المنهج القرآنيّ وتصوّر المجتمع المثاليّ عند كولن

ليس صعبًا أن تقرأ القرآن وتفهمه إذا عرفت اللغة العربية أو حصلت على نسخة تترجم معانيه إلى لغتك، ورغم سهولة فهمه للعارف بلغته إلا أن بعض العرب وإن كان يجيد العربية قد يواجه تحدّيًا حقيقيًّا في الوصول إلى مراد القرآن، وهذا يقع لمن يُعنون باستنباط المعاني الكلية دون عناية بفهم الجزئيات أو بفهم آية ما تحكي قصة أو موضوعًا أو أيّ أمر من رسالات الأنبياء، فالفهم الصحيح لآية بعينها يقتضي منك اطلاعًا وافيًا على النص القرآني، فقراءة آية بعينها دون معرفة كليّة بالقرآن قد تؤدي إلى فهمٍ خاطئ للآية لا سيما آيات الأحكام.

“إن من لم يعرفوا القرآن الكريم بأسراره المكنونة فيه، ويعجزون عن الاقتناع بأن النبي  هو أَمْهَرُ غوّاصٍ في الأعماق القرآنية، هم أشقياءُ تائهون في أعماق أنفسهم -إن سميت أعماقًا-…

فالقرآن مصدر له سرٌّ غاية في العمق ونقاءٌ غاية في الارتقاء، وثراؤه يفوق كل الأفهام، ويشعر قارئه بالأمان، وكلما اكتشف القارئ أفق فهم خاص شهد قوس نصر كأنه ألوان طيف يمتد دائمًا إلى نقطة أبعد من التي وصل إليها السالك. والتقوى هي المعنى السامي المستهدف لمصدر النور الفياض على الحياة من مشكاة نور صنعت هذا الكون، ومن حظي بهذا ألفَى «سهولة وطلاقة فذة في قراءة القرآن وتفسيره»، ووجد فيه إشارة إلى مستوى ما فهمه”[1].

يريد كولن أن يثبت أنّ كلّ فرد يستطيع فهم القرآن وفقًا لعمق أفقه في الفهم، وينبه على خطورة دعوى أناس أن القرآن كلّه واضح تمامًا لهم، وأن إدراك معناه الحرفي ليس بعسير؛ لكن المطلع على اللغة العربية يمكنه أن يجد عدة معان للفظة واحدة أو لآية واحدة، فكلمة “اقرأ” مثلًا أول كلمة أنزلت من معانيها التلاوة والتفكر والتدبر، فلكل كلمة عدة معان محتملة، فيقوم المفسر للقرآن بترجيح أحدها حسب فهمه للنص، ويرى كولن أن القرآن بوصفه كلام الله المنزل على نبيه  لا يستعصي على العقول البشرية تفسيره، وقيمة أي تفسير مردها إلى مستوى علم المفسر ونوعه ومهاراته وأفق إدراكه.

لقد برع المسلمون الأوائل في تفسير القرآن وتبليغ رسالة الإسلام العالمية وإصلاح الأمم الوافدة على الحضارة الإسلامية، وها هو كولن يدعو إلى تدبر القرآن، فهو عنده كالزهرة المتفتحة دائمة التجدد، فهو يتجدد بتفسيره وتحليله، ونحن أبناء زمننا، والزمن والظروف أدوات مهمة في تفسير القرآن، ومهما مر الزمن فالنص القرآني متجدد لا يشيخ أبدًا، بل يظل خضرًا خصبًا يفيض بمعانيه وأسراره التي لا تنتهي، ورغم مرور أربعة عشر قرنًا ما زال القرآن يكشف عن أسرار ومعانٍ لم تكن من قبل، وكلٌّ يدلي بدلوه في عالم القرآن حسب فهمه وتفاعله مع بيئته.

وليس لأحد أن يُبطِل أو ينتقص تفسير الآخرين، ولكن قد يُعد تفسير ما نقدًا لآخر، فمثلًا قد ترى بعض النسوة المسلمات أن من حقهنّ تفسير القرآن من منظور نسوي، إذ يرين أن معظم التفاسير جاءت لصالح الرجل ضد المرأة، ويذهب مفسرون آخرون مثل أسماء برلاس إلى أن القرآن يساوي الرجل بالمرأة أمام الله سبحانه وتعالى.

“دع التيار النسوي، فأنا لا أرى أن خطاب القرآن يفرِّق بين الجنسين أو أنه يخاطب كلًّا على حِدة، فالقرآن كلام الله لا قول البشر، ولا أعني بالمساواة في الخطاب القرآني السمات القرآنية التي غُيِّبَتْ في تفاسيرَ ذاتِ صبغة ذكورية ولغةٍ متحيزة لجنس دون آخر”[2].

هل يمكن لأحد أن يدعي أن بعض الآيات ذات نبرة ذكورية أو نسويّة والحال أن تلك الآيات موجهة للبشر جميعًا في جميع الأزمان؟ والأعجب تلك الدراسات عن القرآن لمفسرين مسلمين وغيرهم يسلطون الضوء على قضايا بعينها، ودراسات للمستشرقين تنتقي آيات بعينها لتدعيم فكرة يريدون توصيلها، فيوردون الآية في مواطن تخدم أهواءهم، ومن ثم يستطيع كلٌّ وفق رؤيته ودافعه الديني أو السياسيّ أن يجد تفسيرات وانعكاسات لأفكاره في الآيات القرآنية.

منذ أن بدأ كولن حياته واعظًا ومؤلفًا ومعلمًا لأناس من مختلف الأطياف حرص على تجنب أي تفسير أو تأويل أو فهم طائفي أو مذهبي للقرآن، ولطالما كرّر أنّ القرآن هو الكتاب الذي يجمع المسلمين، فهو هو المرجع للإسلام في العالم، ولطالما انبهر علماء الغرب بذلك:

“أمّا الأناجيل فلم تحفظ لغتها الأصلية، فاللغة التي كتبت بها أوائل نسخ الأناجيل الموجودة لغة مهجورة لا تستعمل الآن… وظل علماء الغرب أكثر من قرنين يفحصون القرآن فحصًا دقيقًا، غير أنهم فشلوا في إثبات أنه أصابه ما أصاب الأناجيل، لكنهم وجدوا أن المسلمين انقسموا -مثل المسيحيين- إلى طوائف وفرق متنازعة، ولطالما سعت طوائف المسلمين لتسويغ مواقفها بالرجوع لنفس القرآن”[3].

خلال أربعة عشر قرنًا كان الفقهاء يستنبطون الأحكام الشرعية من القرآن، واستدلوا به، واستنبط كثير من المفسرين معاني جمّة منه؛ وعدا هؤلاء قد ترى خلال تاريخ الإسلام الطويل فرقًا مسلمة أخرى حاولت الاستدلال لأفكارها وآرائها بالقرآن لإثبات موقفها بصبغة شرعية ضد خصمها، ولهذه الممارسة القديمة ضرر بالغ بهدف الإسلام الأهم والأسمى، وهو جمع المسلمين كافّة تحت مظلة واحدة هي مظلة السلام والأمن العالميّ للبشرية جمعاء.

قيمة العقل والفكر

من المشكلات الرئيسة في معاناة المسلمين منذ قرون جمود التفاسير لرسائل القرآن، وقصر التفاسير على تراث ضخم من آثار مبوّبة في موضوعات، أغلبها في المُثل والقيم حسب فهم العلماء لها، ولْأنوِّه أني لا أدعو لتفسير القرآن بالعقل والرأي دون الأخذ بالأحاديث النبوية؛ فالنبي  هو أول من فسروا القرآن وأحقّهم بذلك، ولكن على المفسر أن يتأمَّل تفسير النبي  لآيةٍ بعينها، ويرى كيف كان تفصيلُه فيها، وما إذا كان تفسيره لها واضحًا جليًّا لا يقبل التأويل أم لا؛ لكن هل النبي  فسَّر القرآنَ كاملًا؟ اتفق جمهور العلماء على أنَّ النبي فسَّر مِن القرآن القدر الضروريّ، وهذا يعني أنه  ترك الباب مفتوحًا لمن يريد أن يفسر القرآن إلى يوم القيامة، ومن يفسر مطالب بإعمال عقله في النص للوصول إلى معان جديدة معاصرة خلافًا لمن يدعي إغلاق باب الاجتهاد، وهو ما أدى إلى ركود وجمود، وإلى هجوم المستشرقين والمغرضين:

“لا شيء يحول بين إعادة علاقة الوحي الإلهي بالظرف الاجتماعي، وذلك له أثره في تطور التراث، وقد عرف الناس المنطق الأرسطي، وانتقدوه بشدة لعدم توافقه مع تعاليم القرآن، ولذلك، وبما أن منظومة القرآن نفسها غير نظامية، فإن هيكل التشريع الإسلامي لا يمكن أن يكون نظاميًا، بأي مفهوم غربي، فالأدوات الفكرية ليست متوافرة أو على الأقل غير مسموح بها طبقًا للموروث الحضاري الديني”[4].

إن القرآن يدعو العقلَ للتأمّل في آياته، والعالَمُ الذي يسودُه العقل والعلم والمعرفة يغدو فهمُ الرسائل الربانية فيه أفضل؛ والطاعنون في الإسلام إنما يحركهم تحاملهم عليه دون أن يبذلوا جهدًا، أو جهلهم بمناهج تفسير القرآن، فالمتخصصون في علوم القرآن يقومون بجهود عظيمة في تفسير القرآن وفق مناهج يتبعونها في تحليل قضاياه من منظور أعمق وأوسع ووفقًا للقواعد المنهجية الثابتة في التفسير، وليس في مناهج تفسير القرآن ما يتعارض مع أي من مصادر المعارف الإنسانية المهمة طالما لم يثبت أن هذه المعارف ضد البشر والطبيعة الإنسانية؛ بل إنه يشترط في المفسر أن يحسن مع العلوم الشرعية علومًا أخرى صارت ضرورية في التفسير اليوم كعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس؛ والمسلم المثقف الفطن عليه أن يتعلم كيف ومتى يقبل أو يرفض نظريات أرسطو أو غيرها في ضوء ما إذا كانت مفيدة أو لا صلة لها بحلّ المشكلات؛ فمثلًا دَعَمَ أرسطو ثم الأمريكيون حتى وقت قريب الرقَّ بوصفه نظامًا أساسيًّا لتقوية الاقتصاد وتعزيزه، بل إن الوثيقة التاريخية للحريات “ماجنا كارتا” عجزت عن مساواة الرقيق بالحر في حقوق المعيشة، وعدّتهم سلعًا تباع وتشترى برغبة مالكيهم؛ ومع هذا فكثير من الغربيين المتطرفين لم يطرحوا سؤالًا مثل: لماذا لم توجد وثيقة أو دستور في كل المواثيق والدساتير الغربية منذ ماجنا كارتا حتى وقت قريب بمعاملة الرقيق معاملة أخلاقية آدمية كما في هذه الأيام؟

ما من نقدٍ غربيّ تقليديّ للقرآن إلا ويتسم غالبًا بهجمات مغرضة ضد مبادئ الإسلام إما لسوء فهمها وإمّا لسوء تأويلها مع إغفال زمن نزول الوحي ومكانه وأسبابه وأحوال العصر؛ ويتجاهل الطاعنون في الشريعة أن القرآن هو أول تشريع أرسى مبادئ المساواة بين الناس لا سيما العبد والمرأة لِما كانا يلقيان من نظرة المجتمع لهما، فكرّمهما الإسلام بإقرار آدميتهم بالتساوي مع الرجال في الروح الإنسانية التي يهبها الله برحمته للبشر أجمعين دون تمييز بين غني وفقير؛ وتبين المعاملة التطبيقية للمرأة والعبيد في حق الحياة والعمل والمعيشة والعبادة على عهد النبي  أن الهدف هو الحظر المطلق لأشكال الرق كلّها لكن بالتدريج دون إكراه مالك العبد على ما يكره؛ وخلاصة منهج النبي  في كلمة واحدة: «من كان عبدًا لله فليس لأحد أن يستعبده»، فالخلق كلهم عباد لله U، فمن ملك عبدًا حرم عليه ازدراؤه وإساءة معاملته ألبتة، فالنبي  وضع منظومة شاملة عملية لتحرير العبيد مهما كان الثمن كما يقول كولن:

الخطوة الأولى: وضع الشرع قواعدَ صارمة في حسن معاملة الرقيق، ففي الحديث: “مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ، وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ[5]”؛ “لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَّا بِالتَّقْوَى[6].

الخطوة الثانية: مكّن الإسلام العبيد من تحقيق وعيهم وهويتهم الإنسانية، بل لقَّنهم القيم الإسلامية وغرس فيهم حبَّ الحرية، فعندما يحررون يجدون أنفسهم مجهزين تمامًا ليصبحوا أعضاء فاعلين نافعين في المجتمع، فيعملون في الفلاحة والأعمال الحرفية والتدريس وطلب العلم وقيادة الجيوش، والحكم والوزارة ورئاسة الوزراء أيضًا”[7].

كان علاج الإسلام للرق وراء دخول عبيد كُثُر فيه في مجتمعات المسلمين الأوائل؛ ومع ذلك يصعب فكريًّا ونفسيًّا على العقل الغربي المادي بل العقل المسلم العلماني أيضًا أن يفهم الحكمة في المعالجة التدريجية للقضايا الخلافية في العصر الأول، وتُعَدّ حرب الإسلام على الرق وتأكيد المساواة بين البشر جميعًا دون نظر إلى عرق أو جنس
أو نسب نموذجًا جليًّا كان هَدَفُ الإسلام منه إنشاءَ مجتمعٍ مثاليّ.

مَنَح التطور الهائل في العلوم والتكنولوجيا الغربَ فرصًا هائلةً في التقدم والازدهار، وهذا من محاسن الحضارة الحديثة، غير أن هذه الحضارة لا تهدف إلى شيء سوى تحقيق المصلحة الشخصية، حتى إنّها دمّرت الحياة الاجتماعية والأسرية وكل ما يحيط بنا في الطبيعة؛ وما حققته من مكاسب مادية وهيمنة اقتصادية كان على حساب الدول النامية، وهذا ما قد حدث عبْرَ التاريخ مع شعوب كثيرة سنحت لها الفرصة للهيمنة على غيرها، وقد اتّهم بعض حكام المسلمين في مثل هذا بالإضرار بالآخرين وانتهاك حقوقهم، غير أنّ طغيان الدول المتقدمة اليوم لا مثيل له في تاريخ البشرية؛ فالخبرة التكنولوجية الهائلة أتاحت لعناصر غربية ذات مخططات شيطانية أن تخترق أي بقعة وتقوم بأعمال تدميرية، وبعض مَن يعادي الديمقراطية سرًّا في تركيا كاد -وا أسفاه- يصبح جزءًا من هذا المخطط المدمر، وهو يقوم على التحكم في الناس والتدخل في شؤونهم الخاصّة؛ وما زالت تركيا منذ صعود القوى القومية والعلمانية المتطرفة تسعى جاهدة لتصبح جزءًا من أوروبا أو الغرب، لذا لم تستطع تركيا القومية تحديد هويتها أو انتماءها الروحيّ، وغفل كثير من المسلمين عن أن الدعوة لإسلام مقيد بحدود دولة دعوة معادية للوحدة والأخوَّة الإسلامية؛ لذا لم يدع كولن ألبتة إلى دولة إسلامية أو ثورة إسلامية في تركيا أو في أي مكان آخر، بل حثّ محبّيه على خدمة البشرية في كل مكان بالعالم؛ وبيّن أن تجربة تركيا الإسلامية ما كان لها أن تكون نفس تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية؛ ومع ذلك قام أعداء الديمقراطية داخل تركيا بملاحقة كولن، وحاولوا عزله عن محبِّيه وإرهابه دائمًا بقسوة ليتوقف عن تبليغ دعوته السلمية القرآنيّة.

قد نجد بعض المسلمين لا يدركون ألبتة عمق الدعوة السلمية القرآنية، فيتيهون في سلوك طرق مدمرة للانتقام من المحتلين وغيرهم من قوى الشر التي دمّرت العالم الإسلامي بشتى الطرق؛ لذا لم يتردد بعضهم في تحميل القوى الغربية المسؤولية القانونية والأخلاقية عن تدمير الدول الإسلامية، أمّا علماء الغرب فنظرتهم للقضية مختلفة تمامًا، يقول برنارد لويس مثلًا:

“المراقبون الغربيون وهم مَن هم في الوعي بالحريات الغربية قولًا وفعلًا يرون أن كثيرًا من مشكلات العالم الإسلامي وراءها غياب الحريات كحريةِ العقل من القيود والتلقين وحريتهِ في التساؤل والبحث والتعبير، وتحرير الاقتصاد من الفساد وسوء الإدارة، والمرأة من ظلم الرجل، والمواطن من طغيان الدولة”[8].

هذا التحليل فيه سوء فهم لمكانة الحرية في الإسلام والقرآن، ورغم أن لويس من أشهر الباحثين الأمريكيين في الإسلام والشرق الأوسط إلا أن غالب نقده للإسلام والمسلمين معيب أو ضعيف الحجة في ميزان المعايير العلمية؛ وهذا ما جعل إدوارد سعيد يطلق على هذا النوع من التخصص «الاستشراق»، إشارة منه إلى عجز المستشرق عن الفهم الصحيح لأي من المشكلات الرئيسة في البلدان الإسلامية ودول العالم الثالث، فمن محض الكذب أن يدعي امرؤ مثلًا أنّه لم يكن لدى الجمهور التركي تحت الحكم القومي العلماني قدر كاف من الحرية ليفعل ما يشاء.

لقد عانت تركيا العلمانية من ظروف اقتصادية حرِجة قبل حكومة أوزال، وأفزع جمهورَها إفلاسُ جمهوريات في الاتحاد السوفييتي السابق، فاندفعوا يبحثون عن مخرج لمشكلاتهم الاقتصادية والروحية أيضًا؛ فجاء فتح الله كولن ليفتح باب أمل جديد بمؤلفات وخطب وصلت إلى عقول ملايين من الأتراك شيبًا وشبابًا، لقد دعا لإحياء حقيقي للروح الإنسانية بتفسيره للقرآن تفسيرًا أعمق وأكثر اتساعًا في الأفق؛ ونجح في مهمته بما أوتي من علمٍ جمّ: فقد حفظ القرآن في صباه، واضطلع اضطلاعًا واسعًا بالحديث، ودرس كلًّا من العلوم الشرعية والعلوم الحديثة، وهو يتقن اللغة العربية أيما إتقان، وعلى دراية كبيرة بالروح الجمعية للناس، ففهم أسرار القرآن الكريم ليس مهمة يسيرة على عوام المسلمين، بل قد يؤدي غريب اللغة إلى غموض بعض معانيه خاصة تلك المتعلقة ببعض الأحاديث النبوية وبأسباب النزول.

وكما سبق[9]، تكمن المشكلة في عدم الربط بين مقاصد الشريعة وعقوباتها، فمثلًا قد يندهش قارئ القرآن عندما يجد آية تأمر بقطع يد السارق والسارقة[10] إذا لم ينظر لهذا الحكم في ضوء رسالة الإسلام الكلية؛ فضلًا عن أنّ «القطع» فُسِّر أيضًا بالحدّ من السرقة أو الحيلولة دون السارق وما يريد، ومع هذا قد يرفض كثيرون مثل هذا التأويل.

بعد جمع الأحاديث ظهر تعارض في نظر المجتهد بين الدلائل القرآنية والأحاديث التي جمعتها المدارس الفقهية المختلفة؛ ويلاحظ أن آيات القرآن يتجاوز عددها ستة آلاف آية، وآيات الأحكام منها بضع مئات، ففي ضوء التشريع العصريّ يتبين أن آيات الأحكام أقل بكثير من آيات التفكر التي تدعو المؤمنين إلى استكشاف الموجودات من حولهم؛ فكشف ما في أحكام الشريعة الإسلامية من خفاء ليس بالأمر السهل، فالأمر لا يقتصر على تفسير ميسر أو معقد للآيات أو الأحاديث؛ ويعبر نوح فيلدمان عن هذه العملية المعقدة لاستقراء تفسير القرآن وربط ذلك بتطبيق ما ينتج عنه من أحكام في إقامة العدل، فيقول:

“يُحب جمهور المسلمين الشريعة الإسلامية ويرغبون فيها لارتباطها التاريخيّ بسيادة القانون، لكن هل تستطيع الشريعة أن تفعل هذا اليوم؟ هذا الأمر محل جدل، فالمشكلة تكمن في أن الدستور الإسلامي التراثيّ قائم على الموازنة بين سلطتين: السلطة التنفيذية لحاكم منقاد للتشريع، وسلطة تشريع يكون دور العلماء فيها تفسير القوانين وإدارتها، وقد فقدت حكومات غالبية الدول الإسلامية المعاصرة هذه السمات، فالحكام يحكمون وكأنهم فوق القانون وليسوا خاضعين له، والعلماء الذين كان لهم قدر كبير من النفوذ من قبلُ تَضَاءَلَ مركزهم، بل اقتصرت وظيفة القاضي الشرعي على الفصل في قضايا الأحوال الشخصية بمحاكم الأسرة”[11].

تجنب كولن تلك القضايا الخلافية من مثل استعادة العلماء لسلطة التشريع، أو القيام على آليات إدارة الدولة مباشرة، وبدلًا من هذا دعا كولن إلى نظام حكم عادل وقضاء يقوم على نظام انتخاب ديمقراطي حقيقيّ؛ ولم يدّعِ كولن أن المتدينين وحدهم هم ضحايا الفساد والعبث الإداري بعد الاحتلال، بل يرى كل من عاشوا تحت حكم الطغاة كذلك، وأن الإسلام هو من يستطيع مساعدة البشر جميعًا دون نظر إلى جنس أو دين أو قومية؛ وأن تركيا بحاجة ماسة إلى عدالة حقيقية حتمًا، وهكذا الدول الإسلامية الأخرى.

“لا يمكن الحديث عن وجود عالم إسلامي إلا إذا تمكن المسلمون من التواصل مع غيرهم، والتوحد والعمل فيما بينهم أنفسهم على حل مشكلاتهم المشتركة، وقاموا بقراءة جديدة للكون وفهمه فهما جيدًا، وتأملوا في الكون وفق هدي القرآن، واستقرؤوا المستقبل وأعدّوا له مشروعات حتى يتمكنوا من تحديد مكان لهم فيه”[12].

يرى كولن أنه لا وجود للعالم الإسلامي العبقري الفاعل القادر على حل مشكلات عوام المسلمين الدنيوية الحقيقية، ولا يمكن في غياب هذه الديناميكية بناء مجتمع مثالي، ولا تخيل إسلام حقيقي؛ كان يدعو إلى هذا، وأغلب علماء الدين والنشطاءُ مُنهمكون أوَّلًا في أحاديث خطابية عن الفلسفة والعقيدة الإسلامية وأهدافها المتنوعة بحسب كل زمان؛ ولا تزال قيادات إسلامية كثيرة في العالم الإسلامي غير مدركة للأزمة الخطيرة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، وحاجتها لاتخاذ خطوات حقيقية لحل المشكلات المشتعلة، لا إلى خلق قضايا جديدة في نزاعات أيديولوجية أو عقدية لا تحلّها قرارات قاطعة كما يقع في أحكام القضاء.

كان حكام الشعوب الإسلامية سابقًا بحاجة إلى تشريعات السلطة القضائية المنفصلة المستقلة عن السلطة التنفيذية؛ لكن الاستدلال المتناقض بتوجيه النصوص أورث نوعًا من الفصل بين السلطات على مستويات متفاوتة من الدولة والحكم الإسلامي في العصر العباسي (750-1258م).

ودأب كثير من علماء المسلمين على إخفاء مشكلاتهم بدلًا من محاولة جادة لحلها، وهذا أمر متكرر عبر التاريخ منذ أن أغلق باب الاجتهاد، ولا يحجم كولن عن عرض هذه المشكلة المحورية في الاجتهاد، ويدعو إخوانه الدعاة للعمل على حل المشكلات بإعمال العقل مرة أخرى في ضوء الكتاب والسنة؛ ولم يُلقِ في هذا الشأن باللائمة على طائفة معينة، بل كان يعتب على كل القادة والدعاة الإسلاميين ممن يمثلون الأمة الإسلامية بثقافاتها المختلفة؛ ويرى أن هذه المشكلات الفكرية التي تعاني منها الأمة الإسلامية الآن مثل الجمود والعداوة المدمرة والكراهية الشديدة بدأت منذ نحو ألف عام، ثم ظلت تبتلع الأمة الإسلامية شيئًا فشيئًا كداء عضال:

“بدأت هذه الحالة منذ العصر العباسي أو منذ ظهور السلاجقة على ساحة التاريخ، وبدأت تصبح هكذا بعد فتح إسطنبول، وهي حقبة نقدرها، ثم تلاها إغلاق الأبواب أمام تفسيرات جديدة للقرآن، فضُيّقت آفاقُ الفكر ورحابةُ روح الإسلام وفضاؤها، وطفا على السطح كثيرون في العالم الإسلاميّ من موتى الضمير سَمْتُهم الغضبُ ورَفضُ الآخر وعدمُ الانفتاح عليه، أناسٌ فضلوا أحزابهم كوسائل ومطايا على الغاية، وامتد هذا الضيق إلى التكايا والزوايا والمدارس الدينية بكلّ أسف؛ والمبادئُ وتفاسيرُها بحاجة طبعًا إلى عمليّات مراجعة وتجديد يقوم بها المتخصصون كلٌّ في مجاله”[13].

رغم كلّ الانتقادات المعترضة على وجود أربعة مذاهب فقهية إسلامية -زِدْ على ذلك المذهب الجعفري الشيعي- إلا أن تعدد مناهج الاستنباط نجح في تحفيز المجتمعات الإسلامية على المنافسة في الاجتهاد في المذهب ونشره وتطبيقه، لكن صلة هذه المدارس بأجهزة الدولة وتعاونها معها كانت انتقائية متدرجة، وقد يعجب بعض الناس من أن أتباع المذهب الحنفي والمالكي طوروا رؤيتهم الخاصة بمصادر التشريع الإسلامي بعيدًا عن تدخل الدولة الحاكمة، بل تعرض أغلب أئمة المذاهب الفقهية في مراحل من حياتهم للاضطهاد على يد الحكام المسلمين لِما واجهته النخبة الحاكمة من تفسير هؤلاء الفقهاء للنصوص، ثم قامت النخب الحاكمة في بلدان كثيرة بتبني مذهب معين للتشريع، وأشهر مذهب في معظم البلدان المذهب الحنفي، ويتميز المذهب الحنفي بأنه الأدق صياغة ومنهجية في موضوع تسوية النزاعات، ويعمق الشعور الإيماني العام في العبادات؛ وكولن حنفي المذهب لكنه غير مُتزمّت ألبتة، بل سمته الرفق وسعة الأفق، وهذا ما جعل كثيرًا من الأتراك شيبًا وشبابًا يأخذون بالتراث الإسلامي وقيمه بجديّة؛ لكن كولن لا يدعو إلى اتباع مذهب فقهي معين على مستوى الدولة، ولا إلى إحياء النظام القضائي بصورته القديمة بوصفه هيئة مسؤولة عن تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة العدل؛ ويحرص أشد الحرص على ألا يضع أي مفهوم أساسي للعدالة الإسلامية في غير موضعه في سياق عملية الفكر السياسي للمسلمين، وهذا ما ميَّزه من بين مفكري الإسلام وعلمائه المعاصرين.

“ذكرت مجلة الإيكونومست أن «الحركة ذات الأصل التركي تبدو أكثر قبولًا وتعقلًا من مثيلاتها، فهي تنافس على لقب التنظيم الإسلامي العالمي الرائد»؛ وقارنت المجلة بين حركة الخدمة والجماعات الإسلامية الأخرى في العالم مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير وجماعة التبليغ والدعوة آسيوية المنشأ، فتميزت عندها حركة الخدمة بأنها لم تدع إلى مستوى معين من الانعزال عن الحياة السياسية الغربية، وتقدم رسالة أكثر إيجابية للشباب المسلم؛ «وتشجع الشباب على الانفتاح على فرص العالم الغربيّ، وتُعنَى بالثوابت الإسلامية»”[14].

تعد حركة الخدمة الفكرية حركة فريدة من نوعها؛ لأنها لا تستفز أعداءها في الفكر، ليتخذوا موقفًا عدائيًا عنيفًا ضد من يدعمونها، وليست حركة سياسية، فمثلًا لم يذكر كولن ألبتة أن تركيا بحاجة إلى إحياء نظام القضاء الإسلامي الذي يتمتع فيه علماء الشريعة بسلطة سياسية عليا لإقامة العدل، غير أن دعوة كولن لإقامة العدل والمساواة وفقًا للنصوص الشرعية معروفة للجميع؛ ويرى خلافًا لكثير من علماء الإسلام أنه لا خوف من تأمل أسرار النص القرآني أي معانيه الباطنة، فلن تطبق الرسالات السماوية بنجاح في حياتنا دون إعمال العقل البشري والفكر المبتكر مع مراعاة أسباب النزول، وربط النص بالواقع الحالي، وبهذا النهج الفكري يُفسَّر تطور الفقه والاجتهاد في صدر الإسلام؛ وعلى ذلك فالنص القرآني عمومًا لا يفرض صورة محددة لنظام الدولة كما يفصل كولن ذلك بوضوح، يقول:

“ونحن نجد في القرآن آيات كثيرة متعلقة بالحكم والسياسة، ومثلها في سنة النبي ، كذلك نجد مصطلحات قرآنية مثل «أولو الأمر» و«الشورى» و«الحرب» و«الصلح» كلُّها تتعلق بالحكم والسياسية.

ومع هذا فإنه ليس من الممكن في الإسلام أن يحصر مفهوم الحكم والسياسة في نموذج واحد، على عكس مبادئ الإيمان وأركان الإسلام، ويعرض تاريخ الإسلام لنا -منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين- أشكالًا كثيرةً من نظم الإدارة والحكم”[15].

ودور علماء الشريعة في إدارة شؤون الدولة محدود، أما في تفسير نصوص التشريع فالتاريخ الإسلامي حافل بعلماء نالوا حظوة كبيرة في هذا؛ فبعد ظهور المذاهب الفقهية كان ينظر إلى تفسير النصوص على أنها أهم خدمة للدين عِلمًا أن أئمة المذاهب الفقهية أنفسهم لم يؤلفوا تفاسير للقرآن الكريم بالمعنى الاصطلاحي؛ وأدَّى تفسير آيات متفرقة دون مراعاة السياق وسائر آيات القرآن إلى لغط واضطراب كبير بين المسلمين، ولم يأت ذلك بحل لمشكلات الدين والسياسة؛ تقول أسماء بارلاس في هذا:

“تسببت هذه التفاسير في الحدِّ من أثر القرآن في معظم المجتمعات الإسلامية اليوم، إذ لم يقتصر أثرها السلبي على إفراز ما ظاهره التعارض بين النصوص الشرعية بل امتد إلى تقديم التاريخ والسياسة والثقافة على النص، بل إلى استبدال تشريع القرآن عن المرأة بأيديولوجيات العصور الوسطى العابرة للثقافات والقوميات عن المرأة والجنس”[16].

واليوم يقرأ ملايين المسلمين عربًا وعجمًا القرآن، ولا يُقدِم أحد على محاولة استكشاف أي معنى جديد محتمَل للنص، ظنًّا منهم أن كل شيء قد فسر فعلًا واستقر على ذلك، وأن القرآن فُسِّر لهم بوضوح، بل نجد أن غالبية الدراسات القرآنية لا تهتم كثيرًا بالتراكيب والمبادئ اللغوية والعلاقات أو الروابط الأساسية بينها، فغابت روح الرسائل القرآنية عن العامة بغياب التركيب البديع الشامل بين المبادئ القرآنية وعلاقات هذه المبادئ ببعضها.

ومن مظاهر هذا الجمود في الفكر الاعتقاد السائد في عدة مجتمعات إسلامية بأن علينا اتباع الخلفاء والأئمة الأوائل دون نقد لما وردنا عنهم، علمًا أن الإسلام لا يعطي العصمة لقول أحد إلا للنبي ، فالتقليد الأعمى ليس من ديننا، وهذا يبين أهمية الشروح والتفاسير الظاهرة والباطنة للرسائل القرآنية لسبر أغوار أسرار الرسالة المحمدية للبشرية جمعاء، والنص التالي يضيء هذا الجانب:

“عندما يبلّغ النبي  عن ربّه  ويبين أمور الدين فمصدره في ذلك كله هو الوحي، أما أفعاله في السياسة فلا يتعين الأخذ بها إذا لم تصدر عن وحي لارتباطها بإدارة الموقف وسياسة المجتمع في زمان ومكان وظرف معين، فأفعاله بوصفه حاكمًا لدولة كانت تصدر عنه باجتهاد منه؛ والدليل أنه كان يستشير الصحابة  في ذلك، فلو كانت إدارته لشؤون الدولة وحيًا إلهيًّا لما استشار أصحابه، لكنه كان يصغي إلى آرائهم، ويستشير الخبراء، ويتأمل الأمور ويناقشها، ويُجمع الفقهاء أن الشعب هو الأصل في شرعية الدولة، فالنبي  نفسه توفِّي ولم يُنصِّب أحدًا خليفة له على المسلمين، بل ترك الأمر للناس لا ليختاروا من يريدون فحسب بل ليحددوا آلية هذا الاختيار أيضًا، وتلك سابقة دستورية أسس لها النبي  قبل وفاته”[17].

ولما سيطر بنو أمية سياسيًّا وعسكريًّا (661-750م) خالفوا هذا النهج النبوي، لكنهم لم يفلحوا في تغيير شيء من الأحكام المنصوصة التي تمنع الحكام أو رؤساء الدول من الاستبداد بالحكم أو احتكار السلطة، ثم غيّر العباسيون اتجاه سير هذا الحكم المطلق، لكنهم لم ينجحوا في تطبيق مبادئ النهج النبوي للحكم في ضوء روح القيم الإسلامية الحقيقية، فظهر نوع من التعددية السياسية واستمرت حتى سقوطها النهائي في عام 1258م، ومرد تلك التعددية إلى ظهور المذاهب الفقهية السنية والشيعية، وظهور الكتب الستة في مرحلة مبكرة من الخلافة العباسية.

في ظل مناخ التعددية السياسية أيام العباسيين استطاع الفاطميون الاستيلاء على سلطة الدولة في مصر (969-1171م)، وعلى بلاد الحرمين الشريفين مكة والمدينة؛ ورغم محاولات مستميتة من بغداد معقل الخلافة العباسية للإطاحة بدولة الفاطميين في مصر، إلا أنّ أحدًا من الفريقين لم يصف الآخر بأنه حاكم غير شرعي أو عدو الإسلام؛ وصار في ظل الدولة الفاطمية أهم المنارات العلمية للشيعة والسنة، وظلت بغداد مركزًا للسلطة السياسية والعسكرية للأمة الإسلامية بأسرها حتى عام 1258م.

ويمكن القول بأن النزاعات الفكرية بين السنة والشيعة يومئذ جعلت عامة المسلمين يطورون فهمًا أكثر وعيًا وعمقًا للنص القرآني، ولم نر في العرب من يحاول الترويج لقومية أو عرقية في «ثوب إسلامي». نعم، لم تكن محاولات صبغ تفسيرات للقرآن بصبغة عرقية أمرًا جديدًا في التاريخ الإسلامي؛ فحدّة القومية في القرن التاسع عشر أنتجت تفاسير للقرآن ذات صبغة قومية عربية أشد من أيام الدولة الأموية بدمشق (661-750م) والدولة العباسية ببغداد (750-1258م)؛ فالعرب رضوا عمومًا بقيادة العثمانيين السياسية والعسكرية من القرن الرابع عشر حتى التاسع عشر، ولما ظهر نظام الدولة القومية الحديثة، شهد التاريخ منهجًا جديدًا لدراسة القرآن وقراءته، وأُغفل الجانب الروحي للنص، ويرى كثيرون أن الفقيه الحنبلي ابن تيمية (ت 1328م) أسس منهجًا قويًّا للتفسير يعتمد ظاهر ما تدل عليه اللغة، بينما أسس مولانا جلال الدين الرومي (1207-1273م) منهج القراءة الباطنة للنص.

هذا الفصل بين القراءة الظاهرة والباطنة للنص عريق في القِدم، ومرده إلى أن دراسة النص القرآني تفترض أن كلّ امرئ بوسعه أن يستنبط من معاني القرآن الكريم حسب قدرته على فهم مراد الله من النص؛ والمعضلة هنا أن يعتقد أحد المفسرين أنه الأكفأ في استنباط المعاني الباطنة لرسائل الآيات القرآنية لمهارات لغوية أو تحليلية يختص بها؛ ورغم أن مثل هذا الكبر والجهالة حرمهما الإسلام، إلا أن بعضهم ادعوا أنهم الأعلم بطرق التمييز القاطع المحدد بين مسلم مؤمن وآخر منافق، مثل هذا المنهج يضع أناس فيه أنفسهم موضع المشرِّع، فيُفهِمون الناس أنّ فضل الله لا حدود له، وأن أبواب رحمته واسعة، وأن كلًّا منهم يستطيع الاستفادة من كلّ الطرق الأرضية أو السماوية لتزكية نفوسهم، ويوظِّف هؤلاء الآياتِ القرآنية لتحديد أفعال قد تُعَدّ شركًا جزاؤها جهنّم مثل جزاء أكبر الكبائر وهو الشرك بالله، ويضمنون لأنفسهم الجنة، وقد لا يترك مثل هذا المنهج أثرًا كبيرًا لو اقتصر على تناول هذه القضايا عقائديّا فقط، لكن المشكلة أنهم يقحمون هذا المنهج في التشريع والسياسة لشنّ حرب ضروس ضد كلّ من يصفونهم بالعصاة والفاسقين.

ولعلّ التجاهل أو الجهل بالتمييز بين الجريمة والخطيئة وراء موقف كثير من علماء الدين المناقض لروح الإسلام، أعني بموقفهم رسمَهم لخطوط فارقة قاطعة بين من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار، فإنهم يقولون إن الإسلام نظام سلوك متكامل من المهد إلى اللحد، لذا لا يقبل أي نظام قانون متوارث من مصادر أخرى. إن هذا منهج أيديولوجي صرف، ولا يصلح أسلوبًا قرآنيًّا تشريعيًّا لاستنباط أنظمة تشريعية يستطيع المسلمون تطويرها أو تغييرها لتحقيق السعادة أو الحياة الكريمة في الدنيا، رغم أن كبار علماء الدين يرون أن تغيير القوانين هو سبيل تقليص الهوة بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة.

وهنا نرى مدى تميز خطاب كولن في مسألة الخطاب الديني والسياسي وفي تجنبه لتفضيل قومية معينة على أخرى، وهو لا يدعي أن بمقدور شعب ما أو دولة ما إحداث تغيير في المناخ الإسلامي العام والقيم الدينية داخل الحدود وخارجها، فهو لا يرى إمكانية بناء دولة إسلامية داخل نظام الدولة القومية الحديثة، وهذا يوضّح تقدير كولن واستيعابه الكامل في أفكاره وكتاباته لعملية العولمة وتداعياتها:

“وسائل الاتصالات والمواصلات تطورت بدرجة  خيالية؛ فحولت العالم إلى قرية عالمية كبيرة في يومنا الحاضر، فمن يظن أن أي تغيرات كبيرة في بلد ما إنما يحددها هذا البلد وحده وأنها ستظل محصورة فيه لا يدركُ الواقع إدراكًا جيدًا، فنحن نعيش في زمان تتفاعل فيه العلاقات وتتكامل، وتحتاج فيه الشعوب والأمم باطراد إلى بعضها بشكل أكبر، فتتقارب وتبني علاقات متبادلة بينها”[18].

إن وجود آلية قانونية وسياسية سليمة تضمن معيشة كريمة للجميع شرط أَوّلي لإقامة مجتمع صحي، وفقدانها يوقِع المجتمعات فريسة سهلة للجرائم المتوطنة والانحطاط الأخلاقي، وهذا ما حدث ويحدث في عدة دول إسلامية معاصرة، وما زالت معظم المؤسسات الدينية تتجاهل هذه القضية الحيوية -وهي تتمثل في تحقيق العدالة التي جاء بها الإسلام- وتستهلك طاقاتها في مناقشات عقدية لا تنتهي.

ويلاحظ درموند أن الحقّ في هذه المعاني «إن الله لا يغفر أن يشرك به» و«الشرك من أكبر الكبائر»، غير أنها كغيرها مستقاة من آيات ينبغي أن توضع في سياقها الأعم يعني في سياق رحمة الله وعفوه، فالله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب قبل موته[19].

هدف القرآن الكريم الوصول إلى رحمة الله  وهدايته، وإذا بأناس يوظِّفونه لاستنباط سائر الأحكام والمبادئ الشرعية للوصول إلى السلطة وإلغاء الأحكام غير الإسلامية أو المغايرة لها في أي مجتمع، وهذا يناقض جوهر المبادئ القرآنية، فالدين ليس حرسًا مسلحًا يقضي على من ارتكب ذنبًا من المسلمين وغيرهم؛ فأساس العدل في القرآن الكريم حماية المصلحة العامة، والفقهاء مختلفون في تحديد إحداثيات المصالح العامة، ورأوا أن بعض فرض العين هدفه المصالح العامة، والأكثر تقديمًا للمصالح العامة هم المالكية والحنفية، أمَّا الشافعية والحنابلة فمالوا إلى تقديم حقّ الفرد[20]؛ ولما كان كلّ امرئ هو وحده المسؤول أمام الله عن أفعاله ظهر أنّ اهتمام الفرد بالمصلحة العامّة لا يمكن أن يحدِّد ما يستحقه المرء في الدارين من جزاء، فإذا غابت البيئة الاجتماعية القادرة على إحداث التواصل المجتمعي غدا مبدأ تقديم حقّ الفرد إشكالية أو لا صلة له بالوجود الإنساني والحياة أحيانًا، والرسائل القرآنية إنما جاءت لتحدث توازنًا بين حقّ الفرد والمصلحة العامّة.

لم يكن صدفة أن أول من بادر إلى اعتناق الإسلام عبيد ونساء وفقراء الجزيرة العربية، فهؤلاء سارعوا لحمل الرسائل القرآنية لأنها عدلٌ كلّها؛ ولم تكن العرب يومئذ تحتاج لمن يفسر القرآن بل ما إن يتلى عليهم حتى يفهموا[21] جوهره ويدركوا أثره على حياتهم وعقيدتهم، ويشهد التاريخ أن المسلمين الأوائل عربًا وعجمًا استطاعوا تطبيق جوهر مبادئ القرآن، ولم يُشغَلوا بالمماحكات اللغوية في فهمهم له؛ وكولن محق في قوله:

“وبينما كان القرآن الكريم يستهدف التخلية من آلاف الخصال السيئة، كان يضطلع أيضًا بالتحلية بحميد الخصال وتزيين الناس بالأخلاق القرآنية العالية، وهيّأ الناس لقبول هذا كلّه دون أن يبتذل أحدًا أو يجرح مشاعره أو يثير في نفسه ذعرًا أو يلحق بروحه أي أذى، فمعظم القضايا التي نزل بها القرآن تدرّجت على مراحل متنوّعة ثم أخذت مكانها في التطبيق، وإن تطبيقَ شيء يسير منها في الحياة العملية اليوم ليتطلب أضعاف تلك الفترة (ثلاث وعشرين سنة)، كانت تلك الفترة ضرورية ليتقبل الإنسان إذ ذاك أوامر ونواهي تتطلب وقتًا لتطبيقها، ولإلغاء أمور ووضع وتأسيس أمور أخرى مكانها”[22].

وقد شهد المجتمع القبلي في الجزيرة العربية على عهد النبي  إصلاحات شاملة في المجالات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية، فتضاءلت السياسات القبلية، وقد يعجب أناسٌ من اختلاف الإسلام عن الأيديولوجيات والديانات الأخرى في تناوله لقضايا كثيرة منها قضايا المرأة والقضايا العرقية في زمن لم تكن البشرية قد حققت فيه النضوج الفكري الذي نشهده اليوم. نعم، الإسلام ليس كغيره لشموله نواحي الحياة كافّة وتشريعه في قضايا السياسة والحياة، لكن القول بأنه قائم على بعض المفاهيم السياسية فقط جهل محض بالحقائق الداخلية لدين عالمي، وفي حديث القرآن عن السياسة وإدارة الدولة يقول كولن:

“وليس من الفهم الصحيح للإسلام الادعاءُ بأن السياسة أصل جوهريّ من أصول الدين وأنها من بين أركانه الثابتة، ربما يسوق بعضَ الناس إلى مثل هذا النمط في التفكير وجهةُ نظرهم إلى السياسة ونظام الدولة وأشكال الحكم، أو آراؤُهم وحساسياتهم في الأمور الإسلامية، أو حصرُ تفكيرهم في الخبرة التاريخية فقط، أو اعتقادُهم بأن مشكلات المجتمعات الإسلامية لا يسهل حلها إلا من خلال السياسة والحكم، وكل هذه المداخل لها معناها داخل إطار سياقاتها، إلا أن الحقيقة ليست محصورة فيها.

ورغم أن المرء لا يمكنه تجاهل تأثيرات الحكم والإدارة في تنظيم العلاقات المجتمعية بين الأفراد والأسر والمجتمعات، إلا أن هذه التأثيرات تُعتبر قضايا ثانويةً في سُلّم القيم القرآنية؛ وهذا لأن القيم التي نسميها «الأمهات» مثل الإيمان والإسلام والإحسان والأخلاق الربانية، هذه الأمهات هي المرجعيات التي تشكل جوهر القضايا الإدارية والاقتصادية والسياسية.

إن القرآن ترجمةٌ أزلية للأوامر التكوينية، وتفسيرٌ لعالمي الغيب والشهادة، وشرح للأسماء الإلهية الحسنى التي تتجلى في السموات والأرض، ووصفة لعلاج المشاكل المتعددة في العالم الإسلامي، ودليل فريد لسعادة الدارين، ومنبع حكمة للإنسانية… فلا ينبغي أن يهبط هذا الكتاب العظيم إلى مستوى الخطاب السياسي، كما لا ينبغي أن يُعدّ كتابًا حول النظريات السياسية أو أشكال الدولة؛ إن اعتباره أداةً للخطاب السياسي يمثل استهانة كبيرة به، كما يمثل في نفس الوقت عقبة تمنع الناس من الاستفادة من هذا النبع العميق للرحمة الإلهية.

ولا شك في أن القرآن الكريم قادر، من خلال إثرائه للروح البشرية، على بث الإلهام للسياسيين الحكماء لمنع تحول السياسة إلى مقامرة أو مجرد لعبة شطرنج”[23].

والمؤسف أن عددًا من علماء المسلمين يتجاهلون أن التأكيد الشديد على الأبعاد السياسية للإسلام قد يورث اضطرابًا في أساس الحضارة والتشريع الإسلامي وهو المعاني الروحية الجوهرية في الإسلام.

روح السلام في الإسلام

ترغب الحضارات والمعتقدات الدينية بحماية نفسها من قوى الشر والسوء التي تستهدف تدميرها، والإسلام ليس استثناءً من هذه القاعدة، فبعض الآيات والأحاديث تشرع استخدام القوة بحدود ضد أعداء الحق والطبيعة والبشر، وإلا فأتباع الباطل سيدمرون البشرية وحضارتها.

يعرّف محمد أسد في تفسيره لسورة التوبة وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/61) أعداء الإسلام بأعداء الحق[24]، وينبّه القرآن المؤمنين مرارًا أن الأعداء لا ينقطعون أبدًا، فعلى المسلمين كما في قول الله تعالى ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/60) أن يحذروا أعداء الحق دائمًا، ويُعدّوا لهم ما استطاعوا من قوة؛ وهذا الاستعداد إنما هو للردع، لتتحقق حالة من السلام الدائم؛ وتأمر الآية التالية المسلمين بأن يجنحوا للسلم إذا ما جنح العدو إليه، وفي تفسير هذه الآية يقول علي أونال: “تنص الآية على مسالمة المسلمين، وأنه ينبغي أن يعيشوا في سلام، وأن يكونوا ممثلي السلام العالمي”[25]؛ بل إن مبادئ الإسلام ومنها قاعدة الردع لحفظ ميزان القوى هي أساس «العمل الإيجابي» الذي لا يقف عند تحاشي العدوان الظالم بأشكاله، فالمسلم ممثل للسلام حقًّا، يعامل بكلّ طيبة ومودة المسلمَ وغيرَ المسلم إذا لم يصدّه عن دينه، يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 60/8).

بناءُ السَّلام الدائم أساسٌ في دينٍ يُحرِّم أشكال الظلم والعدوان جميعًا، فرُوح السلام الإسلامية تنبذ العنف أو التصادم مع الحضارات أو الديانات الأخرى، وتقتضي من المسلمين تبليغ الرسائل الإلهية بسلام لإعلاء الحق وتحقيق الرخاء وتنوير البشر جميعًا بهذا النور؛ لكن تأثير القومية الحديثة عرَّض المبادئ الإسلامية والنصوص الشرعية لتأويلات مضللة، وليس هذا هو السبب الوحيد في تردّي المسلمين في العصر الحديث؛ فالقراءة الخاطئة للرسائل القرآنية وللتاريخ الإسلامي المعاصر لها أثر بالغ الخطورة على عقل المسلم وروحه في هذا العصر، وهما محور تشكيل الوعي السياسي والفكري الإسلامي؛ مثال ذلك أن من علماء المسلمين مَن استدلّ بآيات القرآن ليقول: نشأة إسرائيل أو المجتمعات العلمانية المسلمة دليل قاطع على تدهور المسلمين وعلى الفشل العسكري للدول الإسلامية، وقيام باكستان «الإسلامية»
أو المملكة السعودية أكبر نعمة على الأمة الإسلامية كلّها!

وهنا حاولت بعض القوى القومية التخلص من هذه القراءات الخاطئة للآيات القرآنية بحظر استخدام الدين في السياسة، فاستوردوا المبدأ الدستوري الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة وروّجوا له في وسائل الإعلام وقنوات الرأي العامّ دون وعي بما يمكن تطبيقه من هذا المبدإ؛ واختارت العلمانية المتطرفة في بعض دول العالم الإسلامي تَبنّي دعاية إلحادية قسرية وعدائية للإسلام لتتمكن من هزيمة القوى الإسلامية في الصراع على السلطة السياسية، بل استُخدمت العلمانية لتسويغ كثير من حالات القتل والتعذيب الممنهج في السجون في أنحاء العالم الإسلامي قاطبة؛ فأدى استيراد العلمانية على مستوى الدولة والحكم إلى إشعال جذوة التدين في عدّة مجتمعات إسلامية، وصارت العلمانية مرادفًا للاحتلال عند كثير من المسلمين، وقد أعطى الإسلام أتباعه الحق في محاربة قوى الاحتلال، ومنذ نهاية الاحتلال الأوروبي العسكري استُخدم الإسلام لهزيمة الحركات الشيوعية في عدة بلدان إسلامية؛ وفي هذا السياق التاريخي علينا أن نحلل اتجاهات الحركات الإصلاحية أو الجهادية في استخدامها للآيات القرآنية، فقد لاحظ «ديفيد بروكس» الكاتب بجريدة نيويورك تايمز أنّ الغالبية العظمى من الراديكاليين متعلمون وأثرياء ومهنيون وعصريون، يقول:

“عرفنا كثيرًا عن الجهاديين بدءًا من أسامة بن لادن وانتهاءً بأوروبيين هاجموا قطارات لندن الشهر الماضي[26]، ووفقًا لقاعدة البيانات التي جمعها مارك سجمان الذي كان يعمل سابقًا بـ«سي آي إيه» نحو 75% من الإرهابيين المعادين للغرب من عائلات الطبقة المتوسطة أو العليا، و65% منهم جامعيون، و75% منهم يعملون في وظائف مهنية أو شبه مهنية خاصة في الهندسة والعلوم، وسواء كانوا في مصر أو السعودية أو إنجلترا أو فرنسا فهم بعيدون كل البعد عن التخلف، فهم انحدروا من الطبقات العليا في التعليم والمدنية والتحدث بأكثر من لغة؛ إذًا فالجهاديون عصريون على المستوى النفسي والديموغرافي؛ لأنهم عصاميون ولم نجد عصاميين في المجتمعات التقليدية، لكنهم لم يذعنوا للواقع فتمردوا على رموز السلطة في بلادهم، ورفضوا كفاح آبائهم والإسلام المعتدل ورغد العيش”[27].

واضح أن هؤلاء الراديكاليين المتكاملين بقوة في الحياة العصرية ليس الدين وراء راديكاليتهم بل المعتقدات السياسية.

نعم، للقرآن أثر كبير في تشكيل نفسية المسلم وسلوكه أو إعادة التشكيل، لكن من الخطأ الجسيم الادعاء بأن القرآن يسعى للقضاء على أتباع الديانات الأخرى أو الملحدين، وما غضب المسلمين وإحباطهم في القرون القليلة الماضية إلا نتيجة ظلم عانوا منه أمدًا طويلًا على أيدي القوى الغربية، وقد فشلت النخب العلمانية في العالم الإسلاميّ فشلًا ذريعًا في الالتزام بمبادئ الإسلام التي حافظت عليها الشعوب المسلمة عبر العصور بتضحيات كبيرة، بل النخب أكثر شرائح المجتمع فسادًا في عدة دول إسلامية[28]، فهي لا تبالي بمشكلات ملحة تواجه من تمثلهم؛ فكأن تصاعد الاتجاه الأصولي في عدة بلدان إسلامية ردة فعل على الهيمنة الغربية والاستغلال الهائل للعالم الإسلامي، وهو ظاهرة عالمية أسهم في ظهورها فشل الاشتراكية في تأمين الحد الأدنى من المعيشة للناس.

والفحص الدقيق لأحداث العالم من منظور ديني تاريخي يوضِّحُ أنَّ القضايا الإسلامية التي هدفُها بناءُ أمة ذات أخلاق وقيم حميدة أو بناءُ مجتمع بشري لديه حسّ إنساني كانت ستُخدَم بشكل أفضل لو لم تستحوذ على سلطة الدولة قوى أصولية علمانية أو دينية، وعلاج هذا لا بد له من وسائل سلمية مع التأكيد على ترسيخ مبدأ التعايش بين الديانات المختلفة والتأسيس لقيم تسهم في بناء مجتمع إنساني أفضل لكل الأعراق والديانات والثقافات.

“…بيد أنه ليس صحيحا ادعاء التوصل لتفسير وتعبير شامل لمحتوى واسع يعتبر أطلس بيان حقيقة الإنسان والكون والألوهية؛ فالبيان السماوي الإلهي مَهْمَا عُبّر عنه أو بأيّ قدر أمكن الحديث عنه بمفهوم بشري فالحقيقة أنه أمكن التعبير عنه بذلك القدر فحسب.

…إن القرآن إلى جانب نظرته الشمولية، وتعبيره الواسع الجامع وأسلوبه الأخاذ يتمتع بقوة لا مثيل لها في ظل سَعة معناه ومحتواه، وتعابيره الدقيقة، وقدرته على اختراق الأرواح، فللقرآن سلطان على كل من قرأه، ووصل إليه صوتُه، شريطة عدم التحيز؛ وقد عجز معارضوه عن أن يأتوا بمثله في الأسلوب أو اللفظ أو أن يطفئوا نوره، وعجز مَن أراد أن يحاكيه من مؤيديه أن يفعل ذلك، هذا رغم جهود الفريقين مدة أربعة عشر قرنًا بل وإن استخدموا الأساليب نفسها، وبحثوا القضايا ذاتها، فلن يأتوا بسورة من مثله”[29].

وتحول السطحية الفكريَّة والتصحر الروحي في عدة مجتمعات إسلامية بينهم وبين الغوص في معانٍ أعمق للأساليب القرآنية وما تحمله من رسائل؛ وتأتي غالبية الأساليب القرآنية شديدة في مخاطبتها لمن لا يحبون مجتمعاتهم ولا يبالون ببشريتهم من الأشرار والمفسدين؛ لكن لا يعني هذا أن على المسلمين أن يؤسسوا مجتمعاتهم على التخويف والتهديد، بل هم مأمورون باستكشاف أساليب الحضارة، وأدوات مكافحة الجريمة، ومحاربة الرذيلة داخل أي نظام قائم دون الإضرار بالقطاعات الأخرى من السكان.

ومن حقِّ المجتمعات الإسلامية أن تبادلها المجتمعات الأخرى الشعور نفسه، وأن يُستمَع لها وأن تُحترم أنظمة فكرها ومعتقداتها، لكن المسلمين هم الأحوج إلى فهم رسالة القرآن على النحو الصحيح؛ فآيات الأحكام الصريحة أو الضمنية التي تنظم السلوك الإنساني نحو (700) آية، بينما نرى القرآن يحث في أكثر من 600 مناسبة قطاعَ الأغنياء على رعاية قطاعِ الفقراء والمحتاجين، بل يلزمهم باتخاذ الخطوات الشرعية اللازمة للقيام بهذا الواجب الديني الجوهري؛ يقول الله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 51/19)؛ ويظن أناس أن المقصود هنا الزكاة، وهي 2.5% من الدخل سنويًّا يدفعها الأغنياء للفقراء، غير أنها لا تقتصر على هذا، ففي التشريع الإسلامي مبدأ يقضي بإقامة مجتمع مسلم مثالي لا يُترك أي فرد فيه جائعًا أو أميًّا أو محرومًا؛ فالمجتمع المسلم والدولة المسلمة مسؤولان مسؤولية أساسية لتوفير تعليم جيد لكلِّ من يعيش فيهما من الرجال والنساء؛ وعلى كل مسلم ومسلمة طلب العلم المناسب الذي يؤهلهما لعيش كريم.

ولا تتسم آراء كولن في فهم القرآن وبناء مجتمع مثالي بالجمود أو تعيُّن المسار خلافًا للعلماء التقليديين؛ فهو يؤمن بإقامة مجتمع شامل قائم على القيم الإنسانية العالمية، ولا يرى أي تناقض بين مبادئ القرآن الأساسية والفطرة البشرية التي ترنو إلى أن تحقِّق الارتقاء المادي والروحي وأن تُكرَّم في الدنيا والآخرة.

 

[1]  فتح الله كُولَن: سلسلة العصر والجيل-7، أفق يلوح منه النور، نشر دار النيل التركية، إسطنبول  2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 28.

[2]  Asma Barlas, “Believing Women” in Islam: Unreading Patriarchal Interpretations of the Qur’an,” University of Texas Press, 2002, pp.21-22.

[3]  Gülen, Questions and Answers about Islam, vol.1, pp.81-82.

[4]  H. Patrick Glenn, Legal Traditions of the World, 2000, pp.173-74.

[5]  سنن أبي داود، الديات، 70؛ سنن الترمذي، الديات، 17.

[6]  مسند أحمد بن حنبل، 38/474.

[7]  انظر: فتح الله كولن: الرد على شبهات العصر، الإسلام والرق، ص 127-138.

[8]  Bernard Lewis, What Went Wrong? Western Impact and Middle Eastern Response, NY: Oxford University Press, 2002.

[9]  M. Ahsan Khan, Human Rights in the Muslim World: Fundamentalism, Constitutionalism, and International Politics, Carolina Academic Press, 2003, p. 110.

[10]  سورة المائدة: 5/38.

[11]  Noah Feldman, The Fall and Rise of the Islamic State, New Jersey: Princeton University Press, 2008.

[12]   من حوار أجرته الصحفية التركية  «نورية آقمان (Nuriye Akman)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «زمان» التركية في تاريخ 22 آذار/مارس 2004م.

[13]  من حوار أجرته الصحفية التركية  «نورية آقمان (Nuriye Akman)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «زمان» التركية في تاريخ 22 آذار/مارس 2004م.

[14] http://www.economist.com/node/10808408

[15]  السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف أ.د. زكي ساري توبراك، ص 128، دار النيل – 2014م.

[16] Asma Barlas, “Believing Women” in Islam: Unreading Patriarchal Interpretations of the Qur’an,” University of Texas Press, 2002, p.9.

[17]  Saadedine El `Othmani, «Islam and Civil State,» In: http://www.islamonline.net/Englishcontemporary/2005/10/article03.shtml#1

[18]  فتح الله كولن: الحب مكنون في روح الإنسان، «الحوار مع أهل الكتاب»، ص 195 (لما يترجم عن التركية).

[19]  Richard Henry Drummond, Islam for the Western Mind: Understanding Muhammad and Qur’an, Hampton Roads Publishing Co., 2005, p.62.

[20]  See Dominique Soudrel, Medieval Islam, London: Routledge, 1979, pp.59-61.

[21]  تقوم العقيدة الإسلامية على الإيمان بأن القرآن كلام الله المحفوظ الخاتم الذي أنزله الله على الرسول  للبشرية جمعاء لنشر نموذج شامل من الخلاص الروحي والدنيوي لجميع الرجال والنساء.

[22]   فتح الله كولن: نحو عقيدة صحيحة، ص 106.

[23]  السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف أ.د. زكي ساري توبراك، ص 130-131، دار النيل 2014م.

[24]  The Message of the Qur’an, Complete Edition, Translated and Explained by Muhammad Asad, Gibraltar: Dar Al-Andalus, 1980, p.270.

[25]  Ali Ünal, The Qur’an with Annotated Interpretation in Modern English, New Jersey: The Light, 2006, p.380.

[26]  شهر تموز/يوليو سنة 2005م.

[27]  David Brooks, “Trading Cricket for Jihad,” The New York Times, (August 4, 2005; http://www.nytimes.com/2005/08/04/opinion/04brooks.html?th=&emc=th&pagewanted=print

[28]  العلمانية مبدأ ديمقراطي في المنظور الغربي يعني فصل شؤون الدين عن شؤون الدولة، من أجل التطور المستمر لكلا الجانبين داخل المجتمع، غير أن العلمانية استخدمت في عدة دول إسلامية أداة لقمع صوت الشعب لصالح حكوماته الظالمة، فالعلمانيون المسلمون مستهجنون مثلهم مثل نظرائهم من المتطرفين دينيًّا، فالتطرف ظاهرة لا تنحصر بالإسلاميين بل تشمل كثيرًا من العلمانيين وتفتقر إلى الجانب الروحيّ العميق.

[29]   فتح الله كُولَن: مقالة بعنوان «حول القرآن الكريم وترجمة معانيه»، (لما يترجم عن التركية).

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.