قد يظن الذين يصدرون أحكام القيمة قبل النفاذ إلى عمق المحكوم عليه وتبيّن حقيقته أنّ الأستاذ فتح الله صاحب أيديولوجية إسلامية ترمي إلى التحكم في المجتمع التركي وتوجيهه وفق نمط محدد يحقق في النهاية أهدافا سياسية أو دنيوية.. بل هو على عكس من ذلك كله وليد التقاليد الإسلامية الصرف، يتذوق لذة التحلي بها، ويعيشها كما عاشها الصحابة الكرام وهم في كنف من نزل عليه الوحي محمد صلى الله عليه وسلم. فقد ألزم نفسه بأن يعيش روحانية الإسلام متأسّيا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكما عاشها الصحابة الكرام في “عصر السعادة” كما يطلق عليه. فالأستاذ فتح الله كولن ليس مجرد وسيط ينقل روحانية هذا العصر، بل هو رجل ألزم نفسه بنظام دقيق من التزكية الروحية، وبنظام غذاء روحي يُسكِت النفس ويصفّرها. بهذا النظام الصارم استطاع الأستاذ فهم حقيقة ما عاشه الصحابة الكرام وهم في مدرسته صلى الله عليه وسلم، ولم يشأ أن يظل هذا الخير المعنوي الذي أدركه حكرا عليه وحده، بل سعى بكل رسوخ إلى إقناع الناس بأهمية العيش في هذا الجو الروحاني العجيب ولم يشكّ لحظة واحدة في تحقق ذلك معتبرا الإنسان -في كل مكان، وكيفما كان لونه ودينه وجنسيته- موضوعا يجب أن يصل إليه هذا الخير.

كولن رجل هَمٍّ وهِمَّة

عندما تنظر إلى الأستاذ فتح الله تشعر بأنه رجل يحمل همًّا ثقيلا جدا، يتجاوز همومه الخاصة وهموم المجتمع التركي، إلى هموم المسلمين في كل مكان وإلى هموم المجتمع الإنساني بأكمله. حزنه عميق دائم. يشعر كل من يقترب منه أنه يتألم ويئنّ ويبكي ويتضرع ويتأوّه من أجل الآخرين. فأي عقل يستطيع الانكباب على هذه النفسية الخاصة والمركبة وتفكيك مكوناتها وضبط آليات منجزاتها. إن العقل ليعجز عن تقديم تفسير لهذه الحالة الخاصة، ولم يبق سوى الجانب الروحي ملجأً للتفسير والاقتراب من هذا العالم الفسيح فساحة عالم الإسلام الروحاني.

فتح الله كولن رجل ألزم نفسه بنظام دقيق من التزكية الروحية، وبنظام غذاء روحي يسكت النفس ويصفّرها.

وإذا كان هاتف العقل يدعونا إلى أن ضوابط البحث تفرض الاتكاء على الملموس في فهم الشخصية فإن هاتفا آخر من داخل العقل يقول قد يعسر إيجاد تفسير عقلي منطقي لبعض جوانب هذه الشخصية، لأن الجواب على ذلك يوجد في عالم الأرواح أو في عالم المعنى. وهذا لب ما عبر عنه الأستاذ فريد الأنصاري في عمله الأدبي الرائع عن سيرة الأستاذ فتح الله كولن الذي اعتبره “رائدا للفرسان القادمين من وراء الغيب” حيث افتتح السيرة أو الرؤية بالقول: “فتح الله لديه سر ليس يبوح به.. فتح الله لديه سر تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحدا.. فتح الله يحمل في قلبه ما لا طاقة له به، ولذلك لم يزل يبكي حتى احتار الدمع لمأتمه.. فتح الله وارث سر لو ورثه الجبل العالي، لانْهدّ الصخر من أعلى قمّته ولخرّت أركان قواعده رهبا.. فتح الله فارس ليس تلين عريكته، ولا تضعف شكيمته.. ولَصوتُه في الكر أشد من قرقعة الرعد.. يقاتل في النهار حتى تذوب الشمس في دماء البحر، فإذا خلا لأشجان الليل بكى.!”.

هذا الاستهلال الذي افتتح به الأستاذ فريد الأنصاري رواية أو سيرة الأستاذ فتح الله كولن، يؤكد بأن جوانب من شخصية الأستاذ فتح الله لا تدرك من خلال استحضار صرامة العقل. وبعبارة أخرى إن جوانب من العالم الروحاني للأستاذ فتح الله كولن تدرك بالانغماس الروحاني في عالمه الروحاني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: من كتاب “أشواق النهضة”

About The Author

أستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها سنة 1993م. حصل على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 2002م. عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية منذ سنة 1994م. عضو مؤسس لمنتدى الحوار الأدبي. مؤلف كتاب «أشواق النهضة والانبعاث قراءة في مشروع الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحي».

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.