“نويتُ الهجرة…”

هي شرارة الانطلاق، وهي بذرة الانعتاق…

هي البداية في رحلة معرفية، من سِنخ مغايرٍ صورةً وجوهرًا، ومن نوع مختلفٍ وسيلةً وأثرًا…

كان البحث، ولا يزال، عن جواب لسؤالٍ بسيط عميق، لطالما راود الفتى في يقظته وحلمه، عند غدوِّه وحين رواحه… وهو: “ما العلاقة بين الفكر والفعل؟”.

ثم جاءت الإجابات تترى، سواءً في ذلك ما كان من مدخل “العقيدة والفكر”، أم “الثقافة والحضارة”، أم “المنهجية وعلم المناهج”، أم “الفلسفة ونظرية المعرفة”… وتوالت تلكم الإجابات… ولا تزال.

وبما أنَّ السؤال ليس نظريًّا محضًا، ولا هو عمليٌّ صِرف، لاءم أن يكون الجواب من الروح نفسِها، وبالنسق ذاتِه، فيجمع بين العلم والعمل، بين الفكر والفعل، بين النظر والتطبيق… لذا تعيَّن الحفرُ، والنحت، والبحث المتواصل… بلا هوادة، ولا توانٍ، ولا انقطاع…

وقعت العينُ، ذات يومٍ، على عدد من مجلَّةٍ بديعة: زهيَّةِ الألوان، محكَمة البنيان، غزيرة المحتوى، رائقة المعاني… فألهمَت الفتى بما تحويه من خواطر ومقالات، وبما تزخر به من أفكار وطروحات… ثمَّ تجاوز حدَّه، فخطَّ مقالاً بعنوان: “الإنسان محور التنمية في المنهج القرآني”؛ وجرَّب حظَّه، فأرسله إلى هيئة التحرير، لعلَّ الله ييسِّر نشره… ومن آمال الباحث في عالمنا العربيِّ، اليومَ، أن يجد من يشجِّعه، ويرفع من معنوياته، فيهتمَّ بما يكتب من أعمال ومقالات، وبما يبدع من بحوث ودراسات…

لم يمض وقتٌ قصير، حتى اكتشف الفتى أنَّ مقاله وقع بين أيدٍ أمينةٍ، فأخرجتْه في ثوب قشيب؛ وما درى الفتى، حينَها، أنَّ الغيب يُخفي له ما لا يقدِر على فهمه وتفسيره؛ حتى جاء اليومُ الذي زار فيه تركيا، للمرَّة الثانية، فأرشده بعضهم إلى مؤسَّسة قصيَّة، تعرف باسم “أكاديميا”، تقع في الجهة الآسيوية من مدينة الإسلام “إسطنبول”، على تلال “شَامْلِشا” الفيحاء؛ فاسَّارع إلى زيارتها ليلا، وقد قيل له: “إنَّ هذا المركز يعمل فيه باحثون، مختصُّون في فكر عالمٍ يسمَّى الأستاذ محمد فتح الله كولن”، فغمرَ عينيه بجمال المبنى وشموخه، ولم يشأ الله تعالى أن يلجه، مكتفيا بزيارة بيت الطلبة المجاور له…

وعاد الفتى إلى وطنه، غير أنَّ الصورة المعنوية “للأكاديميا” بقيت عالقة في مخيِّلته، ولكَم رآها في حلمه رأي العين، وتمنَّى يوما تمكِّنه فيه من الوصال، فتفتح أمامه أبوابها، ليعانق بروحه روحَها، ويتملَّى بجميعه سبائب حسنها… ولقد يشاء الله تعالى فيحرِمه منها، وهو في كلِّ الأحوال، سبحانه، حكيم حليم… رحيم عليم… وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(التَّكْوير:29).

لم يصبر الصبُّ المعنَّى، وأنَّى له أن يصبر، والشوق قاتلُ الفتى بلا حسام، ولقد يكون جمرُ الفصال أشدَّ على القلب من لهيب الوصال… لم يصبر، حتى زمَّ حقائبه عائدا إلى هنالك، مع رفقة زكية أبية، ممن يحلو السفرُ معهم، وممن يقال فيهم ما قال تعالى للملائكة السيَّارة، عن عباده الذاكرين: «هم القوم لا يشقى جليسهم».

أمام باب “الأكاديميا” وقفَ الفتى مشدوها، كالعروس يلحظ أوَّل نظرةٍ ليلة العرس؛ وقف، ثم سأل الله “حسنَ العاقبة”، فاقتحم الصرح، وهو يخيَّل إليه أنّه “بطل في ساح الوغى”…

كان في استقباله رجلٌ يغرف الأدب من بحر، ويعبُّ الفطنة من محيط… رجلٌ يأسر القلوب قبل العقول، وهو مع ذلك لا يقول “أنا”، ولا “نحن”… بل إنَّ حديثه جميعَه عنه “هو”… أي عن فتح الله، ذلكم القائد الخرِّيت، الذي عرَّف الناس بـ”الكريم المنَّان” U، فكان دليلَ خيرٍ لهم إلى الحكيم ذي الشَّان… ذلكم الرجلُ الذي أعاد للشهادتين -في بلاد الأناضول- رونقهما وجمالهما… ذلكم المجدِّد الذي أحكَم تعريف الواردات والفيوضات، فوصل كلَّ شيء بسببه الحقيق، وهو في ذلك يقتفي أثر “ذي القرنين”، الوارد فيه شهادةً من ربِّ العزَّة والإكرام قولُه: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا(الْكَهْف:84-85)، وفي روايةٍ: “فاتَّبع سببًا”.

وفي الباب ودَّعه الأديب الفطِن، ثم استودعه اللهَ الذي لا تضيع ودائعه، ولقد عرَّفه بـ”الخدمة”، وبمعنى “أن نعيش للآخرين”… وشرحَ له دلالات الهجرة والهمِّ، وصروف المعاناة والهمِّة… وكان محورُ حديثه مقطعٌ من شريطٍ للأستاذ، يفسِّر فيه -باكيا معتذرا، معترفا بالتقصير، واعدا بالنصر- حديثًا لرسول الرحمة r: «ليبلغنَّ هذا الأمر مبلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلاَّ أدخله الله هذا الدين»….

ولقد حمل الفتى معه، مِن هنالك، أسفارًا وكتبًا، فنِّية العنوان، متقنة العرض، تغري القارئ النهم، مثلي… جميعُها من تأليف فتح الله؛ فلم يصبر طويلا، بل راح يلتهمها التهاما، ويغرف مما تحويه غرفًا… كأنَّه يخشى حضور أجله قبل تمامها… ثم ما لبث أن أطفأ جذوةَ ظمئه، وجاهد واجتهد -بعد ذلك- في سقْي مَن حوله وما حوله؛ ولعلَّه كان في ذلك قاصرا، لكنه حرص على أن لا يكون مقصِّرا.

تكاثفت العلاقةُ وتشابكت، فتسارع الزمان وطُوي المكان؛ حتى إنَّ الحالَّ المرتحلَ أحيانا يخطئ فيقول “هنا” وهو “هنالك”، أو يزلُّ فيصف “هنالك” بأوصاف “هنا”… ولا يدري بالضبط أيَّ بلد يعرِّف، ولا أيَّ مؤسَّسة يصف… والبركة إذا نزلت أحالت البذرة جنَّةً، والقطرة نهرًا، والزخَّة من الثلج جبلاً… وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ(القَصَص:68).

وما هي إلاَّ ثلاث حِجج، حتى يمَّم الفتى وجهه شطر “كندا”، وفي لحظاتٍ نورانية مع خلاَّن أوفياء، عقدَ الفتى عزمه، فواصل التنقيب والحفر في سؤاله الذي حمله معه أينما حلَّ وارتحل، ولا يزال، ولن يزال، لكنَّه عدَّل صيغته، ليكون أكثر التحاما بالفعل الحضاريِّ، وبالواقع العملي: “كيف يتحوَّل الفكر إلى فعل؟”.

ولقد ولِد على إثر السؤال نموذجٌ جديد، نُحِت من كتاب الله تعالى، واختير له اسم “نموذج الرشد”، وما إن التقى النموذج بالمعاني الفيَّاضة التي نسجها فتح الله نسجًا ساحرًا، حتى هلَّ بحثٌ بعنوان: “المراحل السبعة لتحويل المعلومة إلى معرفة في فكر فتح الله كولن”.

وكعادة الفتى، تشجَّع فأرسل بحثه إلى “حراء”، غير أنَّ طبيعته وحجمه لم يكونا ليسمحا بنشره فيها، فحزن حزنا شديدًا، وتيقَّن أنَّ الخيرةَ فيما اختار الله، ولم يردِّد ما ألف بعض الناس ترديده: “لعلَّ الخير في ذلك”… بل أوْكَل أمره إلى الله وحده.

كان الفتى ذات ليلة يطالع، وضَوْءُ فراشه فوق رأسه، فرنَّ هاتف من أقصى الأرض، قطع عليه مطالعته ليصله بأملٍ مشرق، فكان من هنالك، مِن وراء الخطِّ، رجلٌ لا يعرفه الفتى عيانا ورسما، لكنَّه عرفه معنى ووسمًا، فقال اللبيبُ: “قرأت منذ ساعة ما كتبتَ، في مقال “المراحل السبعة”، وكنتُ على متن طائرة، محلِّقا، فوجدتُني قد حلَّقتُ أعلى وأعلى، بما جاء في عملكم من دلالاتٍ ونفحاتٍ”…فدعا وشكر، ثم ودَّع وحيَّر…

شدِه الفتى، وطوى صحائفه، ثم ردَّد عبارات الهاتف العجيب، والليلُ ليل، يغري ويُسبي، ولقد قال عنه قائلهم: “وظلمة الليل تغريني فأنطلق”… فانطلقَ، وهو يفكِّر ويقدِّر، ويقدِّم ويؤخِّر… يستنطق الأسباب والسنن، ويسأل اللهَ المنحَ والمنن.

بعد أيام، كان الفتى على متن طائرة، وجهة الأردن، في رحلة مكثَّفة، كالبرق مرَّت، ثم أمطرت وأخصبت، وقد شارك بمحاضرة هي نفس عنوان المقال المذكور… ثم ما لبث أن عاد إلى وطنه.

لم يكن الفتى -بحمد الله تعالى- أثناء هذه النفحات، وهو في وطنه عزيزا مكرَّما، لم يكن قابعًا، ولا ناقمًا، ولا تائهًا، ولا باحثًا عن وظيفٍ أو حظوة، ولقد يسَّر الله أمره وأحسن مثواه، بفضل منه ومنّة وكرم… وكتبَ له أن يحظى برفقة “جماعة أو مجموع”، وأن يتحرَّك ضمن “نسق خصب”، كان هو أحدهم، ولم يكن أفضلَهم، بل إنه عدَّ نفسه ولا يزال، خادمَهم، وراعيهم، والمؤمِّل فيهم ومنهم… فنشأت على إثرهم مؤسَّسات: منها مدارس ومكاتب ومعاهد، ومنها ملتقيات ومؤلَّفات وبعثات… كان آخرها “معهد المناهج” و”مؤسَّسة فييكوس” ، ولقد كان أوَّلها “مكتب الدراسات” و”المدارس العلمية”… وما بين ذلك أفكار ومشاريع وإبداعات، لا يُعرَف اليومَ حجمُها ولا يحصر حدُّها…

ولقد اختُبر روَّاد هذه المشاريع، فكانوا بحمد الله ممن يحتسبون الأجرَ عند الله، ولا يعنيهم أن يقال عنهم أو فيهم أو لهم… الواحدُ منهم يردِّد في جوف الليل خاشعًا، باكيًا، سائلا القبولَ… يردِّد سمفونية الأنبياء عليهم السلام، التي تلقَّوهما من ربِّ العزة والإكرام: قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ(الشُّورَى:23)…

وجاء الصيف، وليس كلُّ الصيف حيفًا، ولا كلُّ صيف لغوا، ولقد شطَّ كاتب فوصفه في كتاب اختار له عنوانا: “مِن لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء”… لا ليس الحال كذلك، وإنما الصيف زمنٌ من أزمنة الله تعالى، خيرُه خيرٌ، وشرُّه شرٌّ: الخير والشرُّ فيه من اختيار البشر وحدهم… أمَّا مَن آل على ذاته التحرُّر من قيود الإدارة والوظيف، وحمل نفسه على مضاعفة العمل والبحث كلَّما اشتدَّ الحرُّ ولفح القيظ… أولئك يجدون في الصيف طعما وحلاوة لا توصف، فالصيف عندهم حقلٌ لأزهى الأعمال والمنجزات، ومناسبة للإقلاع وقطع المسافات…

جاء الصيف، فحاول الفتى أن يتشبَّه بالكرام، إذ لم يكن مثلهم، فحمَل قلبه وعقله، ورافق أهله ووِلده، ثم يمم شطر “إسطنبول”، بدعمٍ كريم، مِن عزيزٍ حميدِ الخصال، طيِّبٍ كريمِ الفعال… فاستقرَّ بها الفتى ما يربو على ثلاثة أشهر، يقرأ ويحفر، يحلل وينحت، يركِّب ويصقل… ثم يكتب ويشطب… مستمدًّا العون من الكريم العليم؛ حتى استوى المؤلَّف على سوقه، فقدَّمه “للأكاديميا” هديةً من مقترٍ مقلٍّ، وتبرُّعا من مُريد محبٍّ… قصاراه أنه أهدى بعضًا من مهجته وفؤاده، وفدى بعصارةٍ مِن فكره وقلبه… باحثا عن الحقيقة في معادنها…

ثم عاد الفتى إلى أرض الوطن…. ليستأنف المجاهدة، بما أوتي من قوَّة، موقنا بقصوره، مقتنعًا بتقصيره ضمن “وعائه الحضاريِّ”، بكلِّ ما يحمله من خصائص مستمَدَّة من “النسيج الحضاري”… وهل يضير النخلةَ أنها ساكنةُ الواحات، والحالُ أنَّ تمرها يغري الملوك، حتى وإن ارتقوا أسمى الغايات، وبلغوا أعلى الدرجات!

وبعد أمدٍ، أعاد الفتى الكرَّة، وجاء رفقة عشرين من مديري “المدارس العلمية”، يبتغي وصلا لمن أحبَّ، ويهفو إلى رؤية من تكرَّم ولم يهجُر، وسخى ولم يبخل… ثم يشاء الله أن يلتئم الجمعان: جمع “المنظومة” زائرا، وجمع “الخدمة” مَزُورًا… ويكون ذلك في القاعة العلوية لصرح “الأكاديميا”… وخلال جلسة دعوةٍ وتناصح وأنس، فوجئ الفتى بهدية من أخٍ عزيز، سِفرا كتِب على صفحته العلوية: “البراديم كولن، فتح الله كولن ومشروع الخدمة، على ضوء نموذج الرشد”…

لهج القلبُ قبل اللسان، حامدا، شاكرا، مستغفرا، داعيًا: “الحمد لله على هذه الثمرة، وعلى هذا المؤلَّف المحاولة، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا…”.

ولمَّا يرتو الولهان بعدُ، بل زاده الماء الزلال عطشا، وأنار له ضوءُ الشمس دربا جديدا؛ للبحث عن حقيقة لطالما صوَّح سائلا عنها: “كيف يتحول الفكر إلى فعل؟” أي: “لماذا بعض الفكر، ومنه فكر فتح الله، يتحوَّل إلى واقع وفعلٍ حضاري، وبعضه الآخر يبقى رهين النظر وحبيس التنظير؟!”

أثناء ذلك، بل قبل ذلك بوقتٍ قليل، قيَّض الله شبابا، جاؤوا ليغترفوا الحكمة من المعين الشافي، وليعبُّوا العلم من النبع الوافي؛ فسمِّيَت بعثتُهم، أو إن شئت فقل هجرتُهم، ببعثة “الخلائف”؛ وكان المقصد أن يتمثَّلوا صفات خلائف الله في الأرض، بما تحمله الخلافة من دلالات عميقة، عرفانية ومعرفية، حضارية وفكرية، لا مجرَّد شعار وادِّعاء، أو ظلٍّ للحقيقة وتزييف للمعاني.

فهل -يا ترى- سيفعلون؟ وهل -يا ترى- سيقدِرون ويقدِّرون؟ وهل سيشحذون وارداتهم وإراداتهم؟ وهل سيكونون تعزيزا لفريق السائلين الحائرين المشدودين إلى المعنى، فيسألوا بلا توانٍ ولا تردُّد: “كيف يتحوَّل الفكر إلى فعل؟”

ذلك، ما نأمله بعون الله تعالى…

وقد بلغ المولَّهَ المهموم، والساعي للهدف المروم، وهو منهمكٌ في التأليف، خبرُ نجاح “الخلائف” بامتيازٍ في مسابقات الولوج إلى الجامعات التركية، فكتب مقالا رمزيًّا، جعل له عنوانا: “الحفرُ بحثا عن المنظومة!”، ومما ورد فيه على لسان الفتى: “غرفتُ بيدَيَّ سلافة الحضارة والتمكين، وشربتُ حتى ارتويتُ، ثمَّ التحقتُ بالركب، قطرةَ ماءٍ في بحر، وذرَّة ترابٍ في فلاة، وأنا أردِّد بصوت عالٍ، ما علَّمنيه أستاذي الساعةَ: اليومَ يومُ الفعال، إن لم أنهض للعمل، فلن ينهض غيري… اليوم يوم الفعال، اليوم يوم الفعال…” فشمَّر العاشق عن ساعديه، وواصل الحفر، ولا يزال… ثم زار وفدٌ مباركٌ من “حراء” بلدَ الفتى، فحلُّوا ضيوفا على جزائره الحبيبة، يومَها انتشى الربيعُ، وانتشرت القلوب، فتقتقت البراعم عن زهر وورد؛ لكنَّ الزيارة لم تدم طويلا “وساعات الهنا تمر عجالا…”.

ثم، بعد أيام استُدعي الفتى إلى “الطابق الخامس”، رفقة ثلة من خيرة العلماء والباحثين من العالم العربي، وثلة أخرى من العاملين المبدعين في مشاريع “الخدمة”، ولقد طُلب منه إعداد ورقة بحثية، أو محاضرة معرفية… ثم بعد جُهد وفكر، وبعد كدٍّ وعصر… استوت المحاضرة على سوقها، فاختار عنوانا لها: “بين مالك بن نبي، وفتح الله كولن، مقارنة مختلفة، باعتماد الأحجية العلمية منهجا”… وألقاها على الحاضرين الضيوف، وهو أحدهم… ثم ارتوى مما كتبوا وقرأوا، وانتشى بما فكَّروا ونثروا؛ لكأنَّ القدر بدا يضمِّد جرحا غائرا منذ عقود، فيجمعُ شقيقين عزيزين على صعيد واحد، ولقد عصفت عليهما أعاصير العصبية القاتلة، ففرَّقت شملهما… وها هي الرياح تهدأ -نسبيًّا- والمياهُ تعود إلى مجاريها، وها هو الحرف التركيُّ يعانق الحرف العربيَّ، والفكر العربيُّ يقبِّل فكر آل عثمان، ولا عجب، فهما من ثمار شجرة الإيمان… ويولدُ الأمل من رحم التفاؤل… فتخطو الجموع من هنا أولى خطواتها نحو التمكين من جديد…

لم ينس الفتى سؤاله، بل راح يحمله معه أينما حلَّ وارتحل، ولقد آن الأوان ليفصح عمَّا في خاطره من مشروع، وليجد بعض الوقت ليغوص في عمق فكره… فقطع المسافات الطويلة، وتحمَّل وتشجَّع ونوى، ثم كسر كلَّ إخلاد إلى “الأرض”، أو “العادة”، أو “الوظيف”، أو حتى “المسؤولية” بمدلولها الضيِّق… ولقد عدَّ نفسه ميِّتا، ففوَّض كلَّ أمرٍ من أموره، وأسند إلى أيدٍ أمينة كلَّ مسؤولية من مسؤولياته… ولقد وجد أنَّ الدنيا ستواصل مسيرها به أو بدونه… فما كان منه إلاَّ أن كتبَ رسالةً إلى إدارة “الأكاديميا”، خطَّ في أوَّل سطرٍ فيها عبارة: “نويت الهجرة…”؛ ثم عرض عليهم مشروعَه للتفرُّغ، استجابةً منه لداعي البحثِ من قِبلهم، فتوكَّل على الله وحده، وختم الرسالة، وأخفى السرَّ، ثم عقد النية وقال: “على الله توكَّلنا”…

بعثَ الرسالة مودَعة القدر الحكيم، داعيا المولى أن يحسِّن عاقبتها، كما حسَّن عاقبة كليم الله موسى u، يوم ألقته أمُّه في اليمِّ، بأمرٍ من ربها، مطمئِنًا لها: لاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(القَصَص:7)… وحسبَ الفتى أن يأتيه الجوابُ يحمل البشارة الكبرى بالهجرة، ثم حسبُه أن يعود بعد أمد إلى وطنه، إذا عاد، لينذر قومه “لعلَّهم يحذرون”!.

حرص الفتى على كتم السرِّ، مستذكرا مقولة محمَّد الفاتح يوم نوى فتح القسطنطينية: “لو علمتُ أنَّ هذه اللحية قد اطَّلعت على السرِّ، لقطعتها”…

والفتح فتحٌ… والسرُّ سرٌّ…

ثم طال الانتظار، حتى بدا اليومُ شهرا، والشهرُ سنة، فظنَّ الفتى أنه لم يرقَ بعد إلى مقام القرب، وأنه ليس أهلا للوصل، ثم قبِل ورضي واعترف بقصوره وتقصيره… داعيا متوكِّلا محتسبا…

وجاء يومٌ، تنادت فيه الجموع، أنَّ “حراء” المجلَّةَ تنوي زيارة الجزائر، وأنها نوت أن تتخذ “معهد المناهج” محطَّتها ومنطلقها، تنتشر منه إلى غيره… يومَها بدا المعهد أفسح من ذي قبل، وحينها سطع نور أضاء الآفاق الرحيبة للقلوب… فعلِّقت الأعلام، وتوالت الأحلام…

كانت الجموع منهمكة في التحضير… إلى أن جاءت الساعة المشهودة… ساعةُ الحسم… وفي قاعة الشاي الأخضر المنعنع، قبْلَ بداية العرض والمحاضرة، جلس الأديب الأريب إلى جوار الفتى، فقال له بصوت خفي، ونجوى حلالٍ: “لديَّ بشرى لك… لقد كنتُ في أمريكا عند الأستاذ فتح الله، فأعطى إشارة البدء في إيفادك إلى “الأكاديميا” باحثًا… فبشرى لنا… ثم بشرى!”.

لم يدرك الفتى أهو في عالَم الحقيقة أم هو في عوالم الأحلام؟ أحقًّا ستُكتب له الهجرة قريبا؟ ماذا عن البلد وعن المشاريع؟ وماذا عن الولد والأهل؟ بل، ماذا عن “الوعاء الحضاري” والحضن الوطني؟

ما هي إلاَّ أيام قلائل، مسرعة سرعة الضوء والبرق، حتى ألفى الفتى نفسه يبرمج ويحضِّر، ويقدِّم ويؤخِّر… ولقد أعدَّ نفسه لمثل هذا اليوم، فأوكل -من قبلُ- المهامَّ والمسؤوليات لشباب اعتقد فيهم خيرًا… ألا ما أشبه مثل هذه الساعة بساعة الفراق الأخير… فوالله إنها لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ(الذَّارِيَات:23).

ها هو الآن، اللحظةَ… بقدرة القادر العليم، وتدبير المنعم الحكيم، على متن طائرة، مع أهله وولده جميعا، إلاَّ قرَّة عينه الربيع، ونعمُ الدنيا لا بدَّ لها من منغِّص… ها هو ذا مهاجِرا إلى الله ورسوله، ناويًا التخلُّص من الأدران، على رأسها ذنوبه وكسله وارتباطه بالدون… مستعدًّا للمواجهة والصبر والمصابرة… العواطفُ منه تغالب الأفكار، والأحاسيسُ تغمر القلب… إلاَّ أنَّ الفتى لم ينس سؤاله الصغير الكبير:

“ما العلاقة بين العلم والعمل، وكيف نحوِّل الفكر إلى فعل؟”.

 

حديث عن حدِّ العلم، والعلاقة بين الفكر والفعل

تقوم الفيزياء الحديثة على ركيزتين أساسيتين، هما:

1-النظرية النسبية العامَّة لأينشتين؛ وهي تمنحنا الإطار النظريَّ لفهم العالَم في أبعاده الكبرى: الكواكب، النجوم، المجرَّات… الخ.

2-ميكانيكا الكمِّ؛ وهي تمنحنا الإطار النظريَّ لفهم العالم في أصغر أبعاده: الجزيئات، الكواركات… الخ.

كان الاعتقاد أنَّ كلا النظريتين صحيحتان؛ وهذا ما منح الفيزياء راحةً لمدَّة قصيرة، ثم ما لبث العلم أن وصل إلى مشكلة معقَّدة غير مريحة، وهي: أنَّ إحدى النظريتين تنفي الأخرى، فهُما متعارضتان، بحيث لا بدَّ أن تكون إحداهما فقط على صواب، والأخرى بالضرورة تكون على خطأ.

لكن، لماذا حدث هذا التناقض الحادُّ؟

ذلك أنَّه في معظم الحالات يقوم الفيزيائيون إمَّا بدراسة الأشياء الكبيرة فقط، أو بدراسة الأشياء الصغيرة فقط، ولا يجمعون بينهما في آنٍ واحدٍ، بحكم التخصُّص الدقيق، وضعف الوسائل، والاهتمام البشريِّ المحدود… الخ.

الآن لنستبدل المجال والنظريتين، ولنتحوَّل إلى الفكر والحضارة الإسلامية، لنجد أنَّ مجمل تراثنا الحضاري موزَّع على جانبين:

1-إمَّا الجانب العلميِّ النظريِّ؛ وهو غالبا ما يكون من اختصاص العلماء، والطلبة، ومن يدور في فلكهم.

2-وإمَّا الجانب العمليِّ التطبيقيِّ؛ وهو ميدان السياسيين، والتجَّار، والعسكريين، ومن يحوم في حقلهم.

والتعارض بين الجانبين، حتى وإن لم يكن مطلقا في تراثنا الإسلامي المعاصِر منه بالخصوص؛ إلاَّ أنه في كثير من الأحيان كان مهيمِنا، فهو معيار التخلُّف والضعف في أغلب الأحيان؛ وهذا حال أمِّتنا الإسلامية اليوم، إلاَّ ما شذَّ. ذلك أنَّ ثمة هوَّة وشقَّة بين العلم والعمل، بين الفكر والحركة. وهذا غير ما كانت عليه في العهد النبويِّ الزاهر، وفي العهود المشابهة له، المستقاة منه.

السؤال المترتِّب والبدهي، هو: لماذا هذا التعارض؟

الجواب، بناءً على ما مضى في التوطئة، هو أنَّ العلم وأهله، عادةً، لا علاقة لهم بالواقع؛ وأنَّ الواقع وأهلَه، عادةً، لا علاقة لهم بالعلم؛ من هنا ولد الانفصام.

ولكن، إلى هنا، يبقى الجواب مجرَّد وصفٍ، والوصف لا يدفع إلى العمل، فهو إجراءٌ مختزَل عاجز؛ ومِن ثم لزم تحديد سببِ، أو أسبابِ هذا الانفصام المحير فكريا وواقعيا.

ولقد حاول العديد من العلماء أن يؤلِّفوا -إجابة على هذا السؤال الهامّ – في الفعالية، وفي مشكلات اللفظية، وفي العجز عن الفعل، وفي النزعة الخطابية… وما إلى ذلك من المحاولات المشكورة، والتي نبَّهت إلى بعض الأسباب القريبة والبعيدة، الظاهرة والخفية.

ونموذج الرشد، يضعُ هذه المعضلة في اللبِّ، وفي رأس قائمةِ الاهتمامات؛ ولذا كانت الخاصية الأساس لهذا النموذج هي “حركية الفكر والفعل”، أو ما يطلِق عليه “كيث ديفلين” عبارة “تحويل المعلومة إلى معرفة، والمعرفة إلى سلوك”.

فنموذج الرشد، إذن، يتخطَّى عقبة “إمَّا وإمَّا”، أي “إمَّا الفكر وإمَّا الفعل”، “إمَّا العلم وإمَّا الواقع”؛ ويؤسِّس لعلاقة تقوم على أساس “كذا وكذا”، أي “العلم لأجل العمل”، و”العمل أساسه العلم”، و”كلُّ علم لا يفسَّر إلى فعلٍ حضاريٍّ، يسهم في رقيِّ الأمَّة وازدهارها، هو مجرَّد ضياع للطاقة”، و”كلُّ واقع دينيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو سياسيٍّ، أو تربويٍّ، أو اقتصاديٍّ… أو غير ذلك، ليس له جذورٌ ذاتيةٌ أساسية في عِلمٍ ذاتي أصيل، هو مجرَّد تشويه لروح الأمَّة، ومسخ لكينونتها”.

ولملاحظٍ أن يلاحظ أنَّ العلم له حدودٌ، وأنَّ النموذج قد يكون قاصرا عن الوفاء لهذه الثنائية، تماما مثلما كانت الفيزياء بشقَّيها عاجزة عن الوفاء للصورة الكلية للكون؛ فالجواب بالطبع أنَّنا لا ندَّعي الشمولية في الكمِّ، وأنَّ التركيز هو على الكيف، ولو في أبسط وأصغر فكرة، أو أبسط وأصغر فعل؛ المهمُّ فيهما أن يتَّسما بالحركية وبالتبادل، أي أن يكون بينهما جسر واصل، وخيط موصل.

ولنمثِّل بفعل يوميٍّ يمارسه الكثير من الناس، وهو شراء جريدة في الصباح، والاطلاعُ على أهمِّ العناوين، ومطالعة أبرزِ الفقرات، والتركيز على أكثر المواضيع إثارة؛ فكثيرا ما سأل الشباب: هل هذا فعل حضاريٌّ يدلُّ على أنَّ صاحبه يقرأ، ويطالع، ويهتمُّ بأمر البلد؟ أم هو فعل اعتياديٌّ لا يتميِّز بسمة الحضارة والفعل الإيجابيِّ؟

هنا يكون الجواب، بناء على نموذج الرشد، وبناء على جدلية الفكر والفعل، أنَّ مَن يشتري الجريدة، بغرض الربط بين ما فيها من معلومات بما يصنع موقفَه هو، وبما يحرِّكه وجهة الفعالية والفعل؛ يُعتبر راشدا في تفاعله مع الجريدة؛ أمَّا من يشتريها ليملأ عقله بالأخبار والمعلومات في كلِّ المجالات، بلا حدود، ثم بعد ذلك يتخذها مادَّة لحديثه، ويكرّرها على أصدقائه ومعاشريه، ثم ينتهي اليوم، ويأتي يوم جديد، ويشتري جريدة جديدة، وهي تحمل أخبارا جديدة؛ فيدور صاحبنا عليها مثلما يدور “حمار الطاحونة” على الرحا… وهكذا، بلا ملل، ولا نهاية، ولا جدوى… هذا بالطبع مخالف للرشد، وهو تصرُّف مدعاة للوهن، بل وسبب في العجز غالبا.

ولو أنَّ كلَّ قارئ لأيِّ جريدة، حاول أن يتحرَّك إيجابا في نقطة واحدة، على صِغرها، في يومِه، ثم يتحرَّك في الغد نحو فعل إيجابي ثان… وثالثٍ… لجمعْنا نهاية كلِّ يوم الملايينَ من القطرات التي تسقي بساتين البلاد وابلا لا طلاًّ، وتحوِّل اليابسة جنَّات، وتعد الوطن والأمَّة بغد مشرق منير.

وليس لنا أن نتوقَّف في الوصف، ونقول: “إنَّ الجرائد أساسا لا تعرض الأخبار بهذه الرؤية الكونية الشمولية، وإنما تعرضها بغرض التنفيس، وبقصد الإثارة والتهريج”؛ ليس لنا أن نتوقَّف هنا؛ لأنَّ الفعل الإيجابي المترتب عن هذا الاستدراك هو أن نتحرَّك نحو إنشاء جريدة تخالف هذا المسار، وتصنع إعلاما مختلفا، بغاية مختلفة، ومنهج مختلف، هو في الأخير منهج الرشد والرشاد؛ وهو سبيل الرجل المؤمن من آل فرعون، الذي لم يستسلم للواقع، ولم يبكِ مثل الثكالى حال الناس، بل راح يصدح بالقول، ويضع المخططات، ويدعو الناس إلى السير وفقها، ولذا مدحه ربُّ الجلال بقوله: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(غَافِر:38).

ولقد ضرب “البراديم كولن” أروع مثال، بتأسيسه للعديد من المجلاَّت، ثم الجرائد، ثم القنوات التلفزيونية، فوكالات الأنباء… بناء على رؤية واضحة، ومشروع ناضج متكامل؛ قد لا نجد له في العالم العربيِّ اليوم الأثر الواسع، لأسباب معقَّدة ومتداخلة؛ غير أنَّ أثره العميق يسري في جسم الأمَّة القطبِ، سريان الماء الرقراق في جذور “شجرة التوت” الشامخة، ذات الفروع الممتدة، والثمار الحلوة، والعراقة الأكيدة، والنفع الدائم…

ولنهمس في أذن كلِّ مسلم، ونقول: لنبدأ بالفعل، أو بالفكر… المهمُّ أن نبدأ، ونسدِّد، ونقارب، ونبادل الأدوار، في “حركة حلزونية” لا متناهية؛ فمن بدأ لم يتوقَّف، ومن تهيَّب لم يبدأ، والله هو الهادي لسواء الصراط، وهو المجازي على حسن الفعال.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.