يذكر فريد الأنصاري أن الأستاذ فتح الله كولن قد وجد الطريق إلى الموازنة بين الاغتراف من العلم الأصيل، مع التطلع إلى نفض الغبار عنه، وبعث الحياة فيه من خلال إعادة الاعتبار له بتمثله واقعيا، وفي الوقت نفسه واظب فتح الله كولن على الارتواء من مجالس الذكر والاغتراف من حياض الروح..

لكي يشحذ تجربته ويصقل قدرته على التأثير في الناس، تقدم كولن إلى امتحان الوعاظ، فتفوق فيه، وجاء في الرتبة الأولى فتعين إماما لجامع “الشرفات الثلاث” التاريخي.

يقول فريد الأنصاري: “بعد بلوغه منازل العلماء الراسخين، تيقن فتح الله كولن أن هذا التوازن التلقائي الذي كان يجده ما بين متابعة الدراسة الشرعية، وبين المواظبة على حضور مجالس الذكر، هو الذي مكنه من اكتساب نظرة شمولية متوازنة لمفهوم الدين حقيقة وشريعة.. ولذلك لم يكن الفتى من الدراويش الذين يتوسلون إلى مرادهم بخشن الثياب والمرقعات، بل كان يعتني بلباسه اعتناء… ولذلك ما تفهم أحد من أصحابه -في مرحلة الطلب-العلاقة بين الحالين في شخصيته، ولا وجدوا انسجاما بين الطورين في طبيعته، حيث كانت الثقافة الصوفية الرائجة يومئذ بين رواد الزوايا والتكايا تفسر الزهد بأنه الابتذال في اللباس، ومعاداة الأناقة والجمال”.

كان لتعرف كولن على رسائل النور سنة 1957م الأثر الكبير على شخصيته، وكأن الرسائل أخذت بيده لتريه الطريق وتدله على السير وهو ما زال شابًّا يافعًا.

مراهقة مختلفة

يمكن القول بأن ملامح شخصية فتح الله بدأت تتشكل منذ سن المراهقة، لكنها مراهقة لا تشبه مراهقة غيره من الفتيان. فلقد تم توجيه هذه المراهقة نحو التطلع إلى تحقيق ما لم يحققه غيره… عَشق فتحُ الله ركوب التحدي، هذا التحدي جعله يختار ألا يكون مثل أقرانه بل أن يكون في مستوى الكبار القادرين على تقديم شيء لهذه الأمة وللإنسانية، ترقى به ويرقى بها.. وتجد هذه القضية تفسيرها في تميز مسار طفولته، وفي التربية الروحية المباشرة التي تلقّاها إما من الوسط الذي عاش فيه، وإما عن طريق علماء بيئته أو عن طريق مداومته على حضور جلسات الذكر. فهذه التربية الخاصة المميزة جعلت مراهقته تكون مختلفة عن مراهقة غيره من اليافعين والشباب.

عَشق كولن ركوب التحدي، هذا التحدي جعله يختار ألا يكون مثل أقرانه بل أن يكون في مستوى الكبار القادرين على تقديم شيء لهذه الأمة وللإنسانية، ترقى به ويرقى بها..

الرسائل تنير الطريق

وقد كان لتعرفه على رسائل النور سنة 1957م الأثر الكبير على شخصيته، وكأن الرسائل أخذت بيده لتريه الطريق وتدله على السير وهو ما زال شابًّا يافعًا. ولربما أدرك فتح الله بما وهبه الله من ذكاء وقوة ذاكرة وروحانية عالية أن الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يحثّه من خلال خطاب رسائل النور أن يشمّر على ساعد الجد وأن يعد نفسه لسفر طويل في سبيل إتمام ما بذره النورسي رحمه الله من أجل الأجيال القادمة كي تقطف الثمار.. يقول فريد الأنصاري بأن فتح الله قد: “… أدرك أن هذه الفلاحة ليست ترتوي بغير دموع العاشقين، ومن ثم لم يزل يبكي حتى انتفخت مقلتاه…!”. وبالطبع لم يبال فتح الله بما يحيط رسائل النور وصاحبها بديع الزمان سعيد النورسي من مخاطر، لأن من ينخرط في دائرة النور يعلم جيدا بأنه ينخرط في ساحة مسافةُ ابتعادها عن السجون والمتابعات والمحاكمات والمطاردات مسافةٌ قصيرة جدا بل منعدمة، ومع ذلك فإن فتح الله تجاهل كل ذلك وصمم على المضي لأنه وجد في كل ذلك ما يداوي قلبه فتحدى كل من خوفه من المضي في هذا الأمر، فمثل فتح الله “كرجل أوغل في سفر بعيد فاشتد به العطش في لفح الرمضاء ومسالك الصحراء، حتى إذا أيقن بالهلاك جاء الله بالفرج، فأشرف على واحة خضراء ذات مياه باردة وظلال. فأي بيان ثقيل يستطيع بعد ذلك أن يصده عن التعريج السريع على منابع المياه؟!”.

لم تكن مراهقة كولن تشبه مراهقة غيره من الفتيان. فلقد تم توجيه هذه المراهقة نحو التطلع إلى تحقيق ما لم يحققه غيره

كولن إماما وواعظًا

كان انتقال فتح الله إلى محافظة “أَدِرْنَة” مرحلة جديدة، ففيها وُظّف إماما بأحد مساجدها، هو مسجد “الصومعة البيضاء”، يأمّ الناس للصلاة ويعِظهم زمنا. وتأتي أهمية هذه الوظيفة من جهة ما فتحته أمام الفتى من أبواب للتعرف عن قرب على طبيعة الوعي الديني لدى بسطاء الناس وعامتهم.

ولكي يشحذ تجربته ويصقل قدرته على التأثير في الناس، تقدم فتح الله بعد مدة إلى امتحان الوعاظ الذي تنظمه رئاسة الشؤون الدينية بأنقرة، فتفوق فيه، وبعد مدة نجح في المباراة التي نظمتها دار الإفتاء في أدرنة فجاء في الرتبة الأولى فتعين إماما لجامع “الشرفات الثلاث” التاريخي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد جكيب، أشواق النهضة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ149/ 150/ 151.

ملحوظة: العناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.