئ العِلِّية وتناسب العلية موجود في عالم فكرنا إذا دقق عنه وبحث وكان موضوعاً لتقويمات مختلفة. إن كان المبدأ الحتمي الجبري هو، أن الأسباب نفسها إن أثرت في الظروف نفسها، ولدت النتائج نفسها، فإننا نقبل بهذا طبعاً ونوافق عليه. وإذا تناولنا هذه الملاحظات ضمن مقاييسنا، قلنا بأن هذا المبدأ أي مبدأ (السبب-النتيجة) يظهر أيضاً في كل حين في العلاقات الاجتماعية، وإن لم يكن بنسبة ظهورها في العالم المادي. لذا كان علينا أن نفكر جيداً في النتائج التي ستسفر عنها في المستقبل تصرفاتنا الحالية. أجل، إن مستقبل هذا المجتمع، ومستقبل هذه الدولة وبقاءها، بل ومنزلتها بين الدول الأخرى، مرهونة بما نفعله وبالخطط التي ننتهجها ونسير عليها اليوم. وإلا فلا مهرب من مواجهة حوادث مفاجئة في الداخل والخارج تأخذنا على غرة.

علينا ألا نجلس في بيوتنا وننتظر المفاجئات، وكأن كل شيء يهيأ في عالم آخر ثم يوهب لنا ويقدم إلينا جاهزاً كاملا. إضافة إلى هذا يتعين علينا أن نقرر جيداً عما إذا كنا داخل الحياة أم على هامشها. فإن كان المجتمع يوحي إليك قائلاً مثل “عمر الخيام” أن؛ فما الماضي والمستقبل إلا قصة وحكاية، اغتنم فرصة حياتك ولا تفسد متعتها، كُلْ واشربْ.. أما هناك من يصلح العالم سواك؟ لا تتعب نفسك بالتفكير وإلا تنصرع.. واقتنص الفرص في نعم الله تعالى لأنها عبادة:

أطفئ لظى القلب ببرد الشراب         فإنما الأيام مثل السحاب

وعيشنا طيف خيالٍ فَنَلْ                حظك منه قبل فوت الشباب

لا تشغل البال بماضي الزمان            ولا بآتي العيش قبل الأوان

واغنم من الحاضر لذاته                 فليس في طبع الليالي الأمان

مثل هذا المجتمع، مجتمع ميت وفاقد الجوانب الروحية والمعنوية. ولا يكون إنقاذ هذا المجتمع، بجميع طبقاته من هذا الانحراف الفكري المخيف ومن المنزلق الروحي، وتوجيهه نحو أهداف سامية، وتنويره بالفكر العلمي، إلا على يد المثقفين والإداريين. ثم إن إشغال الجماهير بالحوادث السياسية اليومية العقيمة -بدلا من العلم الحقيقي وجوهر الفكر- ومحاولة إقناعه أن تغيير الحكم السياسي سيحول الحياة إلى رفاهية، سوف يؤدي إلى تحويل المجتمع إلى ركام من المشاكل”. ([45])

233-234-235

الدين والعلم والأيدولوجية:

استعمل العلم والفعاليات العلمية طوال القرون الوسطى كقاعدة لأهداف أيدولوجية كما استُعمل الدين وتعاليمه لإرساء قاعدة لمثل هذه الأهداف والغايات. وكمثال على هذا نستطيع التذكير بأن المسيحية طوال العهد السكولائي في القرون الوسطى تحولت إلى أداة بيد الكنيسة للدفاع عن الأيدولوجية الثقافية والسياسية الرسمية للامبراطورية. وكما قامت الأيدولوجية الرسمية باستغلال الكنيسة في سبيل أغراضها السياسية لعهود طويلة، كذلك قامت طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، باستعمال العلم والتطورات العلمية في هذا الاتجاه. وانقلب الصراع المتواضع بين الكنيسة والأوساط العلمية في البداية، إلى مجابهة أيدولوجية الكنيسة، وانتهت بفصل الكنيسة تماما عن الدولة. ومع أن أجهزة الدولة استطاعت إخراج وإبعاد الدين عن حلبة الصراع، واستعملت العلم كوسيلة أيدولوجية في هذا الصراع إلى درجة أن العديد من العلماء طالبوا باستقلال العلم -الذي بدأ يصطبغ بالصبغة العسكرية- عن الدولة وعن الأهداف السياسية والأيدولوجية.

لذا أكد محمد فتح الله كولن –استناداً إلى هذه الحقيقة التاريخية– على وجود مخاطر ومحاذير كثيرة في استغلال العلم أو الدين كأداة أيدولوجية. فهو يرى أن الدين وكذلك العلم أداتان للبحث عن الحقيقة. فللحقيقة جانبان يشكل الدين أحدهما ويشكل العلم الجانب الآخر. فمن جهة يحاول الإنسان بشعوره رإدراكه اكتشاف علاقته مع الوجود، ويحاول من جهة أخرى معرفة كيفية التصرف تجاه هذه الحقيقة. فعالياته الأولى تمثل العلم (ومن ضمنه مصادر علم الدين) والثانية تمثل الدين. أي إن كان هدف العلم اكتشاف الحقيقة، كان هدف الدين تعيين وتنظيم تصرفات وسلوك الإنسان تجاه هذه الحقيقة. فإن خرج العلم والفعاليات العلمية خارج حدود اكتشاف الحقيقة، انقلب إلى أيدولوجية:

“إن لم يكن في أساس العلم تحليل الوجود وإيضاحه واكتشاف الحقيقة وامتلاك وَجْدٍ وعشق في سبيل هذا الاكتشاف، فهو علم أعمى، ولا تخلو اكتشافاته من التناقض. والعلم الذي يراد منه فقط تحقيق منفعة فردية أو عائلية أو اجتماعية، سيصادف دون شك انسداداً وعنق زجاجة، كما أن المعرفة التي يراد منها مصلحة حزب أو أيدولوجية لا بد وأن تواجه المصاعب في نهاية المطاف”.([46])

235-236

كان من نتائج استخدام العلم كأداة أيدولوجية في القرنين السابقين، تحويل البلدان المتأخرة إلى بلدان محتلة. وتم تخريب الآلاف من العناصر الثقافية والحضارية باسم العلم الحديث، ثم نهبت الثروات الثقافية والدينية والحيوية. كما تم تخريب البيئة الطبيعية وتلويثها إلى حد أصبح يهدد النسل الإنساني. وكما يكون العلم أداة تهديد وخطر إذا تشوهت هويته، كذلك من الخطر أن ينقلب الدين إلى أداة أيدولوجية. فالدين في الأساس بحر من العلم بمصادره المعروفة الموجودة فيه، وعنصر حيوي من زاوية عشق الحقيقة، وآلية ديناميكية ذو أسلوب واضح يتجاوز أفق المعرفة، ورائد عميق الأداء لا يخدع ولا يُضل.([47])

ويقول فتح الله كولن أيضاً: “عندما يكون العلم أداة في يد فكر أو تيار أو تعاليم مذهب معين، يمكن أن ينقلب إلى عفريت يقطع الطريق أمام الحقيقة ويضيق أفقها، وينشر التعصب وبأسلوب عدائي. كذلك يمكن للدين –الذي هو حقيقة سماوية– أن ينقلب في يد التعصب الفكري، إلى أداة حقد وعداء ونفور، ووسيلة لاستعمال عواطف الانتقام والكره. لذا فمن العجيب أن ينقلب شيء إلى ضد طبيعته وهويته”.([48]) ويقول: “والآن تخيلوا مركزاً للعلم –الذي هو في الحقيقة مكان مبارك مثل المعبد– إذا ارتبط بشكل أو بآخر بتيار فلسفي معين، أصبح أسيراً له. وبالتالي فإن هذا العلم لم يعد حراً بل أسيراً في قبضة فكر متعصب. عند ذلك يكون هذا العلم ملعوناً أكثر من أي جهل أو جاهلية. وإذا أريد من أي دين أن يكون وسيلة سياسية أو غير سياسية لمنفعة حزب ما، انقلب معبد ذلك الدين إلى مِلْكية ومكان صغير لذلك الحزب، وتكون العبادة فيه نوعاً من مراسيم التشريفات. عند ذلك تكون السمة الإلهية لذلك الدين والديانة قد جني عليها تماماً.

أجل، إن كان البعض يدعي تبني العلم في مجتمع ما، ويستعمل دور العلم أداة لرغباته وأهوائه، وواجهة لأيدولوجياته، فإن تلك الدور تخرج عن كونها أماكن مباركة كالمعابد، وتتحول إلى ميادين للرغبات والأهواء الجامحة ولمشاعر العداء والخصام. كذلك إن كان هناك مجتمع يدعي فيه البعض “التديّن” ولا يتورعون عن إسناد الكفر والزندقة والنفاق إلى الذين يختلفون معهم فكرياً أو سياسياً، فإن هذا الدين الممَثّل من قبل هؤلاء، يبعد الناس عن الله ويسد أبواب236-237 الأمل والرجاء أمامهم، ويملأ قلوبهم ظلاماً وسواداً. ويقع طبعاً وزر كل هذا، على هؤلاء، لأنهم يحوّلون الدين إلى حالة خوف وفزع مما يناقض الغاية الأصلية والأساسية لنزوله”.([49])

ويرى فتح الله كولن أن تحويل العلم والدين إلى أيدولوجية، هو نتيجة لضعف بشري. ويقول بأن بعضهم يقومون بهذا، لكي يستروا ضعفهم البشري أو يسدوا الثغرات الضعيفة فيهم. واستعمال الدين والعلم في عملية السد أو الحشو، يتعارض مع سمو العلم والدين. ويرى محمد فتح الله كولن أن السبيل الوحيد في الخلاص من هذا الضعف هو الالتزام بعشق الإله وعشق الحقيقة، وباحترام العلم. ولم تذق البشرية مثل هذا العشق، إلا عن طريق الأنبياء والمرسلين.([50])

وينتقد محمد فتح الله كولن هذا الأمر -كما رأينا- نقداً شديداً، ويتهم القائمين به بالانحراف عن نهج الدين وعن نهج العلم.([51]) وحسب رأي فتح الله كولن فإن الغاية من العلم والبحوث العلمية، هي الوصول إلى الحقيقة الإلهية وإلى العشق الإلهي. فقد أبعدت الفلسفة الوضعية الدينَ، ومنذ قرون عدة، عن قيمه العليا. ففتح الله كولن يحاول توسيع إطار العلم من جديد، وإدخال العشق فيه وفتح مساحة ميتافيزيقية له.([52])

لقد وضعت –منذ الماضي– مفاهيم عديدة مثل الحب والمحبة خارج ساحة البحوث العلمية. وعندما وضع فتح الله كولن هذه المفاهيم الميتافيزيقية والتصوفية في هذه الساحة من جديد، إنما أعاد الإشارة إلى النظرة “الكوزمولوجية” (Cosmologist)، (أي علم الكونيات) القديمة التي تقول، بأن الحب هو علة خلق الكون. والنظرة الكوزمولوجية القديمة، كانت تقيم علاقة عليا دائمية بين الإنسان والكون والله. ولكن عند ولادة العلوم الحديثة أهملت هذه النظرة، حيث غرقت العلوم في خضم المادة وأصبحت صماء وعمياء تجاه جميع العلاقات الدينية والخلقية والميتافيزيقية، وانقلبت إلى حالة ذات بعد أحادي. ويصف فتح الله كولن هذا العمى بأنه “انحراف واستيحاش”.

238-239-240

العقل –العلم– الثقافة

يتناول محمد فتح الله كولن الفلسفة العقلانية المفرطة التي عادت مرة أخرى كتيار في حياتنا الفكرية وكترسبات فكرية من القرن التاسع عشر. كانت أعوام التسعينات في تركيا أعواما حاول فيها المثقفون والمفكرون، إحداث حركة حيوية في الساحة السياسية والاجتماعية والدينية بتبني الفلسفة العقلانية. فوضع كل فكر وكل حركة موضع البحث والتدقيق والمساءلة على أساس من “العقلانية” (Rationalism). لأن الحياة السياسية، وبالتالي الحياة الثقافية، كانت قد أفلست نتيجة الإدارة السيئة والفاشلة التي استمرت سنين طوال، والقائمة على النهب. حيث تدهورت جميع المؤشرات الاقتصادية، مما دفع المفكرين والسياسيين والاقتصاديين إلى محاولة الخلاص من هذا الوضع البائس، وذلك بوضع كل شيء على المشرحة ومحاولة نقده بنظرة عقلانية. وارتفعت الأصوات بهذا الاتجاه حتى في المواضيع الدينية والإلهية، على الرغم من الاعتقاد السائد بأنها من الأمور السامية التي لا ينبغي أن يطالها النقد، ونظر إليها بعقلانية (Rationalism) وفي إطار الإنسان والمادة. وبدلا من اتجاه العقل إلى الله وأسمائه الحسنى وتجلياتها الكونية –كما هو موجود في الفكر الإسلامي الكلاسيكي– توجه إلى دنيا الإنسان، وإلى المشاكل الاجتماعية اليومية، وإلى الساحة الاجتماعية والمادية. وقد يبدو هذا طبيعيا، إلا أنه ينقلب في المدى البعيد إلى قلب النظام المرجعي التسلسلي للفكر الديني رأسا على عقب. فالعقل هنا يرجع بشريا ويصبح مدافعا عن الضعف البشري والمادي والاجتماعي. بينما العقل في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، من أهم الوسائل التي تربط الإنسان بالله وباللانهاية، وأهم قابلية تقوم بتأسيس العلاقة بين الإنسان والله والكون. بينما كان أنصار المذهب العقلاني يريدون أن ينقلب العقل إلى مجرد قطعة بسيطة من الحياة المادية والبشرية. وهذا يعد تهديداً للدين وخطراً عليه. وهذه كانت هي المشكلة وراء النقاشات الجارية في الفترة الأخيرة، في معاهد كليات الدراسات الإسلامية حول النظرة التاريخية للنصوص الإسلامية. ولو تأملنا عن قرب شكل التحليل الجاري للفكر الديني الكلاسيكي، رأينا محاولة لإنزال الفكر الديني عن مكانه السامي المتعالي.

لقد دخل الإنسان -في كل الساحات السياسية والاجتماعية- إلى جميع صور الحياة المعاصرة وما فيها من متع، واتخذ عادات جديدة في الحياة والفكر. وهذه العادات أنتجت طرازا ماديا من الحياة ومن الانكباب على الدنيا حتى عند الأوساط المتدينة مع الأسف. وعندما لم يعد العقل مرتبطا بالمثل العليا، أصبح أداة لتبرير هذه العادات وهذا الطراز من الحياة.

لذا فإنني أولي أهمية كبيرة للمقالة التي نشرها فتح الله كولن، في عدد آب لسنة 1999 في مجلة “الأمل الجديد” (Yeni Ümit). فهي تلفت أنظارنا إلى المنابع التي تسوقنا إلى الحياة المادية التي تبحث عن اللذة على الدوام، وإلى المهمة الإلهية التي يحملها العقل. لذا فهي بمثابة تجديد  240-241-242 للروح والإيمان والفكر.

وقبل أن يخوض في النقاش التاريخي لمفاهيم فلسفية وصوفية منتشرة من قبل، مثل العقل النظري والعملي، والعقل الباني والمبني، والعقل المعاد، العقل السماوي، العقل الأرضي، العقل المعاش، العقل الترابي..الخ. يتناول العقل بحاله المجرد، ومن المنظور القرآني ومنظور رسائل النور. ويقوم إلى جانب هذا بإيضاح مهم حول كيفية قلب العقل للمعلومات إلى معرفة. عنوان المقال هو “المعقول ووجها العقل”.([53]) والمقال ليس مقالا فلسفياً، فالمعقول حسب القرآن، هو ارتباط الفكر باللانهاية.([54]) فهذا هو المحور الرئيسي للمقال. ومثل هذا الارتباط يؤدي إلى عمق في الإيمان، وغنى في المعرفة. والقرآن يؤكد على هذا في كل دعوة له للتعقل، ويوضح القواعد التي يرسمها ليوصل العقل والقلب –في الآيات الكونية- إلى التوحيد. والقرآن يعلمنا كيفية استعمالنا للعقل وكيف نجعل قلوبنا وضمائرنا حية يقظة. فالدعوة إلى العقل في القرآن مرتبطة دائما باللانهاية… “يربط القرآن جميع رسائله ودعوته بالعقل والمنطق. ويتحدث في إطار لا يمكن للعقل ولا للشعور الاعتراض عليه ويغلف كل طلباته بالمنطق).([55])

يمتد العقل في الوجود والأشياء إلى اللانهاية. وتتحقق دعوة القرآن للعقل على أساس من التفكر في الوجود والأشياء. فكأنه خلق للوصول من الكثرة إلى التوحيد. والقرآن يدعو لاستعمال العقل في محور التوحيد. فالتوحيد والوحدة هما المعقول في القرآن، والشرك والكفر هما غير المعقول. ويعطي أفضل الأمثلة ضد جميع أنواع الكفر والإلحاد. ويشير إلى أن جميع أنواع الوجود أو الاضمحلال في الكون، وجميع التغيرات والتبدلات في كل يوم وفي كل موسم، تجري ضمن نظام وبسهولة، وكلها تشير إلى حقيقة التوحيد وإلى عدم منطقية الشرك. وذلك بأسلوب يحرك الحواس الخمس في الإنسان.

ويتناول سعيد النورسي في رسائل النور دعوة القرآن إلى التوحيد بأسلوبه الواضح الجذاب. ويشرح محمد فتح الله كولن هذه الخاصية في رسائل النور فيقول: “تكرر رسائل النور وجوب قراءة كتاب الكون ومعرض الوجود وتأمله، وإلى أن الأنبياء والأصفياء والأولياء وعلماء المسلمين، هم ممثلو المعقول وممثلو الدعوة إلى قراءة الكون. ومع وجود خطوط من الفروق الزمنية، فإن الأسلوب المتبع في هذه الدعوة بقي في الإطار نفسه. أي الدعوة إلى تأمل الأرض والسماء، والبحث في الأشياء والحوادث، وإرجاع كل شيء إلى صاحبه الحقيقي. ثم إحساس الضمائر بالاطمئنان من هذا التوجه المنطقي والمعقول، وتحول العلوم إلى منابع للمعرفة وإلى أذواق روحية”.([56])

242-243-244

والحقيقة أن طريق التفكر والتعقل تقليد في التفكير الإسلامي منذ عدة قرون. ويقوم فتح الله كولن بتناول البحوث الفلسفية والكلامية والصوفية الطويلة التي تتناول هذا الموضوع ويبسطها، لتكون واضحة وقابلة للفهم بسهولة من قبل الجيل الحالي. وتتناول هذه المقالة بأسلوب جديد وبإيجاز شرح ما جاء في الرسالة العشرين/المقام الثاني من رسائل النور، وما جاء في أواخر الكلمة العاشرة، وما جاء في الكلمة التاسعة عشرة منها في مسألة الحشر، وكيف أن طريق الشرك أصعب من طريق الحق بمائة ألف مرة وغير معقول وغير منطقي. وكيف أن طريق التوحيد طريق في غاية اليسر والسهولة والمعقولية.

والأساس في هذا التعقل والمعقولية هو وجود الخالق ووحدانيته، وعدم وجود أي شريك أو نظير أو ند أو كفء أو مثيل له، وإنه لا يحتاج إلى مساعدة أو إلى مساعدين، لأن النتيجة التي سيصل إليها العقل بعد التأمل -حسب القرآن- هي التوحيد ورد الشرك. أي أن أهم وظيفة للعقل وللتعقل هي إعلان التوحيد ورد الشرك. لذا فإن عقلانية كالعقلانية المادية للقرن التاسع عشر غير موجودة في القرآن. كما لا توجد في الفلسفة العقلانية أي توجه يستهدف قيماً إنسانية واجتماعية عليا. لذا فإن تعابير من أمثال: (العقلانية في الإسلام وفي القرآن) تعابير غير صحيحة، وتعد تحريفاً للفكر الإسلامي. وأرى أن من المهم قراءة المقالة المذكورة للأستاذ فتح الله كولن من هذه الزاوية أيضاً. فمفهوم العقل والتعقل فيها مفهوم مستقيم ويحمل صفة التوحيد، ويسير متوازيا ومتفقاً مع الموقف القرآني وموقف رسائل النور في هذا الخصوص.

يهتم محمد فتح الله كولن في هذه المقالة بدور العقل والتعقل، وليس بالبحث عن ماهية العقل. وهذه هي كيفية تناول القرآن للعقل. إذ لا يرد العقل في القرآن كمفهوم مستقل. أي يتم تناول ما نطلق عليه اسم العقل العملي. وقد اتبع محمد فتح الله كولن هذا النهج في مقالته هذه.

وفي الفكر الإسلامي الكلاسيكي عندما يرد العلم أو المعرفة، فالمراد العلم النافع في الحياة. بينما مفهوم الغرب عن العلم في الأساس هو ما كان متوجها للحصول على “القوة” و”القدرة”.([57]) أي كل ما يزيد منه القوة والقدرة للسيطرة على الطبيعة وعلى المادة وعلى الفرد وعلى المجتمع، ويجب استعمال العقل في هذا الاتجاه. وكما أبعد الغرب العقل عن القيم السامية، كذلك أبعد العلم عن تأثير أي شيء مقدس. بينما يرى الإسلام والمسلمون أنه لا يمكن فصل العقل وفصل العلم والمعرفة عن القيم السامية. أي سوء استعمال العقل والعلم والمعرفة سينتج نتائج فردية واجتماعية سيئة دون شك، منها 244-245 وقوع المجتمعات في أسر الشرك الذي يعد أبعد شيء عن العقل والمنطق. وأعطى القرآن الكريم أمثلة عديدة لأقوام وقعوا في هذا الأسر. ويتناول فتح الله كولن هذا الأمر في مقالته بنفس المنظور القرآني ورسائل النور فيقول:

“الخاصية الأساسية التي يتميز بها النظام الفكري للإسلام، اعتباره الكتاب والسنة أهم مرجع ضمن المراجع العديدة. ولم يشعر بحاجة لا للميراث السابق ولا للبهارج الجديدة”.([58])

“في نظامنا الفكري، يعد العقل والفكر والقلب والمشاعر الإنسانية والوحي بكل ثماره.. مهماً جداً، ويعد كل منه أوجها متعددة من حقيقة واحدة”.([59])

“في نظامنا الثقافي، تعد العلاقة بين الإنسان والكون والله -راعينا في هذا الترتيب التابع والمتبوع- من أهم الأسس. وتجري جميع فعالياتنا الذهنية والفكرية والعملية بالارتباط معها. إن المنطق الأوروبي الحديث –الذي هو ميراث المنطق اليوناني تماما– يهتم فقط بالإنسان وبالأشياء والحوادث. لذا فهو يهمل الحقيقة الإلهية إما كاملاً وإما يعدها موضوعا ثانويا. بينما نحن نرى أن الإنسان والكون معرض وكتاب، وأنه –مع الحوادث الجارية– ينطق بوجود واجب الوجود، ويشرح الذات الإلهية ويعرض أمام الأنظار بدائع آثاره. وهو لسان ينطق بجلاله وعظيم قدرته. وبدلا من النظرة العقلانية للفكر الغربي الحديث –الذي يعد امتداداً للفلسفة اليونانية– التي تنظر إلى الإلوهية وكأنها شيء معطل لا دور لها، فإن ثقافتنا قائمة على مشاهدة العلاقة بين الصنعة والصانع، وبين الأثر والمؤثر، وبين الخالق والمخلوق. ونحن في منظومتنا الفكرية نقوِّم الإنسان والكون، وننظر إليهما كواسطة وكوسيلة للوصول إلى أفق معرفة وعرفان معين، فنتجه إلى الخالق العظيم ونبحث عنه. إلا أن الآخرون يقف على النتائج العملية لفكرة الألوهية، ويربطون كل شيء بالحوادث والمادة. وبينما نتخذ نحن -إضافة إلى العقل العملي- الكتاب والسنة، وما ينحدر منها من مصادر مرجعاً أساساً، فيَعدّ هؤلاء العقل والأحاسيس المرجع الوحيد للعلم والمعرفة. وبذلك يقومون بتضييق دائرة العلم والمعرفة).([60])

245-246-247

العقل والوحي والتجربة

كما ذكرنا من قبل، فإن محمد فتح الله كولن يعترض على الفكر الغربي ومنهجه في التفكير، لكونه مفرطاً في النظرة الوضعية والعقلانية.([61]) وفي فترة من الفترات تم إبعاد الدين والميتافيزيقيا عن الحياة العلمية تماماً، نتيجة لنظرة البعد الأحادي للعلم.

والاعتراض الذي قدمه المفكرون المسلمون حول تاريخ الفكر والعلم في الغرب، كان على هذا الاتجاه الأيدولوجي الذي ينكر عنصر “الوحي” ويهمله. فمصادر العلم –حسب نظرة المفكرين المسلمين من السابق وحتى الآن– هي:

  1. الحواس السليمة (أي الأمور التي تدخل في نطاق الحواس)
  2. العقل
  3. الوحي: أ- الخبر المتواتر “القرآن”. بـ- الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

عد الفكر الغربي المصدرين الأول والثاني أساساً للعلم، وأهمل الوحي وعده خارج نطاق العلم. وأنتج هذا الموقف تيارين قويين في الفكر العلمي الغربي هما “الوضعية” (Positivism)، و”العقلانية” (Rationalism). بالنسبة للوضعية فقد اعتبرت المصدر الأول هو الأساس. بينما عدت “العقلانية” المصدر الثاني هو الأساس في العلم، وردت جميع التجارب البشرية. وقالت بأن أي شيء خارج نطاق الحواس والعقل لا يمكن أن يكون موضوعاً للتجارب ولا للعلم. وقد أثر هذان التياران الفكريان في جميع الساحات بدءً من العلم والفكر، إلى المجتمع والاقتصاد والتاريخ والكون تأثيراً كبيراً وجذرياً. ونحن لا نريد هنا الدخول إلى تفاصيل هذا الموضوع. ولكننا وددنا فقط التأكيد على أن المفكرين المسلمين يرون استحالة الوصول إلى علم صحيح إلا بالمصادر الثلاثة المذكورة أعلاه. ويوافق فتح الله كولن على هذا، ويؤكده أيضاً.([62]) ولكنه عندما يشرح هذه المصادر الثلاثة يقف أيضاً عند عناصر فرعية لها. إن وجود مصادر العلم لا يكفي لتحصيله ولا لترتيبه في منظومة معينة ولا في توسيعه وتطويره. ولا من انتشار حب العلم والشوق لتحصيله عند الجماهير لتطبيقه في الحياة العلمية.وإنما –عن طريق هذه المصارد- في نشره بين المجتمع وتحبيبه إليهم وتطبيقه وتنظيمه في الحياة اليومية. وبالتالي فسر تطور العلم في أوروبا هو في انتشار حب العلم بين طبقات الشعب. إذ لم يعد تحصيل العلم مقصوراً على جامعات الدول ومختبراتها، بل أصبح كل شخص يسعى إلى الوصول إلى هدف علمي معين في بيته ومنزله. وعندما يتناول فتح الله كولن موضوع الجامعات، يؤكد على أهمية مراكز البحوث العلمية وعلى ضرورة وجود أعداد كافية منها إلى جانب الجامعات. وفي حالة غياب هذه المراكز البحثية ستقوم 247-248 الجامعات بإنتاج أفكار نمطية. ومع الأسف فإن جامعاتنا أنتجت لمدة طويلة أفكاراً نمطية بدلا من العلم. وهذه الأفكار النمطية تقتل العلم والبحوث العلمية. لذا كان من الضروري أن يكون هدف الحصول على العلم والقيام بالبحث العلمي غاية كل شخص في المجتمع، فإن لم يتحقق هذا انتشرت الأنانية في المجتمع.([63])

عندما يسرد فتح الله كولن تصنيفه لمصادر العلم والمعرفة، يذكر بأن القيمة المعطاة “للوحي” في الفكر الإسلامي تفوق القيمة التي تعطيها الثقافات الأخرى له. إن هناك محاولات في الغرب تقوم بالاستعانة ببدائل إلى جانب العلم، حيث ظهر هناك مثقفون يرون الإستعانة بالسحر وحالات التسامي (Transcendental)([64]) واستدعاء الأرواح والتنويم المغناطيسي تخفيفاً للقلق النفسي المتنامي. ولكنهم يهملون عن عمد “الوحي السماوية” الذي جاء به الأنبياء. وكلما عبّر محمد فتح الله كولن عن مفهومه للعلم يشير إلى علاقة الوحي به؛ “إن تأمل الوجود والأحداث وقراءتها قراءة جيدة وتفسيرها تفسيراً صائباً، ثم المحافظة على التوازن بين الإنسان والكون وحقيقة الألوهية، من أهم جوانب العمق للأنبياء ومن أهم مميزاتهم. فقد تيسر للأنبياء وحدهم الشعور والإحساس بالوجود ككُل، والفهم التام لتجلي الأشياء (التي هي نماذج فيما بينها، لبعضها البعض) في صورتها العمومية، ولقوانين الوحدة ذات الصفة الكونية المحيطة بالموجودات.. وهذا أبهر معجزاتهم، لا سيما معجزة سيدنا روح سيد الأنام (عليه أكمل التحايا).

وإذ لا زالت البشرية تتهجى حروف الحقائق المتعلقة بالإنسان والكائنات وما وراء الطبيعة، مع توسعها العلمي وتقدمها التكنولوجي. فإن الأنبياء وقفوا مليا وبجد على هذه الحقائق منذ آلاف السنين، وقالوا بالتمام ما ينبغي أن يقال لأممهم في شأن الرجوع بالأشياء لصاحبها، فبعضهم أجملَ وبعضهم فصّل. وذلك بجَهازهم الخارق للعادة، ومكانتهم الخاصة عند الحق تعالى، والتبليغات المتوالية من “الماورائيات”.

ولم يبلغ الأنبياء هذه الحقائق بطرق البحث العلمية الشائعة في العصر الحالي، ولا بالمناهج التجريبية؛ بل بلغوا هذا العلم والمعرفة بسعة قلوبهم والمناسبة الخاصة بالله تعالى، إلى جانب كمال عقلهم وحسهم وشعورهم وإدراكهم كمالاً يتعدى حدود التصور الإنساني… فرأوا أن الوجود كله في تصرف قدرة قاهرة، وأطلّوا على وحدة العلم والإرادة المهيمنة في كل مكان وكل شيء، وقرأوا وفسروا الشهود والمعالم والإشارات المنادية بالواحد الأحد في سيماء كل الأشياء والأحداث… ثم أثبتوا أنهم دعاة التوحيد في المشاعر والفكر والاعتقاد. ومن العسير أشد العسر الادعاء بأن العلم قد أتى بشيء يذكر حتى الآن في العلائق بين حقيقة الإنسان والكائنات والألوهية؛ التي أخبر بها الأنبياء منذ مئات القرون. فالعلم لا يزال يحبو في كثير من المواضيع، ويصحح غداً ما يعده صواباً اليوم، ويسعى إلى تقويم الغلط المجزوم به بالخطأ المحتمل، بل يستجوب نفسه بنفسه باستمرار، ويُصلح مسلماته النسبية بالفرضيات المختلفة، ولا يستطيع أن يتجاوز حدود تحليل الجزئيات مهما حاول ذلك. فنستطيع القول بأن العلم حتى اليوم لم يضع حكما ثابتاً يستغني عن التبديل في هذه الموضوعات، ولم يفق في التعبير عن الحقيقة المطلقة البتة، وأن ما بلغه لا يزيد عن أنه زادٌ وذخيرة للمسافرين وقرضٌ حسن للباحثين.

وأنبه هنا أننا لا نقصد بما قلناه التهوين من شأن العلم ومحصلاته، أو تحقير المباحث العلمية. بل نعتقد العكس؛ إن العلم ومحصلاته منظومة موقرة ومرعية تستحق التقدير. فالمقصود هو التنبيه إلى مصدر للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، هو أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان والوجود والخلق، وأكملها وأوسعها إحاطة، مع تنزهه عن الخطأ فيما يقوله ويرشد إليه… ألا وهو مصدر النبوة التي احتفظت بنداوتها أبداً، باستثناء التحريف الحاصل في بعض الكتب السابقة”.([65])

249-250

ويعد فتح الله كولن الأخبار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، الموجودة في المصادر الإسلامية المعتبرة الكلاسيكية من الحقائق التي لا تتغير. وهو لا يبدي رأيه عن الصفة العلمية لما أتى به الرسل (صلوات الله عليهم). لأن نوع المعرفة التي يحتويها الوحي موضوع آخر ومختلف، وأوجه الشبه أو الخلاف بين ما أتى به العلم والتكنولوجيا، وما أتى به الوحي والفرق بين خواصهما محل نقاش آخر. ويقوم محمد فتح الله كولن بالإشارة –بدلا من هذا– إلى أن الحقائق التي جاء لها الوحي السماوي للإنسانية، لا تزال واقفة على قدميها على الرغم من مرور كل هذه العصور. “فكم حقيقةٍ رفيعة أظهرها العلم الحديث، قد بلغ بها الأنبياء منذ العدم في صور متنوعة، وإنْ في فذلكات مجملة، بنظر كلّي، واستناداً إلى اللدنيات الرحيبة المنفتحة للوحي، وإلى أعماق الفطانة المتميزة. فأينما وقعت البحوث المنجَزة بالمختبرات المعاصرة والتكنولوجيات المتقدمة من الحقائق التي أعلنوها، وحيثما وقفت منها، فإن ملايين البشر لا زالوا يقوّمون الأمور بموازين تبليغاتهم وتفسيراتهم، وينقادون إليهم بخطاهم. وبالمقابل، تتغير أحدث الفرضيات المطروحة باسم العلم والفلسفة كل يوم بنظريات جديدة مختلفة. ويعني هذا أن رجال العلم اليوم، يراجعون أفكار زملائهم في الأمس ويضعونها على المحك. وبدهي أن نظريات بدت ثابتة ومتينة تترك مواقعها إبان هذه المراجعة لآراء جديدة مختلفة، فتسقط مُسلّمات كانت تصان في حدقات العيون باسم العلم، متهاوية واحدة تلو الأخرى، لتحل محلها مسلمات أخرى تحط واحدة بعد أخرى!. أما الحقائق التي بلغها الأنبياء، فما فتئت تحتفظ بجدارتها -ما خلا تفسيرات خاطئة لمنتسبين ضيّقي الإدراك- باعتبارها أسساً ثابتة لم يفتر الرجوع إليها أبداً، وذلك لأنها تستند إلى تبليغات من ذات أجل الأجلاء وأعظم العظماء (سبحانه)، الذي ينظم الوجود كله كمعرض ويكتبه ككتاب ويزينه كقصر منيف.

لذلك، لا بد من الاعتماد على الأنبياء المجهزين بجَهاز خاص، والمرتبطين بروابط خاصة مع ذي القدرة المطلقة، في تلقي العلم بحق الإنسان والوجود والخالق والقول الفصل فيه، وحصر البيانات في ما وراء ستار الوجود، وما أمام ستار الوجود، وكنهه ومعناه، فيهم وحدهم.

وبدهي أن من أهم وظائف هؤلاء الذوات هو تعيين وتثبيت العلاقة بين الكائنات والأحداث، وبين حياة الإنسان وسلوكياته، وتوافقهما وانسجامهما. وكذلك، تعيين وتثبيت مسؤوليات الإنسان أمام الذات الأحدية ذي القوة، القيوم على هذا التوافق المنسجم. فإن البيان المعتمد والحق الوحيد هو في تصريح هؤلاء بشأن الوجود كله، وبشأن الإنسان خاصة: من أين جاء وإلى أين راح ويروح؟ ولم جاء وراح؟.

لذلك، لا مناص لنا من اللجوء إلى تبليغات رسل الحق تعالى وحدهم، لا غيرهم، لبيان أصح المعلومات وأصوبها في شؤون الغاية والحكمة من وجودنا في الأرض، وقواعد المسير التي ينبغي أن نلتزم بها في الطريق، ومنتهى هذا الطريق. فإذا استطعنا ذلك فسنفهم القصد والغاية من حركة الكائنات في دائرتها الوسيعة الرحيبة، وإدراك ما وراء ستار الوجود وما ينطوي عليه، واستيعاب الحركات المتعاقبة في الأرض والتي تحير العقول، ونصل إلى الاطمئنان والراحة والسلامة..([66])

(253-252-251)

3 – أسس الحوار والتسامح لدى محمد فتح الله كولن:

أ- أساس النظرة إلى الإسلام عند الأتراك (Islamic-Turkish Synthesis)

أهم القيم التي تركت بصماتها على القرن العشرين هي: الحداثة، والتعددية والفرد والدين. فما دامت الحداثة تدعي اهتمامها بكل الجوانب الفردية والاجتماعية للإنسان، كان من الطبيعي ظهور الأشكال المختلفة للتعددية الدينية والثقافية والسياسية. ومع أن هناك تعاريف متعددة للحداثة، إلا أنها أنتجت أيدولوجيتين فرعيتين هما: التقدم والعولمة. وقد فضل العديد من المنظّرين تعريف الحداثة من زاوية زيادة سيطرة الإنسان على البيئة وزيادة معرفته بها. وقد أدت العلاقة الموجودة بين المعرفة والقوة، إلى إعطاء الدول العظمى إمكانية تأسيس أنواع من السيادة على البلدان الأخرى حتى البعيدة عنها. وقد أفرزت الامبريالية في العصر الحديث نتائج أوسع وأشمل. ومع أن العولمة لم تنطلق من فلسفة معينة، إلا أنها حُمّلت وظيفة أيدولوجية.

وبسبب هذا الجانب الأيدولوجي، فقد عبر بعضهم بأن العولمة ليست إلا امبريالية قامت فقط بتبديل اسمها. وسواء أكانت العولمة أيدولوجية أم لم تكن، فإنها كانت عاملاً في تغييرات جذرية في جميع الساحات بدءً من الاقتصاد إلى علم الاجتماع، ومن الاتصالات إلى السياسة والقوانين، ومن التاريخ والجغرافية إلى إدارة الدولة. وعلاوة على قيام العلاقات الاقتصادية وثورة الاتصالات بتحويل العالم إلى سوق كبيرة، ولكن حول العالم بالوقت نفسه إلى قرية صغيرة. إلا أن العولمة ليست عبارة عن حادثة اقتصادية، بل أصبحت مفهوماً له أبعاد سياسية وأيدولوجية وثقافية. صحيح أنها قامت بنشر الغنى والتكنولوجيا والديمقراطية والتعددية وزادت من الإنتاج والاستهلاك، إلا أنها ساعدت أيضاً على نشر مختلف القذارات الإنسانية والاجتماعية والسياسية. لقد تعولم الفقر وتلوثت البيئة وانتشرت الأسلحة المدمرة وظهر الإرهاب والعنف. وفي ظل عولمة المعرفة والقوة والتكنولوجيا بدأت نظريات الصراع بين الثقافات والحضارات بالظهور في الساحة. وسواء أكان هذا من مشاكل الحداثة أم من مشاكل العولمة فالنتيجة واحدة. وهي أن مفاهيم كثيرة بدأت معروضة أمامنا للنقاش. فقد قامت الحداثة بتقديم تعاريف جديدة لمفاهيم عديدة في مواضيع الديمقراطية والتعددية. مثل حرية الفكر والعقيدة في الإنسان الفرد، والتسامح في المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي.. الصراع أو التفاهم.. الحوار أو النزاع.

لا شك أن العالم اليوم بحاجة ماسة وآنية إلى الحوار بين الثقافات والحضارات أكثر من أي وقت مضى. لأن العلوم وتكنولوجيا السلاح بلغ من التقدم مبلغاً يهدد مستقبل المجتمعات الموجودة على سطح الأرض. ولا ينبع هذا التهديد فقط من وجود أسلحة الدمار الشامل ومن العلاقات (254-253) بين قوى الحكم. بل إن ظاهرة الحداثة والعولمة تهدد التعددية الثقافية والدينية والاجتماعية والفروقات بينها. وبدأت ردود الفعل ضد العولمة تزداد في مختلف أرجاء الدنيا. ولا تعد ردود الفعل هذه شكلاً من أشكال المقاومة للحداثة. بل لأن العولمة بدت وكأنها تهدد وبمقياس واسع الهويات الدينية والملية والتاريخية والثقافات الاجتماعية للأمم. وهذا ينذر بقدوم نزاعات وصراعات جديدة.

لقد تأثرت تركيا بهذه العولمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فالفرد والتعددية والدين يشكل أساس الديمقراطية في تركيا. فالصراعات الأيدولوجية التي عاشتها تركيا لعشرات السنوات قبل ثمانينات القرن الماضي، أضعفت التوجه فيها نحو التعددية. لأن التفرق بين معسكرات مختلفة هيأ أرضية ملائمة للنزاع والصراع. إذ ذهبت ثلاثة أجيال قبل الانقلاب العسكري في 1980 ضحية الصراعات الأيدولوجية. فهذه الأجيال لم تستطع مع الأسف جعل التعددية مصدراً للغنى والتفاهم. ومع بقاء بعض الآثار الأيدولوجية حالياً، فإن الأجيال الحالية تبحث في مستوى معين عن طرق لتحويل هذه الصراعات إلى نوع من التفاهم والحوار. وتعمل على توسيع وترسيخ أشكال التعددية على أساس من التفاهم في مستوى الإنسان والفرد. قد يكون هذا مخاضاً مؤلماً، ولكن يجب مواجهة هذا الألم وتحمله بإصرار.

وكما يقول “ك. جالشكان” (K.Çalışkan): “الاهتمام بالإنسان والفرد والتسامح والتفاهم.. هو اللب والجوهر الذي نتج من التقاء الثقافة التركية بالدين الإسلامي والتفاعل معه”.([67])

لقد قام المسلمون الأتراك بإنشاء الحداثة من جديد على أساس من جذورهم التصوفية.. من جذورهم التصوفية المتجلية في “جلال الدين الرومي”، و”يونس أمره”، و”حاج بكتاش ولي”. وأنا لا أستعمل مصطلح الحداثة هنا بمعناها الأيدولوجي، أي بمعنى “التغرُّب” والمعاصرة، إنما بمعنى الآليات الحديثة التي نستعملها لتجاوز مشاكلنا السياسية والاجتماعية والثقافية. من المفهوم الأول للحداثة كان يتداعى الميل نحو الصراع والنزاع من زوايا عديدة. بينما لا يوجد هنا أي ميل من هذا النوع. إن خلفية النزاع في تركيا هي صدى للنزاعات الأيدولوجية العالمية بين الأمم، غير أن تركيا تملك ثقافة حوار وتفاهم خاص بها، وفي أساس هذه الثقافة يوجد عنصر الإنسان. فهناك في أساس مفهوم الإسلام –عند المسلم التركي– يوجد الإنسان والمسامحة المستندة إلى التصوف. فهذه المفاهيم ظهرت من جديد في القرن الواحد والعشرين. لذا فالأتراك المسلمون مضطرون إلى الرجوع إلى جذورهم التصوفية في مسألة الحداثة. حيث يوجد “أحمد يسوي”، و”جلال الدين الرومي”، و”حاج بكتاش” في هذه الجذور. وفي هذه الفلسفة التصوفية يأخذ العنصر الإنساني الموقع الأول.

(255-254)

“مهما كان نوع الإدارة في مجتمع –علماً بأن الديمقراطية هي شكل الإدارة المفضلة حالياً– فإن المهم هو الإنسان. ولكي يكون هذا الإنسان إنساناً جيداً يجب أن يكون ذا خلق كامل متحلياً بالفضيلة. وهناك فلاسفة كالفارابي كتبوا على الدوام عن “المدينة الفاضلة”. أي قاموا بوضع المدينة في المقام الأول. بينما كان من المفروض أن يوضع الإنسان في المقدمة. ثم تأتي بعده المدينة والمدنية والمملكة والبلد..الخ. والإنسان الفاضل مهم جداً للديمقراطية أيضاً. وستصل الديمقراطية على يد الأفراد الفاضلين المتربين بالتربية الإسلامية إلى مستوى الكمال”.([68])

لقد طبق المسلمون الأتراك، المسامحة والتفاهم –اللذين هما لب الديمقراطية– في مساحة واسعة طوال عدة عصور. وقد تم تفسير الإسلام بهذه الروح المتسامحة منذ ألف عام في هذه المنطقة. ولولا هذا، لما استطاع العثمانيون البقاء كل هذه المدة الطويلة في رقعة واسعة تمتد من “فيينا” إلى الصين –باستثناء إيران– ومن أمام موسكو إلى أواسط إفريقيا. فقد تصرفوا بكل لين وتسامح تجاه جميع المذاهب والأديان واللغات الموجودة في هذه الرقعة الواسعة، وتجاه جميع أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية فيها. وقبل العثمانيين تصرف السلاجقة والإلخانيون و”القره خانيون” على نفس الشاكلة. ولكن لم تكن الامبراطورية الأموية والعباسية والإيرانية هكذا. لقد شغّل الأتراك آليات فكرية كالتجديد والاجتهاد في المواضيع التي تقبل التفسير والتأويل ضمن ارتباطهم بأسس الإسلام.

وقد وفقوا في الوصول إلى تفسير الوجه العالمي للإسلام حسب المتغيرات الزمانية والمكانية والظرفية. لقد دام هذا الأمر فوق هذا التراب منذ ألف عام تقريباً. لذا يمكن أن نطلق على هذه الظاهرة مصطلح “مفهوم الأتراك للإسلام”. أما إذا تناولنا الإسلام من ناحية أسسه، عندها لا يكون هناك إسلام تركي أو عربي أو فارسي.

لقد قام الأتراك –الذين بسطوا حكمهم في بلدان عديدة وعلى مساحات واسعة من الأرض ولقرون عديدة- بتطوير مفاهيم قريبة من المفاهيم العالمية في الساحات الاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية وبسن القوانين حولها. وكان للتصوف التركي تأثير كبير في هذه النظرة القائمة على المسامحة والتفاهم التي سادت في هذه البلدان. لقد أثر التصوف على المسلمين الأتراك من الناحية الاجتماعية بشكل أعمق من تأثيره على المسلمين الآخرين. لقد نفذت إلى خميرة هذه الأمة من وقت مبكر. إن التسامح والحوار يشكلان البعد الثقافي للإسلام. وبتعبير آخر فإننا عندما نتحدث عن التسامح والحوار، ندخل داخل إطار الثقافة الإسلامية. وأوضح تعبير عن الثقافة الإسلامية في هذا البلد، هو التصوف والطرق الصوفية والجماعات والفن الإسلامي.

والحقيقة أن التصوف هو الأسم المعطى للعلم الذي يبحث في الجانب الروحي والمعنوي للإسلام. وليس من المهم استعمال هذا المفهوم (أي مصطلح التصوف)، إذ يمكن عدم استعماله. ولكن المهم(257-256) هو العيش في ظل من الزهد والتقوى والإحسان والمعرفة الإلهية وغيرها من أعمال القلب. وكلها أمور لا يمكن فصلها عن الإسلام. وقد ظهرت الطرق الصوفية بعد أربعة أو خمسة عصور من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. ولعبت هذه الطرق الصوفية دوراً إيجابياً في التاريخ، من الناحية الاجتماعية ومن ناحية التربية الفردية. ولكن هل تستطيع هذه الطرق مسايرة هذا العصر؟ هذا أمر يحتمل النقاش. ولكن ما من مسلم يستطيع الاستغناء عن التصوف الذي يشكل لب وجوهر الدين، ويغذي الإيمان، ويوصل الإنسان إلى مراتب الكمال. فكل مسلم ينظم حياته بشكل يوصله إلى رضا الله ويحاول العيش حسب أوامره.

الفقرتان الأخيرتان تعكسان فكر محمد فتح الله كولن. فحسب رأيه، فإن الإنسان الفاضل في التصوف هو الإنسان المتسامح اللين الجانب. وهو الإنسان المضحي والمخلص في سبيل المجتمع والإنسانية. ففي أساس الحضارة الإنسانية والإجتماعية التي نشأت على هذه التربة يوجد هذا الأنموذج الإنساني. وقد أرسى الدراويش والمتصوف الأوائل، أسسها وقواعدها. ويحاول فتح الله كولن هنا تجديد هوية المسلم المعاصر، وإرساءها على القواعد الثقافية للإسلام وتعريف هذه الهوية من جديد. وعندما يقوم بهذا، فهو يقفو أثر الثقافة الإسلامية التي نهجت نهج المسامحة والحوار. لذا فلا يرى أي شرعية في استعمال أي نوع من أنواع العنف في هذا الصدد، وهذا الأسلوب يقدم أنموذجاً إسلاميا متوافقاً مع القواعد الإسلامية من جهة ومع قيم العالم الحديث من جهة أخرى.

هنا نستطيع مشاهدة كلا من الأسلوب الداخلي لحركة محمد فتح الله كولن، والعوامل المختلفة الثابتة لرؤيته الإسلامية والاجتماعية عند توجهه نحو الأديان والثقافات والحضارات المختلفة وخطابها لها. وسواء أنظرنا إلى هذا من زاوية مشكلة الحداثة في تركيا، أو بشكل أوسع من زاوية الحوار بين الحضارات. فإن طراز حركة محمد فتح الله كولن وأسلوبها، يعد مساهمة جدية في صدد تجاوز المشاكل المعاصرة. وقد تُثار تساؤلات كثيرة لكونه يحمل هوية دينية. لذا قد يُتوهم أن برنامجه أيضاً يحمل هوية دينية واضحة. وهذا ناشيء من نظرية أحادية البُعد. فلو كانت نية محمد فتح الله كولن متجهة لوضع برنامج متوجه للآخرة فقط، لما كانت هناك أي حاجة لإنشاء المعاهد العصرية التي تدرس فيها مختلف العلوم. لأن الهوية الدينية الصرفة التي صرفت أنظارها عن القيم العصرية، لن ترى مجالها وبرنامجها في المعاهد بل في التكايا والزوايا. بينما نرى أن فتح الله كولن لم يكتف بفتح المؤسسات التعليمية والمعاهد، بل نراه يتحدث عن أهم مشروع اجتماعي وثقافي للمجتمعات الإنسانية المعاصرة، وهو إنشاء حوار بين الحضارات. وهذا مشروع كبير جداً، لأنه يتوجه إلى تعريف جديد ونظرة جديدة لجميع المفاهيم الفكرية والفلسفية والسياسية والدينية، التي تركت بصماتها في القرن الواحد والعشرين. ولو اكتفى محمد فتح الله كولن بالتأكيد على الهوية الإسلامية الفقهية فقط، لما كانت هناك حاجة لمثل هذا المشروع الكبير الشامل. وأهمية هذا الأمر تأتي من كونه يجدد ناحية الهوية الإسلامية ويعرِّفها من جديد. ويجدد الحركة الإسلامية ويعطيها مفهوماً جديداً. فهو يجدد الهوية الإسلامية الاجتماعية والثقافية على أسس التصوف التركي الإسلامي، ويخرج بها خارج حدود جغرافية البلدان الإسلامية. أي أن الإسلام كدين وكثقافة وحضارة، بدأ يخرج بحركة محمد فتح الله كولن خارج الحدود التي عاش فيها منذ عصور.

(259-258-257)

بـ– الإنسان في قاعدة الدين والحركة

عندما نبحث أسس الحوار والتسامح في حركة محمد فتح الله كولن، نرى أن الآليات التي جعلت من هذه الحركة حركة خاصة جداً تكمن في النظرة الجديدة للإنسان. بل إن هذه النظرة غير محصورة في مجال الحوار والتسامح، بل هي نظرة عالمية أوسع في فهم الإسلام وعيشه. ويعرِّف العديد من المحللين وعلماء الاجتماع من أمثال “E. Özdağ”، و”T. Akyol”، و”N.Göle”، (بالاستفادة من عالم الاجتماع “ويبر” (Weber)) طراز حركة فتح الله كولن، بأنه نوع جديد وإيجابي من حركة التقوية (Pietism).([69]) أما التحاليل المحلية فتفضل –بدلاً من الاستناد إلى التحاليل الاجتماعية الغربية– الإشارة إلى أن هذه الحركة، تستمد روحها من خميرة الروح التركية-الإسلامية التي أسسها المتصوفة من أمثال أحمد يَسَوي، ومولانا جلال الدين الرومي، و”حاجي بكتاش ولي”، والشاعر المتصوف “يونس أمره”. أي بينما تقوم الطائفة الأولى من المحللين بوضع تحاليلهم على التفاعل الإسلامي الغربي، أي يؤسسون تحليلهم ضمن إطار عالمي واسع، تقوم الطائفة الثانية بتحليل ذي صبغة محلية. ولكن كلتا الطائفتين تشيران إلى الأساس الصوفي لحركة محمد فتح الله كولن.

وفي الحقيقة أننا إن نظرنا إلى النبع الذي يمد فكر فتح الله كولن ونشاطاته وفعالياته، نرى أنه إلى جانب تمسكه بالنصوص الإسلامية العامة وأصولها، يقوم بالرجوع -في الساحات القابلة للاجتهاد– إلى إنشاء روح التصوف التركي المتسم باللين والتسامح من جديد.([70]) إلا أن النظرة التي طورها محمد فتح الله كولن أكثر شمولاً وسعة وأكثر حركة وفعالية. فقد دعا “يونس أمره” وجلال الدين الرومي و”حاجي بكتاش ولي” الناس إلى التكايا ودور العبادة والزوايا. أي كانت حركة “تقوية” منكفئة إلى الداخل. لقد كان التسامح واللين والحوار عندهم محصوراً في إطار دور العبادة وبيئتها الاجتماعية. بينما قام محمد فتح الله كولن بتوسيع هذا الإطار وفتحه أمام جميع مجتمعات الدنيا. أي أن مهمته تحتوي على حركة تحويلية وتغييرية، إلى درجة أنه يعد طراز هذه الحركة “وراثة للأرض”، بل يعده أهم مبدأ يوضح سبب وعلة العالمية على أساس من النيات الحسنة وتنظيم التعارف معها، ومن جانب آخر، يرمي إلى تحويل الإنسان المعاصر الذي انغمر في الأنانية، إلى إنسان ينذر نفسه لخدمة الإنسانية. ومثل هذا المشروع، أي النداء الموجه إلى جميع المجتمعات في العالم، لا يمكن أن يثمر شيئاً دون القيام بتنظيم الفكر الحركي والملكات والقابليات الإنسانية ضمن تنظيم معين. ومحمد فتح الله كولن على وعي كامل بهذا الأمر، فقد أشار إلى هذا منذ بداية سنوات نشاطه في خطبه ومواعظه ومقالاته. لذا نرى أنه في جميع مقالاته تقريباً لا بد وأن يعرج(260-259) على موضوع “إنسان الفكر والحركة”. فالفكر عنده على الدوام مع الحركة. وفي غياب هذا الاندماج لن يكون لأي فكر أي تأثير لا على صاحبه ولا على الجماهير التي يتوجه إليها. ومن الضروري كذلك وحدة الفكر والحركة مع فعالية تغيير النفس والآخرين. فهذا هو الموجود في أساس الحوار بين الأديان والحضارات وبشكل أعم وأشمل، في أساس حركة فتح الله كولن حول “الوارثين للأرض”. بل يرى أن هذا يشكل أهم هدف لوجود الإنسان على سطح هذه الأرض.

ونحن نرى في كل مقال له، أنه يتناول مفهوم “الحركة وإنسان الفكر”. أي نراه دائماً أنه يربط الحركة (عمل) بالفكر.([71])

وسأعرض هنا مقالتين حول أفكار فتح الله كولن، ونظرته إلى الفكر والحركة ووراثة الأرض. وهدفي من اختيار هاتين المقالتين، أنه جعل عنوانهما “الفكر والحركة”. والحقيقة أن مقالاته الأخرى التي لا تحمل هذا العنوان متأثرة أيضاً بهذه المفاهيم.([72]) والآن لأنقل بعض الجمل القصيرة منهما:

“من الممكن تلخيص وراثة الأرض التي نناضل في سبيلها بكلمتين هما: الحركة والفكر.. وفكر وحركة لهما قابلية على تغيير صاحبها وعلى تغيير الآخرين.. إن بقاء الوجود واستمراره هو بفضل الحركة والنظام..

إن أهم شيء في حياتنا، وأكثرها ضرورة هي الحركة والنشاط والفعالية..

نحن مضطرون إلى حركة دائمة وإلى فكر مستمر لمواجهة بعض المشاكل والتغلب عليها. فهذا قدرنا..

إن لم نتحرك بإرادتنا فسنضطر إلى الدخول تحت تأثير أمواج فعاليات وحركات الآخرين ودوّامة أفكارهم وخططهم..

إن بقينا دون حركة، ولم نتدخل فيما يجري حولنا نكون مثل قطعة من الجليد الساقط في الماء.. أي ندع أنفسنا للذوبان بأنفسنا..

من شرط الوجود، وجود الإنسان بجوهره وبكيانه في توتر وحركة..

علينا أن نجري في مجارينا نحن، أي نتصل من جهة بالوجود كله ونتحد معه، ونحافظ من جهة أخرى على خطنا. وهذا من أبرز جوانب الفكر والحركة الإسلامية..

إن عالم رجل الفكر والحركة الحقيقي عالم شامل وغني بالألوان وعالم ذو أبعاد أبدية.. أي عالم أخروي..)

وبتعبير أفضل وأنفس فإن الحركة هي قيام الإنسان بنية صادقة باحتضان الوجود وبتحليله والتوجه بمساراته إلى اللانهاية.

أما الفكر فهو حركة داخلية (262-261-260) وبتعبير آخر فإن الفكر هو قيام الإنسان بالإنسياب إلى داخله بتهيئة مواضع هناك للتجارب الميتافيزيقية (الروحية). فهذا هو الدرجة الأولى لسلم الفكر. أما السلم الأخير فهو الفكر الحركي.

إن الديناميكية الرئيسية لحياتنا الفكرية والحركية هي حياتنا الروحية. ولا يمكن فصل هذه الحياة الروحية عن فكرنا الديني. وقد حققت هذه الأمة نضالها في سبيل البقاء بالالتجاء إلى الروح والمعاني الإسلامية.

أجل، في العالم الداخلي لهذه الأمة تتمازج حياة القلب والروح وكما تتحقق هذه الحياة بالعبادة والذكر والفكر، فإن احتضانها للوجود ككل وسماعها لفظ الجلالة (الله) في كل نبضة من نبضات قلبها وإحساسها به، في كل ذرة من دماغها متعلق أيضاً بالجهد المبذول في العبادة والذكر. علماً بأن كل تصرف من تصرفات ألمؤمن يُعد عبادة، وكل فكر مراقبة، وكل كلام مناجاة ومعرفة عميقة، وكل منظر وتأمل فرصة للتدقيق والفضول والبحث. أما علاقاته مع مواطنيه فتغلفها الرحمة والشفقة. إن الإرتقاء بالروح بهذه المقاييس والانتقال من الحدس إلى المنطق والفكر، ومن المنطق والفكر إلى الإلهام.. كل هذا مرتبط بمدى الاستعداد والانفتاح لتلقي الواردات الإلهية. وبتعبير آخر فإنه إن لم تمر التجربة من تحت عدسة العقل ومصفاته، وما لم يسلم العقل نفسه للفطنة الكبرى.

وكما تبين أعلاه فإن محمد فتح الله كولن يرسل رسائل للخارج وللداخل أيضاً، وهو يرسم مشهداً واسعاً يحوي الفكر والحركة، وحب الإنسان، والعشق الإلهي، والمسامحة الإنسانية، والعقل التجريبي، والإلهام، والوحي، والعبادة، والذكر، والعمق الروحي والمعنوي، والحركة التي تمتد إلى جميع المجتمعات في العالم. لذا فهو يقترح فكراً مفتوحاً وحركة دائبة تمتد دون حدود في موضوع الحوار بين الأديان والحضارات. وهو يقدم هذا كأساس لفكرته عن وراثة الأرض. ولهذا السبب فإن نظرته إلى المسامحة وإلى الحوار تمتد إلى مناطق جغرافية أوسع، وإلى آفاق أبعد من خط جلال الدين الرومي وحاجي بكتاش ولي.

ويمكن عد هذا “تقوية” مفتوحة الأبواب في الوقت نفسه. فالدين وحب الإنسان والعشق الإلهي هنا لا ينحصر في عالم تجربته الروحية المعنوية، فهو يقدم هذا الفكر والروح والعشق ضمن مشروع حيوي وحركي إلى جميع مجتمعات العالم. والإنسان في هذا المشروع يجب أن يكون في حركة دائبة في الفكر والإيمان والروح والنشاط.

يشير محمد فتح الله كولن في هذه الفقرات إلى الجذور وإلى الهوية الإسلامية، ويقيمها على أساس من العمق التصوفي الإسلامي. وهذه دعوة كبيرة. لأنها تدعو الإنسانية –التي انغمرت في الشؤون الدنيوية والمادية– إلى العودة إلى الأسس الإنسانية والروحية. ولا شك أن الإنسانية في حاجة ماسة لهذه الدعوة. وليس فتح الله كولن هو الوحيد الذي شعر بهذه الحاجة. ولكن الذي جعل (263-262) دعوته هذه متميزة ولافتة للأنظار، هو أنه قلب هذه الدعوة إلى حركة نشطة من الحوار والتسامح. وهذه محاولة جريئة. لأنها تستوجب ثقة كبيرة بالنفس وقدرة على البرهنة على فكره ضمن مفاهيم حضارية متعددة للبلدان المختلفة. ولا شك أن فتح الله كولن لا يسعى في سبيل إثبات دعوة شخصية. وكما قلنا مراراً إنه مسلم صادق ومخلص. وهو لكونه يحمل حباً للإنسانية وعشقاً إلهياً وحياة روحية ومعنوية عميقة بعيد عن أي ادعاء، فهو مسلم اعتيادي. والقلق الذي يحمله حول مجتمعه من الناحية الإنسانية والخلقية والقيم المعنوية، هو القلق نفسه الذي يحمله حول المجتمعات العالمية الأخرى. غير أن هذا القلق قلق إيجابي تجاه عالم غرق في المادة وحصر نظره في الشؤون الدنيوية فحسب، وجفت عنده ينابيع حب الإنسانية.. قلق يحاول تغيير هذا الوضع وتفعيل وتنشيط العوامل الإنسانية والاجتماعية عنده. وعلى حركة الحوار التي تقدمت لحمل هذا العبء الكبير أن تبرهن على نفسها. وهو أمر لا يتحقق إلا بمشاركة الأطراف الأخرى من أصحاب الثقافات المختلفة وتجاوبها مع هذه الحركة في كل خطوة من خطوات الحوار. وحركة الحوار هذه، مستمرة كحركة مدنية تحملها أطراف عديدة من مختلف الأديان والثقافات، ويحملها مثقفون يملكون أسساً فكرية وفلسفية مختلفة ومفكرون وعلماء وزعماء من مذاهب وقناعات مختلفة، وينتمون إلى مجتمعات مختلفة. وقد بدأت موجات هذه الحركة تتسع يوماً بعد يوم ويزداد تأثيرها. ولا شك أن هذه المحاولة لا تحمل أي صبغة سياسية مباشرة. ولكنها تستطيع في المدى البعيد التأثير إيجابياً على مستقبل المجتمعات. لأنها حركة حوار جدية ذات مستوى رفيع وقد استقطبت الاهتمام والتجاوب لكونها حركة مدنية. وربما استطاعت هذه الحركة في المستقبل القريب، نقل صوتها الذي يدعو الإنسان إلى الرجوع إلى جذوره الروحية والمعنوية العميقة الموجودة في خميرة الكون، وإلى الحب والعشق الإلهي ونقل صوته إلى قطاعات أوسع وإحداث تأثيرات أقوى فيها.

لقد وضع فتح الله كولن مثالاً ذا إطار واسع. يحتمل أن بعض الأوساط لا ترى نفسها ولا تفكيرها ضمن هذا الإطار على الرغم من سعته. لذا يوجد لديها بعض القلق النابع من أيدولوجيتها، أو لها تصورات أخرى. ولكن لو تطلعنا إلى الصورة التي يرسمها لنا فتح الله كولن وإلى الأفق الذي يشير إليه من زاوية القلق الإنساني والكوني، لشاهدنا أنها تستطيع احتضان جميع المراحل الإنسانية والاجتماعية. لأنه وضع جميع أنواع هذا القلق الأيدولوجي جانباً، وتناول الإنسان الذي هو العنصر الذي تتناوله جميع الأيدولوجيات ووضع له أنموذجاً. والإنسان في هذا الأنموذج هو المخلوق الذي خلقه تعالى ليكون وارثاً في الأرض، وهو الإنسان الطاهر الذي امتلأ بحب الله وبحب الناس إلى درجة أنه مستعد للتضحية بجميع رغباته الشخصية في سبيله. فأنت تستطيع وضع مثل هذا الإنسان بكل اطمئنان في أي موقع وعلى رأس أي علاقة في المجتمع، كمرشد أو كزعيم وقائد. ويمكن تكوين جميع أنواع نماذج المجتمع منه. فالطبيعة الروحية والفكرية والاجتماعية لمثل هذا الإنسان تجعله يتصرف في كل أمر من الأمور وفي كل مكان تصرفاً إيجابياً. وقد اتخذ كل من وهب قلبه لفكر فتح الله كولن شعار (264-263) مثل هذا التصرف الإيجابي. لذا فهم يلقون كل الترحاب في جميع البلدان المختلفة جغرافياً وأيدولوجياً وسياسياً ودينياً وفي جميع المستويات الاجتماعية والثقافية.([73]) وفي كل مكان وبلد ذهبوا إليه بهدف التربية والتعليم، نشروا فيه حركة الحوار والتسامح.

صحيح أن فتح الله كولن يملك هوية دينية، ولكن لم يستغرب أحد في هذه البلدان وفي الأوساط الاجتماعية والثقافية المختلفة تدينه هذا. لأنه كان يقدم أنموذجاً واضحاً، وكان يؤكد على قيم مشتركة يستطيع كل مجتمع إنساني قبولها بكل رضا من الناحية الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية.([74]) فهو جلال الدين الرومي لهذا العصر. إن العديد من المجتمعات في الدنيا عرفت كتب جلال الدين الرومي وقرأتها. ووجد كل شخص في الخط التصوفي للرومي شيئاً أو أشياء تخاطبه وتعود له. وفتح الله كولن هو جلال الدين الرومي في هذا العصر بهذا المعنى. فمن ثم نرى أن اهتمام مجتمعات الدنيا في ازدياد تجاه حركة الحوار والتسامح التي تمثل روح دعوة الرومي.

264-265

وقف الكتاب والصحفيين، ومنبر “أبنت”:

الدعوة التي أطلقتها حركة محمد فتح الله كولن حول وجوب الحوار وقبول الآخر، وُجهت في بادئ الأمر إلى الزمر الثقافية والقومية والدينية المختلفة. كانت هذه الزمر ذات العناصر الثقافية المختلفة تبدو ظاهرياً –ربما بسبب الجو السياسي الذي كان يوجب هذا- وكأنها في تلائم وسلام مع محيطها. وقد مرت في التاريخ القريب بتجربة مريرة عندما ظهر الاستقطاب والاختلاف الأيدولوجي، وعند ظهور مختلف المعسكرات الأيدولوجية. وعندما انطلقت دعوة فتح الله كولن للحوار قضت على الصمت القلق العميق، وأدت إلى ظهور حركة حوار واسعة تستند إلى الاحترام المتقابل وإلى حرية التعبير عن النفس. وسرعان ما تجسدت هذه الدعوة إلى مؤسسة تتبناها تحت اسم “وقف الكتاب الصحفيين” وبرعاية من هذه المؤسسة تشكل منبر ثقافي باسم “منبر أبنت”. جمع هذا المنبر المئات من المفكرين والعلماء وأرباب السياسة والفن في البلد من المنتسبين إلى مختلف المدارس الثقافية وإلى مختلف الأديان والأعراق والأيدوليوجيات. اجتمع هؤلاء ليبحثوا عن إمكانية تشكيل أرضية مشتركة للعيش والتفاهم في جو من الاحترام المتبادل. وبدأوا بوضع العديد من مشاكل البلد والعديد من مسائلها كالديمقراطية وحرية العقيدة والفكر، ونماذج الدولة الوطنية الحديثة، والتعددية السياسية والثقافية..الخ، على طاولة البحث والتدقيق والتشريح. في البداية ارتفعت بعض الأصوات القلقة، وكان هناك جو من عدم الثقة. ثم بدأوا بعد ذلك بالتأكيد على نقاط مشتركة. والحقيقة أن هذا المنبر بدأ يعطي الثقة بأنه في الإمكان أن يتوصل الناس –مع اختلاف أفكارهم وأمزجتهم- وفي جميع الظروف إلى أسس يمكن الاتفاق عليها. كان هذا المنبر في البداية تجربة للمواجهة مع الآخر، ثم تحول بالتدريج إلى قاعدة مشتركة للحوار والتفاهم وقبول الآخر.

بدأ “منبر أبنت” بعد ذلك بتناول موضوع الحوار في إطار أوسع.. في إطار الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات. توسعت المواضيع وتوسع المشاركون فيه، وأصبح المنبر عالميا يشترك فيه أشخاص من مختلف البلدان والأمم. وكان توقيت انقلاب هذا المنبر إلى منبر عالمي في الوقت الذي ظهر في عالم الفكر والسياسة موضوع “صراع الحضارات ونهاية التاريخ” ملفتاً للنظر. فقد زاد هذا من أهمية “منبر أبنت” الذي يقود مشروع “التفاهم والحوار بين الحضارات” بعد اللقاء التاريخي لفتح الله كولن مع البابا السابق تصدر مشروع الحوار الساحة الدولية.

فهذا اللقاء الذي تم لأول مرة بعد عدة عصور في جو بسيط ودافئ ودون ضجة بين شخصيتين دينيتين مختلفتين كان ميلاداً للقاء وجهاً لوجه. لم يكن فتح الله كولن طبعاً ممثلا رسمياً لا للعالم الإسلامي ولا لتركيا. إلا أن الجو الذي صنعه والتأثير الذي أجراه في العالم الكاثوليكي أضفى على هذا اللقاء طابعاً تاريخياً عند العديد من الأوساط.

إن الحركة العالمية للتفاهم والحوار وقبول الآخر التي بدأ بها محمد فتح الله كولن بصفته مسلماً اعتيادياً مؤشر على مدى فعالية التصوف الإسلامي–التركي من الناحية الإنسانية. والحقيقة أنه كان لفتح الله كولن نصيب كبير في توسيع الهوية الإسلامية والأسس الصوفية على الرغم من قيامه –بسبب تواضعه الجم وزهده وتصوفه- بإنكار أي دور له. لقد كان لطراز حياته الروحية العميقة وزهده، تأثير وصدى حتى في العالم الكاثوليكي. فقد اعترف العديد من رجال الدين الكاثوليك وعلمائهم بأنه كان لعلم محمد فتح الله كولن ولطراز حياته الصوفية دور كبير في تجديد أنفسهم.

 

(267-266)

الحوار والتسامح والحداثة

ليست حركة الحوار والتسامح رد فعل للحداثة. فهي لا تتصرف بهاجس ردود الفعل غير أنه مما لا شك فيه أن الحداثة قد قللت من قدر الإنسان ومكانته ولوثت روحه وقلبه. فقد زرقت الحداثة الأنانية في عروق الإنسان. ونفخت فيه حبه لذاته ومصالحه ومنافعه الشخصية. وقطعت علاقاته مع كل شيء مقدس ومع وراثة الأرض ومع الخلق الإنساني الرفيع ومع الحب والمحبة والتضحية. أي حولت الحداثة الفرد إلى إنسان ضئيل صغير يدور في فلك أنانيته ومصالحه الشخصية. أجل، إن الفرد الذي يعيش في دائرة أنانيته فقط إنسان ضئيل وصغير وقزم. وما جاءت جميع الأديان إلا لإنقاذ مثل هذا الإنسان. وقد وجهت الحداثة أكبر طعنة إلى الإنسان وإلى موقعه في الكون عندما جعلته أسير غريزته الأنانية ومنافعه الشخصية، وقد وجدت دعوة محمد فتح الله كولن حياتها في هذا الموضع الذي سقطت فيها راية الإنسانية واحتضرت.

“…إن من يقطع عالمه الشخصي مع عالم الوجود، ويصم أذنيه عن علاقاته مع الكون، والذي يرتبط فقط برغباته الشخصية والفردية الضئيلة القيمة، والبعيد عن الحقائق الكونية يقطع صلته مع جميع أشكال الوجود ويكون أسيراً لأنانيته القاتلة”.([75])

أجل، إن الإنسان الذي يقطع صلته مع الكون ومع الكائنات إنسان صغير. لأنه إنسان محروم من كل أمر جليل ومحروم من الحركة ومن أي مثل تهدف إلى تغيير الإنسان والمجتمع. لذا فلا يمكن أن يكون هذا الإنسان من ورثة الأرض ومن الذين يُحيونها ومن زعمائها وقوادها. لأنه شخص أضاع قابليته الروحية، وقابليته على الحركة الإيجابية الفاعلة.

“…لو بقينا دون حراك على الدوام ودون أي تدخل أو علاقة مع ما يجري حوالينا نكون مثل قطعة جليد ساقطة في الماء… أي سنحكم على أنفسنا بالذوبان”([76]) وهذا يعني تضاؤل الإنسان حتى لتصعب رؤيته أمام الوجود والأشياء وتعطل وضعه: “..لكي يكون الإنسان موجوداً فلا بد له من الحركة والانفعال”.([77])

والإنسان الأناني هو الإنسان الهامد العديم الحركة الذي لا يتحرك باسم المجتمع وباسم الإنسانية ولا يبدي أي نشاط، وهو الذي رجحت عنده كفة الاهتمامات الشخصية. فلا يستطيع مثل هذا الإنسان وضع علاقة صادقة ومتطورة مع الكون، ولا يستطيع القيام بأي تضحية من أجل المجتمع والإنسانية، فهو مثل قطعة جليد وقعت في الماء وبدأت تذوب.

ويعرّف محمد فتح الله كولن الفكر بأنه “حركة ونشاط داخلي”. وهو يرى أن الإنسان المثالي هو الإنسان الحركي في أطواره وفي تفكيره. بينما أنتجت الحداثة الإنسان الهامد السلبي الفاقد لقابلية الحركة والأناني المهتم بذاته فقط. ولا تستطيع أن تتوقع من مثل هذا الإنسان القيام بتحمل عبء كبير كعبء الحوار بين الأديان والحضارات والتسامح، والإنسان المستعد لحمل مثل هذا العبء يجب أن يكون مضحياً ومخلصاً وصادقاً، كالرومي و”يونس أَمْرَه” و”حاجي بكتاش” من ذوي القلوب الكبيرة الشجاعة والحساسة المملوءة (269-268) رقة وحباً. بحيث يستيقظ في جوها على الحقيقة من يقصدها من الأفراد وإن جاءوا وهم يحملون نية الهدم والتخريب، ويجدوا فيها أسس الإنسانية الكامنة فيهم. إن إنسان الحوار والتسامح الذي يرنو إليه محمد فتح الله كولن. يجب أن يتحرك سواء في تصرفاته أو في فكره حركة إيجابية على الدوام. وأن يتجنب التصرف بردود الأفعال، أي عليه أن يكون بانياً لا هادماً.

من جهة أخرى يجب أن يكون مثل هذا الإنسان حساساً وألا يكتفي بتدين بسيط، وألا يكون شخصاً منزوياً قد ترك نفسه تتقلب حسب التيارات الاجتماعية من حوله. فالحركة والانضباط ضروريان هنا لإحياء النفس وإحياء الآخرين. ويرى محمد فتح الله كولن أن مَنْ لم يكن له حظ في العشق الإلهي لا يستطيع تحمل هذه المعاناة. وكما ذكر “أوزدالكه” (E. Özdalga) فإن أنموذج محمد فتح الله كولن هو أنموذج المعاناة، وهو أنموذج مفتوح من بدايته ومن نهايته ومن أوله وآخره نحو اللانهاية.

إذ لا توجد هناك حدود لا في التقدم الروحي والمعنوي ولا في التضحية المادية ولا في الإخلاص، فأبواب هذه الخصال مفتوحة نحو اللانهاية. فمهما عملت باسم المجتمع وباسم الإنسانية وباسم العشق الإلهي فهو قليل. فهنا توجد ملحمة من ملاحم نذر النفس للخير، ومسؤولية يقتضيها استحقاق وراثة الأرض.

ويمكن لتحليل منطلق من علم الاجتماع القول بأن حركة محمد فتح الله كولن للحوار والمسامحة وقيامها بفتح معاهد التربية والتعليم في مختلف البلدان هي محاولة لمحاكمة الحداثة واتخاذ موقف معارض تجاهها. وقد يحتوي مثل هذا التحليل على بعض الصحة، إلا أنه تحليل ضيق الأفق لحركة فتح الله كولن في الحوار وفي فتح المعاهد التعليمية. أجل، لقد بدت آثار التخريب للحداثة بصورة واضحة في ساحتين في الأخص: ساحة الإنسان وساحة التعليم. والحقيقة إن الحداثة تحاكم الآن في الغرب أيضاً من هاتين الزاويتين. ومن جانب آخر فإن أهم ظاهرة جلبتها الحداثة هي ظاهرة العولمة، وهي أيضاً تشكل تهديداً للإنسان من ناحيتين: الأولى أنها تنشر وتقوي المادية والأنانية والفردية المفرطة. والثانية أنها سهلت استعمال أسلحة الدمار الشامل. وهذا الأمر شجع نظريات الصراع بين الحضارات التي أصبحت موضع نقاش كبير في السنوات الأخيرة. وهذه التطورات تُناقش الآن في كل مكان دون شك، وتتم محاسبتها. ولكنها لم تنقلب بعد إلى حركة إيجابية. لذا فمن المحتمل أن فتح الله كولن قد بدأ ولأول مرة بحركة الحوار بمثل هذه السعة. وهو يجلب الأنظار وبإصرار على أن الأمور بدأت تسوء وأنه إن لم يتم تطوير العلاقات إيجابياً وعلى أساس من الاحترام المتبادل، فإن الإنسانية ستواجه دماراً كبيراً، وهناك جهات تقوم –بحسن نية أو بسوء نية– بتكرار الكلام بأن الصراع بين الحضارات سيأخذ شكل صراع عالمي. وعندما كتب “هونتكتون” (Huntington) كتابه أشعل فتيل نقاش كبير، وتعرض لنقد شديد من قبل الآلاف من المفكرين وعلماء الاجتماع والمثقفين في أنحاء الأرض. وقد اتهمت هذه النظرية بأنها تيسر عمل أصحاب القوة من أنصار الهدم والتخريب وتؤيدهم. وعلى أي حال فإن النقاش حول صدام الحضارات كان أهم نقاش عالمي في السنوات العشر الأخيرة وأعمقه وأوسعه انتشاراً. ولا يزال تأثير هذه النظريات وصداها (270-269) وتأثيرها ظاهراً في المحافل وفي العلاقات الدولية والسياسية. وعندما ندرك أهمية هذا الخطر القريب ندرك مدى أهمية حركة الحوار التي بدأها فتح الله كولن بين الأديان والحضارات. ولا شك أن هذه الحركة ستتسع في المستقبل وسيقوى تأثيرها وينتقل إلى الجماهير العريضة. ولا شك أن حركة الحوار هذه لا تقدم أفكاراً غير قابلة للنقاش. لأن هذه الأفكار ستتم مناقشتها من قبل مختلف المفكرين والعلماء والمثقفين الذين ينتمون إلى ثقافات وأيدولوجات وقطاعات مختلفة. علماً بأن كل اجتماع تتم فيه مناقشات حارة حول حقائق معينة. ولكن كل مشارك في النقاش يحاول شرح كيفية العيش في المستقبل في مجتمع يسود فيه التسامح المتبادل والحوار. وكيف يمكن تقديم مثل هذا الأنموذج للإنسان وللمجتمع. وسواء أشاهد علماء الاجتماع في هذه الحركة محاسبة للحداثة أم مشروعاً اجتماعياً طابعه اللين والتسامح، فإنها حركة إيجابية وفي صالح الإنسانية.

من جانب آخر –ولعله الجانب الأهم– فليس الأمر مقصوراً على قيام فتح الله كولن بدعوة طبقة من المثقفين إلى مجرد نقاشات فكرية. بل قيامه بواسطة المئات من المؤسسات والمعاهد التعليمية التي أنشأتها حركته في داخل تركيا وخارجها بوضع مشروعه هذا موضع التنفيذ العملي. ففي هذه المؤسسات يرسي القواعد الاجتماعية لحركته في التسامح والحوار من جهة، ويحاول من جهة أخرى سد النقص في “الإنسان الأنموذجي” أي يحاول في هذه المعاهد تنشئة النموذح الإنساني الناضج الذي يستطيع حمل أعباء المستقبل. أي أن الأمر ليس مقصوراً على محاسبة الحداثة وما بعد الحداثة. فعملية المحاسبة هذه جارية من قبل العديد من النوادي الفكرية والمثقفين والمفكرين وعلى أسس فكرية ومنهجية مختلفة. فهم يعبرون بحرارة عن المشاكل الناجمة عن التغيرات الاجتماعية ويقومون بمحاسبة أسس العناصر الهدامة التي تهدد الإنسانية. ولكن مثل هذه المحاسبة ليست كافية من ناحية إزالة المخاوف المتعلقة بمستقبل الإنسانية. بل يجب أن تنقلب هذه المحاسبة إلى مشروع ذي نواة اجتماعية وتعليمية مثلما فعل فتح الله كولن. ويجب ألا يغرب عن البال بأن حرارة النقاشات لا تكفي لرفع مسؤوليتنا وإزالتها تجاه التاريخ والمستقبل.

(271-270)

الصورة العامة للتعليم

أ- البعث في الروح والمعنى:

يرى محمد فتح الله كولن أن أكبر مشكلة للعصر هي مسألة التعليم والتربية. لذا فهو يتناولها في العديد من مقالاته بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تصريحاً أو تلميحاً ويعدها أهم مشكلة في بلده. فهو عندما يتناول مواضيع البعث والإحياء أو التجديد، أو الرجوع إلى جذورنا التاريخية وبعثنا من جديد كأمة لها دنياها وعالمها وقيمها الخاصة بها..الخ. إنما يتناول في كل هذه المواضيع التي يطرقها مشكلة التعليم والتربية بشكل غير مباشر. غير أن الطريق الوحيد للتغلب على هذه المشكلة الجذرية العميقة هو في تنشئة كادر رباني ينذر نفسه فكرياً وعقلياً وقلبياً، أي ينذر كيانه جميعاً لأمته. وفي غياب مثل هذا الكادر الرباني المضحي فلا يمكن الوصول إلى أي بعث مادي أو روحي.

هناك موانع عديدة أمام مثل هذا البعث. فنحن أولاً قد بعدنا عن جذورنا الروحية والمعنوية والتاريخية ففي أساس انحطاطنا منذ قرنين أو ثلاثة توجد هذه الأزمة التي تعرضت لها هويتنا وشخصيتنا. فقد تعرض العالم الإسلامي منذ عدة عصور في علاقاته السياسية والثقافية والتكنولوجية إلى أزمة روحية ومعنوية شاملة في شخصيته وهويته وحضارته. ونتيجة لهذه الأزمة حدث انفصال وانقطاع وضعف في وعي المسلم في موضوع تلقي ميراثه في الثقافة والعرف. بل حدث هذا الانفصال عند العديد من البلدان ومن الأشخاص حتى في موضوع العقيدة والإيمان. لقد كان هذا “تغيراً في الذهنية وفي التفكير” و”تغرباً” أي زيادة في غربتهم وبعدهم عن هويتهم الأصلية.

ماذا كانت أهم خاصية للنتائج التي تمخضت عنها هذه المرحلة؟ لقد أظهر هذا الانفصال والتغير في التفكير نفسه أولاً في طبيعة وشكل فهم الإسلام والإيمان به وتطبيقه في واقع الحياة. كان هذا الفهم وهذا التوجه نحو التراث فهماً شكلياً وسطحياً وتقليدياً وذا طابع شعاري. وهذه السطحية والشكلية والتقليد الأعمى يعد من أهم عوامل التأخر في العالم الإسلامي. وتحت حصار القيم الغربية بعدت نظم التعليم والتربية والحياة الثقافية والتكنولوجية للمسلمين عن هويتهم التاريخية وعن ذخائرهم اللاشعورية وعن تقاليدهم وأصبحت غريبة عنها. لقد أظهر التقليد الأعمى وطريقة التعليم القائمة على الاستظهار والحفظ نفسه سواء في وجهه المطل على التراث الثقافي أو في وجهه المطل على الغرب وعلى المدنية الغربية بشكل واضح وصريح.

لقد اتسع هذا البعد عن الهوية وهذه الغربة عنها إلى درجة أنها أسرت تقريباً كل ساحات الفكر والثقافة والمؤسسات وكل المراحل البشرية والمادية في العالم الإسلامي. لقد كان هذا مشكلة عامة ومشتركة في جميع البلدان المتأخرة. وقد تعرض المسلمون في ظل هذه السيطرة الثقافية الغربية وأسلوب(273-272) معيشتها إلى أزمة عنيفة في شخصيتها وهويتها. وتعرضوا إلى تغيرات سياسية وثقافية واجتماعية. فبحثوا عن سبل للخلاص من هذه المرحلة البائسة، إلا أن تعرضهم لتغييرات ذهنية كبيرة أدى إلى أخطاء جسيمة في نظرتهم إلى جذورهم وإلى هويتهم التاريخية. لذا لم يستطيعوا استعمال منابعهم التقليدية، ولا إمكانياتهم البشرية والاجتماعية لتجاوز هذه المرحلة المشؤومة.

بينما كان المسلمون يملكون من الناحية الاجتماعية قوة كامنة مادية ومعنوية كافية. لأنهم كانوا يملكون طوال عصور عديدة حضارة متميزة ووحياً إلهياً (قرآناً) يحرك ويدفع إلى الأمام جميع النشاطات الفكرية والمعنوية والحركية ويشوقها. ويملكون ميراثاً ثقافياً غنياً في الإدارة السياسية والقانون وفي العلاقات الدولية، وتجربة تاريخية خصبة. ولكن وقوعهم في أسر زاوية النظرة الغربية دفعهم للنظر إلى هذا الميراث التاريخي نظرة مفلوجة وميتة. والأدهى من هذا أنهم أبدوا بروداً كبيراً في صدد الاستفادة من هذا الميراث الثقافي والتاريخي في تكوين هويتهم المعاصرة وفي تنظيم حياتهم الاجتماعية والثقافية. ورأى أكثرهم أن نهضتهم –كأمة– مرتبطة بتطورهم الاقتصادي والتكنولوجي على الطراز الغربي وبنقلهم طراز الحضارة الغربية وتبنيهم لها. وقد أدت هذه المراحل بالمسلمين ولسنوات عديدة وطويلة إلى هز ثقتهم بثقافتهم وتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم. لقد التحمت الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي مبكراً بالقيم الثقافية والسياسية الغربية. ولكن لم ينتج من هذا التزاوج مع الغرب عن طريق التقليد الصرف أي تقدم في العالم الإسلامي في ساحات الحرية السياسية ولا في الساحات الاقتصادية والتكنولوجية.

لا شك أن البحث عن الهوية الثقافية والصراع من أجل التقدم لا يزال جارياً في العالم الإسلامي. فعلى الرغم من الجهود الكبيرة فإن منظومة القيم الغربية البشرية والاجتماعية لم تجد لها ساحة وقاعدة جماهيرية عريضة على الرغم من وجود التقليد الغربي بمقياس معين في المجتمعات الإسلامية. وقد أصرت الفئة المثقفة السياسية على التمسك بالقيم الغربية وبتطبيقها، وانتهجوا سياسة الاتباع الدقيق للقيم الغربية التي اعتبروها مشروعاً حضارياً. ولكنهم مع كل هذا لم يستطيعوا دفع النهضة والتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. وكانت النتيجة أن هذا التقليد وسيطرة القيم الغربية أحدثت هزة ثقافية في أمتنا وجعلتها تنظر بعين الشك إلى قيمها التاريخية والثقافية.

لا شك أن هذه المرحلة المشؤومة أدت إلى ظهور الحاجة إلى نهضة على نطاق الأمة، وإلى ضرورة القيام بحملة نهضوية وتجديدية في جميع المؤسسات والساحات المادية والمعنوية المهمة. ولم تخلُ الساحة في العالم الإسلامي طوال عصرين، من التجارب الاقتصادية والسياسية المختلفة المتوجهة نحو النهضة الاجتماعية والإنسانية. ولكن هذه التجارب لم تملك في يوم من الأيام أي قاعدة عريضة ولم تكن طويلة النفس. بل بقيت محصورة في الساحة السياسية والإدارية والمادية، وفي ساحة التكنولوجيا بمقياس قليل. ولم تختلف تجربة تركيا عن العالم الإسلامي في هذا الصدد. ومع أنه تم تسجيل تقدم جزئي في ساحة الصناعة والتكنولوجيا، إلا أنه لم يكن من القوة بحيث يستطيع تحقيق نهضة وبعث جذري في جميع مؤسسات الأمة. وقد تعرض فتح الله كولن في إحدى مقالاته للخطوط العامة لهذا البعث. وهو يحاكم ويحاسب ويستنطق (274-273) هذا البعث وهذه النهضة في الساحة الإسلامية والتصوفية أولاً. ونظراً لأهمية هذه المقالة فإننا ندرجها أدناه:

“منذ عصور والعالم الإسلامي يدور في دائرة مفرغة ولا يستطيع التوجه إلى ذاته وإلى هويته وإلى روحه. فإذا خطا خطوتين إلى الأمام. خطا بعدها خطوات عديدة إلى الوراء أو نحو اتجاهات منحرفة.

لذا فنحن نؤمن بأن العالم الإسلامي بأسره في حاجة إلى تجديد في فهم الإيمان والإسلام وفهم شعور الإحسان وفي حاجة إلى تجديد في عاطفته وعشقه وشوقه، وإلى تجديد في عقله ومنطقه وطريقة تفكيره وفي أسلوب قيامه بتعريف نفسه وفي المؤسسات التي تستطيع الاضطلاع بهذه المهمة، مهمة التجديد في كل ساحة. لم يبرح العالم الإسلامي منذ قرون، الدوران في دائرة مفرغة حائماً حول أغلاطها من غير أن يجد جوهر ذاته وروحه. فإن تقدم خطوة إلى الأمام، أعقبها بتراجع خطوات إلى الوراء أو انحرافات عن سواء السبيل. بل كثيراً ما خلف هذا السير المشؤوم أو الانحراف اللعين الذي طغت أخطاؤه على صوابه وأغرقت أضراره فوائده، آثاراً غير محمودة على الجهود الذاتية الاجتماعية في تحري سبل العودة إلى الذات، فعرّضت الأعمال الطيبة ورجالها إلى التزلزل من الأعماق. هذه الحال تدل على أن عقد الخرز قد انفرط في العالم، وأن دولاب الدول والشعوب يدور خلاف مصالحها.

لذلك، نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعاً إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام،([78]) وشعور الإحسان، والعشق والشوق، والمنطق، وطريقة التفكير، وأسلوب الإفادة عن نفسه، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال.

إن أساس حياتنا المعنوية قائم على الفكر الديني والتصورات الدينية. ولقد حافظنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتنا أيضاً منطلقة منه. فإن جردنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلفين ألف سنة إلى الوراء. إن الدين الذي يهدف إلى غايات مثل إضفاء المعنى على الإنسان والكائنات، والانفتاح على الروح الإنسانية والذات، وتحقيق الرغبات الممتدة إلى ما وراء الدُّنَى، وإشباع حس الأبد في الوجدان… ليس منحصراً على العبادات. إنه يحتضن الحياة الفردية والاجتماعية جميعاً… ويتدخل في كل شيء لنا: عقليٍ وروحيٍ وقلبيٍ… ويصبغ بصبغته كل تصرف لنا حسب نيتنا، ويسربل بلونه كل شيء.

نعم، كل تصرف للمؤمن الحق قائم على محور العبادة، وكل جهد له ذو بُعد جهادي، وكل حملة وجهد له متلون بالعقبى والرضا. فلا محل في حياته للفصل بين الدنيا والعقبى… ولا برزخ بين قلبه وعقله… وعواطفه ومنطقه مزيج واحد… ولا تتناكر محاكمته العقلية مع إلهاماته. كذا، التجربة والخبرة في عالم فكره سُلّمٌ من النور يتصل بالعقل، والعلم برج عال بحسابات الفراسة. فهو نسر يحلق إلى اللانهاية دوماً بأجنحة العشق العملاقة في هذا السُلّم، وحلاجٌ يندف قطن الوجود ندفاً بفطنته في هذا البرج. وحيث لا فراغ في أي زاوية من زوايا هذا الفهم، فلا كلام عن إهمال الإنسان الفردي أو الاجتماعي في هذه المنظومة.

والذين يختلقون صداماً بين الدين وبين العلم والمحاكمة العقلية، هم بؤساء جهلوا روح الدين والعقل. أما إلقاء مسؤولية الصراع بين الفئات الاجتماعية المتنوعة على كاهل الدين، فهو سقوط مريع في الانخداع. لأن الصراع بين التكتلات نابع من الجهل والمنافع الشخصية والمصالح الفئوية. والدين لا يؤيد مثل هذه العواطف والأفكار. ونشهد في الواقع صداماً وصراعاً بين قسم من المتدينين أيضاً. هذا يرجع إلى أن هؤلاء الحاملين لنفس الجذوة الروحية لم يبلغوا الدرجة اللازمة في صدق الإيمان وحفظ الإخلاص… وربما يندحرون أمام عواطفهم أحيانا… لأن الفضيلة المؤمنة تقطع الطريق على هذا البؤس. والواقع أن سبيل النجاة الوحيد من السقوط في هذا البؤس هو إحياء منظومات الدين كلها وجعلها دم المجتمع ولحمه.

إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى “بعث ما بعد الموت”، وإصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبإفادة دافئة، إلى “إحياء”… إحياء يستجيب لمتطلبات أصناف البشر كلهم ويحتضن الحياة كلها، في كل زمان ومكان، بقدر السعة والعالمية التي تعد بها مرونة النصوص، ضمن الجد والجهد للحفاظ على صفاء أصل الدين.

لقد سمح هذا النظام المبارك منذ أن شعرنا بظله فوق رؤوسنا – أدام الله حفظه علينا إلى الأبد- بفسحة للولوج من بابه مراراً إلى التجديد والإصلاح، فشهدنا الانبعاث مراراً. المذاهب عموماً وفي الأكثر تمثّل التجديد في الفقه والحقوق. وصارت الطرق الصوفية سبلاً رئيسة تزيّن مسالك القلب والروح. وانشغلت الكتاتيب والمدارس عموماً -يوم أن كانت لنا- بإضفاء المعنى على الوجود والكائنات. أما التجديد والانبعاث المأمول في الحاضر، فيتحقق بالتوفيق بين كل ما ذكرناه وحشدها جمعاً في مجمع واحد. ويعني هذا، الانسلاخ من القالب إلى اللب، وترك الشكلية والتوجه إلى الجوهر والروح، في كل مسألة. ويعني أيضاً التوجّه إلى اليقين في الإيمان، وإلى الإخلاص في العمل، وإلى الإحسان في الحس والفكر…

نعم، ينبغي أن تكون “الكمية” تامة و”النوعية” هدفاً في العبادات، والكلمات وسيلة والروح والصدق أساساً في الدعوات، والسنة مرشدة في التصرفات، والشعور لازما. وفي كل هذه: الله غاية القصد… الصلاة ليست قياماً وقعودا… ولا الزكاة مالاً مطروحاً تبرئة للذمة لا يعلم أين ذهابه… ولئن صار الصيام جوعاً وعطشا، فما اختلافه عن الحِمْية؟ والحج إن لم يجر في فَلَكِه، فما اختلافه عن سياحة بين مدينة وأخرى تكسب بعضهم عملاتٍ أجنبية؟ والعبادات قد تصير كلعب الأطفال إن انحصرت في الكم… وصيحات الأدعية الخاوية من الروح شغل الباحث عن عمل الحلوق… والحج والعمرة إن صارت مشقة تُحتمل للتسلي بحمل لقب “الحاج” ومناقب الحج، فسوف نحرج في المعاني والمرامي…

إن سبيل الخلاص من كل من هذا الاضمحلال هدراً في شِباك السلبيات، هو ملء فراغاتنا، وإعلان النفير العام الذي يزيل ضعفنا وينقذنا من عبودية الجسم والبدن. وإذ ينقذنا، يجهز أطباء الروح والمعنى الذين يقودون القلب والروح إلى مستوى الحياة… أطباء منفتحة قلوبهم في الروح والمعنى، منطلقون في ساحات العلم والذكاء والعرفان والواردات والفيوضات كلها، من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الرياضيات إلى الأخلاق، ومن الفنون الجميلة إلى التصوف، ومن الكيمياء إلى الروحانية، ومن الفضائيات إلى الأنفسية، ومن الحقوق إلى الفقه، ومن السياسة إلى السير والسلوك. إن هذا الشعب ليس بحاجة إلى هذا وذاك، بل إلى مثل هذا العقل. وكما يلتقي العقل ويحاور كل جهة بعيدة وقريبة في البدن عبر الأعصاب، ويرسل الرسائل إلى أقصى نقاطه ويستلم منها، فإن فريق العقل هذا سيكون في تعاط مع جميع حجرات بدن الشعب وجزيئاته ويصل إلى جميع الوحدات في المجتمع، ويضع يد تصرفه في جميع أجزائه الحيوية… ويهمس في أذن كل صنف شيئاً من الروح ومن المعنى، مقبلاً من الماضي ومكتسباً عمقا أشد غورا في الحاضر، وممتداً إلى الآتي.

هذا الفريق يسع الجميع. يحتضن الطفل الملتزم والمؤدب في المدارس، كما يحتضن أبناء الوطن السائبين وغير المنضبطين في الأزقة. ويُفرغ في كل صدر إلهامات روحه، ويُعِدّهم لفائدة المجتمع دهاة مؤهلين بعلوم الغد ومهاراته، ويرفع كل إنسان وكل شريحة إلى الكمالات الإنسانية بالتطهر من لوثات العصر في صفاء مآوي النور ومجمّعات إقامة الطلاب وبيوت الطلبة والمدارس والجامعات والمعابد والتكايا…

هذا الفريق يؤنس وحشية الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون ووسائل الإعلام القوية، ليجعلها صوتاً ونَفَساً للدين والملّة من وجهة، ويرشد بها من وجهة أخرى الأحاسيس السوداء والأفكار القاتمة والأصوات المدلهمة، إلى سبيل الصيرورة الإنسانية.

هذا الفريق ينقذ التربية والتعليم المتغيرة صورة وتوجهاً كل يوم تحت وطأة الضغوط الخارجية والانحرافات الداخلية، من وصاية الأفكار الدخيلة، فينظمها بصورة طيّعة لمتطلبات الحاضر وحسب السياق التاريخي، ويرفعها لتكون مؤسسة ذات رسالة ببرنامجها وخطتها وأسلوبها.

بفضل ذلك، ترتقي الأمة من الفقر الحسي والفكري، والحفظ الببغائي والشكلية، إلى الفكر العلمي الحق، ومن تزكية أنواع الرذائل باسم الفن، إلى الفن والجمال الحق، ومن العادة والإدمان المجهول نشأة ونسباً، إلى الشعور الأخلاقي النابع من الدين والتاريخ، ومن أقفال الأفكار المتنوعة القابعة في صدورنا والتي أضنتنا وأنهكتنا، إلى واحدية الخدمة ، التسليم، الشعور، التوكل.(؟؟؟) لنضع جانبا بلبلة التكوينات الجديدة في العالم. نحن لا نصدّق بولادة شيء جديد من الهندام الرأسمالي القديم، أو أحلام الشيوعية، أو تكسيراتها الاشتراكية، أو هجين الديمقراطية الاجتماعية، أو خرق الليبرالية البالية. الحقيقة هي أنه إن كان ثَمّ عالَمٌ مشرّعُ الأبواب لنظام عالمي جديد، فهو عالمنا نحن. وسيتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن.

هذه الولادة الجديدة، ستُكسب عالم مشاعرنا وأفكارنا، كذلك مفاهيم فننا وجمالنا، أعماقاً مختلفة اختلافاً شاسعاً عما عليها الآن. وفي ظله سنكتشف أذواقنا البديعة ونصل إلى موسيقانا، ونعثر على رومانسيتنا… ويستقر شعبنا في حرز مصان ومتين من كل جهة، سواء في العلم والفن، أو الفكر والأخلاق، فنضمن مستقبله.

شعارنا في هذا المضمار النفير والإقدام، ومصدر قوتنا الإيمان والحقيقة. لقد أخفق دوماً الذين داروا بنا على الأبواب الأخرى على أمل الشفاء من الأدواء بالانفلات من الإيمان ومن الأخلاق. ولقد نلنا نحن الشرف، وبقينا شرفاء، بفضل الله الذي ارتبطت قلوبنا به، وفي ظل تسليمنا وانتمائنا إلى أمتنا التي رجحناها على كل شيء دنيوي وبلادنا التي وُجِدنا في صدرها ونشأنا في حضنها. ولا أظن بأنني في حاجة إلى شرح الواقع بعكس الحال!

وسنتابع في فصل آخر مواضيع في الانبعاث من جديد.([79])

 (278-277-276)

بـ- البعث في التاريخ وفي التقاليد

من أسس فلسفة محمد فتح الله كولن في الثقافة والتربية هي أسلوب التقمص العاطفي (Empathy) عند تناوله التاريخ والميراث الثقافي. وهذا التناول يختلف عن أسلوب النظر إلى التاريخ وإلى التقاليد من نافذة مفاهيم معينة والبعد عن تأسيس علاقة شعورية دافئة وحميمة مع التاريخ. إن النقاشات حول المفاهيم تحول التاريخ في معظم الأحيان إلى أرض قاحلة قد استنفدت خصوبتها من كثرة الاستعمال. فهو لا يدع القارئ يستريح ولا يترك الأرض دون زرع. لذا فلا يشعر القارئ أي قرابة شعورية أو ذهنية وفكرية مع التاريخ والتقاليد والميراث الثقافي وأي تقمص عاطفي معه.

أما نظرة المثقف العصري فهي بعيدة عن التقاليد وغريبة عنها. وهو عندما يتكلم عن تاريخه وعن ميراثه في التقاليد يحسب نفسه وكأنه يصطاد في أرض غريبة عنه. لذا فسنتناول هنا هذا الموضوع لأن النظر إلى التاريخ وإلى التقاليد بعين فيها قصر النظر لم يظهر إلى الميدان إلا بعد ظهور هذه الفئة المثقفة المعاصرة.

لا شك أن هذا الموضوع وهذا العنوان يستدعي تأليف كتاب حوله ولكي يتم إعطاء الموضوع حقه كاملاً يجب تفحص هذه الذهنية إلى جانب تفحص تاريخ الثقافة بكل دقة. والحلول المفاهيمية العائدة للماضي وللتقاليد يشكل سلسلة طويلة. وما تحتويه هذه السلسلة الطويلة من مفاهيم ومن آراء مطروحة للنقاش يتجاوز في كثير من أوجهها قدرة كاتب هذه السطور. إذن فلماذا رأينا أن هناك حاجة إلى الحديث عن مثل هذا الموضوع الواسع؟ السبب هو: أن محمد فتح الله كولن عندما يتناول موضوع التربية والتعليم ويدققه يتوجه بخطابه نحو قطاع معين يملك ذهنية ومعلومات معينة. وهو كثيراً ما يستعمل في مقالاته وخطاباته تعابير من أمثال “البعث من جديد كأمة” و”الرجوع إلى قوانا المحركة”..الخ. ولكنه لا يفتح نقاشاً فكرياً أو مفاهيمياً حول التاريخ أو حول الميراث الثقافي لأنه لا يستسيغ أسلوب وطريقة النقاش والجدال. فهو يبتعد في جميع مقالاته وخطبه وأحاديثه عن أسلوب المناقشة والجدال. لأنه ربما كان لا يؤمن بفائدة هذا الأسلوب. ولكن أي قارئ دخل إلى عالمه الثقافي يستطيع الوقوف على إشارات وإيماءات حول النقاشات الدائرة منذ عصرين في مواضيع التاريخ وميراث التقاليد والثقافة.

عندما نتمعن في هذه الإشارات والإيماءات نشاهد وجود اتجاهين رئيسيين في العالم الإسلامي وفي الماضي القريب لتركيا في العلاقات مع الغرب في موضوع التاريخ وفي ميراث التقاليد. الاتجاه الأول هو اتجاه الذين يرون أن أسس البعث من جديد توجد فقط في القوى الأساسية المحركة في التاريخ وفي التقاليد. والاتجاه الآخر لا يرى حاجة لأي إشارة إلى البعث أو دعوة إليه، بل يرى أن الحل يكمن في التوجه إلى الحضارة الغربية وتبني جميع قيمها كما هي وتقليدها حرفياً. وهذان الاتجاهان لا يزالان موجودين حالياً ويملكان خبرات مختلفة. ولكن يعرض كل من هذين الاتجاهين موقفاً محافظاً أو تجديدياً تجاه المدنية الغربية وتجاه الموقف حول الميراث الثقافي. ومع أنه يبدو وجود مفارقة معينة هنا، إلا أن هذا الديالكتيك في الساحة الثقافية والسياسية والاقتصادية مستمر.

(279-278) وقد خلفت هذه النقاشات ميراثاً فكرياً مرهقاً. ونتيجة للمواجهة الشاملة مع الغرب فقد تكونت فئات متقابلة مثل: المجددون–المحافظون، القوميون–المتغربون،([80]) خريجو المدارس الدينية–خريجو المدارس الحديثة. وهكذا تأسست أرضية يعيش فوقها مثقفون ومفكرون وعلماء من مختلف المشارب. وقد انعكست هذه المشارب المختلفة على فهم وتقويم الميراث الثقافي والتاريخ الماضي وعلى موقفهم من عملية التغرب. كما اختلفت أساليب الفكر والتحليل والمفاهيم والمصطلحات التي استعملوها في هذا الصدد. كانت هناك مشكلة معينة فمال كل اتجاه إلى حلها حسب ميوله وفكره، وأنتجوا أفكاراً ومفاهيم في هذا الموضوع. فقد استعملت الفئة العلمانية المستغربة مصطلحات من أمثال: التغرب، المعاصرة، التقدم. واستعملت الفئة المحافظة المرتبطة بالميراث الثقافي التقليدي مصطلحات من أمثال: التجديد، الإصلاح، البعث من جديد.

كان موقف المثقف المستغرب عندنا، إما رد الميراث الإسلامي أو الإيمان بأنه يحتاج إلى إصلاح (Reform) وقد ظهرت في كل بلد من العالم الإسلامي فئة مثقفة معاصرة تدافع عن هذا الموقف، وإما أنها ترد وترفض الميراث الإسلامي، أو ترى أنه يحتاج إلى إصلاح جذري. لذا لم تملك أي مشروعية فكرية أو منهجية في الساحة الإسلامية ولا في ساحة التقاليد الموروثة. فطرق التفكير والمناهج الفكرية التي اتبعوها ودافعوا عنها لا تملك مشروعية لا من ناحية الدين الإسلامي ولا من ناحية التقاليد الموروثة. لأن جميع هذه الطرق والمناهج الفكرية مرتبطة بالذهنية الغربية وطرق تفكيرها والتقليد الأعمى لها. وقد أرادوا بها كسر استمرار هذه التقاليد وتأثيرها على الجماهير. ولكن على الرغم من هذا، أي على الرغم من انحراف الطبقة المثقفة ومن قيام النخبة السياسية بفرض النماذج الثقافية الغربية لسنوات طويلة، فإن التقاليد حافظت من جهة على مصداقيتها الداخلية، وعلى تأثيرها على الجماهير من جهة أخرى وبقيت حية. ونظراً لطول فرض النماذج الغربية بالقوة فقد ظهرت نتائج جانبية على الميراث الثقافي، إلا أن تأثيرها لم يكن باقياً.

لنتفحص علاقة المثقف المعاصر والفكر المعاصر مع التقاليد بعض الفحص. عندما يقوم المثقف المعاصر بترجمة الماضي يستعمل مفاهيم ومصطلحات حديثة في هذه الترجمة. بينما لم تكن هذه المفاهيم والمعلومات موجودة حتى ذلك اليوم. فهو أولاً لا يقترب من منظومة المعرفة للتقاليد وتجربتها التي تشكلت ضمن عقود طويلة من الزمن. بل ينظر إليها من زاوية المفاهيم الحديثة التي لا علاقة لها بالنظرة الإبستمولوجية([81]) للتقاليد. لأنه يرى بما أن الماضي بقي في الأمس فلا يمكن نقله إلى الحاضر إلا إذا جعلته معاصراً وجددت منظومته في المعرفة، ومع أن هذا يعد تحريفاً للتقاليد إلا أن هذا هو كيفية اقتراب المثقف المعاصر من التقاليد.

والتحديث والتجديد ليس عبارة عن فهم التقاليد، بل هو أكثر من هذا. وعندما نتناول نحن الحوادث وننظر إليها من زاوية منظومة التقاليد نتناولها 279-280-281بعد تفسيرها في مستوى معين دون شك. ولكن إن لم يتم هذا الفهم والتفسير ضمن ظروف تلك التقاليد وقوالبها ومناهجها فسيوصلنا إلى فهم خاطئ. وهذا هو ما نطلق عليه بـ”النظرة التاريخية”.

هناك أمر يتم تناسيه ربما عن عمد وهو: هناك لكل ميراث ثقافي ولكل ميراث للتقاليد حدود معرفية (Epistemologic). وهذه الحدود ترسم من ناحية الخطوط الرئيسية التي تشكل الخصائص المهمة للتقاليد وكيفية تشكلها، وتعين من ناحية أخرى أشكال فهمها وتفسيرها ونقلها. لذا فإن لم تتم مراعاة هذه الحدود فإن كل تفسير سيقود إلى تحريفات كبيرة. وعادة ما يهمل الحداثيون (Modernists) هذه الحدود عند تناولهم للتقاليد. فهم بالقوالب الغربية -التي يتناولون بها هذا الموضوع- يتجاوزون هذه الحدود ويشوهون القيم التي تقوم التقاليد على صرحها.

ومثل هذا الخطأ في التناول يؤدي إلى مشاكل جدية ولا سيما عند تناولهم للميراث الثقافي الإسلامي ولمصادره، لأن الثقافة الإسلامية ليست ثقافة اجتماعية أو بشرية اعتيادية. ولأن أهم مصدر لها هو “الوحي” الإلهي المتمثل في القرآن. والمصدر الثاني هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نقل إلينا هذا الوحي. وقاما هذان المصدران طوال التاريخ الإسلامي وبالنسبة لجميع المسلمين، بالتأثير في جميع مناحي الحياة الفردية منها والاجتماعية والمعنوية والمعرفية والوجودية (Ontological) وتشكيلها أيضاً. وهذا هو أهم فارق يميز الثقافة الإسلامية عن جميع الثقافات الموجودة على سطح الأرض. لذا فإن التوجه إلى الثقافة الإسلامية وإلى ميراث التقاليد المتفرعة عنها وتناولها ليس كتناول أي تقليد ثقافي آخر.

وبسبب إهمال هذه الحقيقة فإن المثقف الغربي عندما يتناول التقاليد الثقافية الإسلامية لا يستطيع الوصول إلى أي نتيجة صحيحة. كما يقوم المثقف الغربي بتناول الميراث الثقافي الإسلامي تناولاً أيدولوجيا، لذا كانت أسس تناوله هشة وقابلة للتفتت.

عندما ينظر المثقف الغربي –أو المتفرنج عندنا- إلى التقاليد ينظر إليها من عل، فكانت نظرته سقيمة. لأنه عندما يكوّن شخصيته وماهيته ويشكلهما لا يتوجه نحو التاريخ ونحو الماضي، بل نحو الغرب.. بينما يلعب الماضي والتاريخ دوراً لا يمكن إهماله في تكوين الشخصية الإنسانية. لذا يحاول كل نظام فكري وكل تقليد من التقاليد التعبير عن نفسه بإنشاء شجرة نسب له في التاريخ. وعندما قام الغرب بإنشاء حضارته الحديثة توجه إلى عصر التنوير وإلى جذوره القديمة في اليونان والرومان. وهذا ما أهمله المثقفون الأتراك المحدثون. فمن ثم كلما تحدث محمد فتح الله كولن عن البعث من جديد وعن عصر جديد من التنوير أكد على التاريخ وعلى التقاليد وعلى الميراث الثقافي.([82])

ونظراً لأهمية التاريخ وأهمية الماضي فقد تعرضا للاستغلال من قبل البعض في سبيل الحصول على القوة والحكم. ويلفت الكاتب البريطاني “ج. أورول” (C. Orwell) في روايته 1984، الأنظار إلى هذا 281-282-283

وإلى أن من يملك زمام الأمور اليوم هو الذي يملك الماضي. ومن يملك الماضي، يملك السيطرة على المستقبل. وإن من يعيش حالياً يحاول تثبيت مكانه الحالي وتأمين طراز حياته في المستقبل، لذا يحتاج إلى ماضٍ وإلى أسلاف لتقوية مشروعية مركزه وطرز حياته.([83])

 

* * *

مفاهيم التجديد والتنوير والبعث عند محمد فتح الله كولن

إنشاء مفهوم التجديد والتنوير والبعث من جديد

كما ذكرنا فإن محمد فتح الله كولن لم يدخل في النقاشات التي ثارت حول المفاهيم التي ظهرت في أثناء التقليد للغرب (فترة التفرنج أو الاستغراب). ولكنه عندما عبر بطرق غير مباشرة عن آرائه حول بعض هذه المفاهيم، إنما كان يقدم في الحقيقة معلومات عن أسس مشروعه. ففي العديد من مقالاته يتعرض لمفاهيم التجديد والبعث (الإحياء) والنهضة من جديد والتنوير. وقد قرأنا هذا في المقتبسات التي أدرجناها سابقاً، بل إن عنوان مقالته (نحو عالم الغد) يومئ إلى التجديد والبعث من جديد، فهو يتعرض في هذه المقالة إلى موضوع التجديد صراحة:

“…لذا فنحن نؤمن بضرورة تجديد مفهوم الإيمان والإسلام وشعور الإحسان والعشق والوجد في العالم الإسلامي بأجمعه وتجديد العقل والمنطق وطرز التفكير وكيفية التعبير عن الذات وتجديد المؤسسات التي تقوم بهذه المهمة”.([84])

وفي كل مرة عندما يتحدث فتح الله كولن عن التجديد وعن البعث (البعث بعد الموت، أي النهضة بعد طول سبات) يتحدث عن هذا التجديد المؤسس أولاً على الأسس والآليات الإسلامية. لأنه يؤمن بأنه مالم يتم التجديد في جميع المفاهيم الإسلامية بدءً من مفهوم الإيمان وانتهاء بالنظرة إلى الكون، لا تستطيع المجتمعات الإسلامية تحقيق البعث وحركة الإحياء التي تحتاج إليها. فالمسلمون طوال التاريخ حققوا القفزات والتطورات الكبيرة بهذا الأسلوب.

“إن أساس حياتنا المعنوية وقاعدتها تستند إلى التصور والفكر الديني. فكما استمر وجودنا به كذلك نستطيع بالاستناد إليه تحقيق تقدمنا وتطورنا”.([85])

فهو يرى أنه يجب البحث في الديناميكيات الدينية والمعنوية عن أسس نهضتنا وبعثنا من جديد. وعندما ظهرت المذاهب كانت هي الممثلة لحركة البعث. ثم ظهرت الطرق283-284-285 الصوفية، فتجدد عالم الروح والمعنويات في العالم الإسلامي، وأرسيت قواعد النظرة الإسلامية إلى الوجود والكون في المدارس الدينية والعلمية.

ويرى أن التجديد يتم عندما: “يتم الاتجاه من القوالب إلى القلوب، ومن ترك الأمور الشكلية والمظهرية والتوجه إلى الروح”، وبشكل أعم: “التوجه في العقيدة إلى اليقين، وفي العمل إلى الإخلاص، وفي المشاعر والأحاسيس إلى الإحسان”.([86])

حقق المسلمون في الماضي فترة تنوير ونهضة شاملة في الساحة الدينية وفي الساحة العلمية والهندسية والفن المعماري. وأنشأوا كادراً من العباقرة في كل ساحة من الساحات؛ من العلوم الطبيعية إلى العلوم الدينية، ومن التصوف إلى المنطق، ومن هندسة تنظيم المدن إلى الفنون الأخرى.. وبعد شرح الآليات الديناميكية لأسس النهضة والإحياء يقول في مقالة له تحت عنوان (نحو عالمنا): “يمكن تحقيق نهضة ثانية وثالثة بتحريك جميع الأرواح والقلوب النيرة”.

ثم يقول:

“أجل، تستطيع الدنيا أن تفتح هذه الصفحة الجديدة، بل الصحيح أن نقول أنها قادرة عليه على الرغم من أنه يبدو عملاً غير يسير.

إننا لن نقدر على أن نفتح الصفحة الجديدة من غير انتزاع المتلقيات (التصورات) والأفكار المنحرفة السائبة في هذا الوطن منذ سنين وسنين مثل إضناء الحياة الروحية وإذوائها بدرجة كبيرة وتعطيل عمل أجوائنا الدينية، ووضع الأقفال على ألسنة القلوب بتنسية الوجد والعشق تماماً، وانحباس المثقفين المفكرين والدارسين في قمقم المادية الوضعية المتطرفة، وإحلال التشدق محل الصلابة والثبات في الحق وحتى في طلب الآخرة والجنة. طلبها بنظر دوام السعادة الدنيوية المعتادة.([87])

ويستعرض فتح الله كولن أسباب تأخر الأمم وانهدامها فيقول، إنها تفشي الكسل والحرص والطمع والرغبة في الشهرة والجاه والمنصب. ويضع تجاهها الأخلاق الإسلامية التي تعد علاجاً لأسباب التأخر، وهي الاستغناء والشجاعة والإخلاص والتضحية والروحانية والربانية. وهي تشكل أيضاً الأسس الديناميكية لحركة فتح الله كولن. والخلاصة أن فتح الله كولن، يرى أن أسس النهضة موجودة في ماضينا وفي جذور قيمنا المعنوية، وإن لم نرجع إلى هذه الجذور فلا يمكن تحقيق أي نهضة. إلا أنه يشير في مقالات عديدة له إلى ضرورة وجود كادر واسع مجهز بهذه القيم لتحقيق هذه النهضة. وهذا الكادر هو الكادر التعليمي الذي نستطيع بواسطته الوصول إلى النهضة المنشودة.

بينما كانت المناقشات والأفكار تدور منذ القرنين الأخيرين حول إمكانية تحقيق هذه النهضة بكادر مثقف قليل العدد. وهذه هي النقطة الأساسية التي يفترق فيها فتح الله كولن عن غيره. إذ يرى أن النهضة لا تتحقق إلا بكادر واسع متعلم ومثقف يتولى القيام بهذه النهضة بروح فدائية وبخلق التضحية. وهذا يوضح لنا سبب توجهه إلى ميدان التعليم والتربية وتأكيده عليه.

285-286-287

ولكن دعونا نقف مرة أخرى حول مفاهيم التجديد والإصلاح والتقليد والميل إلى رفع الشعارات الزائفة.

إن مفاهيم التجديد والإصلاح، والإحياء والإصلاح، أي إعادة التشكيل (Reform)، كانت موجودة في المدارس الفقهية والكلامية والسياسية والفلسفية الأولى. فمسائلة المصادر الأساسية ومحاسبتها لم تظهر كفعالية فكرية في عهد التغريب (أي بدء تقليد الغرب) فقط. بل ظهرت في عهود إسلامية مختلفة كحركة فردية أو كحركة ثقافية بكادر معين. لذا فلهذه المفاهيم تاريخ عريق وغني من الناحية الفكرية. ولن ندخل هنا في تحليل طويل لهذه المفاهيم، وإنما سنشير إلى بعض نواحيها لنزيل اللبس عنها.

للمسألة بوجه عام وجهتان، الأولى النشاط الفكري حول “كيف نستطيع إحياء التقاليد في الظروف المتغيرة؟”

والثانية ضرورة الخلاص من التأخر. ولا شك أن الفعاليات الفكرية التي ظهرت حول الميراث الإسلامي التقليدي وحول منابعه الرئيسية، ليست هي الفعاليات الفكرية التي نحتاجها لمواجهة مشاكل المدنية والحضارة أو التقدمية في عصرنا الحالي. ولكن التغيرات الاجتماعية والثقافية حركت الأذهان في تلك العهود أيضاً لحل مشاكل تلك التغيرات. فالمجتمعات الإسلامية آنذاك واجهت الحضارات الأخرى وعرفتها وتعاملت معها بسبب عوامل مختلفة، كالفتوحات الإسلامية أو الحروب والسلام والتبادل السياسي والثقافي. وأثرت هذه المواجهة على الحياة الاجتماعية والثقافية بل حتى على الحياة الدينية للمجتمعات الإسلامية وعلى تطويرها وفتحت الآفاق أمامها. وأدت إلى إغناء وتنشيط الفعاليات الفكرية للطبقة المثقفة.

كانت هذه الفعاليات الفكرية ترمي إلى تعيين الثوابت والمتغيرات في الإسلام. وكان هذا يعني من جهة حركة إحياء وإصلاح، ومن جهة أخرى أظهرت قابلية الإسلام على البقاء والثبات تجاه تغير الظروف والأوضاع. وكما ذكرنا من قبل فإن القرآن الكريم الذي يمثل الوحي الإلهي كان يشكل المنبع الرئيسي للميراث الثقافي الإسلامي. وهو دون شك يحتوي على حقائق خالدة لا تتغير. لذا فإن أي حركة سواء أكانت تجديدية أم إصلاحية أم تنويرية يجب أن تكون متلائمة مع روح هذه الحقائق الخالدة.

وهذا يعني أن أنشطة الاجتهاد وفهم النصوص الإسلامية وتفسيرها واستخراج الأحكام منها، يجب أن يتبع أصول الاجتهاد ومنهجها الذي تقرر واستقر طوال عصور طويلة، وأن هذا الأمر ضرورة دينية. لأن هذه الفعالية بشرية، لذا يجب أن تكون تابعة ومتبعة لروح المعطيات الدينية للوحي الإلهي وضمن إطارها. ومع أن الاجتهاد جهد بشري إلا أنه لا يتوسل به إلى مجرد التغيير والتجديد. لأن غايته يجب أن تكون البحث عن الحقيقة. وأن يسعى لمعرفة القصد الإلهي والرضا الإلهي ومشيئته وإرادته وإظهارها. وهذا يستدعي أقصى درجات اليقظة والاهتمام والدقة. إن الثوابت الإسلامية تشكل النظرة العقيدية للإسلام وبنية قواعده. وليس هناك من دين آخر أو ثقافة أخرى ترسخت فيه هذه الأمور بهذا الشكل.

في ضمن هذه المقاييس أي على الرغم من وجود الثوابت في الإسلام، فهناك إمكانية للتجديد في الإسلام سواء على الصعيد الثقافي أو الاجتماعي. فضرورة التجديد موجودة في كل عصر. وحركات التجديد الباقية ضمن حدود العقيدة والقانون ونظرية المعرفة الإسلامية، جددت على الدوام الحياة على الصعيد الفردي والجماعي. ومع أنه ليست عملية سهلة إلا أنه يمكن حتى اليوم القيام بحركة تجديد بشرط مراعاة روح النصوص وحدودها. ولا شك أن هذا يستدعي علماً واختصاصاً وكفاءة عالية 288-289-290 ومعرفة عميقة بالعلوم الإسلامية. ومثل هذه الحركة الإصلاحية والتجديدية تختلف طبعاً عن حركة الإصلاح (Reform)، أي حركة إعادة التشكيل التي تتوجه عادة إلى التغيير حتى في المصادر الأصلية والمنابع الرئيسية. وهذا أمر تزل فيه الأقدام لأن الغاية هنا لا تكون تجديداً ولا إصلاحاً.

ومهما كان إطار التجديد والإصلاح والإحياء واسعاً، فهو عبارة عن تجديد التقاليد من الداخل. ويجب أن يبقى التجديد ضمن المفهوم الذي رسمته النصوص الإسلامية الرئيسية كمنهج. ومع أن حركة إعادة التشكيل (Reform) تدعو أيضاً إلى التجديد، إلا أنها تقترح تجديداً يشمل تغيير النصوص الأساسية وتغيير تقاليد المحافظة عليها. هناك فرق أساسي بين حركة إعادة التشكيل والتقاليد من الناحية المعرفية (Epistomologic)، والناحية الوجودية (Ontological). فحركة إعادة التشكيل (Reform)، حركة أيدولوجية أكثر من كونها حركة منهجية أو وجودية. وقد ظهرت هذه الحركة (أي حركة إعادة التشكيل (Reform) أو حركة الإصلاح والنهضة بالمفهوم الغربي) بعدما تعرضت نصوص الدين المسيحي إلى التحريف. وكانت الحركة تهدف إلى تنقية مصادر الدين المسيحي ونصوصه من التحريفات التي أصابتها. وتوجهت حركة الإحياء والنهضة (Renaissance)، وكذلك حركة إعادة التشكيل والإصلاح (Reform) في أول الأمر إلى التشكيك في مصادر الكنيسة وتعاليمها وعقائدها، وإلى محاسبتها ومناقشتها. ثم انتقلت إلى الساحات والميادين الأخرى. بينما لم يحدث هذا في الإسلام قط في أي وقت من الأوقات. لأن نصوص الإسلام وتقاليده بقيت محفوظة كما هي منذ 14 قرناً حتى الآن. ولم تكن حركة النهضة الأوربية أي حركة النهضة أو حركة الإصلاح (Reform)، لتنجح ما لم تتعرض لسلطة الكنيسة التي فرضت قيوداً من التعاليم على الفكر وعلى الحقائق العلمية. بينما لو توجهت حركة مشابهة لتلك الحركة إلى نصوص الإسلام الصحيحة والمصانة عدت حركة تحريف. فما كان علاجاً ودواءً هناك في الغرب يكون سماً قاتلاً عندنا. لذا لا يمكن الحديث عندنا عند التناول المنهجي لميراث الثقافة الإسلامية والنصوص الأساسية للإسلام سوى الحديث عن حركة “التجديد”، وهي حركة تقوم بتوسيع فعاليات الاجتهاد من داخل النصوص.

لا شك أننا هنا لا نتناول موضوع التجديد والاجتهاد من ناحيتها الفقهية والكلامية، ولا نتعرض إلى التفاصيل الدقيقة الموجودة في علم الأصول، بل نستعمل هنا مفردات ومفاهيم علم الاجتماع (Sosyology).

عندما يتطرق فتح الله كولن إلى التغيير والتجديد والإحياء والبعث من جديد..الخ يستعمل اللغة اليومية والمصطلحات الاجتماعية. ويشير إلى المنهجية الإسلامية في هذا الموضوع، وإلى وجوب أخذ هذه الخلفية بنظر الاعتبار. ومع أنه عند الحديث عن البعث من جديد كأمة لا يدخل في نقاشات تاريخية أو مفاهيمية، إلا أنه على وعي بالنقاشات الجارية في هذا الموضوع. وهو يرى أن العناصر الأساسية في هذا البعث الجديد تكمن في الماضي وفي ميراثنا الثقافي الغني. وهذا الميراث الثقافي يستطيع احتضان الضرورات العصرية ويجيب على احتياجاتها ويحل مشاكلها في الأمد القريب أو البعيد إن تم تناولها وتفسيرها ضمن خطة طويلة الأمد بصبر ودقة. ولكنه يؤكد على الدوام على ضرورة وجود كادر مضحٍ ينذر نفسه لأمته ولدينه. وما لم تتم تنشئة وتربية مثل هذا الكادر الناذر نفسه 290 لخير ولصالح الإنسانية، فلا يستطيع أي ميراث ثقافي تحقيق هذا الأمر لوحده. لذا فهو بدلاً من الدخول في نقاشات حول مفاهيم التجديد ومصطلحاتها، يفضل تركيز جهوده على تنشئة مثل هذا الجيل الذي يستطيع حمل أعباء التجديد.([88])

(293-292) “…قد يبدو أن العناصر الموضوعية تكون سائدة أكثر في التاريخ. ولكن المبادئ الموضوعية –قد يبدو ما أقوله هنا شيئاً مختلفاً تماماً– تنمو في أحيان كثيرة في حضن العناصر “الذاتية” (Subjectivisim).. فهي تولد أولاً في أفكار الأفراد الذين يستطيعون تطويرها وإقامتها على أسس منظمة. بل يمكن القول بأن الفكر التاريخي يلج إلى عالمنا أول الأمر كخيال، ويكمل دور طفولته كتصورات، ثم يلج كتعقل إلى مرحلة الشباب ثم يصل إلى مرحلة النضج، ثم ينقلب إلى خطة وإلى مشروع. لذا يجب ألا نسحب المسائل إلى مثل هذه الموضوعية وألا نقلصها ونضيقها. وهذا الطراز من التفكير وإن بدا بعضه مختلفاً عن بعض، فأحدهما متعلق بالآخر في المبدأ والمنتهى”([89]).

ويشير فتح الله كولن هنا إلى أننا يجب ألا نقرأ التاريخ في الحوادث والفعاليات والمشاريع التي أنجزها القائمون بصنعه. بل يجب أن نقرأه بهذه الحوادث المتحققة وبالآحلام والأهداف أيضاً، التي بقيت في أذهان وعقول القائمين بصنعها. فإذا صنعنا هذا أصبح التاريخ أكثر حيوية وأكثر معنى. وإلا لم يبق له دور أكثر من قيامه بتشكيل هويتنا، وينقلب بعده إلى مجرد مصدر حنين أي ليس حركة إحياء جديدة ولا تجديد أي حضارة.

(293) إن إشارة فتح الله كولن إلى الماضي والحاضر والمستقبل تجدد نفسها على الدوام. فالماضي عنده مثل منبع والحال مثل نهر والمستقبل كبحر أو كمحيط. فهو يرى أن الماضي مملوء برسائل موجهة إلى الإنسانية. فالدراويش الذين انطلقوا من قلب آسيا الوسطى إلى الأناضول، كانوا يمثلون الإسلام في الأناضول ويمثلون انطلاق أمتنا وانطلاق عزيمتها نحو الخلود والأبدية. فقد أحيا هؤلاء الدراويش رسائل الإنسانية المفعمة بالمحبة والعشق والحركة والنشاط. بحيث إن هذه الرسائل مثلت ستة عصور من القوة والمنعة،([90]) ومثلت عصرين من الانتشار في الشعيرات الدموية الدقيقة في جسد الأمة التي أصابها الضعف والوهن. لذا فالتاريخ عند فتح الله كولن يصبح عنصر بناء وأساسا للمستقبل.

“…نحن لم ننفك نقوم الحاضر بعد أن نرنو إلى الماضي وإلى المستقبل. فالماضي نبع ومصدر مهم، والحاضر جدوله ونهره، والمستقبل سيكون بحره الواسع ومحيطه. لذا يجب تقويم الماضي والحاضر والمستقبل كلا في إطاره تقويماً صحيحاً ومفيداً. فنحن لا ننظر إلى هذه المسألة نظرة بعض الماديين. فمثلاً يقول عمر الخيام:

لا تصرخ ألماً من يوم مضى

ولا تأمل عبثاً في يوم آتٍ

فالماضي والمستقبل كلاهما وهم

أمامك الحاضر فاغرف منه لذة

وهذا دخول في إطار ضيق، وفي فانوس صغير وتعبير عن قلق نفسي.

(294-293) لقد حطم الإنسان المعاصر هذا الفانوس وكسره. وأصبح الجميع –حتى الماديون منهم– يرون أن الحاضر لا يمكن أن يشبع نفس الإنسان. وأصبح بعضهم يرى حاجة الالتجاء إما إلى الماضي أو إلى المستقبل. والذين يملكون رؤية واسعة لم يعودوا ينظرون إلى الماضي وكأنه قبر، بل عرش لأجدادنا. أما الحاضر فهو حياة المنفى المعاشة ولكن مع احترام وحفظ جميع القوى المحركة التي صنعت ذلك الماضي. وليس مجرد شعور بالاحترام، بل نجلها ونريد حفظها وصيانتها. ولا ننظر إلى الماضي وكأنه متحف للقوميات. فنحن نرى أن الماضي حي بكل جوانبه. نحن نرى فيه عالماً يتحدث إلينا بنهره وبحره وسهله وجبله، ويهمس لنا ويفكر مثلنا. أما المستقبل فهو العالم الذي يضم لنا فرصاً كثيرة وعديدة”.([91])

(294)

المدرسة –المدرسة الدينية– المعهد

  • حول ثنائية المدرسة الحديثة والمدرسة الدينية

محمد فتح الله كولن ناشط من نشطاء المدرسة الدينية ومن خريجيها. فقد استقى أولى معلوماته في الحياة وأفكاره وإيمانه وحماسته للعمل من المدرسة الدينية. لقد كانت المدارس الدينية طوال عصور طويلة هي المؤسسة القائمة بإنتاج ووضع الأسس الفكرية والسياسية والحقوقية لدولة قوية فاتحة. ولا يمكن التهوين من أهميتها ومن دورها في رقي الدولة العثمانية وفي إنشاء ووضع الحضارة التركية–الإسلامية. فالمدارس الدينية كانت من أهم المؤسسات التي ترسم وتعين هوية العثماني ونظرته إلى الحياة الدنيوية، ومنظومة أفكاره ونظرته إلى الحياة الأخروية. ورسمت شكل التنظيمات الرسمية والأهلية. فقد كانت هذه المدارس أهم تنظيم ينفث الحياة في منظومة التفكير وفي بنية التعليم والاجتماع في الدولة العثمانية حتى عهد التنظيمات.

كانت المدارس الدينية مؤسسات تعليمية مستقلة خارجة عن السيطرة المباشرة للدولة. لأن المؤسسات الوقفية (الأوقاف) كانت هي القائمة بإدارة هذه المؤسسات التعليمية. كان المجتمع العثماني مجتمعاً تكافلياً وتعاونياً. وكانت العائلات الغنية تهب أملاكها وتجعلها وقفاً في سبيل المجتمع دون انتظار أي منفعة، بل بدافع روحي وديني ومعنوي صرف.

ولكن عندما دب الضعف في الدولة وفي النظام الاجتماعي والاقتصادي(295-294) اعتباراً من القرن السابع عشر، بدأ التدهور في نظام الأوقاف أولاً، ثم سرى إلى المؤسسات التعليمية المرتطبة به.

ولما كانت المدارس خارج سيطرة ورقابة الدولة، كانت الهوية الاجتماعية والدينية غالبة عليها. لذا كانت قوية عندما كانت الدولة قوية. ولما كانت الدولة قوية كان المجتمع مستقراً. وكان من أهم عوامل هذا الاستقرار الاجتماعي قوة الروابط الدينية والمعنوية وقوة الترابط الاجتماعي. ولكن مع مرور الزمن –لا يمكن إعطاء تاريخ محدد لهذا، ولكن يمكننا القول أنه حدث بعد القرن السابع عشر– بدأ النظام العثماني بالتفسخ بسبب عوامل داخلية وخارجية، وضعف هذا الترابط والتساند الاجتماعي. وفي ظل هذه التغيرات الاجتماعية فقدت مؤسسات الأوقاف أهميتها الاجتماعية، وبدأ القلق يسري في العوائل الغنية حول مستقبلها، بسبب سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية. لذا لم تعد تعطي بعض ممتلكاتها للوقف، أو تقوم بعض العائلات بوضع شروط خاصة للوقف. ومع مرور الزمن تحولت الأوقاف ومؤسساتها إلى مصدر رزق لهذه العائلات. وهكذا ابتعدت الأوقاف عن أهدافها الدينية والاجتماعية. وأصبحت الأوقاف العائلية من أسباب انهيار نظام المدارس الدينية. فقد بدأت الطبقات الغنية وكوادرها بالسيطرة على هذه المدارس. وعندما بدأ متولو المؤسسات الوقفية بتعيين مدراء المدارس الدينية من أشخاص غير مؤهلين وغير كفوئين لم تعد هذه المدارس مراكز علم، بل مراكز لتدريس تاريخ العلم وتكرار القديم. ثم تدخلت السياسة في هذه المدارس ولوثتها، وتدخلت المدارس في السياسة فشوهتها. وهذا الأمر أفقد المدارس استقلاليتها. بينما كان النفوذ الديني والاجتماعي والثقافي في القمة في عهود استقلالها. وعندما بدأت هذه المدارس(296-295) بالسقوط والانهدام جرت معها الدولة والمجتمع إلى التدهور. لم تنتبه المدارس إلى وخامة هذا الأمر، ولم تعط أي فرصة لمن انتبه وأدرك وخامة هذا الأمر كما عجزت هي عن تجديد نفسها.([92])

لا شك في وجود عوامل أخرى سياسية واجتماعية وثقافية أدت إلى تدهور هذه المدارس. منها ظهور تفوق الدول الغربية وتحول حركات التغرب (تقليد الغرب) إلى جزء من سياسة الدولة في عهد التنظيمات، والفعاليات والنشاطات التي جرت في استيراد الفكر والتراث الغربي. والتغيرات الاجتماعية والثقافية التي حصلت..الخ. كل هذه العوامل أدت إلى ضرورة إعادة النظر في نظم التعليم والتربية في هذه المدارس.

كانت نظم التعليم والتربية في عهود تأخر الدولة العثمانية محرومة من التكامل. فقد كان هناك نظامان للتعليم والتربية:

  • المدارس العائدة للمسلمين (مدارس الصبيان والمدارس الدينية والمدارس العسكرية، ومدرسة الأندرون.. الخ). ([93])
  • المدارس العائدة لغير المسلمين (مدارس البلغار واليونانيين والأرمن واليهود والصرب..الخ).

كانت هذه المدارس مختلفة بعضها عن بعض من ناحية المناهج وفلسفة التعليم والعقيدة الدينية والسياسية. أي أنها بدلاً من قيامها بعملية توحيد وجمع، كانت عاملاً في التفتيت والتفرقة. بل يمكن القول بأن هذه المعاهد الأجنبية كانت من عوامل تشوية نظام التعليم العثماني–التركي، بل انقبلت هذه المعاهد بعد عهد التنظيمات إلى نوادٍ سياسية سعت لهدم الدولة. وكانت(297-296) هذه المعاهد هي القنوات التي نقلت التأثيرات السياسية والعسكرية والاجتماعية لفرنسا وإنكلترا وألمانيا إلى الدولة العثمانية. هذه التأثيرات التي اشتدت حتى قاربت في بعض الأحيان تأثير الاحتلال والاستعمار. وما ملكت هذه الدول مثل هذا التأثير إلا بواسطة هذه المعاهد والخريجين المحليين منها. لقد حملت هذه المدارس الأجنبية الثقافة الامبريالية وأصبح ذكرها يرادف ذكر الامبريالية.

والآن لنلق نظرة سريعة على الموضوع من زاوية النشاطات الفكرية والسياسية لأنصار التنظيمات. لأن عهد التنظيمات شكل عهداً جديداً من ناحية النظام التعليمي والتربوي. لقد وضعوا المدارس الحديثة في مقابل المدارس الدينية. والظاهر أن رجال التنظيمات كانوا على وعي بالنظام الثنائي في النظام التعليمي والتربوي. ولكنهم نتيجة تأثرهم بالغرب كانوا يريدون جعل النظام التعليمي والتربوي في الدولة العثمانية نظاماً علمانياً وليبرالياً وعصرياً. وكانوا يرون أن الثنائية الموجودة في النظام التعليمي والتربوي ستؤدي إلى تشتت اجتماعي وإلى اختلافات اجتماعية. والحقيقة أنهم كانوا يرمون إلى شيء أكبر، وهو السعي –تحت تأثير القيم السياسية والفكرية الغربية- لإنشاء مجتمع عثماني جديد.

وللوصول إلى هذا الهدف فقد خططوا للقيام بتغيير نظام المدارس الدينية. وكانوا يعتقدون أنهم بعملهم هذا يستطيعون تحقيق وحدة المجتمع العثماني من الناحية السياسية والاجتماعية. كان هذا أمراً مهما بالنسبة لهم من ناحية تحقيق مشروعهم في التغرب من الناحية الاجتماعية والفكرية. لقد أثر أنصار التنظيمات على المسلمين بنظام المدارس الحديثة. ولكنهم لم يستطيعوا التأثير على المدارس الأخرى الأجنبية. وأظهر هذا التغيير في النظام التعليمي ثنائية كبيرة بين المدارس الدينية والمدارس الحديثة. وعلاوة على هذا فقد حصل (298-297) الأجانب بعد إعلان التنظيمات على امتيازات كبيرة داخل الامبراطورية في خصوص فتح المدارس الدينية وغير الدينية. كان الوضع يسير ضد أهداف أنصار التنظيمات، علماً بأن أفكار هؤلاء كانت في الحقيقة مشوشة، لأنهم لم يستطيعوا فهم وهضم القيم الفكرية والسياسية للغرب بصورة صحيحة أولاً، ولم يستطيعوا تمثيلها في مشاريع اجتماعية. كانوا في موقف التقليد الأعمى للغرب. وكما لم يستطيعوا وضع نظام تربوي وتعليمي جيد تسببوا في إضعاف القيم الاجتماعية والثقافية في المجتمع. وبعد أن انفصلت المدارس الحديثة عن المدارس الدينية أعطيت إلى يد الدولة. وهكذا أصبحت هذه المدارس الحديثة من الناحية المالية ومن ناحية كادر التعليم وضرورة إنشاء الأبنية لها وتأمين الأثاث..الخ. عبئاً مالياً كبيراً على عاتق الدولة.

صحيح أن المدارس الحديثة فتحت، ولكن المدارس الدينية استمرت في الوجود. وقد أدت الثنائية الموجودة بين المدارس الحديثة والمدارس الدينية إلى ثنائية في فكر المثقفين الأتراك، وفي فكر رجال الدولة مما أفرز صراعاً شديداً بينهما. وفي نتيجة هذا الصراع تقوقعت المدارس الدينية على نفسها. أما المدارس الحديثة فقد بقيت سجينة التقليد، ولم تستطع أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام. واستمرت هذه الثنائية وهذا الصراع حتى سن قانون “التدريس الموحد” في عام 1924 في العهد الجمهوري، حيث ظهرت فيه “المدارس العلمانية” ووضعت خطة في هذا العهد لمكافحة الأمية فزاد عدد هذه المدارس. ولكن لم يتم تسجيل تقدم في مستوى هذه المدارس مع الأسف.

(299-298) ومع أن خطط التعليم كانت خططاً كبيرة في أذهان أنصار التنظيمات إلا أنهم لم يستطيعوا تحقيق شيء يذكر بسبب التشوش الفكري عندهم. ومن الغريب أن “فرمان التنظيمات” الصادر عام 1839 والذي تم كيل المديح له لم يتعرض لنظام التعليم، بل اقتصرت محتوياته على التجديد في الساحة السياسية والاجتماعية. ثم أدرج ذكر نظام التعليم في فرمانات الإصلاح بشكل مُبتسر.

والخلاصة أن نظام التعليم قبل التنظيمات كان في يد المدارس الدينية. ثم انتقل هذا بعد التنظيمات وفي العهد الجمهوري إلى يد الدولة.

المدارس الدينية والتغيير

كانت ساحة التأثير الاجتماعي للمدارس الدينية تفوق التأثير الاجتماعي للمدارس الحديثة والمدارس العلمانية. فقد أفرزت تلك المدارس الدينية علاقات وثيقة بين العائلة والمحلة والمجتمع. بينما لا نرى مثل هذا التأثير في مدارس عهد التنظيمات. صحيح أن أنصار التنظيمات أرادوا إنشاء مجتمع غربي حديث بتغيير نظام التعليم والتربية، ولكنهم أخفقوا في هذا ولم يفعلوا شيئاً سوى خلق ثناية في نظام التعليم والتربية وفي المجتمع. بينما كانت المدارس الدينية عاملاً مهماً من عوامل تكوين الشخصية الإنسانية للأفراد من الناحية الاجتماعية والدينية والثقافية طوال عصور عديدة. ولكن بعد أن تغيرت البيئة الاجتماعية وتجددت، لم تستطع هذه المدارس الدينية مجاراة هذا التغير ولا استيعاب هذا التجدد. أما في عهد التنظيمات فقد وقفت الامبراطورية على أعتاب تغييرات جذرية. تغييرات في نظام التعليم والتربية، وفي الحياة اليومية، وفي آداب المعاشرة الاجتماعية والسلوك الاجتماعي. فأنصار التنظيمات بدأوا بتقليد الغرب في هذه المناحي، وبتغيير جميع العلاقات الاجتماعية (300-299) والفردية التي تفرزها المدارس الدينية. ولم تستطع هذه المدارس تقديم نماذج جديدة من طرز العيش ومن العلاقات الاجتماعية إلى مثل هذا المجتمع المتعرض إلى تغييرات مادية وروحية بوتائر متسارعة. حيث ضعفت فيها قابلية الحركة الاجتماعية والثقافية. بينما كان المجتمع الجديد في حركة متسارعة في كل ساحة وميدان؛ محاولاً التملص من جذوره الاجتماعية والتاريخية ومن نظامه التربوي، ومقلداً لأسلوب الحياة الغربية، ومنتجاً علاقات اجتماعية سطحية وخفيفة. بينما كان المجتمع الذي خاطبته هذه المدارس مجتمعاً جدياً وقوراً وواثقاً من نفسه. من جهة أخرى انقلبت هذه المدارس –ولا سيما في العهود الأخيرة– إلى مدارس تكرر نفسها بتكرار معلومات وشعارات معينة. وبينما كان المنطق الرياضي والتجريبي قد انتشر في الغرب، وأصبح عاملاً في تفوقه العلمي والفكري والتقني وفي التكنولوجيا والصناعية والعسكرية، كانت المدارس الدينية لا تزال تعمل حسب المنطق الصوري، ولا تستطيع القيام بأي حملة تجديدية في هذه الميادين. وتقوم بتحفيظ ركام من المعلومات والنظريات العقيمة التي لا يمكن تطبيقها عملياً. لذا لم تكن أمامها أي فرصة في وضعها هذا للوصول إلى المستوى العلمي والتقني للغرب. ومع أن التجديد بدا ضرورياً فإنها لم تستطع الاستجابة لهذه الضرورة.

وقد يكون لإفراط أنصار التنظيمات في التقليد الغربي دور في هذا، لأنهم كانوا يهدفون ليس إلى تغيير كبير في أسس التفكير والمعرفة فحسب، بل في السلوك الاجتماعي وفي أسس العقيدة أيضاً. ولم يكن في مقدور المدارس الدينية قبول وتحمل مثل هذا التغيير الجذري.

(300) عندما نلتفت إلى الماضي نرى أن مواضيع كثيرة كانت مطروحة للنقاش في السابق ولكنها لم تعد تحمل أي أهمية أو معنى حالياً. ولم تعد المشاكل القديمة حول طرق المعرفة والفكر ونظم التعليم والتربية مطروحة حالياً. ولكن من أجل تحليل شخصية نشطة متخرجة من المدرسة الدينية، علينا إلقاء نظرة على الأسس التاريخية والاجتماعية للمدارس الدينية. ومع أن أي تحليل واسع للآثار الثقافية والاجتماعية للمدارس الدينية والمدارس الحديثة والعلمانية، يحتاج إلى تحليل أوسع وأعمق، يتناول مفردات الدراسة فيها ونظرتها وفلسفتها..الخ. إلا أن هذا يتجاوز موضوعنا، لذا سنقتصر على إيراد شيء مجمل، ونحيل من يريد الاستزادة إلى بحوث عديدة ومعمقة في هذا الموضوع سبق وأن نشرت.

(301-300)

محمد فتح الله كولن من المدرسة الدينية إلى المعهد

سبق أن ذكرنا بأن محمد فتح الله كولن -كعالم وكرجل فكر وحركة– خريج مدرسة دينية. ويمكن القول أن أشباه فتح الله كولن من الرجال هم آخر حلقات نظام آخر المدارس الدينية في هذا البلد. وعلى الرغم من هذا فقد كان فتح الله كولن مختلفاً عنهم لأنه لم يبق في حدود العلم والفكر والجو الاجتماعي لهذه المدارس. فقد قرأ وَألَمّ بالحضارة الغربية المعاصرة وبنظم فكرها، وبعلومها الوضعية وبأسلوب حياتها الاجتماعية. فإلى جانب علمه الديني الغزير اكتسب العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية بمستوى أعلى من المستوى الذي يتم تدريسه حالياً في المؤسسات التعليمية.

طرح فتح الله كولن أفكاره حول نظم التعليم والتربية الممتدة من المدرسة الدينية إلى المعاهد الحالية في المقابلات الصحفية التي أجريت معه في تسعينات القرن الماضي([94]) حيث قام –عند الإجابة عن الأسئلة المختلفة المطروحة عليه– بتحليل وتقويم واسع. وأشار كيف وقع النظام التعليمي ومناهجه في أسر التكرار، وكيف أصبحت الهوامش الغنية والشروح سداً أمام التجديد في كل ساحة. وأجرى مقارنة عامة بين ما كان يدرس في هذه المدارس بشكل كلاسيكي مع العلوم الرياضية التي انتشرت في الغرب في ذلك العهد. وأرجع سبب جمود وتأثر هذه المدارس –إلى(302-301) جانب أسباب أخرى– إلى قيامها بغلق أبوابها أمام العلوم الوضعية، كما ذكر بأن العلوم الكلاسيكية التي كانت تدرس فيها، مثل اللغة والبلاغة والمنطق وعلم الكلام والتفسير والفقه وعلم الأصول..الخ، كانت تدرس وكأن من غير الممكن القيام بأي تجديد أو توسيع فكري وعملي في أي ساحة من الساحات. وأرجع سبب التفريق بين العلوم الدينية والوضعية إلى سقوط نظام هذه المدارس في هوة التكرار وعدم قابليته لأي تجديد.

“أجل، لقد حدث هذا الأنفصال في عهد مبكر في المدرسة النظامية وفي المدارس الدينية. لذا يقول بعض الباحثين بأن هذه المسؤولية تقع على عاتق الإمام الغزالي الذي دخل في صراع مع الفلسفة. لأن العلوم آنذاك لم تكن قد انفصلت عن الفلسفة، بل كانت متداخلة معها (حدث هذا الانفصال في التاريخ القريب بين العلوم والفلسفة)، لذا فقد أخذت هذه العلوم نصيبها من هجوم الغزالي على الفلسفة. كما نالت العقلانية التي وهبت للإنسانية طرق التفكير والعلوم نصيبها من هذا الهجوم.

لقد حصل سوء فهم في العالم الإسلامي آنذاك لصراع الإمام الغزالي مع بعض المسائل النظرية، وحُسب بأنه يعادي العلوم الوضعية إلى جانب معاداته الفلسفة، ويفتح صراعاً ونضالاً معها أيضاً. وقد انتهزت المعارضة للعلوم –التي كانت موجودة– فأعلنت عن نفسها بقوة أكبر”.([95])

وتناول فتح الله كولن المفردات التي درست لعصور عديدة في هذه المدارس والتي عدت من أهم أركان الدراسة مثل كتب البلاغة والمنطق، فقد درست هذه الكتب كمجرد واسطة ومعين للنقاش واللعب بالكلمات. أي أن نظام التعليم كان منفصلاً عن الحياة الاجتماعية والفكرية. وكان بعيداً عن تهيئة الفكر لسبر(303-302) أغوار الوجود والأشياء بشكل منظم.

“أنا لا أفهم حتى الآن الفائدة من تدريس أسس البلاغة –التي عدّت من أهم مفرادت التدريس– في هذه المدارس. إن الزخرفة اللفظية في اللغة العربية لا تزال حتى الآن تحيرني. كان يدرس أيضاً المنطق الأرسطي. كان هناك ركام كبير من المعلومات التي تدرس. صحيح أنها قد تفيد في إجراء النقاش، ولكنها لم تكن تعني شيئاً في صدد العلوم الإسلامية، كما لم تكن صالحة في تشكيل منطق حديث. وقد جلب نظري وفي وقت مبكر عدم وجود فكر رياضي وفكر حديث، لم يكن هناك في الأقل منطق على غرار منطق بيكون”.([96])

وهو يرى أن هذه المدارس التي فصلت الفكر الديني عن الفكر الموضوعي وعن العلوم في تلك المرحلة فعلت هذا على الرغم من تعاليم القرآن. بينما كان القرآن الكريم يحث بشكل واضح على العلوم الدينية وعلى العلوم والفنون الحضارية ويقرنهما معاً. وعندما فسد هذا الاقتران ظهرت المرحلة التاريخية المشؤومة التي فصلت الدين عن العلم. ثم فصلت نظام التعليم عن الحياة الاجتماعية، وظهرت ثنائية المدارس الدينية والمدارس الاعتيادية، والتناقض والصراع بينهما. أي كان هذا الفصل هو خلفية هذا الصراع. ويمكن إرجاع العوامل الاجتماعية والتاريخية له إلى هذا الفصل.

“..يوجد مثلا القضاة في التاريخ العثماني. قام هؤلاء القضاة بتنحية كل شيء خارج العلوم الإسلامية في المدارس الدينية. وهكذا (303) تم إبعاد العلوم الثابتة الوضعية والبحوث العلمية عن المدارس الدينية على الرغم من القرآن ومن السنة النبوية الثابتة. وجّه القرآن الكريم الأنظار إلى الأرض والسماء، أو بالتعبير القرآني النفيس إلى الآفاق وإلى الأنفس. وتبلغ الآيات التي تتكلم عن الآفاق والأنفس ثلث القرآن تقريباً. وهو يشير إلى هذه الأمور إما استطراداً أو عند تطرقه إلى العبادات، فهو يجلب الأنظار إلى القمر.. الشمس.. النجوم.. السماء.. النظام الكوني..الخ. وحسب رأي الأستاذ سعيد النورسي، فالقرآن هنا يشبع روح الإنسان وعواطفه ومشاعره من جهة، ويشبع عقول العلماء والباحثين من جهة أخرى. ولكن تعالوا وانظروا إلى هذه المدارس الدينية التي صمّت آذانها في مرحلة تاريخية معينة عن جميع هذه التعابير والإشارات القرآنية. فعلى الرغم من أن الله تعالى يقول في القرآن الكريم ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾(فصلت:53)، فإن الأشياء في الوجود لم تصبح موضع التدقيق والدراسة. بينما كان من المفروض أنه كلما قرئ القرآن قُرئت الآيات التكوينية، أي قرئ كتاب الكون. وبينما لم يتم هذا ولم تقرأ الآيات التكوينية المستندة إلى علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات آنذاك. إن قراءة الأشياء والموجودات الكونية أي قراءة كتاب الكون كقراءة أي كتاب مسطور هو نصف التكاليف المطلوبة من كل مؤمن.

عندما فسد هذا القِران([97]) توجهت المدارس الدينية إلى وجهة، وتوجهت المدارس الأخرى إلى وجهة أخرى. وتشكلت في المجتمع أرضية صراع. فقد انفصل القلب عن العقل، أي أصبح كتاب الكون في جهة والقرآن في جهة”.([98])

(304) ولو تتبعنا فكر محمد فتح الله كولن حول العلوم الدينية والعلوم الوضعية (أو بالتعبير القديم الفنون المدنية) لقادنا هذا إلى مشروعه في التعليم في المعاهد. وحتى لو انطلقنا من هذه المقابلة الصحفية المذكورة، نعلم مدى صحة نظرته إلى النظام التعليمي في عهده وإلى النظام التعليمي الحديث وإلى العلاقة الحميمة الموجودة بين العلوم الوضعية والعلوم الإسلامية الكلاسيكية. وكيف أنه وضع هذه العلاقة في إطارها الحيوي والصحيح. وهكذا فهو بمعاهده التعليمية ونظام التعليم السائد فيها يقوم بفتح مرحلة جديدة في ساحة التعليم والتربية بمزجه نظام المدارس الدينية –التي يقتصر التعليم فيها على العلوم الدينية– بنظام المدارس غير الدينية التي يقتصر التعليم فيها على العلوم الصرفة. ولا نعني أنه يقوم بمزج آلي وعشوائي. لأن نظام التعليم في معاهده لا يحتوي على أي تدريس ديني. ولكنه لا يحتوي أيضاً على أي صدام بين المعطيات الدينية والأخلاقية. لأننا شاهدنا طوال عصرين الآثار المؤلمة لهذا الصدام والمصائب التي أدت إليها في هويتنا من الناحية الاجتماعية والفكرية.

إن قيام محمد فتح الله كولن بمزج العقل مع القلب هو اعتراض على المفهوم القائل بأن العلم ونظام التربية والتعليم يجب أن يوجّه إلى عقل الإنسان فقط وكأنهما شيء خارجي بارد لا يملك حياة. بل يجب أن يوجه العلم ونظام التربية إلى حياة الإنسان وإلى المجتمع بطريقة دافئة مفعمة بالحب. والعلم بهذا المفهوم هو معرفة وحب وثقافة ضمير. وهو يطلق هذا الاسم “ثقافة القلب والضمير” يقول:

“..إن من أهم العناصر التي تميز الملل عن الملل الأخرى هي ثقافتها بدءً من(305-304) ثقافة المطبخ والأكل إلى ثقافة السلوك.. إلى السلوك البيتي.. إلى شكل البيت ومعماريته.. إلى الأعراف والعادات التي بممارستها والتمرين عليها تصبح أموراً لازمة لا يمكن الاستغناء عنها، وتنقلب إلى علاقات فارقة للأمة. ومثيل هذا ما يحدث في القلب الذي عندما يتمرس بالحقائق الإلهية وبالعبودية والتقرب إلى الله يصل إلى علاقة مع الروحانيين والملائكة الكرام خارج مفهوم الزمان. لذا فأنا شخصياً مقتنع بأن من المناسب إطلاق صفة “ثقافة القلب” على المعرفة والعرفان.

هنا ستخرج المعرفة عن كونها مجرد مصدر للعلم حيث تنقلب إلى محبة. لأن الإنسان لا يتعلق بإنسان آخر ويحبه إلا بعد أن يؤمن به ويعرفه عن قرب، يحبه بمقياس هذا الإيمان والقرب منه. الحب منفتح على الجميع بدرجات مختلفة. ولكن من كان قلبه منفتحاً على الحب وعلى العواطف الجياشة ووجدانه أكثر رقة يستطيع أن يصل في هذا إلى مرحلة العشق”.([99])

(305) ولكن الإنسان ليس عبارة عن قلب وعن وجدان فقط. وعندما يتوجه التعليم والتربية نحو الإنسان فيجب أن يتوجه أيضاً إلى عالمه المادي، وإلى دنياه بقدر توجهه إلى قلبه ووجدانه لكي يتم التكامل.

من جهة أخرى فهو يقول:

“وليس هذا عمل القلب فقط. للقلب أهمية ولكن على ألا يُهمل جسد الإنسان وبدنه، وألا يتم إهمال الدنيا أيضاً. والحقيقة أن الإنسان عالم مصغر، والعالم إنسان مكبّر. والحكمة البليغة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تفيد هذا المعنى:

وتزعم أنك جرم صغير    وفيك انطوى العالم الأكبر

إذن فالإنسان ليس عبارة عن آلية قلب وروح ووجدان فقط. وليس آلية نفس فحسب. يجب تناول الإنسان ككل. وكل جانب من هذه الجوانب في الإنسان يمكن أن يؤخذ كموضوع للتدقيق والبحث. والإنسان بروحه ومشاعره ومداركه كائن جامع. وأظن أن مرتبة “الجمع” من أرقى المراتب في التصوف، بل هو “جمع الجمع”. أي أن الإنسان هناك بجانب الأسرار الإلهية المودعة فيه وبقدرته على استيعاب(306-305) أسرار ماهيته يستطيع الوصول إلى ذروة ما يمكن الوصول إليه”.([100])

 

إضافات المعاهد إلى نظام التعليم التركي:

تعد المعاهد التي فتحت بتشويق وتشجيع من محمد فتح الله كولن مهمة لنظام التعليم التركي من ناحيتين:

  • من الناحية الاجتماعية.
  • من ناحية النوعية الجيدة للتعليم.

لقد نفثت هذه المعاهد الحركة والحيوية لنظام التعليم في تركيا، وكانت عاملاً في زيادة الاهتمام بنظام التعليم سواء في الأوساط المؤيدة لهذه المعاهد أو المعارضة لها.([101]) وعندما تبين نجاح هذه المعاهد في إعداد الطلاب للجامعات، ونجاحها الباهر في المباريات العلمية العالمية، وانعكست أخبار هذه النجاحات في وسائل الإعلام ووصلت إلى أسماع الرأي العام، توجه العديد إلى ساحة التعليم، إلى درجة أنه لم يحدث (307-306) مثل هذا الاهتمام المتزايد نحو التعليم في تركيا في العهود السابقة. حتى لقد أصبح من المعتاد الآن وجود برامج خاصة للتعليم في وسائل الإعلام. وخصصت الجرائد الصفحات لموضوع التعليم وأخباره. وزاد إقبال العديد من الأوساط إلى التعليم بعد أن كانت لا تربطها به أي علاقة. ونما قطاع التعليم وأصبح من القطاعات الخاصة المهمة.

تم كل هذا بواسطة معاهد محمد فتح الله كولن، والنجاحات التي حققتها هذه المعاهد. وانعكست هذه الحركة الاجتماعية على مستوى التعليم في تركيا، ورفعت من مستواه. وبينما عدت بعض الأوساط هذه المعاهد كنذر خطر في المستقبل، نظرت إليها أوساط أخرى بأنها نذر خير، وعدتها أوساط أخرى نشاطات ناجحة تستهدف الربح. وسواء أكانت الدوافع أيدولوجية أو سياسية أو إنسانية أو للكسب المادي، فقد زاد الإقبال اجتماعياً على إنشاء المعاهد. ويعد هذا طبعاً تطوراً إيجابياً في البلد.

من جهة أخرى فقد جلب محمد فتح الله كولن مفهوم التضحية إلى نظام التعليم.(307) لأن التعليم سباق طويل المدى وصعب. فهو يستلزم تضحية جدية، وتحملاً وصبراً على الآلام والمشاكل. والتضحية كانت أهم عامل في نجاح معاهد فتح الله كولن. فهناك الآلاف من الذين هرعوا إلى خدمة التعليم بكل شوق وبكل رغبة. وأدوا هذه الخدمة ناذرين أنفسهم لخدمة الإنسانية، وراضين بالعيش بكل تقشف وزهد. كان مثل هذا الأمر قد غاب تماماً عن نظام التعليم في تركيا من زمن بعيد.

لقد كان من الصعب جذب المربين والمعلمين إلى المناطق الفقيرة. ومع أنه تم وضع نظام مضاعفة راتب هؤلاء في بعض هذه المناطق الفقيرة، إلا أنه لم ينفع كثيراً، وبقي ميل هؤلاء ورغبتهم البقاء في جو المدنية في المدن الكبيرة، وذلك لشيوع عادة الاستهلاك في المجتمع. ولكن هذه الصعوبة لم تكن موجودة في معاهد فتح الله كولن، بل تم إرسال المربين والمعلمين إلى أرجاء الدنيا، بل حتى إلى مناطق بدائية محرومة من العديد من الحاجات العصرية، بل أُرسلوا حتى إلى مناطق تحتدم فيها المعارك، وإلى مناطق خطرة لا يتوفر فيها عنصر الأمان.

ومع كل هذه المخاطر (308-307) فقد هرع المربون إلى هذه المناطق متوكلين على الله ومسلمين أمورهم ومستقبلهم له. كان هؤلاء الذين توكلوا هذا التوكل يبرهنون عملياً على مدى حاجة نظام التعليم إلى التضحية والفداء.([102])

لاشك أن صانع هذه التضحية ونذر النفس لخدمة الإنسانية هو فتح الله كولن. ولكن ما الذي دعا فتح الله كولن وهو شخص متدين وخريج مدرسة دينية إلى ولوج ساحة صعبة ومتعبة، وذات نفس طويل مثل ساحة التعليم؟ ما الذي دعا شخصاً حساساً مثله يتعرض يومياً لأزمات قلبية وأزمات مرض السكر إلى ولوج هذا الطريق الطويل المتعب؟ هناك من يسرد هذه الأسئلة بغيظ فيقول، ماذا يعمل شخص متدين في ساحة التعليم؟ فإن كانت مهنته هي الوعظ فليعمل في ساحة الوعظ. ولماذا يقوم (308) شخص مختص بالعلوم الإسلامية وبالتصوف بالولوج إلى ساحة التعليم والتربية التي هي ساحة علمانية؟ كانت هذه الأسئلة المطروحة حول شخصية فتح الله كولن وحول مشروعه في التعليم والتربية متداولة كثيراً طوال أعوام التسعينات في القرن الماضي من قبل وسائل الإعلام، ومن قبل أناس عديدين ينتسبون إلى قطاعات مختلفة. وهي أسئلة أجاب عليها في العديد من اللقاءات الصحفية التي جرت معه. لذا فلن نكرر هنا أجوبته على هذه الأسئلة، إلا أننا سنلقي نظرة على نظرته إلى نظام التعليم والتربية.

قام فتح الله كولن طوال سنوات عديدة سواء في مواعظه أم في مجالسه أم في مقالاته العديدة التي نشرها بالتطرق بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مشاكل التعليم. ويكاد يكون هو الشخص الوحيد الذي تناول هذا الموضوع تناولاً حركياً وأوصله إلى الجماهير الواسعة. فلا نعرف أحداً آخر قام بشرح أهمية التعليم حتى في مواعظه للجماهير الذين كانوا يحضرون الجامع لسماع مواعظه وهم من عامة الناس ومن الكسبة وأصحاب الحرف. لأن موضوع التعليم كان منحصراً في التاريخ القريب وفي العهد الجمهوري أيضاً في أوساط المثقفين والمفكرين والساسة. ولم يكن في استطاعة جماهير الناس الاشتراك في النقاشات الدائرة حوله(309-308) لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر. لأن القناعة السائدة كانت، أن نظام التعليم موضوع مهم جداً وخاص جداً إلى درجة لا يمكن معها السماح لجماهير الشعب لبيان الرأي حوله. ولم يدر بخلدهم أبداً أن من الممكن أن يقوم عامة الناس بالتبرع من أموالهم إلى التعليم دون انتظار أي مقابل. وبتعبير آخر، لم تكن الجماهير الواسعة تشغل أي مكان في المشاريع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهؤلاء المثقفين والساسة. فهم كانوا ينظرون إلى المجتمع بأنه عبارة عن جماهير جاهلة لا دور لها سوى تطبيق الأوامر الآتية لهم من فوق. وما قام به فتح الله كولن هو هدم هذه النظرة. لأن هذه النظرة هي التي جعلت التعليم والسياسة، أي جعلت الدولة غريبة عن الشعب وأنشأت كادراً نخبوياً، وولدت هذه النظرة. ولكن فتح الله كولن كان يرى أن هذا الشعب الذي قاد معركة الاستقلال في جو الفقر والحرمان قادر بحميته وشهامته الاشتراك في حل أهم مشاكل البلد، وأنه يستطيع (309) الاستعانة به في هذا الموضوع. لذا كانت محاولته هذه فريدة في بابها لا نجد لها مثيلاً في تاريخنا القريب.

وهو يرى أن مشكلة التعليم والتربية ليست موجودة في بلدنا فقط، بل هي موجودة وبشكل حاد وجذري في المدنية المعاصرة. وبلغ من اهتمامه بضرورة التعليم والتربية، حتى كاد أن يجعلها من أسس الإيمان. لأن من أهم أسباب القلق والضياع في المجتمعات الغربية تمزق وحدة العقل والقلب في الفكر العلمي وفي النظام التعليمي وما لم تحقق الوحدة في النظام التعليمي والتربوي، وتؤسس العلاقة الفطرية والطبيعية بين الإنسان والكون والله. فلا يوجد أي أمل ولا أي فرصة للخروج من هذا القلق والضياع. ومنذ عدة عصور أبعدت الفلسفة الوضعية (Positivism) نظام التفكير الحديث ونظم التعليم والتربية، وجميع العلاقات الإنسانية والاجتماعية والفكرية عن جميع المقدسات، وأبعدتها عن الدين ونتجت عن هذا جميع مظاهر الأزمات الأخلاقية والمعنوية (310-309) التي تعاني منها المجتمعات الحالية. لذا فإن من الأمور الجديدة التي قدمها فتح الله كولن في موضوع نظام التعليم والتربية هي هذه النظرة الشاملة للعلاقة بين الإنسان والكون والله. أي السعي من أجل وحدة العقل والقلب.([103]) ومع انطلاق هذه المعاهد من هذا المنطلق استطاعت تجاوز هذه الفلسفة الوضعية التي تعد من أهم مشاكل نظام التعليم والتربية. وهذه المعاهد دون شك لا تعطي أي تعليم ديني ولكنها تضع وحدة القلب والعقل في مركز وفي وسط نظامها التعليمي ومنظومتها العلمية والفكرية. وبتعبير آخر فهي تسعى إلى تأكيد ضرورة كون الإنسان، متلائماً مع المجتمع ومع البيئة ومع الخالق. تسعى إلى وضع أنموذج إنسان ومجتمع يحترم تاريخه وتقاليده وجذوره الإيمانية وهويته الاجتماعية، مع فكر علمي حديث ومنفتح على كل جديد يثق بنفسه وبمستقبله. لذا لم تكن هذه المعاهد -بكوادرها النشطة والموفقة والمعاصرة– ناجحة في تركيا فقط بل في كل بلد عملت فيه.

وعلاوة على هذا قامت هذه المعاهد بتغيير عقلية ونمط التعليم المتثاقل والمتجمد المستند إلى الحفظ والتكرار وتحت شعارات معينة لا حياة فيها. (311-310) إذ لا يزال نظام التعليم في تركيا مستنداً إلى أسلوب الحفظ والتكرار ولم يتخلص بعد من آثار المنطق الصوري في العديد من الساحات. وبدلاً من نظام التعليم المستند إلى الحفظ اختارت هذه المعاهد المنطق الرياضي والتجريببي وطريق الفكر المنفتح المتطور، وبذلك جلبت الحركة والنشاط إلى النظام التعليمي. أي قامت بتجديد معايير التعليم وبرفع مستواه. والتجديد المهم الآخر لهذه المعاهد نراه في صدد العلاقات بين الطالب والمعلم، وبين المدرسة والأسرة والمحيط الاجتماعي. حيث أرست علاقات حميمة دافئة وعاطفية كانت البشرية قد نسيتها منذ عصور عدة وهي تتلهف وتتشوق إليها الآن. أي أن هذه المعاهد أحيت العلاقات العائلية الحميمة السابقة. وأحيت المشاعر والعواطف الحميمة الظاهرة عادة في العائلة والمحلة والبيئة الاجتماعية الصغيرة. وبعثت من جديد الأنموذج الماضي للإنسان البطل المضحي، الذي ينذر نفسه لأمته ولوطنه وللإنسانية جمعاء بكل المحبة، والذي اختفى أنموذجه في هذا العصر المادي الأناني اللاهث وراء المصالح الذاتية. هذا هو الكادر والروح المسيطر على هذه المعاهد. فكلهم شرب من كأس المحبة وعجن بعجين الفداء والتضحية. وأعتقد أن من النادر تاريخياً اكتساب نظام التعليم وكادر التعليم مثل هذا التكريم والاهتمام. فما الذي يدفع الشباب (312-311) الذين تخرجوا من أفضل الجامعات وأمامهم مستقبل باهر ورائع أن يهرعوا إلى أقطار فقيرة ونائية، أو إلى بلدان تكتوي بنار الحرب لكي يكونوا مدرسين أو إداريين في تلك المعاهد؟ وما الذي جعل مهنة التعليم هي المهنة المفضلة لدى آلاف الشباب لكي يختاروها مع استطاعتهم دخول كليات الطب والهندسة والكومبيوتر وهندسة الطيران والهندسة الصناعية؟ لا شك بأن هؤلاء الشباب يمثلون شهامة التركي وتضحيته وحبه للخير. وقد صحبوا معهم هذا النبل والكرامة إلى كل بلد رحلوا إليه وكانوا رسل الثقافة. وكم كنا نتمنى أن يقوم الإنسان التركي بمثل هذه المهمة وبمثل هذه الرسالة في الساحات الأخرى أيضاً. إن هذا النشاط للمعاهد التركية الموجه للخارج يفيد أيضاً في تمتين وتقوية العلاقات الدولية لتركيا. وتركيا موجودة في موقع جغرافي استراتيجي مهم تحيط بها المشاكل والاضطرابات.

وفي السنوات الأخيرة عاشت هذه المنطقة –ولا سيما الشرق الأوسط ودول أواسط آسيا الإسلامية– تطورات سياسية وعسكرية خطيرة ستؤثر على مستقبل هذه المنطقة. ولا تستطيع تركيا الوقوف كمتفرج على هذه التطورات. ولا تقتصر مشاكل تركيا الدولية القريبة على موضوع قبرص وشمالي العراق. فهناك الكثير من العمليات الجراحية العسكرية والتدخلات السياسية والاستراتيجية تجري في هذه المنطقة. وهذه التدخلات تؤثر على تركيا تأثيراً مباشراً.

لذا فتركيا مضطرة (313-312) إلى تطوير وتوسيع تأثيرها في المنطقة من هذه الزاوية. ولا يتم هذا بالعلاقات السياسية والعسكرية فقط. فالمعاهد تشكل ساحة مهمة في العلاقات الدولية من الناحية الاجتماعية والثقافية مع الدول المحيطة بها. وهناك دول –مثل إنكلترا وفرنسا- لا تقوم بفتح مؤسسات علمانية معاصرة كالمعاهد فحسب، بل تشجع جميع النشاطات الخارجية والدينية للكنيسة، وتدعمها مادياً ومعنوياً من زاوية سياستها الدولية. علماً بأن لفرنسا مشاكل كثيرة مع الكنيسة الفرنسية، ولكنها مع هذا تؤيد جميع نشاطات الكنيسة وفعالياتها في شمالي إفريقيا وفي الشرق الأقصى. لأنها ترى أن هذه الفعاليات تصب في صالح المصالح الوطنية الفرنسية.

فهل أهمية تركيا الاستراتيجية في هذه المنطقة أقل من أهمية فرنسا؟ علماً بأن لتركيا علاقات وأسساً وجذوراً تاريخية وروحية عميقة في هذه المنطقة. وكل علاقة دولية في الشرق الأوسط وفي آسيا، سواء أكانت عسكرية أم سياسية أم استراتيجية، تدخل ضمن حدود سياسة تركيا الدولية.

فإن نظرنا إلى الموضوع من هذا المنظور الشامل، نرى أن هذه المعاهد ساهمت وتساهم مساهمة إيجابية في الثقافة التركية وفي علاقاتها الخارجية. لقد اتبعت تركيا ومنذ عصور سياسة منغلقة نحو الخارج، فقد ضعفت جرأتها ورغبتها بالانفتاح على الخارج، وكانت تبدي ردود فعل غريزية وقلقاً ضد الانفتاح على الخارج. وأنا أعتقد بأنه كلما زاد هذا القلق زادت الأهمية الثقافية لهذه المعاهد على المسرح الدولي. وأنا آمل أن تتخلص تركيا من هذا الخدر والشلل في أقرب فرصة.

(314-313)

  • المعاهد والحوار بين الحضارات:

إنني أعتقد بأن إيجابيات هذه المعاهد وفوائدها ستظهر بشكل أوضح في المدى البعيد. لأن التربية والتعليم مشروع طويل المدى. ولا شك أنه لأول مرة في تاريخنا الطويل يظهر هذا الصدى الواسع لمشروع تعليمي. فقد أحدث حركة واسعة وتأثيراً على النطاق الدولي في الساحة الثقافية والاجتماعية والدولية. ومع أن مؤسسات وتنظيمات أخرى غير هذه المعاهد تتولى موضوع الحوار بين الحضارات، إلا أن هذه المعاهد خرّجت أشخاصاً عديدين تصدوا لهذا الموضوع وحملوا هذه المهمة.

لقد قامت هذه المعاهد بمدرسيها وأساتذتها وكوادر الإدارة فيها بصنع نسيج لين ورقيق من العلاقات الحميمة المشتركة بين أناس يختلفون في الدين والثقافة والحضارة. وستزداد ساحة هذا التأثير وتتعمق إلى درجة قد يفوق حتى توقعات القائمين بها. لأن تربية وتهيئة أشخاص مدنيين مستعدين للحوار مع الآخرين على الرغم من الفروق الدينية والثقافية والاجتماعية عنصر مهم جداً، ويشكل في المستقبل أساساً وقاعدة للحوار بين الحضارات. وعندما نذكر هذا النوع من الأشخاص المستعدين للحوار مع الآخرين والتعاون معهم، لا نقصد أنهم قد انقطعوا عن هوياتهم وعن جذورهم وأصبحوا غرباء عنها. لأن الحوار يعني الاحترام المتبادل دون إنكار أي طرف لهويته وثقافته وعاداته. (315-314) بل القيام بتكوين ساحة واسعة مشتركة يمكن فيها العيش معاً بسلام ودون صراع. ولا يعني هذا الحوار بأي حال من الأحوال –مثلما يشيع المعارضون له– الأنصهار في بوتقة الطرف المقابل. لأن هذا معناه من الناحية السياسية والاقتصادية قبول للاستعمار، ويعني من الناحية الاجتماعية والثقافية عملية ذوبان.

من جهة أخرى نحن نعيش ظاهرة “العولمة” أي أن الطرف المقابل موجود الآن على عتبة بابنا، وهذا يؤثر على علاقاتنا الاجتماعية والإنسانية. لذا علينا بذل الجهود للتعايش مع الثقافات الأخرى في جو يخلو من الصراع وليس الوقوف منها موقف العداء. والخشية من الطرف الآخر ومن ثقافته تعني ضعف ثقتنا في هويتنا وشخصيتنا. ولكن ألم نتحدى العالم أجمع بهويتنا وشخصيتنا وبنظم التربية عندنا؟ فطوال ألف عام عشناه في هذا الوطن تقابلنا مع ثقافات وحضارات عديدة. فقد كانت الأناضول مهداً لمدنيات عديدة. أي كانت فسيفساء حضارات وثقافات عديدة. ومع أن مثل هذه الفسيفساء الحضارية والثقافية قد تكون لها خطر من الناحية السياسية والأيدولوجية، إلا أن منطقة الأناضول تعد بحق من أهم المناطق الجغرافية التي كانت مهداً لحضارات مختلفة. لذا فقد تشربت بثقافة الحوار في التاريخ وهضمتها.

وعندما يُذكر الحوار وقبول الآخر، يتبادر إلى الذهن حالاً شخصيات تاريخية مثل المتصوف الكبير “أحمد اليَسَوي” ومولانا “جلال الدين الرومي” والشاعر المتصوف “يونس أَمْرَه” الذين رضعوا هنا في هذه المنطقة تجارب حياتهم واكتسبوا فيها قيمهم الإنسانية والأخلاقية.

(316-315) وقد رضعت هذه المعاهد من هذه الينابيع. ونقلت هذا الروح إلى جميع البلدان التي دخلتها. لذا عدت إحدى مظاهر النزعة الإنسانية التركية الحديثة. بينما تناولها الغرب على أنها مظهر من مظاهر التصوف التركي. ولا شك أن هذه المعاهد ليست مجرد مظهر من مظاهر النزعة الإنسانية (Humanism) وليست مجرد حركة صوفية. صحيح أن الأبعاد الإنسانية والتصوفية ظاهرة في تضحيات القائمين بها، إلا أن نظام التعليم والتربية فيها والقائمة على أسس علمية موجه إلى تنوير الجماهير الواسعة. كما أن الصوفية تتخذ عادة موقفاً سلبياً نوعاً ما تجاه الأمور الدنيوية والتقدم التكنولوجي. أي تملك بعداً واحداً في موضوع التوازن بين المادة والمعنى. بينما لا تملك النزعة الإنسانية تأثيراً كبيراً على الإنسان والمجتمع وعلى الحوادث. بينما نرى أن أنموذج الإنسان في مشروع هذه المعاهد أكثر فعالية وإيجابية ونشاطاً، ويحاول أن يكون من اللاعبين على المسرح الاجتماعي ومن المؤثرين فيه. وهذا الأنموذج الإنساني متوازن من ناحية المادة والروح، ولا يستخدم أحدهما ضد الآخر. كما يحمل هذا الإنسان رغبة الحوار الثقافي والاجتماعي.

يمكن سرد العديد من الأقوال حول الأسس الفلسفية والفكرية لهذه المسألة، أو إرجاعها إلى بعض النماذج. ولكن لا يمكن إيفاء حق هؤلاء الناس الذين حققوا في الواقع العملي هذا الأنموذج الاجتماعي والثقافي. ويجب ألا ننسى أننا أمام نشاط عملي تجاوز خيال المثقفين. فكثيراً ما تقوم بوضع إطار فكري، ولكن عندما تقوم بتحقيق هذا الفكر يتجاوز تأثيره في الواقع هذا الإطار الموضوع. فمن ثم قام فتح الله كولن بتطبيق مقولته في موضوع هذه المعاهد: (317-316) “إن أهمية شخصية الداعي تتجاوز أهمية الدعوة”. فقد ترسم اليوم إطاراً لمشروع ما، ولكن عندما تقوم بتطبيقه تظهر أمامك تطورات تتجاوز هذا الإطار. لذا وجب تطويع المشروع حسب الواقع العملي المتغير.

لقد كُتب الشيء الكثير حول هذه المعاهد ونظم التعليم فيها من قبل بعض الأكاديميين والصحفيين. ومع أن بعض هذه التحليلات الأكاديمية كتبت بمهارة إلا أنها –مثل معظم البحوث الأكاديمية– تنطلق من مسلمات وأفكار مسبقة وتحت شعارات معينة، وفي إطار ضيق.

الملف الرابع

(317) ولنؤكد هنا أن المعاهد سيكون لها إسهام في إغناء الحوار بين الحضارات في المستقبل، وإن كان من الصعب رسم حدوده وتعيين سعته والأطر الفكرية لهذا الإسهام حالياً. وهذا مرتبط بمدى قبول البلدان الأخرى لهذه المعاهد ومدى تفاعل مجتمعاتها معها، ومدى استعداد تلك البلدان للدخول في حوار الحضارات. وبوسعنا أن نرى بأن بلدان كثيرة –إن لم تكن هناك ضغوط أيدولوجية سياسية وفكرية عليها– مستعدة لقبول مثل هذا الحوار. ولكنها في حاجة إلى قدوة فعالة ونشطة وجريئة. ويحاول المتطوعون المسؤولون عن هذه المعاهد ملء هذا الفراغ بمشروعهم الشجاع هذا.

(319-318)

أساتذة المعرفة والعرفان والحوار ومعلموه

المعلم أهم مربٍ ومهيئ للإنسان وللمجتمع. فرجال الإدارة والسياسة والعلم والفكر والعباقرة والعلماء تربوا على يديه. وهو حامل وناقل لكل أنواع الفضائل أيضاً. ولكنه فقد مع الأسف في أيامنا الحالية نفوذه الاجتماعي على الصعيد العملي، وفقد تجهيزاته المادية والمعنوية. بينما كان يلعب دوراً أساسياً في السابق في مجتمعاتنا حاملاً لكل الأعباء الاجتماعية والإنسانية، وناقلاً مقدسات المجتمع من جيل إلى آخر. وكان المعلم أول ضحية لتفسخ النظام التعليمي. لذا كانت الحركة التعليمية التي قادها فتح الله كولن إحياءً لهذه المهنة من جديد. فالمعلم عنده المجهز بالعلم والمعرفة، ظهر على مسرح التاريخ مرة أخرى ظهوراً أقوى من السابق وبتأثير أعظم بفضل ما تجهز به من تضحية ووفاء وعلم وعرفان. فكأن محمد فتح الله كولن أيقظ مارداً من نومه. ويمكن القول بأنه إن لم يتم معرفة الحملة التعليمية هذه وكادرها الواسع معرفة تامة، فلن يكون في الإمكان تحليل حركة محمد فتح الله كولن. وهذا هو الموضع المركزي الذي احتله المعلم والمدرس في حركة محمد فتح الله كولن. فهو رمز الإنسان المضحي ورمز نقل الفضيلة إلى المجتمع وناقل حركة الحوار وقبول الآخر. ولم يحدث في أي عهد من عهود التاريخ أن حمل المعلم مثل هذا التأثير العالمي الشامل، ولم يحدث أنه خاطب كل هذه البلدان المختلفة جغرافياً ولغة وثقافة. وقد أظهرت تجاربه الواسعة هذا الروح العالمي والإنساني والتصوفي الذي يحمله. إذن دعونا نلق نظرة على ما كتبه محمد فتح الله كولن في هذا الشأن:

“المعلم من ولادته حتى وفاته أستاذ كريم يؤثر في الحياة ويشكلها. وليس هناك أنموذج كريم آخر مثله يحمل راية الإرشاد لأمته في مضمار قدرها ويسمو بأخلاقها ويلقنها مشاعر الأبدية.

إن تأثير المعلم على الفرد يفوق تأثير الأب والأم أضعافاً مضاعفة. والحقيقة أنه هو الذي يعجن الأب والأم والمجتمع ويشكله. وكل عجين لم تمسه يد المعلم فهو عجين لا طعم له. هو اللسان واليد التي يستخدمها الله تعالى في رفع الناس ووضعهم. والمجتمع البدوي الذي حاز على معلمه ومرشده انقلب إلى مجتمع علوي ملائكي وأصبح هو معلماً للعالم.([104]) وبفضل المعلم الجيد ظهر من مقدونيا فاتح من أكبر الفاتحين في العالم.([105]) وانتقل الأناضول بفضل معلمين جيدين([106]) إلى عهد من العمران والخير. ولم تكن شخصيات ممتازة في التاريخ مثل السلطان محمد الفاتح الذي أنهى عهداً وأنشأ عهداً، ولا السلطان سليم رمز الانضباط والنظام إلا تلاميذ (325-324-323-319) لمعلمين جيدين”.([107])

والمقالة طويلة اجتزأنا منها هذا القسم. وهو يشير هنا إلى الدور التاريخي الكبير وإلى مساهماته العظيمة في خدمة الإنسانية. والظاهر أن صورة ومفهوم المعلم في ذهنه يتجاوز بكثير الصورة المرسومة في أذهاننا. فالمعلم عنده تاريخ، فكأنه يقوم بكتابة التاريخ من جديد بالمعلم. فهو يتحدث عن دور المعلم بدءً من اليونان القديم إلى حضارة الهند القديمة البوذية، ومن التقاليد اليهودية والمسيحية إلى القرون الوسطى ثم إلى عصر النهضة، ومن حضارتنا إلى المفاهيم الوضعية المعاصرة. وهو يرى أنه لا يمكن علاج مدنية مريضة ولا إقامة التوازن الاجتماعي إلا بكادر تعليمي يملك عدة العرفان ونظرة تحليلية وتركيبية بعيدة المدى. هذه هي الأهمية الكبرى للمعلم في نظره. وعند النظر إلى هذا الدور الكبير الذي يرى أن المعلم يقوم به، يرد إلى الذهن الإنساني معنى قدسي. أي أن المعلم وجود مقدس في الحقيقة في نظره. لأن مهنة التعليم تغطي مساحة كبيرة من مهمة الرسل والأنبياء. أو نقول بشكل أعم إن كان الهدف إنشاء مجتمع جديد وحضارة جديدة فلا يتم هذا إلا بكادر تعليمي مؤهل. أي، أن مهنة التعليم هنا مهنة أساسية ومهمة جداً. لذا فقد تحدث محمد فتح الله كولن مراراً عن أهمية وضرورة هذا الكادر التعليمي المجهز بالمعرفة وبالعرفان. ولا شك أن هناك عنصرين لتحقيق هذا الأمر هما المدرسة والمعلم. والمدرسة في نظر محمد فتح الله كولن هي المكان الذي يوصل الإنسان –الذي يملك تجارب عديدة ومختلفة ومتشعبة في الحياة– إلى التوحيد ويحفظه من أي انزلاق فكري وعملي. أي مكان يشبه المختبر يقوم بتغيير المعلم والطلاب كيميائياً، ويحولهما إلى قيمة عليا تستطيع مواجهة وحمل جميع المعضلات الإنسانية ومعضلات الحضارة. فالمدرسة مؤسسة تعطي الشكل الصحيح والقالب المناسب للطفل وللمعلم وللبيئة الاجتماعية والطبيعية.

“عند افتتاح المدارس كل عام لا نملك أنفسنا من التفكير في المدرسة وفي المعلم. كيف لا والمدرسة مختبر حيوي، والدروس إكسير الحياة والمعلم هو بطل هذه المؤسسة التي توزع الشفاء والصحة.

المدرسة مكان للتعليم، يُتعلم فيها كل ما يخص هذه الحياة وما بعدها. والحقيقة أن الحياة نفسها مدرسة. غير أننا نتعلم الحياة من المدرسة نفسها.

تقوم المدرسة بإرسال حزم أضواء العرفان على الحوادث فتنيرها وتجلو غوامضها، وتهيئ لطلابها إمكانية معرفة ما يحيط بهم، وتفتح بسرعة سبل اكتشاف ماهية الأحداث والأشياء، وتهدي فكر الإنسان إلى الواحد الأحد في معظم الأحيان. فالمدرسة بهذا المعنى (325) معبد، والمعلمون فيها هم أولياء هذا المعبد وحواريه.

المدرسة الجيدة هي التي تثري عند الفرد مشاعر الفضيلة وتنميها وتسمو بروحه، أما الأبنية التي تزرق في عروق طلابها السفاهة والتفاهة وتحولهم إلى وحوش فهي مجرد جحور للأفاعي والعقارب. وقد عانى إنساننا منذ عصور معاناة شديدة من هذه الجحور.

المعلم الحق حارس للبذرة الطاهرة النقية وزارعها وكما أن من مهماته صرف الاهتمام بالبذور الجيدة والسليمة، كذلك تقع على كاهله وظيفة التوجيه والإرشاد إلى الهدف الصحيح للحياة في صخبها وأحداثها.

يحسب بعضهم أن جزءً من الحياة فقط مرتبط بالمدرسة، والحقيقة أنها عش مكلف برؤية وتوحيد مظاهر الحياة المختلفة والتي تبدو مبعثرة ومتشتتة ضمن إطار واحد ونظرة شاملة. ويهيئ لساكنيه فرص القراءة الدائمة وهو يتكلم حتى في صمته. لذا فهو رمز السيطرة على الزمان والحوادث. وهو يجري تأثيره على الأحداث وإن بدا وكأن دوره محصور في جزء من أجزاء الحياة.

والطالب الذي يلتحق كمتدرب في المدرسة سيكرر في المستقبل الدروس التي تلقاها هناك.

قد تقوم الجرائد والكتب والإذاعة والتلفزيون بتعليم أشياء معينة للإنسان، ولكنها لا تستطيع أبداً تعليم الحياة الحقيقية له. أما المعلم الذي يرسم بدروسه وتصرفاته ألواناً لا تبهت في مخيلة وفي ذهن الطالب فهو أداة معرفة وتعليم لا يمكن ملء فراغها. لذا فإن طريقة التعليم الغربية –التي تنزع نحو السهولة والتبسيط لكل شي– المقدمة إلى الطلاب في أيامنا الحالية وإن قدمت شيئاً لهم، إلا أنها لا تستطيع تقديم القدوة الحسنة، ولا تستطيع شرح غاية العلوم لطلبتها”.

([1]) Thomas S. Kuhn, Bilimsel Devrimlerin Yapısı, Alan yay.; Wallerstein Immanuel, Bildiğimiz Dünyanın Sonu, Metis yay.; Paul Feyerabend, Özgür Bir Toplumda Bilim, Yönteme Karşı, Ayrıntı yay.

([2]) Wallerstein Immanuel, Bildiğimiz Dünyanın Sonu, Metis yay., s. 10.

([3])Wallerstein Immanuel, Bildiğimiz Dünyanın Sonu, Metis yay., s. 12.

([4]) Shapin Steven, Bilimsel Devrim, s. 154, İzdüşüm yay.

([5]) Shapin Steven, Bilimsel Devrim, s. 154, İzdüşüm yay.

([6]) Shapin Steven, Bilimsel Devrim, s. 154, İzdüşüm yay.

([7]) Özgür Bir Toplumda Bilim, s. 100.

([8]) الانتروبولوجي (Anthropology): علم يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه ومعتقداته. (المترجم)

([9]) الاثنولوجيا (Ethnology): علم الأعراق البشرية. (المترجم)

([10]) Shapin Steven, Bilimsel Devrim, İzdüşüm yay., 2000

([11]) الفلسفة الوضعية: وضعها الفيلسوف الفرنسي أوغوست كونت وهي تركز على الظواهر والوقائع المادية وأن التجربة هي وسيلة لمعرفة الحقائق وتسهل كل تفكير تجريدي وكل أمر غيبي. (المترجم)

([12])  إشارة إلى قوله تعالى  ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾(فصلت : 53)، (المترجم).

([13]) Yeni Bir Bakış Açısıyla İlim ve Din, Nil yay., s. 10

([14])  الفلسفة الطبيعية: أي أن مصدر كل شيء هو الطبيعة، ولا تعتقد بأي تدخل إلهي. (المترجم).

([15])  الملكوت: عالم الأرواح والملائكة. (المترجم).

([16]) Yeni Bir Bakış Açısıyla İlim ve Din, Nil yay., s. 10

([17])  Yeni Bir Bakış Açısıyla İlim ve Din, Nil yay.

([18]) I. Korintoslulara 8/1.

([19]) Luka 19/47.

([20]) الثنائية (Dualism): مبدأ يقول بوجود عنصرين أساسيين: العقل والروح مثلا أو الخير والشر أو الإنسان جسد وروح. (المترجم)

([21]) I. Korintoslulara 8/1.

([22])﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(يس :38)

([23]) سورة فاطر: 43

([24]) سورة البقرة: 170

([25]) آل عمران:190

([26]) سورة الطارق:5

([27]) سورة يس:40

([28]) سورة البقرة: 164

([29]) سورة الأنبياء: 30

([30])  I. Korintoslulara 8/1.

([31]) Shapin Steven, Bilimsel Devrim, s. 82, İzdüşüm yay.

([32]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 17

([33]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 17

([34]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 18-19

([35]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 98-99

([36]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 69; Yeşeren Düşünceler, s. 172.

([37]) الغنوسطية: مذهب بعض المسيحيين يرى بأن المادة شر، وأن الخلاص يأتي من المعرفة الروحية. (المترجم)

([38]) Thilly Frank, Felsefenin Öyküsü, s. 236-245, İzdüşüm yay.

([39]) المقصود خطيئة آدم (عليه السلام) حسب العقيدة المسيحية (المترجم)

([40]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 67-70

([41]) M. F. Gülen, Günler Baharı Soluklarken, s. 71-72  

([42]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 67; Günler Baharı Soluklarken, s. 70, 83.

([43]) الحتمية (Determinisim): مذهب يقول بأن أفعال المرء والتغيرات الاجتماعية…الخ هي ثمرة عوامل محتمة لا سلطان للمرء عليها.

([44]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 93, 130, 194; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 32; Gurbet Ufukları, s. 157; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 50; Kur’anı Kerim ve İlmi Hakikatler, Yeni Ümit, sayı, 16, 17.

([45]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 105, 179-181; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 114; Beyan, s. 88, 105; Zamanın Altın Dilimi, s. 19; Işık Karanlık Devr-i Daimi, Sızıntı, Kasım 2003.

([46]) M. F. Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 10.

([47]) M. F. Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 10.

([48]) M. F. Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 10.

([49]) M. F. Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 10.

([50]) M. F. Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 12

([51]) M. F. Gülen, Çağ ve Nesil, s. 115-118; Günler Baharı Soluklarken, s. 70, 84, 90; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 102-107.

([52]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 172-188; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 16-20, 57, 65-70; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 36, 97; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 19-25, 66; Beyan, 127; Sohbet-i Canan, s. 66; Hakikat Aşkı, Sızıntı, Mayıs-2004; İlim ve Araştırma Aşkı, Sızıntı, Haziran-2004.

([53]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 73-85.

([54]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 73-85.

([55]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 73-85.

([56]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 73-85.

([57])  المثل الإنكليزي “المعرفة قوة The Knowledge is power” يؤكد هذا المعنى (المترجم)

([58]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 118.

([59]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 114

([60]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 86

([61]) M. F. Gülen, Prizma, 2/66

([62]) M. F. Gülen, Kalbin Zümrüt Tepeleri, 2/19; Prizma, 2/66

([63]) M. F. Gülen, Fasıldan Fasıla, 3/194

([64]) Transcendental:حالات مبهمة وراء الخبرة البشرية. (المترجم)

([65]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 142 vd.

([66]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, Nil yay.

([67])  Kozadan Kelebeğe 3, Gazeteciler ve Yazarlar Vakfı yay. s. 55

([68])  Kozadan Kelebeğe 3, Gazeteciler ve Yazarlar Vakfı yay. s. 87

([69]) Max Weber, Protestan Ahlak ve Kapitalizm Ruhu, Çev. Zeynep Aruoba, Hil yayınları, İstanbul 1985, s. 103.

(Pietism): حركة تؤكد على أن الخلق الشخصي والعواطف الشخصية هي أساس التدين. وأهم شيء فيها هو أن الرضا بقدر الله.

([70])  Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 35; Hulusi Turgut, Nur Hareketi, Sabah Gazetesi, 15 Ocak 1997; Fasıldan Fasıla, 2/53; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 115; Prizma, 3/72-73; www.herkul.org, Kırık Testi, Meçhul Kahramanlar, 18 Nisan 2005.

([71]) M. F. Gülen, Buhranlar Anaforunda İnsan, s. 87, 137; Yitirilmiş Cennete Doğru, s. 22; Günler Baharı Soluklarken, s. 81; Yeşeren Düşünceler, s. 103; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 76, 113, 119, 143; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 6, 55, 100; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, 38, 116; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 27, 70, 112.

([72])  M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 52-55

([73]) M. F. Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 75, 213; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 114, 119

([74]) M. F. Gülen, Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 117; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 122; Yeşeren Düşünceler, s. 156; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 50; İslam Dünyası, Sızıntı, Mart 2004.

([75]) M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 62.

([76]) M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 62.

([77]) M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 62.

([78])  المقصود من تلقيات الإسلام أو متلقياته: طبيعة فهمه وتداعياته في الإنسان ونوع التصورات بشأنه.

([79]) M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 27-32 , Nil yayınları.

([80])  أي مقلدو الغرب والمتأثرون به. (المترجم)

([81]) أبستمولوجي (Epistemology): نظرية المعرفة (المترجم)

([82])  M. F. Gülen, Buhranlar Anaforunda İnsan, s.53, Yeşeren Düşünceler, s.43-44; Dünyamıza Doğru, s.25-26; Zamanın Altın Dilimi, s.157-160; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s.31-91; Işığın Göründüğü Ufuk, s.106.

([83]) M. F. Gülen, Tarihi yeniden Düşünmek, Dost yay. S.29-31.

([84]) M.F.Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s.16

([85]) M.F.Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s.16

([86]) M.F.Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 18  

([87]) M.F.Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 23

([88]) M.F.Gülen, Buhranlar Anafornda İnsan, s.54-63; Yitirilmiş Cennete Doğru, s.28-30; Yeşeren Düşünceler, s.130-157.

)[89]( Eyüp Can, a.g.e., s. 66

([90]) يشير إلى الدولة العثمانية التي دامت 625 سنة. (المترجم)

[91]) Aynı yer.; Ayrıca bkz.: M. F. Gülen, Çağ ve Nesil, s. 122; Zamanın Altın Dilimi,

  1. 29, 48, 53, 54, 68, 69, ; Yitirilmiş Cennete Doğru, s. 43; Yeşeren Düşünceler,
  2. 88-92; 57, 103; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 90-95, 120, 198; Beyan, s.

23; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 67, 104; Faniliklerle Kuşatılan Ruhlar,

Sızıntı, Aralık-2004.

([92]) للمزيد من المعلومات في هذا الخصوص يمكن مراجعة: (نظم التعليم في عهد السلطان عبدالحميد). من نشريات دار اتوكن. صفحة 11 وما بعدها.

([93]) الأندرون:…………..

([94]) Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 71-89; M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 36; Işığın Göründüğü Ufuk, 71; Fasıldan Fasıla, 3/198-199,228; www.herkul.org, Kırık Testi “Devlet Kutsanmamalı ama…” 5. Eylül. 2004.

([95]) Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 71-89; M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 36; Işığın Göründüğü Ufuk, 71; Fasıldan Fasıla, 3/198-199,228; www.herkul.org, Kırık Testi “Devlet Kutsanmamalı ama…” 5. Eylül. 2004.

([96]) Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 71-89; M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 36; Işığın Göründüğü Ufuk, 71; Fasıldan Fasıla, 3/198-199,228; www.herkul.org, Kırık Testi “Devlet Kutsanmamalı ama…” 5. Eylül. 2004.

([97])  أي التزاوج بين العلوم الدينية والوضعية. (المترجم)

([98]) Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 71-89; M. F. Gülen, Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 36; Işığın Göründüğü Ufuk, 71; Fasıldan Fasıla, 3/198-199,228; www.herkul.org, Kırık Testi “Devlet Kutsanmamalı ama…” 5. Eylül. 2004.

([99]) Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 84-85; M. F. Gülen, Kalbin Zümrüt Tepeleri, 2/75; Prizma, 3/150,167.

([100]) Eyüp Can, Ufuk Turu, s. 83; M. F. Gülen, Prizma, 1/74; Buhranlar Anaforunda İnsan, s. 43, 100; Günler Baharı Soluklarken, s. 153-161; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 30; Fasıldan Fasıla, 1/65, 4/29; Ölçü veya Yoldaki Işıklar, s. 100; “Hak Karşısındaki Konumu ve Duruşuyla İnsan”, Sızıntı, Şubat-2004. 

([101]) هناك أوساط علمانية وقفت ضد هذه المعاهد لأنها حسب رأيها تعود لجماعة إسلامية، لذا رأوا فيها تهديداً للعلمانية.(المترجم)

([102]) Mehmet Gündem, M. F. Gülen’le 11 Gün, s. 194; Sohbet-i Canan, s. 105-107

([103]) M. F. Gülen, Buhranlar Anaforunda İnsan, s. 110; Zamanın Altın Dilimi, s. 157; Sonsuz Nur, s. 1/202-204; Fasıldan Fasıla,4/29; Prizma, 4/96; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 8, 36; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 95,115; Beyan, s. 110; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 43, 68, 77, 114; Kırık Testi, 1/175; “Şafaklar Üst Üsteydi”, Sızıntı, Ağustos-2004; www.herkul.org, Kırık Testi “Kültür Müslümanlığı ve Tahkiki İman” 12 Aralık 2004.

([104])  إشارة إلى المجتمع العربي الجاهلي بعد بعثة الرسول r. (المترجم)

([105])  إشارة إلى اسكندر المقدوني وأستاذه أرسطو. (المترجم)

([106])  إشارة إلى المتصوفين الذين قاموا بنشر الإسلام في الأناضول. (المترجم)

([107]). F. Gülen, Çağ ve Nesi, s. 110-114

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.