إن رحلة طلب العلم في حياة الأستاذ فتح الله كولن مليئة بالمعاناة وحافلة بالأحداث ومليئة بالأخذ عن الشيوخ، دون أن تخلو من العصامية والتكوين الذاتي، وقد سجل في “دنياي الصغيرة” بعض معاناته في سبيل التحصيل، والأهم هو ما سجله عن بعض مشايخه. وقد اهتم بهذا الجانب كل من فريد الأنصاري وإبراهيم بيومي وتتبعا شيوخه في مرحلة التحصيل الأولى حيث كانت علاقة الأستاذ فتح الله ببعض شيوخه علاقة خاصة جديرة بالاهتمام.

يمكن القول بأن فتح الله قد بدأ حياة علمية منذ الصبا، وهي حياة تمثل صدق المجتمع التركي في هذه المرحلة، وتمثل في الوقت نفسه أصالته ورغبته في المحافظة على الهوية الإسلامية.

ونذكر فيما يلي بعض مَن جلس الأستاذ في دروسهم واستفاد من معارفهم.

1- الإمام محمد لطفي أفندي

عرف بـ”الإمام الألوارلي”، نسبة إلى قرية ألوار، ويظهر من خلال حديث الأستاذ عنه أنه كان صاحب تأثير كبير وبليغ في آل كولن. فقد كان محبوبا لدى جميع أفراد الأسرة كبيرا وصغيرا. كان مجرد ذكر اسمه يبعث على ذكر الله، كان لاسمه وقْع سحر يفتح أبواب القلوب مباشرة على معارج الروح.. رجال إذا رؤوا أو ذكروا ذكر الله.. تعلق فتح الله بالشيخ لما أحاط الشيخ به الفتى فتح الله من عناية واهتمام، لما لمسه فيه من ذكاء وفطنة روحانية قلّ مثيلها بين أقرانه، إضافة لما وجده فيه من حب لطلب لعلم والمعرفة. ومن الطبيعي أن تحفز مثل هذه السمات شيخا في مثل صدق الإمام الألوارلي وصفاء طويته، وتحفزه لأن يشجع تلميذه ويدفعه دفعا في سبيل ما يريد الوصول إليه.

لعل الأستاذ عثمان بكتاش هو الشيخ الوحيد الذي يمكن أن نقول -إلى حد ما- أن الطالب فتح الله قد تخرج على يده وبه، رغم قصر المدة التي لازمه فيها.

لقد تحمس الشيخ لاحتضان تلميذه احتضانا علميا، وقابل فتح الله هذا الاهتمام بسعى حثيث وجدي حتى يكون عند حسن ظن شيخه. ومن أهم مظاهر الاعتراف بفضل هذا الشيخ حرص الأستاذ فتح الله كولن على ذكر فضله عليه عندما صار فتح الله “أستاذا” يبني الأجيال، يقول عنه: “كنت أتذوق كلامه كمن يتذوق شهدا خالصا. كنت إذا تحدث أنصتُّ إليه وكأن على رأسي الطير.. فكلامه ينفذ سريعا إلى أعماقي، وكأنني بإزاء عالم عظيم الشأن… والدي ووالدتي كان ارتباطهما به ارتباط مريدين بشيخهما، وكنت أنا جزءً من هذا الكل الروحاني”.

لازم الطفل فتح الله شيخه الإمام الألوارلي حتى حدود شبابه، ولذلك فهو يؤكد بأنه مدين للشيخ لطفي بقسم كبير من مشاعره وأحاسيسه وبصيرته. وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على أن التأثير كان تأثيرا روحيا، فصفاء الشيخ الروحي فتح أمام فتح الله الباب للولوج إلى مدارج الاتقاء.

اهتم عثمان بكتاش بالفتى فتح الله رغم مشاغله الكثيرة نظرا لما رآه فيه من سبق وتميز، وقابلية واسعة للتحصيل العلمي.

ومن الأكيد أن يكون لهذه النظرة الحانية والحليمة والعطوفة وما خلفته من أثر في فتح الله أثرها العميق في منهج الأستاذ فتح الله وقد صار مربيا. فقد كان الأستاذ حريصا -وهو يقوم بدور المربي- أن يعامل كل تلامذته ومن يقوم بتربيتهم بحب وصدق، واعتبار ذلك وسيلة من وسائل التأثير في المتربي. ولعل هذا هو ما جعل الأستاذ يقول وهو يتحدث عن عمق تقديره للشيخ محمد لطفي “رغم مرور السنين لا زلتُ أشعر بطزاجة لمسات الشيخ محمد لطفي الحانية على أذني، وهو يقول لي: “أليّن أذنيك لكي يتفتح ذكاؤك، وتقوى فراستك””.

2- الشيخ صدقي أفندي البزاز

كان هذا الشيخ بزازا يبيع الثوب ويتطوع في تلقين علم التجويد وقواعده، وكان مشهورا بين الناس بذلك، وبتلقينه بعض العلوم الشرعية. وكان لا يقبل أجرا على ما يلقنه من علم، وهو مسلك يباركه الله تبارك وتعالى، ولعل هذا هو الذي دفع “رامز أفندي” إلى إرسال فتح الله إلى قضاء “حصن قلعة” من أقاليم أرضروم، الذي يقع على بُعد سبع كيلومترات من قريتهم.

لم يكن بمقدور رامز أفندي أن يوفر لفتاه سوى ثمن الخبز، فعاش فتح الله وهو عند سعدي أفندي ظروفًا صعبة جعلت عُوده يزداد صلابة ويتقوى أكثر، ومع كل ذلك يزداد إصراره على طلب العلم.

يذكر فريد الأنصاري في “عودة الفرسان” أن الفتى فرح كثيرا لهذا الأمر وبأنه طار متلهفا بجناح الريح، لكن فرحته لم تكتمل لأنه “لم يجد مكانا للمبيت بمحضرة الشيخ، فاضطر للذهاب والإياب كل يوم ما بين قريتهم وقرية الشيخ، فيقطع ما بين الصباح والمساء أكثر من أربعة عشر كيلومترا، سيرا على الأقدام”، وهذا يعني بأن ما كان يمضيه فتح الله في الطريق من وقت بالإضافة إلى مشقة السير على الأقدام، كان أكثر من الوقت الذي يمضيه جالسا للتحصيل، فقرر الوالد إنهاء هذه المهمة غير المفيدة. لكن فتح الله جعل من هذا التوقف محطة لمعاودة الاتصال بالكتب يطالعها ويلتهمها التهاما، فلا مجال عند أمثاله للهو، بل هي مجرد محطة للاستعداد لما هو قادم.

3-  سعدي أفندي

بعد مدة تدخّل الإمام الألوارلي فاقترح على رامز أفندي أن يرسل الفتى إلى عند حفيده “سعدي أفندي” إمام مسجد “قُورْشُونلي” بمركز مدينة أرضروم. لم تكن الظروف مواتية لكي يكون تحصيله في ظروف جيدة، فالغرفة التي اتخذها الشيخ مكانا لإقامة ستة من تلامذته منهم فتح الله كانت صغيرة وغير مريحة بحيث تساعد طالب علم على تحصيله. يضاف إلى ذلك أن فارق السن بين فتح الله والشيخ لم يكن يتجاوز خمس سنوات. يقول فريد الأنصاري: “انطلق الفتى مرة أخرى إلى المدرسة الجديدة، فإذا به بين يدي إمام شاب لا يكاد يفوته سنا إلا بخمسة أعوام أو تزيد قليلا. كان سعدي أفندي متمكّنا من معارفه، إلا أنه كان عديم الخبرة في التلقين والتدريس…”.

يؤكد كولن بأنه مدين للشيخ لطفي بقسم كبير من مشاعره وأحاسيسه وبصيرته.

فرض الشيخ الشابُّ على فتح الله أن يبدأ كأنه لم يدرس شيئا من قبل، لكن الفتى فتح الله استظهر بين يديه كل المقررات بعد شهرين ونصف، “فاضطر الشيخ بعد ذلك أن يجعله ضمن حلقة المتقدمين الذين بدأوا دراسة النحو والصرف قبل سنتين”.

قُدِر على رامز أفندي رزقُه بعد أن غادر قريته “كروجك”، فلم يكن بمقدوره أن يوفر للفتى سوى ثمن الخبز، فعاش فتح الله وهو عند سعدي أفندي ظروفًا صعبة جعلت عُوده يزداد صلابة ويتقوى أكثر، ومع كل ذلك يزداد إصراره على طلب العلم، ويزداد إصراره على تلبية نداء داخلي يقول له “احْرصْ على بناء ذاتك بالعلم والمعرفة”. وقد قيل “لولا الفقراء لضاع العلم”. ومن يعلم فلعل الظروف الصعبة التي عاشها فتح الله كانت خير معين له على الصبر في طريق العلم والمعرفة.

أدرك رامز أفندي أن ساعة الرحيل عن القرية قد آذنت بعد وفاة الإمام الألوارلي محمد لطفي أفندي المساند، وكان الفتى فتح الله بعد قرار الرحيل يعيش على أمل بقاء الوالد إماما يؤم الناس، ربما لأنه كان يشعر بأن إمكانية تحصيل المعرفة سيكون ميسورا من جهة ما يوفره الوالد من مدخول يعينه على أن يظل على مسار العلم والتحصيل المعرفي. وقُدِّر لـ”رامز أفندي” أن يحصل على وظيفة إمام من قرية صغيرة قريبة من أرضروم وهي قرية “أَرْتُوزُو”. وبعد استقرار الوالد في هذه القرية استأذن فتح الله والده بأن يخرج إلى أرضروم طلبا للعلم، وهي مرحلة مهمّة في حياة الأستاذ لأنها تسجّل ما كان الباحث عن العلم الأصيل يعانيه من مصاعب وبؤس وفقر، ولكن الهدف أسمى وأعلى، وصدق المتنبي حين يقول:

إذا غامـرت في شرف مـروم

فلا تقنـع بما دون النجــوم

فطعم المـوت في أمر حقيـر

كطعـم الموت في أمـر عظيم

واستقربه المقام عند الشيخ عثمان بكتاش.

4-  عثمان بكتاش

كان هذا العالم متمكنا من علم النحو والصرف والبلاغة والفقه وأصوله، وغيرها من علوم الشريعة الأخرى، وقد مكنه ذلك من أن يصير أثيرا عند مفتي المدينة، إذ كان يستدعيه لاستشارته كلما عرضت له نازلة. اهتم عثمان بكتاش بالفتى فتح الله رغم مشاغله الكثيرة نظرا لما رآه فيه من سبق وتميز، وقابلية واسعة للتحصيل العلمي، فأخذ يدرّسه مقررات المستويات العليا، فتمكن في مدة وجيزة من علوم النحو والصرف والبلاغة والفقه وأصوله، فتفتحت قريحته وازدادت مداركه. الأمر الذي جعله يكلفه بتدريس المستويات الأولى ومراجعة الدروس مع المبتدئين. فتح ذلك المجال أمامه كي يحصل تجربة طيبة في التلقين والتعليم، وربما في إدراك مكان القوة أو الضعف في المنهج. ومما لا شك فيه كذلك أن ذلك قد ظل منقوشا في ذهنه وكان أثره واضحا في مشروعه الإصلاحي. يقول فريد الأنصاري عن تجربة فتح الله في التحصيل مع عثمان بَكْتَاش: “لعل الأستاذ عثمان هو الشيخ الوحيد الذي يمكن أن نقول -إلى حد ما- أن الطالب فتح الله قد تخرج على يده وبه، رغم قصر المدة التي لازمه فيها، فلو جمعنا كل ما درسه فتح الله على المشايخ بمدارس التعليم العتيق لما تعدى ذلك كله مدة سنتين، إلا أن الأشهر التي قضاها متتلمذا على شيخه عثمان بكتاش كانت كافية لانطلاقه في بحر العلوم فردا.. ففهمه لأسرار البلاغة وقواعد اللغة، وتلقينه لقواعد الفقه والأصول، فتح أمامه كنوز محفوظه القديم من المقررات العلمية التي استظهرها من قبل، فصار يعرف العلم بعد ذلك من قلبه وعقله، مغذيا ومتغذيا”.

كنت أتذوق كلام الشيخ محمد لطفي أفندي كمن يتذوق شهدا خالصا. كنت إذا تحدث أنصتُّ إليه وكأن على رأسي الطير.. فكلامه ينفذ سريعا إلى أعماقي، وكأنني بإزاء عالم عظيم الشأن.

هذا المسار الحافل الذي عاشه فتح الله خلال هذه المرحلة تؤكد كلها أنها أحداث جعلت عُوده أكثر صلابة، وجعلت رغبته في إدراك أساس الثروة المعرفية، التي ستمكّنه من بناء شخصيته المعرفية أكثر اتساعًا. لم يكن فتح الله ولا والده رامز أفندي ولا أي أحد من أفراد أسرته، ولا حتى المنصفون من شيوخه الذين رأوا فيه صورة شخصية واعدة وشخصية متميزة تشعل ذكاء وطموحا، ليشكّوا بأن فتح الله سيكون له شأو عظيم في المستقبل. ولكن ما كان أمام أحد بما في ذلك فتح الله نفسه أن يخمن النموذج الذي سيكون عليه في المستقبل، لكن الأمر الذي وقع حوله الاجتماع هو أنه سيحصل معرفة تحصنه أمام العواصف المزمجرة التي كانت تمر منها تركيا خلال هذه الفترة الكالحة من تاريخها.

تعتبر هذه المرحلة وما حصّله فيها فتح الله من معارف بما فيها حفظ القرآن الكريم بمثابة الأساس الذي يقوم عليه البناء قويا. لقد حصن الأستاذ فتح خلال هذه المرحلة نفسه بمقومات الأصالة والهوية الإسلامية، ولا شك في أن لهذه الأحداث الذي مر بها فتح الله كولن جوانب كانت عناية الله ترعاها، لأن ما قدر لفتح الله ما كان للتخطيط والبرمجة أن ترعاه.

إن رحلة طلب العلم في حياة الأستاذ فتح الله كولن مليئة بالمعاناة وحافلة بالأحداث ومليئة بالأخذ عن الشيوخ، دون أن تخلو من العصامية والتكوين الذاتي.

وكخلاصة عامة يمكن القول بأن فتح الله قد بدأ حياة علمية منذ الصبا، وهي حياة تمثل صدق المجتمع التركي في هذه المرحلة، وتمثل في الوقت نفسه أصالته ورغبته في المحافظة على الهوية الإسلامية.

فالهوية الإسلامية بالنسبة للأستاذ فتح الله وتشبعه بها وعمله على تطويرها والإخلاص لها، والاجتهاد في أن تكون خلاص الإنسانية من أزمتها في العصور الحديثة، تجد أصولها في هذه المرحلة.. ففيها وضع حب الإسلام وحب الشريعة وحب الرسول  وحب الصحابة الكرام وحب التاريخ الإسلامي وأمجاده، وحب قيم القرآن ومبادئه.

بعد هذه المرحلة ستبدأ المرحلة الثانية من حياة الأستاذ فتح الله، وهي مرحلة طويلة ومليئة بالأحداث والإنجازات، وهي كذلك المرحلة التي ستعرف صعود نجم الأستاذ فتح الله كولن، وستعرف انتباه الباحثين والمهتمين به، وخاصة في مجال علم الاجتماع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ141، 142، 143، 144، 145، 146، 147، 148.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

About The Author

أستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها سنة 1993م. حصل على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 2002م. عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية منذ سنة 1994م. عضو مؤسس لمنتدى الحوار الأدبي. مؤلف كتاب «أشواق النهضة والانبعاث قراءة في مشروع الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحي».

Related Posts