1

نجتاز -نحن المسلمين- اليوم، أصعبَ أيام شتائنا الحضاري المجدب، فلا زلنا نعاني من صقيع فكري، وخواء روحي، وعُرْي ثقافي فاضح، حتّى غدونا طلاّب أفكار، ومستعيري ثقافات، بعد أن كُنّا -لقُرون عديدة- صُنّاع أفكار، ومنشئي ثقافات، نجود بها على فقراء الفكر حيثما كانوا من هذا العالم الفسيح.

وعلى الرغم من صقيع شتائنا الحضاري، غير أنّنا لا زلنا نملك حِسًّا نقديًا يحفّزنا لكي نرفض بشدة ما يُقَدّم إلينا من غطاء فكري ظاهر الدفء، يُرَادُ منه أن يشعرنا بامتلاء فكري كاذب، مِمّا يشيع فينا المزيد من الكسل والاسترخاء والجمود.

وامتلاء فكري كاذب من هذا النوع يَضُرُّ أكثر مما ينفع، لأنه فكر تسكيني وتخديري، يجعلنا نشعر بأنّنا على أحسن ما يرام من الصحة العقلية والروحية بينما تبقى العلل تتآكلنا من الداخل دون أن نفطن إليها، فمن ألعن المفكرين مخادعة هو مَن يهدهدنا بأفكاره لنستغرق في النوم ونوغل في السبات ساكنين مطمئنين، بينما أخطار الأفكار المناوئة تجتاحنا من كل جانب.

فالمفكر الذي نحتاجه في هذه الحقبة البائسة من حياتنا ليس مَن يُربِّتُ على عقولنا لتزداد هجوعًا، بل مَن يقلق نومنا بوخزات قلمه، ويوجعنا بقوارص فكره، ويمسح عن أبصارنا النعاس والكسل، ويلقي على عقولنا نارًا لا ماءً، ويسقي أرواحنا لهبًا لا بردًا، أفكاره عواصف داوية في الرأس، إذا هزّ قلمه أرعدَ وأبرق، وأيقظ النائم، وحرّك الساكن، وأقلق المطمئن، وأنهض الروح الهاجع، وبعث الرواء في الإيمان الذاوي، والحياة في العقل الميت.

وأستطيع القول: إنّ أكثر ملامح هذا الفكر الموصوف آنفًا يمكن تلمسها بين ثنايا مؤلفات الشيخ “فتح الله كولن”… فمؤلفاته ليست بالنمطية ولا بالتقليدية، بل هي استثناء فكري متفرد الخصائص، ومن أهم خصائصه أنه ليس بفكر “صالوني استرضائي” يقرأه المترفون في جلسات استرخائية على أرائكهم الوثيرة وهم يحتسون الشاي، بل هو فكر يقلب موازين الأفكار، ويشعل ثورة في الأذهان، ويطيِّر من عيني قارئه النوم، ويحمله على البقاء يقظًا متحفزًا إزاء التيارات الفكرية التي تجتاح العالم، وتنهضه لكي يعلم ويعمل، ويبني نفسه، ويُقَوِّم فكره… وهو فكر محتشم يفرض احترامه على العقول، غير أنه مترع بالمشاعر، مفعم بمحبة الإنسان، يشيع في القلب هزة مؤلمة، ولكنها ملذة في وقت واحد.

وما مِن أحد يُتاحُ له النظر في إرث هذا الرجل الفكري إلاّ ويجد نفسه فجأةً على مشارف أعاصير فكرية يتفطر عنها قلبه، وينشق عنها رأسه… إنه ليس من روّاد الأفكار الرقيقة الناعمة التي يتمخض عنها رحم فكري مؤنث، ولا مِن أصحاب الريح الرخاء التي تأتي بالهدوء والسكينة، بل هو من عشّاق العاصف الفكري الذي يعصف بالعقول الرخوة. والأرواح الهشّة، ليس من أجل الإجهاز عليها، بل من أجل أن تتعلم منه القوة والعزيمة، فتستأنف النهوض، وتواصل المسير.

وهو -أي “فتح الله كولن”- يجعل المسلم يفقد إحساسه بالرهبة وهو يلج هياكل الرواد الأوائل من مفكّري الغرب، الذين بنوا بأفكارهم قوائم حضارة اليوم… فهو -أي المسلم- عنده في دينه من مستلزمات مجاراتهم وربما التفوق عليهم من الطاقات الانبعاثية ما يمنحه قدرة على البناء كما بنوا، وكلّ الذي يحتاجه المسلمون -في رأي “كُولَن”- لكي يبنوا حضارتهم، هو استئناف تصعيدهم الروحي والعقلي حتى يبلغ درجة التوتر الدائم، وأن يوقظوا في أنفسهم صحوة ذهنية تغيب الصحوات كلها وهي لا تغيب، ويبتعثوا هِمَّةً قعساء يلين الحديد وهي لا تلين… وهذه كلها مِمّا تستنهضنا إليها كتابات “فتح الله كولن”.

ويرى “كولن” أنّ الوحي مصدر إلهام المسلمين، غير أنّ بركة الوحي تنقطع عندما ينقطع المسلمون عن التبليغ عنه، والدعوة إليه، و”متى ما ينقطع مصدر الإلهام في التفكير والتفكر، يبدأ التراجع والتقهقر حتى في العلوم المادية التكنولوجية”.

ويمضي فيقول: “وقد غدا قدرًا مقدورًا لا يتبدل للمسلمين المحرومين من بركة الوحي احْتياجهم إلى غيرهم في كلّ الميادين والساحات، حتى غدوا شحاذين سَأَلة على أبواب الآخرين، يرقبون ما في أيديهم… وفي الحقيقة إنّ بداية التقهقر والانحطاط تتزامن مع انهيارنا الداخلي”[1].

2

لقد حاول “كولن” في كتاباته المؤالفة بين قوى الدين من جانب، وقوى الطبيعة والكون من جانب آخر، ونجح في ذلك أيّما نجاح، واستطاع أن يثير اهتمام قرّائه بهذه المؤالفة حتى ألفوها وأصبحتْ من بديهيات التفكير عندهم؛ فغدا الوجود لديهم إيجابًا عريضًا يستبعد النفي، ويقصي النقائض. فهو يوحِّد ولا يشتِّت، ويجمع ولا يفرق، فإذا الكثرة في الواحد، والواحد في الكثرة، والفناء في الوجود، والوجود في الفناء، والحي ميت، والميت حي، وكلٌّ في فلَك القدرة يسبحون.

إنّ مؤلفات “كولن” تبلغ من القوة حدّ النفاذ إلى أمداء أجيال قادمة، وليس على مدى جيل واحد، لأنها تملك من المفاتيح ما يعينها على فتح أية مغاليق دينية اليوم أو غدًا، وتملك من الوصفات ما يعين الأرواح المشلولة على النهوض، والنفوس الميتة على القيام.

لقد صَبَّ “كولن” كُلَّ ما في نفسه الكبيرة مِن قوى روحية وفكرية في مفاصل كتاباته، فسرْعان ما تمتزج بأجزاء نفس قارئه، وتجري مع روحه ودمه، فتغلبه على نفسه، وتظاهره على ذهنه… ففكره قادر على ابتعاث الأفكار في الأذهان، وتحريك الأفهام، وله من السَّعَةِ والمرُونة ما يجعله منفتحًا على كلّ ما تأتي به التجربة الحضارية من نجاحات لا تعارُض بينها وبين روح الفكر الإسلامي… فالمسلم الحي المشبع بروح الإسلام، كما أنه ليس بامكانه أن يعاند القوى الكونية المهيمنة على كل شيء، كذلك ليس من شأنه أن يدير ظهره لإنجاز حضاري مجرَّب أجمع على صحته جملة من رواد الفكر، وإلاّ عُدّ فاقد الأهلية العقلية.

3

إنّ مَن يقرأ “كولن” ينتابه شعور بأنه كان ميتًا منذ زمن بعيد، وأنه إنما بُعث من جديد بعد هذه القراءة، وأنّ شعوره بالانهزام العقلي يكاد ينتهي… فأصعب ما كان يمر به المسلم إحساسه بأنه مريض في النفس والعقل في عالم يبدو وكأنه يتمتع بغاية صحته العقلية والروحية، فهذه الشكوكية عندما تلازم المسلم، تتحول فيه إلى هاجس يلازمه، ثم في آخر الشوط يدمره. وهذه الشكوكية المدمّرة هي التي حاولت الأقلام في الداخل والخارج أن تحشرها في أذهاننا خلال عقود من السنين… وقد حاول “كولن” أن يعين المسلم لكي يتخلّى عن موروثاته الشكوكية والانهزامية، ويأتي خاليًا منها ليبدأ حياة إيمانية جديدة.

4

وظلّ “كولن” يوحي إلى قرّائه الاعتقاد بأنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك، وأنه من الممكن فعله إذا صحّت العزائم وصدقتْ النيّات، وقد بلغ ذلك الاعتقاد عنده درجة اليقين الذي لا يزعزعه شيء.

غير أن هذا العالَم الإيماني الجديد الذي يبشّر به “كولن”، قد يبعث على شيء من الخوف عند الراغبين في دخوله لأوّل وهلة، لأنه يكلف صاحبه جهدًا تصعيديًّا يعلو به من بين أشلاء هبوطه الذهني والروحي، ويحمِّله مسؤولية القبض بيدٍ من حديد على فكرة تحرير نفسه والعلو بها من كونها نفسًا معطّلةً غير فاعلة، إلى نفس فاعلة قادرة على الإتيان بجلائل الأعمال.

فالإنسان -عند “كولن”- إرادة فاعلة، وإن كانت تابعة للفكر عادة غير أنها قد تسبق الفكر في أحيان كثيرة، كما أنّ الإنسان ليس شيئًا ثابتًا لا يتغير، بل هو “كيان” قابل للتغيير والانتقال من حال إلى حال… ولئن كان طموح المسلم اليوم متواضعًا إلى درجة الانكفاء على النفس، غير أنه من الممكن أن يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه دخول العالم بثقة، والتعامل معه كواحد من بناة الحضارة والمساهمين في رفدها وتجديدها.

[1]     انظر: طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي ص:48.

 

About The Author

ولـــد عـــام 1931م في الموصل بالعراق. حصل على دبـلـوم فـي التربية والتعليم ثم مارس التدريس 29 سنة منذ عام 1953م. كما مـــارس الكتابة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1950م. شارك في العديد من المؤتمرات والـنـدوات الدولية. كتب الكثير من الأبحاث. له أكثر من 14 كتابًا في الإسلاميات؛ منها «الاغـتـراب الروحي لدى المسلم المعاصر»، «الضاربون في الأرض»، «رجـل الإيمان في محنة الكفر والطغيان»، «إشراقات قلب ولمعات فكر من فيوضات النورسي».

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.