أولاً: عشق للطلب العلمي والمعرفي

كان فتح الله كولن عاشقا للعلم وطلبه، وكان كغيره ممن يعشقون العلم وطلبه يحمل بين جوانحه قلبا خفاقا يتطلع إلى الاغتراف من كل الينابيع المعرفية المتاحة بنهم مشروع، بما في ذلك المعرفة في مظهرها العصري.

كان التعليم الرسمي تعليما يتغنى بتكوين أجيال لا تربطهم بهوية أي صلة، بل يرتبطون بالفكر المادي وبالفلسفة الطبيعية، وإنكار الحقائق الدينية، بدعوى تكوين إنسان عصري قادر على استيعاب الحداثة والتفاعل معها. وكان قبل ذلك قد تم منع المعاهد الدينية والمدارس التقليدية بعد قيام الجمهورية، وبعبارة أخرى لقد عملت العلمانية التي تبنّتها الجمهورية على تقويض كل أشكال التعليم الديني في البلاد.

كان المعلم الذي يدرّس فتح الله كولن في هذه المدرسة الرسمية، ممن هيئوا لتنفيذ الرؤية الحداثية الجديدة في مجال التربية والتعليم، وقد راعه أن يكون فتح الله الطفل النجيب حريصا على أداء الصلاة، فأخذ يطارده ويضايقه لأجل ذلك، وكان يسخر أمامه عنوة من الدين، وجعل ينْعتُه بـ”المُلاّ” وهو لقب يطلق على من تخرّج من المدارس الدينية العتيقة في تركيا. يذكر فريد الأنصاري أن هذا السلوك لم يزد فتح الله إلا إصرارا على سلوكه وعلى التشبث بمسلكه الديني السليم، وهو السلوك الذي يتصور أنه يحتاج إلى وقفة تأمل؛ فغيْر الأستاذ قد يضعف أمام وقاحة المعلم، وربما تنصحه الأسرة بأن يتظاهر أمام المعلم بما يحب أن يرى، لكن هذا لم يحدث من الأستاذ فتح الله، لأن جو البيت كان يشعره بالقوة وبالدعم النفسي الذي يحتاج إليه طفل في مثل سنه. والأسس التربوية التي تلقّاها في وسطه الأسري لم تكن مظهرا خارجيا أو مظهرا سطحيا، بل مسلكا متجذرا. ولم يكن الفتى ليصرّ على الظهور بما يكره معلمه لو لم يشعر بأن أسرته وخاصة الجد والولد وباقي أفراد أسرته يدعمونه ويسندون أزره. وقبل هذا وذاك فإن مظاهر التدين هذه لو لم تكن إرضاء لأمر الله وهو ما آمن به الأستاذ، لما وجد الداعم النفسي الذي يقويه. وعلى الرغم من تركه الدراسة الرسمية إلا أنه تمكّن من الحصول على الابتدائية عن طريق المشاركة الحرة وهو في أرضروم سنوات بعد ذلك.

ثانيًا: الإسلام الوسطي منهج حياة

ترتبط شخصية الأستاذ فتح الله كولن بتوجه فكري واحد لم يحد عنه طيلة حياته وإلى اليوم، وهو الإسلام الوسطي المتشبع بمعرفة دقيقة وعميقة بالأصول، ومعرفة واسعة بالتراث الثقافي والفكري والصوفي للأمة، عربيا كان أو عثمانيا.. إضافة إلى معرفة دقيقة بالفكر المعاصر بما في ذلك الفكر الغربي، زيادة على إحساس عميق جدا بروح العصر وما يحتاج إليه من شروط ومقومات، وهذا الإحساس يتجاوز حدود المعرفة بالعقل إلى إدراك الصلب بالروح والوجدان.. وهذه أحكام لا تطلق دون تمحيص بل قائمة على ما يؤكدها بعدد لا يحصى من الأدلة، وبشهادة العديد من المفكرين والباحثين الذين تواصلوا علميا مع فكر الأستاذ.

ثالثًا: والد وابنه معا في رحلة طلب العلم

اختار الوالد مصاحبة ابنه النجيب في رحلة طلب العلم، فشغفه بطلب العلم ومحبته لأهله من المشايخ والعلماء جعله يتخذ من البيت محجا لهم. وكان فتح الله معجبا بهذا الجو، محبا للظهور بمظهر الرجال، بل إن نضجه المبكر قد سمح له بأن يكون أهلا لمجالسة الكبار. فكان والده والكبار لا يرون في اندساسه بينهم ما يضر، واعتبروا ذلك علامة من علامات النبوغ والتميز.. كيف لا وهو الطفل الذي لم يجالس أقرانه ولا رؤي وهو لاه معهم. فقد عاش طفولته كلها مع الكبار وتطبّع بطباعهم، وتحلى بأخلاق الرجولة وسجايا الفحولة وهو الطفل الصغير.

قد يكون ما تلقاه الأستاذ من والده قليلا من حيث الكم، لكنه ثقيل جدا في دلالته وفي معناه؛ فلقد تلقى عن الوالد المبادئ الأولى في اللغة العربية والفارسية، وكان يجلس معه لحفظ القرآن الكريم.. لكن أهم ما يمكن أن يؤثر في طفل في مثل سن فتح الله هو أن يقدم الوالد على حفر نفق يصل بين البيت والمسجد يتسرب منه شيوخ القرآن الكريم ليلقّنوا الطفل والوالد القرآن الكريم. ولهذا الحدث دلالته القوية التي لا يمكن إغفالها في دراسة شخصية الأستاذ. فقد أقام الوالد هذا النفق من أجل تمويه بعد أن اشتد التضييق في هذه الفترة على تعليم القرآن والعلوم الشرعية، وبعد أن احتدم التضييق على الدين والمتدينين.

انتقل الوالد إلى قرية “أَلْوَار” (التابعة لمدينة “أرضروم”) التي عين بها إماما لمسجدها. وكانت هذه السنة سنة توقف فتح الله عن ارتياد المدرسة الرسمية، لكنها ستكون بداية مرحلة التعليم التقليدي أو التعليم الأصيل. وقد ينظر بعضهم إلى الأمر نظرة لا تستشعر أي دلالة أو معنى في هذا الحدث، لكن الله قد دبر لفتح الله مصيرا يبدأ بمحاولة غير مكتملة مع التعليم الرسمي ولتستمر مع رحلة في التعليم الأصيل بما له وبما عليه. وكأن الله تبارك وتعالى أراد أن يذيق فتح الله كل هذه الأصناف في التعليم تمهيدا لرؤية إضافية يقدمها الأستاذ فتح الله كولن لأسلوب التعليم السائد في تركيا والعالم الإسلامي وأوربا في وفي غيره من المناطق.

رابعًا: شيوخ الأستاذ فتح الله كولن

إن رحلة طلب العلم في حياة الأستاذ مليئة بالمعاناة وحافلة بالأحداث ومليئة بالأخذ عن الشيوخ، دون أن تخلو من العصامية والتكوين الذاتي، وقد سجل في “دنياي الصغيرة” بعض معاناته في سبيل التحصيل، والأهم هو ما سجله عن بعض مشايخه. وقد اهتم بهذا الجانب كل من فريد الأنصاري وإبراهيم بيومي وتتبعا شيوخه في مرحلة التحصيل الأولى حيث كانت علاقة الأستاذ فتح الله ببعض شيوخه علاقة خاصة جديرة بالاهتمام. ونذكر فيما يلي بعض مَن جلس الأستاذ في دروسهم واستفاد من معارفهم.

1الإمام محمد لطفي أفندي

عرف بـ”الإمام الألوارلي”، نسبة إلى قرية ألوار، ويظهر من خلال حديث الأستاذ عنه أنه كان صاحب تأثير كبير وبليغ في آل كولن. فقد كان محبوبا لدى جميع أفراد الأسرة كبيرا وصغيرا. كان مجرد ذكر اسمه يبعث على ذكر الله، كان لاسمه وقْع سحر يفتح أبواب القلوب مباشرة على معارج الروح.. رجال إذا رؤوا أو ذكروا ذكر الله.. تعلق فتح الله بالشيخ لما أحاط الشيخ به الفتى فتح الله من عناية واهتمام، لما لمسه فيه من ذكاء وفطنة روحانية قلّ مثيلها بين أقرانه، إضافة لما وجده فيه من حب لطلب لعلم والمعرفة. ومن الطبيعي أن تحفز مثل هذه السمات شيخا في مثل صدق الإمام الألوارلي وصفاء طويته، وتحفزه لأن يشجع تلميذه ويدفعه دفعا في سبيل ما يريد الوصول إليه.

لقد تحمس الشيخ لاحتضان تلميذه احتضانا علميا، وقابل فتح الله هذا الاهتمام بسعى حثيث وجدي حتى يكون عند حسن ظن شيخه. ومن أهم مظاهر الاعتراف بفضل هذا الشيخ حرص الأستاذ فتح الله كولن على ذكر فضله عليه عندما صار فتح الله “أستاذا” يبني الأجيال، يقول عنه: “كنت أتذوق كلامه كمن يتذوق شهدا خالصا. كنت إذا تحدث أنصتُّ إليه وكأن على رأسي الطير.. فكلامه ينفذ سريعا إلى أعماقي، وكأنني بإزاء عالم عظيم الشأن… والدي ووالدتي كان ارتباطهما به ارتباط مريدين بشيخهما، وكنت أنا جزءً من هذا الكل الروحاني”.

لازم الطفل فتح الله شيخه الإمام الألوارلي حتى حدود شبابه، ولذلك فهو يؤكد بأنه مدين للشيخ لطفي بقسم كبير من مشاعره وأحاسيسه وبصيرته. وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على أن التأثير كان تأثيرا روحيا، فصفاء الشيخ الروحي فتح أمام فتح الله الباب للولوج إلى مدارج الاتقاء.

ومن الأكيد أن يكون لهذه النظرة الحانية والحليمة والعطوفة وما خلفته من أثر في فتح الله أثرها العميق في منهج الأستاذ فتح الله وقد صار مربيا. فقد كان الأستاذ حريصا -وهو يقوم بدور المربي- أن يعامل كل تلامذته ومن يقوم بتربيتهم بحب وصدق، واعتبار ذلك وسيلة من وسائل التأثير في المتربي. ولعل هذا هو ما جعل الأستاذ يقول وهو يتحدث عن عمق تقديره للشيخ محمد لطفي “رغم مرور السنين لا زلتُ أشعر بطزاجة لمسات الشيخ محمد لطفي الحانية على أذني، وهو يقول لي: “أليّن أذنيك لكي يتفتح ذكاؤك، وتقوى فراستك””.

2الشيخ صدقي أفندي البزاز

كان هذا الشيخ بزازا يبيع الثوب ويتطوع في تلقين علم التجويد وقواعده، وكان مشهورا بين الناس بذلك، وبتلقينه بعض العلوم الشرعية. وكان لا يقبل أجرا على ما يلقنه من علم، وهو مسلك يباركه الله تبارك وتعالى، ولعل هذا هو الذي دفع “رامز أفندي” إلى إرسال فتح الله إلى قضاء “حصن قلعة” من أقاليم أرضروم، الذي يقع على بُعد سبع كيلومترات من قريتهم.

يذكر فريد الأنصاري في “عودة الفرسان” أن الفتى فرح كثيرا لهذا الأمر وبأنه طار متلهفا بجناح الريح، لكن فرحته لم تكتمل لأنه “لم يجد مكانا للمبيت بمحضرة الشيخ، فاضطر للذهاب والإياب كل يوم ما بين قريتهم وقرية الشيخ، فيقطع ما بين الصباح والمساء أكثر من أربعة عشر كيلومترا، سيرا على الأقدام”، وهذا يعني بأن ما كان يمضيه فتح الله في الطريق من وقت بالإضافة إلى مشقة السير على الأقدام، كان أكثر من الوقت الذي يمضيه جالسا للتحصيل، فقرر الوالد إنهاء هذه المهمة غير المفيدة. لكن فتح الله جعل من هذا التوقف محطة لمعاودة الاتصال بالكتب يطالعها ويلتهمها التهاما، فلا مجال عند أمثاله للهو، بل هي مجرد محطة للاستعداد لما هو قادم.

3سعدي أفندي

بعد مدة تدخّل الإمام الألوارلي فاقترح على رامز أفندي أن يرسل الفتى إلى عند حفيده “سعدي أفندي” إمام مسجد “قُورْشُونلي” بمركز مدينة أرضروم. لم تكن الظروف مواتية لكي يكون تحصيله في ظروف جيدة، فالغرفة التي اتخذها الشيخ مكانا لإقامة ستة من تلامذته منهم فتح الله كانت صغيرة وغير مريحة بحيث تساعد طالب علم على تحصيله. يضاف إلى ذلك أن فارق السن بين فتح الله والشيخ لم يكن يتجاوز خمس سنوات. يقول فريد الأنصاري: “انطلق الفتى مرة أخرى إلى المدرسة الجديدة، فإذا به بين يدي إمام شاب لا يكاد يفوته سنا إلا بخمسة أعوام أو تزيد قليلا. كان سعدي أفندي متمكّنا من معارفه، إلا أنه كان عديم الخبرة في التلقين والتدريس…”.

فرض الشيخ الشابُّ على فتح الله أن يبدأ كأنه لم يدرس شيئا من قبل، لكن الفتى فتح الله استظهر بين يديه كل المقررات بعد شهرين ونصف، “فاضطر الشيخ بعد ذلك أن يجعله ضمن حلقة المتقدمين الذين بدأوا دراسة النحو والصرف قبل سنتين”.

قُدِر على رامز أفندي رزقُه بعد أن غادر قريته “كروجك”، فلم يكن بمقدوره أن يوفر للفتى سوى ثمن الخبز، فعاش فتح وهو عند سعدي أفندي ظروفًا صعبة جعلت عُوده يزداد صلابة ويتقوى أكثر، ومع كل ذلك يزداد إصراره على طلب العلم، ويزداد إصراره على تلبية نداء داخلي يقول له “احْرصْ على بناء ذاتك بالعلم والمعرفة”. وقد قيل “لولا الفقراء لضاع العلم”. ومن يعلم فلعل الظروف الصعبة التي عاشها فتح الله كانت خير معين له على الصبر في طريق العلم والمعرفة.

أدرك رامز أفندي أن ساعة الرحيل عن القرية قد آذنت بعد وفاة الإمام الألوارلي محمد لطفي أفندي المساند، وكان الفتى فتح الله بعد قرار الرحيل يعيش على أمل بقاء الوالد إماما يؤم الناس، ربما لأنه كان يشعر بأن إمكانية تحصيل المعرفة سيكون ميسورا من جهة ما يوفره الوالد من مدخول يعينه على أن يظل على مسار العلم والتحصيل المعرفي. وقُدِّر لـ”رامز أفندي” أن يحصل على وظيفة إمام من قرية صغيرة قريبة من أرضروم وهي قرية “أَرْتُوزُو”. وبعد استقرار الوالد في هذه القرية استأذن فتح الله والده بأن يخرج إلى أرضروم طلبا للعلم، وهي مرحلة مهمّة في حياة الأستاذ لأنها تسجّل ما كان الباحث عن العلم الأصيل يعانيه من مصاعب وبؤس وفقر، ولكن الهدف أسمى وأعلى، وصدق المتنبي حين يقول:

إذا غامـرت في شرف مـروم

فلا تقنـع بما دون النجــوم

فطعم المـوت في أمر حقيـر

كطعـم الموت في أمـر عظيم

 

واستقربه المقام عند الشيخ عثمان بكتاش.

4عثمان بكتاش

كان هذا العالم متمكنا من علم النحو والصرف والبلاغة والفقه وأصوله، وغيرها من علوم الشريعة الأخرى، وقد مكنه ذلك من أن يصير أثيرا عند مفتي المدينة، إذ كان يستدعيه لاستشارته كلما عرضت له نازلة. اهتم عثمان بكتاش بالفتى فتح الله رغم مشاغله الكثيرة نظرا لما رآه فيه من سبق وتميز، وقابلية واسعة للتحصيل العلمي، فأخذ يدرّسه مقررات المستويات العليا، فتمكن في مدة وجيزة من علوم النحو والصرف والبلاغة والفقه وأصوله، فتفتحت قريحته وازدادت مداركه. الأمر الذي جعله يكلفه بتدريس المستويات الأولى ومراجعة الدروس مع المبتدئين. فتح ذلك المجال أمامه كي يحصل تجربة طيبة في التلقين والتعليم، وربما في إدراك مكان القوة أو الضعف في المنهج. ومما لا شك فيه كذلك أن ذلك قد ظل منقوشا في ذهنه وكان أثره واضحا في مشروعه الإصلاحي. يقول فريد الأنصاري عن تجربة فتح الله في التحصيل مع عثمان بَكْتَاش: “لعل الأستاذ عثمان هو الشيخ الوحيد الذي يمكن أن نقول -إلى حد ما- أن الطالب فتح الله قد تخرج على يده وبه، رغم قصر المدة التي لازمه فيها، فلو جمعنا كل ما درسه فتح الله على المشايخ بمدارس التعليم العتيق لما تعدى ذلك كله مدة سنتين، إلا أن الأشهر التي قضاها متتلمذا على شيخه عثمان بكتاش كانت كافية لانطلاقه في بحر العلوم فردا.. ففهمه لأسرار البلاغة وقواعد اللغة، وتلقينه لقواعد الفقه والأصول، فتح أمامه كنوز محفوظه القديم من المقررات العلمية التي استظهرها من قبل، فصار يعرف العلم بعد ذلك من قلبه وعقله، مغذيا ومتغذيا”.

هذا المسار الحافل الذي عاشه فتح الله خلال هذه المرحلة تؤكد كلها أنها أحداث جعلت عُوده أكثر صلابة، وجعلت رغبته في إدراك أساس الثروة المعرفية، التي ستمكّنه من بناء شخصيته المعرفية أكثر اتساعًا. لم يكن فتح الله ولا والده رامز أفندي ولا أي أحد من أفراد أسرته، ولا حتى المنصفون من شيوخه الذين رأوا فيه صورة شخصية واعدة وشخصية متميزة تشعل ذكاء وطموحا، ليشكّوا بأن فتح الله سيكون له شأو عظيم في المستقبل. ولكن ما كان أمام أحد بما في ذلك فتح الله نفسه أن يخمن النموذج الذي سيكون عليه في المستقبل، لكن الأمر الذي وقع حوله الاجتماع هو أنه سيحصل معرفة تحصنه أمام العواصف المزمجرة التي كانت تمر منها تركيا خلال هذه الفترة الكالحة من تاريخها.

تعتبر هذه المرحلة وما حصّله فيها فتح الله من معارف بما فيها حفظ القرآن الكريم بمثابة الأساس الذي يقوم عليه البناء قويا. لقد حصن الأستاذ فتح خلال هذه المرحلة نفسه بمقومات الأصالة والهوية الإسلامية، ولا شك في أن لهذه الأحداث الذي مر بها فتح الله كولن جوانب كانت عناية الله ترعاها، لأن ما قدر لفتح الله ما كان للتخطيط والبرمجة أن ترعاه.

وكخلاصة عامة يمكن القول بأن فتح الله قد بدأ حياة علمية منذ الصبا، وهي حياة تمثل صدق المجتمع التركي في هذه المرحلة، وتمثل في الوقت نفسه أصالته ورغبته في المحافظة على الهوية الإسلامية.

فالهوية الإسلامية بالنسبة للأستاذ فتح الله وتشبعه بها وعمله على تطويرها والإخلاص لها، والاجتهاد في أن تكون خلاص الإنسانية من أزمتها في العصور الحديثة، تجد أصولها في هذه المرحلة.. ففيها وضع حب الإسلام وحب الشريعة وحب الرسول  وحب الصحابة الكرام وحب التاريخ الإسلامي وأمجاده، وحب قيم القرآن ومبادئه.

بعد هذه المرحلة ستبدأ المرحلة الثانية من حياة الأستاذ فتح الله، وهي مرحلة طويلة ومليئة بالأحداث والإنجازات، وهي كذلك المرحلة التي ستعرف صعود نجم الأستاذ فتح الله كولن، وستعرف انتباه الباحثين والمهتمين به، وخاصة في مجال علم الاجتماع.

خامسًا: عناصر التميز في شخصية فتح الله

يذكر فريد الأنصاري أن الأستاذ فتح الله قد وجد الطريق إلى الموازنة بين الاغتراف من العلم الأصيل، مع التطلع إلى نفض الغبار عنه، وبعث الحياة فيه من خلال إعادة الاعتبار له بتمثله واقعيا، وفي الوقت نفسه واظب فتح الله على الارتواء من مجالس الذكر والاغتراف من حياض الروح.. يقول فريد الأنصاري: “بعد بلوغه منازل العلماء الراسخين، تيقن فتح الله أن هذا التوازن التلقائي الذي كان يجده ما بين متابعة الدراسة الشرعية، وبين المواظبة على حضور مجالس الذكر، هو الذي مكنه من اكتساب نظرة شمولية متوازنة لمفهوم الدين حقيقة وشريعة.. ولذلك لم يكن الفتى من الدراويش الذين يتوسلون إلى مرادهم بخشن الثياب والمرقعات، بل كان يعتني بلباسه اعتناء… ولذلك ما تفهم أحد من أصحابه -في مرحلة الطلب- العلاقة بين الحالين في شخصيته، ولا وجدوا انسجاما بين الطورين في طبيعته، حيث كانت الثقافة الصوفية الرائجة يومئذ بين رواد الزوايا والتكايا تفسر الزهد بأنه الابتذال في اللباس، ومعاداة الأناقة والجمال”.

يمكن القول بأن ملامح شخصية فتح الله بدأت تتشكل منذ سن المراهقة، لكنها مراهقة لا تشبه مراهقة غيره من الفتيان. فلقد تم توجيه هذه المراهقة نحو التطلع إلى تحقيق ما لم يحققه غيره… عَشق فتحُ الله ركوب التحدي، هذا التحدي جعله يختار ألا يكون مثل أقرانه بل أن يكون في مستوى الكبار القادرين على تقديم شيء لهذه الأمته وللإنسانية، ترقى به ويرقى بها.. وتجد هذه القضية تفسيرها في تميز مسار طفولته، وفي التربية الروحية المباشرة التي تلقّاها إما من الوسط الذي عاش فيه، وإما عن طريق علماء بيئته أو عن طريق مداومته على حضور جلسات الذكر. فهذه التربية الخاصة المميزة جعلت مراهقته تكون مختلفة عن مراهقة غيره من اليافعين والشباب، وقد كان لتعرفه على رسائل النور سنة 1957م الأثر الكبير على شخصيته، وكأن الرسائل أخذت بيده لتريه الطريق وتدله على السير وهو ما زال شابًّا يافعًا. ولربما أدرك فتح الله بما وهبه الله من ذكاء وقوة ذاكرة وروحانية عالية أن الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يحثّه من خلال خطاب رسائل النور أن يشمّر على ساعد الجد وأن يعد نفسه لسفر طويل في سبيل إتمام ما بذره النورسي رحمه الله من أجل الأجيال القادمة كي تقطف الثمار.. يقول فريد الأنصاري بأن فتح الله قد: “… أدرك أن هذه الفلاحة ليست ترتوي بغير دموع العاشقين، ومن ثم لم يزل يبكي حتى انتفخت مقلتاه…!”. وبالطبع لم يبال فتح الله بما يحيط رسائل النور وصاحبها بديع الزمان سعيد النورسي من مخاطر، لأن من ينخرط في دائرة النور يعلم جيدا بأنه ينخرط في ساحة مسافةُ ابتعادها عن السجون والمتابعات والمحاكمات والمطاردات مسافةٌ قصيرة جدا بل منعدمة، ومع ذلك فإن فتح الله تجاهل كل ذلك وصمم على المضي لأنه وجد في كل ذلك ما يداوي قلبه فتحدى كل من خوفه من المضي في هذا الأمر، فمثل فتح الله “كرجل أوغل في سفر بعيد فاشتد به العطش في لفح الرمضاء ومسالك الصحراء، حتى إذا أيقن بالهلاك جاء الله بالفرج، فأشرف على واحة خضراء ذات مياه باردة وظلال. فأي بيان ثقيل يستطيع بعد ذلك أن يصده عن التعريج السريع على منابع المياه؟!”.

كان انتقال فتح الله إلى محافظة “أَدِرْنَة” مرحلة جديدة، ففيها وُظّف إماما بأحد مساجدها، هو مسجد “الصومعة البيضاء”، يأمّ الناس للصلاة ويعِظهم زمنا. وتأتي أهمية هذه الوظيفة من جهة ما فتحته أمام الفتى من أبواب للتعرف عن قرب على طبيعة الوعي الديني لدى بسطاء الناس وعامتهم.

ولكي يشحذ تجربته ويصقل قدرته على التأثير في الناس، تقدم فتح الله بعد مدة إلى امتحان الوعاظ الذي تنظمه رئاسة الشؤون الدينية بأنقرة، فتفوق فيه، وبعد مدة نجح في المباراة التي نظمتها دار الإفتاء في أدرنة فجاء في الرتبة الأولى فتعين إماما لجامع “الشرفات الثلاث” التاريخي.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.