منهجية كولن في التدريس والتنوير التربوي في الداخل والخارج

شاع بأن الإسلام لا يرضى لأي مسلم أو مؤسسة ترك السياسة، وخاصة من كان ناشطًا في خدمة المجتمع من كلّ وجه، لذا صار أكثر من يؤيد النظريات الإسلامية مع الإسلام «السياسي»؛ أما العلمانية في سياسة الدولة فهي أيديولوجية حديثة نسبيًّا تفصل فصلًا واضحًا بين المسائل الدينية والشؤون الدنيوية، فتعزل سياسات الدولة عن المسائل الدينية، ويؤمن العلمانيون بأن هذا هو السبيل الوحيد للتنبؤ بسياسات الدولة ليتم تسيير الحكم بسلاسة؛ وذهب بعض العلماء والفلاسفة الإسلاميين أن العلمانية مرفوضة مطلقًا، ويرونها أيديولوجية معادية للإسلام، ويبذلون ما بوسعهم لتطبيق الشريعة في المشروع السياسي، بل يذهبون إلى أن القرآن والسنة اهتما بالسياسة والحكم أكثر من أية قضية أخرى.

وينتقد كولن من يحصرون الشريعة الإسلامية في نظام دولة قائم على أسس دينية كما ينتقد العلمانيين الذين يحاربون مبادئ الشريعة الإسلامية:

“إن هناك الكثير من الذين يعتقدون أن «الشريعة» منحصرة في وجود نظام دولة مبني على الأحكام الدينية، وهم يتخذون موقفًا معاديًا للشريعة دون النظر إلى معنى الشريعة ومحتواها، والحال أن كلمة «الشريعة» هي -بطريقة ما- مرادفة لكلمة «الدين»، فإنها تشير إلى حياة دينية مؤسسة على أوامر الله ، وأقوال النبي  وأفعاله، وإجماع الأمة الإسلامية؛ والأحكامُ المرتبطة بإدارة الدولة فيها 5% فقط، والـ95% الباقية تتعلق بالأمور الأخرى مثل أركان الإيمان والإسلام والمبادئ الأخلاقية”[1].

وتؤمن كثير من الجماعات في العالم الإسلامي بالأطروحة المتواترة حول الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي، وليس في العلماء من شكك في صحة هذا الموقف السياسي سوى عدد محدود حتى بعد زوال الخلافة العثمانية القوة التي كانت تمثل وحدة العالم الإسلامي؛ وما تزال الوحدة الرمزية للمسلمين في ظل الخلافة العثمانية ومساعي الحفاظ على الحكم الإسلامي الرشيد شعارًا عزيزًا لجماعات إسلامية كثيرة، بل إن الحكومة والشعب التركي الغارق في العلمانية حتى أذنيه لم يستطيعا تجاهل تلك الدعوة الراسخة لدى ملايين المسلمين في العالم، وقام العلماء الأتراك في هذا الجو العلماني بتغيير هيئتهم حتى لا يشبِّهوهم بعلماء العرب والفرس، واتخذوا مسارًا متفردًا للحفاظ على معتقداتهم وشعائرهم الدينية.

وشهدت إيران وتركيا بعد الحرب العالمية الثانية بعض التحول الليبرالي في سياسات العلمنة الصارمة، ولم يعد بمقدورهما الاستمرار في سياسات العداء العلني للإسلام إثر تراجع حدة السياسات الإلحادية للاتحاد السوفييتي في الداخل والخارج، وكان لتأويلات الشيعة للقوانين الإسلامية ولنظام مدارسهم الدينية التقليدية أثر في جعل كبار علمائهم «آيات الله» قوةً معارضة للحكومة كلما أثيرت مسألة تتعلق بالإسلام؛ أما تركيا فالوضع فيها مختلف، فالعلماء فقدوا منذ زمن قدرتهم على معارضة الحكومة العلمانية بأي شكل، لكن التنافس بين القوتين العظميين في ستينات القرن العشرين صعّب على الحكومة التركية مواجهة الإسلام الجماهيري بسلاح العلمانية الغربية أو الأوروبية التقليدية، فبدأ تأثير الاشتراكية الإلحادية السوفييتية ينمو بين الشباب التركي.

ولم يستطع التحوّل الليبرالي للعلمانية أن يحد من مشكلة العداء بين قوى معادية للإسلام وقوى تدعو الحكومة والشعب لتمثُّل المبادئ الدينية الراسخة لدى الجماهير؛ وما زال النظام التعليميّ العلماني يفشل في صناعة طبقة عاملة مثقفة راقية محترمة تسيِّر شؤون الحكم في بلد إسلامي بكفاءة وفعالية؛ فأصبحت النخبة الفاسدة المتعلمة في العالم الإسلامي عدوانية قمعية في تطبيقها لمخططات تناقض مصالح الشعب لترضي حلفاءها الأجانب؛ ووقفت النخبة التركية العلمانية المتعصبة التي تمثل الأقلية ضد ما يقوم به المتدينون من أنشطة بدعوى أنهم متخلفون رجعيون، بينما يتخذ كثيرون في النخبة التركية موقفًا متفردًا ليقولوا للشعب: إن الطبقة الحاكمة لا تعادي أية أفكار وأنشطة يقصد بها المصلحة العامّة.

بدأت هذه الظروف منذ سبعينات القرن العشرين، فظهرت في ظلها كثير من المدارس والمراكز التعليمية والجامعات التي تستلهم أفكار كولن لتلبية الاحتياجات التربوية للناس في الداخل والخارج؛ وقد صنّف «جيل إيرفين» المؤسسات التعليمية التي تتبنى أفكار كولن في ألمانيا على ثلاث مجموعات: مراكز التعليم، ومراكز الحوار بين الثقافات، والمدارس العليا الخاصة[2]. ومعلوم أن أولياء الأمور يحرصون على توفير تعليم جيد لأبنائهم، ونجد التعليم الحديث يترك التلاميذ غالبًا نهبًا للأنانية والتكبر والجشع، وهي ظاهرة شائعة في بلدان كثيرة.

ويستنكر المسلمون التعليم العلماني الغربي الخالي من القيم، ويلاحظ أن مدارس التعليم الديني في العالم الإسلامي أخفقت بصورة مخزية في خلق موارد بشرية قادرة على تسيير أي عمل حديث على المستويات القومية والإقليمية والدولية.

ونموذج كولن المثالي للنظام التعليمي يربي أجيالًا بأخلاق حميدة ومهارات وإمكانيات حديثة، فهو يركز على الجمع بين الأخلاق الحميدة والعلوم. نعم، الفكرة نفسها ليست بجديدة، والجديد أنَّ كولن حرَّرها من أشكال التحيز الأيديولوجي، إذ يرى أن هدف التعليم التعلُّم وتنمية الشخصية الحميدة الأخلاقية ذات الكفاءة في العلوم الحديثة لتنشئة أناس صالحين بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو الإثني؛ فرؤيته تركز على كيفية تحقيق هذا وفقًا لظروف كل بلد، وكيف يمكن إنجازه بالاعتماد على مجموعة من التربويين المخلصين ممن لا انتماء سياسي لهم قد يضر بالتلاميذ ولا يعود بأي نفع على المؤسسة التعليمية…

الهدف الرئيس للتعليم بَرَاء من أشكال التبعية الأيديولوجية، هذا ما ينبغي، ففي الستينات والسبعينات من القرن العشرين خشي معظم أولياء الأمور الأتراك من تأثير الماركسية والاشتراكية على أبنائهم، فأعجبوا بأفكار كولن؛ وخشي آخرون من تلقين الأفكار الدينية المتعصبة في مؤسسات كولن بجمعها بين الأخلاق الحميدة والمهارات الحديثة، لكنهم وجدوا أن كولن رجل حديث براء من أي أفكار متطرفة، والقيمُ الأخلاقية التي يهتمّ بها قيم عالمية.

“التعليم عند كولن هو الحل الدائم الوحيد لمشكلات المجتمع وحاجاته الإنسانية، والمعلمون ذوو القيم العالمية المحبذة لأولياء الأمور هم أُسّ النشاط المدني”[3]؛ صحيح أن هذه فكرة ليست جديدة على العالم الإسلامي، لكن الجديد هو تحقيقها كاملة في القطاع الخاص، لم تكن تركيا بلدًا شيوعيًّا لكنّ تعليمها كان مُؤَمّمًا تسيطر عليه الحكومة، ولم يكن تعليم المدارس الخاصة في تركيا في البداية يلائم طبيعة العصر ألبتة، وسادت نظرة دونية للتعليم المبني على أساس القيم بوصفه مرادفًا للتعليم الديني، فكان يخضع لضوابط صارمة في تركيا[4].

وثمة تشابه بين الممارسات الدستورية السوفييتية المعادية للإسلام والسياسة التركية حيث تستهدف سحب الاعتراف الدستوري بالإسلام: “طبقت العلمانية عبر سلسلة خطوات صارمة اتخذت لإخراج الإسلام من مجالي القانون والتعليم، وعن كونه الدين الرسمي للدولة”[5]؛ كانت الدولة العلمانية بمساعدة «مديرية الشؤون الدينية» التابعة للحكومة تسعى لتربية علماء «علمانيين» يطرحون باسمها كل أنواع التفسيرات الدينية للإسلام، وكان يفترض أن يكون كولن عالمًا «علمانيًّا» ليخدم الإسلام الرسمي الذي تتبناه الحكومة التركية.

وتعرض كولن لمضايقات كبيرة إثر خطبة له في بلدة «بورنوفا» عن «شريعة الفطرة»، لماذا هذه المضايقات علمًا بأن الأمر في العقود الأخيرة من العصر السوفييتي لم يكن ينذر بخطر لو تحدثت أن الإسلام دين الفطرة ما لم تطْرق باب السياسة والاقتصاد الإسلامي؟! «دين الفطرة» اسم من أسماء الإسلام، فكولن يعلِّم شريعة الفطرة بصفتها المبادئ المؤثرة في الفطرة أي قوانين الفطرة، فتناول في خطبته الكتابين السماويين: القرآن الكتاب المنزل، وكتاب الكون مظهر تجليات الإرادة والقدرة الإلهية في الكون، وترشدنا قراءة كتاب الكون إلى قوانين الطبيعة من فيزياء وكيمياء وأحياء ورياضيات؛ فالكتابان في رأيه وجهان لحقيقة واحدة، فهو يقول: نجاح المرء في الدارين رهن باتباع هذين الكتابين.

وقصور رجال المخابرات عن إدراك هذا المفهوم جعلهم يظنون أن كولن يدرس الشريعة على أنها مذهب سياسي، فظهرت مقالات صحفية تهاجمه بأوامر مخابراتيّة، ووضع من جديد تحت الرقابة العسكرية سنين بعد أن قضى ستة أشهر في السجن وحُكم ببراءته ولم يكن قد اقترف جريمة قطّ[6]؛ ومنذ انهيار الدولة العثمانية كانت كلمة شريعة ذات حساسيّة خاصة في تركيا، لكن تفسيرات كولن لشريعة الفطرة لم يكن فيها نزاع حقيقي، فهو يحث المسلمين الأتراك على أن يحاولوا إدراك قيمة المعنى الأعمق للإسلام ويتعالوا على الخلاف في سياسة الدولة وفي القضايا الجزئية المتعلقة بالإسلام أو بمشاعر المسلمين.

“خطاب كولن ليس خطابًا بليغًا فحسب، بل هو يشجع أتباعه عمليًّا على إدراك ما يؤمن به من مُثُل، ولما حظي كولن بين أتباعه بمكانة المفكر والمرشد المربي نظموا حياتهم وفق توجيهاته واجتهاداته وإن كان لا يعدّها اجتهادًا”[7].

لم يكن حديث كولن عن شريعة الفطرة قناعًا يخفي وراءه حديثًا عن «الإسلام السياسي»، بل ركّز على العلوم الطبيعية بوصفها جزءًا حيويًّا من المناهج المدرسية، غير أن الجمع بين العلوم الطبيعية والقيم الأخلاقية لا يمكنه أن يضمن وحده نظامًا تعليميًّا مزدهرًا، فلا بد من الخطوة الثانية في نظرية كولن التعليمية، “وهي الإيثار أو نزع الأنانية وغرس روح خدمة المجتمع في مجال التعليم”[8].

وأرَّقت كولن سمعة التعليم الخاص الربحية السيئة، فالتعليم عنده غذاء الروح والقلب في تنشئة الجيل الجديد، فجاءت مدارس حركة الخدمة لتثبت أنها لا تستهدف الربح ألبتة، واستلهم مئات الآلاف خاصة التربويين ورجال الأعمال فكرة إنشاء المدارس كهذه ذات قيمة عالمية وتربية تتفانى في تهذيب التلاميذ ليتغلبوا على الأنانية والاستهلاكية المطلقة سمة الحياة الحديثة.

والمحور الثالث لنظرية كولن التعليمية هو البعد الاجتماعي، فالمدارس ليست جزيرة منفصلة عن المجتمع، فلا بد من تطبيق التعليم المدرسي في الشؤون المجتمعية، وعلى المدارس تعبئة التربويين وأولياء الأمور والممولين لتدريب وتنمية التلاميذ من جميع النواحي، فهذا عقد ثلاثي تعاوني بين هذه الأطراف الثلاثة.

النقطة الأخيرة في نظرية كولن التعليمية هي المناخ العام للنظام التعليمي؛ كيف يمكن الوصول إلى أفضل بيئة من أجل الجميع: العاملين والتلاميذ وأولياء الأمور والممولين؟ فلا ينبغي أن يقع أي توتر بين القيم والحداثة أو العلم والدين في النظام المدرسي، وهي مهمة هائلة لا بد من إنجازها، وبخاصة في البلدان الإسلامية؛ إذ سرعان ما تواجه الأطراف المعنية في النظام التعليمي مشكلات جدية فيما ظاهره التناقض بين العلم والدين أو بين القيم والحداثة.

وجذور هذه الحركة التربوية ممتدة في الأناضول، ولها شعبية عالمية تدل على أن نموذج كولن التربوي يتمتع بقبول عالمي، فمن المآثر التي يثني عليها أولياء الأمور كثيرًا هو ما حققه من إنجازات في الرياضيات والعلوم وتركيزه على شخصية المعلمين الأخلاقية الأسوة وأثر ذلك على سلوكهم[9].

وليست هناك حركة مبنية على القيم الأخلاقية والروحية يمكنها أن تحقِّق مثل هذا الهدف بأن تُعِدّ معلمين لهم سلوك أخلاقي يحتذى به على الدوام، خاصة إذا كانوا منخرطين في الحياة السياسية حيث صراع القوى على سلطة الدولة؛ وما أصعب أن يتحلى الإنسان بسلوك يحتذى به وأن يصبح قدوة لكثير من التلاميذ، ولا بد أن تستمر هذه الرحلة مدى الحياة لكي يصبح الإنسان تربويًّا مخلصًا ومعلمًا مهنيًّا.

إن أفكار كولن ومنهجيته ليست جديدة في المفاهيم والمسلمات النظرية، فمثلًا أيام الاحتلال البريطاني كان هناك عدد كبير من علماء المسلمين في الهند[10] ينادون بهذا النوع من التعليم للمسلمين، وكان الخلاف حول تحقيق هذا الهدف: أيكون في ظل النظام البريطاني أو بمقاطعته تمامًا؛ لم تكن المسألة الجوهرية مدى قدرتنا على البقاء مع النظام البريطاني أو بدونه، بل كيف نلج بالقيم الأخلاقية في التعليم الحديث وكيف نربّي الشخصية أثناء تحصيل العلوم، فنحن بحاجة إلى تعليم خاص بنا نموله من مواردنا ويدعمه شعبنا.

ولما ازدادت شعبية مدارس حركة الخدمة في تركيا، تقدم كثير من التربويين ورجال الأعمال لإنشاء عدد كبير من المدارس الخاصة في تركيا؛ فغدا هذا النظام التعليمي المتفرد ظاهرة ناجحة في تركيا خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، ففي عقد التسعينات لم تعارض أي جماعة علمانية أو قومية ظاهرة التعليم المدرسي هذه التي أصبحت بالفعل قصة نجاح منذئذ، واكتسبت شعبيةً لدى الجيل التركي الجديد أيًّا كان انتماؤه الأيديولوجيّ.

نظرية كولن في التعليم المدرسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي:

قد يجد المرء آلاف القصص حول انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أن النظام التعليمي المعيب هو السبب الرئيس، فتفكك الاتحاد السوفييتي فجأة من الخارج، ولكن بصفتي باحثًا قام بدراساته العليا وأبحاثه هناك كنت أرى أنه ينهار من داخله بسبب نظامه التعليمي الذي ليس له أي هدف أو معنى، فالهدف من التعليم إيجاد بشر ملائمين للشيوعية المهزومة أمام الرأسمالية الغربية منذ ثمانينات القرن العشرين في اكتساب المعارف في العلم والتكنولوجيا وفي خلق موارد بشرية صالحة محصنة من الفساد ومخلصة لقضايا البشرية والكرامة الإنسانية، وأصبح الإلحاد والماركسية التي تتبناها الدولة السوفييتية فكرتين قديمتين في العقد الأخير من العصر السوفييتي.

واستطاع أهل الوعي من أولياء الأمور الأتراك أن يروا هذا الانهيار في النظام التعليمي السوفييتي، وأدركوا قيمة نظام التعليم المبني على أساس القيم فيما يسمى بـ«مدارس الخدمة»، فاستلهم الآلاف أفكار كولن لتوفير تعليم حديث متميز أخلاقيًّا بعيدٍ عن أي انتماء سياسي، فكانت فرصة لفتح مدارس من هذا النمط في عدد من الجمهوريات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ وحاولت البلدان المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى أن تبحث عن أجندة خفية لهذه المدارس، فعجز جهاز المخابرات السوفييتية نفسه عن ذلك، فهي قد نذرت نفسها للقضايا التربوية العالمية مع تهيئة ما يحتاجه كل طفل في شبابه من الأخلاق والرقي الإنساني، وسمحت دول الاتحاد السوفييتي سابقًا والاتحاد الروسي نفسه عدا أوزبكستان بأن تعمل مدارس الخدمة في أراضيها.

“من أكثر المظاهر البارزة اللافتة للنظر في الجمع بين الالتزام والتسامح معًا طبيعة حركة الخدمة نفسها، لقد أسست مئات المدارس في بلدان كثيرة لإيمانها بأهمية المعرفة والقدوة في بناء عالم أفضل؛ فهي لونٌ من خدمة الإنسانية هدفُها نشرُ العلم بأوسع معانيه دون دعاية صريحة للإسلام؛ ودراسة حركة الخدمة حدود تثبت أنها أعمق من هذا الاكتشاف بكثير، فتلك المدارس لبنة من حركة هائلة غير متبلورة فيها ما بين 200 ألف و4 ملايين إنسان في أنحاء العالم، ولديها مدى واسع من التنظيم، وأسس محبّو كولن مؤسسة للصحفيين والكتاب تجمع المفكرين الإسلاميين والعلمانيين معًا، وندوات لتشجيع حوار الأديان”[11].

يختلف من يستلهم أفكار كولن مع النشطاء السياسيين الذين يسعون لإحياء الخلافة الإسلامية، فكولن يؤيد الإحياء الحقيقي والفكري للشعوب الإسلامية لرفع مستوى البشرية كلها، أما أولئك فوقتهم لا يتسع للقضايا التي ينادي بها كولن، فهو لا ينغمس في أي صراعات دينية أو أيديولوجية مع أية جماعة، وينأى بنفسه عن السعي نحو تدين الدولة، ولا يتردد في انتقاد أمثلة معينة للإسلام الرسمي: “من المفترض أن إيران والسعودية لديهما نظام حكم إسلامي، ولكن هذا النظام تحدده الدولة ويقتصر على التوجه الطائفي”[12].

وهنا قد يتراءى لك أن كولن ناقد للإسلام السياسي في السعودية القائم على المذهب الحنبلي في صورته السلفية، وفي إيران القائم على التشيع والمذهب الجعفري، والحق أن كولن يرفض الخلط بين رؤيته الإسلامية والطائفية التي سبق أن كلفت الشعوب الإسلامية الكثير.

ولا يؤيد كولن أو مدارسه الدعاية لأي طائفة قديمة أو جديدة في بلاد الإسلام ألبتة، فالبشرية كلها عنده داخلة في دار السلام الإلهية، وعلى المسلمين أن يصونوا هذا السلام بأي ثمن، وهذا نهج صوفي سلمي ليست وراءه أيديولوجية سياسية:

“الإسلام هو دين، لا يمكن أن يسمى بأي اسم آخر، فعندما هزم الغرب المسلمين عسكريًّا وتكنولوجيًّا، كان المخرج هو تسييس الإسلام أو تحويله إلى نظام سياسي؛ وهذا كأنه شكل جديد للخوارج، أما الإسلام فهو دين يقوم على إقناع العقل وإمتاع القلب، فالإيمان والعبادة أولًا، والأخلاق ثمرة لهما”[13].

وفي مسألة تسييس الإسلام تجد المسلم الوسطي أو المعتدل يطلب منك ترك المغالاة في تسييس المبادئ الإسلامية، أما كولن فيطلب ترك تسييس الإسلام أصلًا، فهو حازم جدًّا في مجافاته لنظريات الإسلام السياسيّ، بل لا يراها ضروريّة على الإطلاق؛ لا خلاف أنّ دين الإسلام منظومة كاملة من القوانين، لكن كولن يحاول بوصفه لدين الإسلام بأنه دين الفطرة أن يعرف من حوله أن صعود الأنظمة وسقوطها إنما هو بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه غالب على أمره ولا غلبة لأحد عليه؛ وأكثر ما شهدنا من تسييس مبادئ الإسلام كان في فترة الاحتلال، التي خيمت بظلامها الدامس المطبق على الشعوب الإسلامية كلها أيًّا كانت هويتها الوطنية أو الإثنية أو الطائفية.

ولا يستطيع كثيرون في الغرب أن يدركوا أنه باستغلال الاحتلال للشعوب الإسلامية صار زعماء المسلمين يربطون بين فترة الحملات الصليبية[14] والاحتلال الحديث الذي ابتلع العالم الإسلامي كلَّه تقريبًا.

“تحدثنا عن الدور السلبي المضاد الهدام للاحتلال، ونضيف إلى هذا عوامل داخلية خاصة بممثلي المجتمع ممن تاهوا في خضم العملية المادية للإمبريالية؛ فوقعوا في حيرة حينما قامت البلدان الإمبريالية بتكديس الثروات في الغرب مستعينة بالتقدم العلمي والصناعي أو بالاحتلال ونهب موارد شعوب آسيا وإفريقيا، إذ اعتقد ممثلونا أن التطور الصناعي يلغي تلقائيًّا ما لدينا من قناعات وقوانين؛ فمثلًا بما أنهم وصلوا إلى القمر علينا أن ننحي جانبًا قوانيننا وشرائعنا الخاصة؛ ولكن ما علاقة هذا بذاك؟! ألم يروا بلدانًا لها نظم اجتماعية متعارضة ينافس بعضها بعضًا في التقدم العلمي والصناعي، وتتصارع على زعامة الكون؟ هب أنهم وصلوا المريخ أو طوفوا بالمجرة كلها فهل سيبلغون الرفعة الأخلاقية والعمق الروحي، ويتمكنون من حل مشكلاتهم الاجتماعية وبلوغ السعادة بدون المبادئ الدينية والأخلاقية؟! يريد المحتل إقناعنا بأن لا صلة للإسلام بالسلطة وأجهزتها، حتى وإن كانت فيه بعض القوانين لكن لا أحد يأخذ بها، فهو عامة مشرع لا أكثر، وواضح أن دعايات الاحتلال جزء من مخطط لإبعاد المسلمين عن الحياة السياسية وأصول الحكم، وهذا يتعارض مع ثوابتنا الدينية”[15].

ولك أن تعجب كيف تغلب كولن على تلك النبرات السياسية الخطيرة في الفكر الإسلامي وعلى الدعاية الغربية المعادية للإسلام معًا.

ويؤيد محبّو كولن وآخرون القول بأنه إثر سقوط الخلافة في بغداد تمّ تجميد مؤسسة الاجتهاد بوصفها الطريق الذي يجدد الأفكار الإسلامية ويسهل على الناس اتباعها ويمنحها طابعًا ملموسًا يستوعب القضايا الإسلامية.

ولا يُعنَى كولن كثيرًا في خطابه بمعرفة «مَنْ فَعَلَ» في مسائل الخلاف، وهذا هو موقفه في التدريس وطلب العلم الذي ينير الأرواح، فلا يرى أن ثمة قضايا أساسية تستوجب الخلاف بين المسلمين، فعلى المسلم أن يعكف على طلب العلم وعمل الصالحات ما استطاع.

ويستطيع المرء بحسب ظروفه وطاقته أن يجعل من أي تكليف دينيّ جزءًا أساسيًّا من تدينه، ويكون من العبث الجدال في ذلك مع الشخص المعنيّ أو السلطة المسؤولة، فبعض المسائل في الإسلام قد يكون مجاله أكبر أو أصغر في ضوء عسر الموقف ويسره وطاقات واتجاهات المعنيين به والقائمين عليه.

“والمسائل التي أمر الله تعالى بها ووردت فيها نصوص قرآنية صريحة مثل الحجاب مستثناة من مجال تفسيرنا وتحليلنا، فالحجاب فرض، غير أنه ينبغى ألا يُنسى أنه موضوع عملي وليس عقديًّا، ومؤكد أن المسائل العملية التطبيقية لا يمكن أن تتقدم القضايا الإيمانية ولا العبوديةَ لله تعالى بمعناها العام، أي إنه إن كانت القضايا الخاصة بالإيمان هي الأصول فغيرها الفروع، ولا سيما أن هذا الأمر نراه بوضوح وجلاء في أحاديث سيدنا رسول الله ، فقد أمرنا بالإيمان بالله تعالى أولا، ثم أبلغنا بالأحكام العملية (العبادات) كالصلاة والزكاة، أما قضية الحجاب والتستر فقد فرضت لاحقا، بعد حوالي 16-17 سنة من بعثة سيدنا رسول الله (السنة الخامسة من الهجرة).

ولذلك فإنه من الخطأ أسلوبا ومنهجا التنازع والتشاحن حول الفروع قبل استقرار الأصول (أي المسائل الإيمانية) بين الناس. لأن تقديم الفروع على الأصول يعني -في جانب منه- بخس الأصول حقها في الأهمية والعناية.

وقصدنا هنا ليس أن تتبرج النساء ويكشفن رؤوسهن ثم يتسترن بعد مدة معينة، وإنما أردنا أن نقول بضرورة وعي مكانة قضية الحجاب في الدين وعيًا جيّدًا وتقييم الأمر بناء على ذلك، أي ألا يُضَحَّى بالأصول في سبيل الفروع. فليس من الصحيح تقديم موضوع ما كقضية الحجاب -التي إن وضعت في الترتيب بين الأسس الإسلامية قد تأتي في الترتيب الرابع أو الخامس- على غيره من المواضيع، وجعله وسيلة للتشاحن والعراك، ومن ثم إهمال القضايا الإيمانية”[16].

يذكر كولن الناس بأن من لا يرتدين الحجاب لسْنَ خارجات عن الدين؛ لأنها قضية فرعية، فهو يرأب الصدع بين المسلمين، لكنه لا يلمح ولو حتى ضمنيًّا إلى أن تخلع المسلمات حجابهن، فهو بهذا يراعي الأصول والفروع، ويفترض نظريًّا على الأقل أن يكون تذكير الناس بهذا المبدأ سهلًا وفقًا للقواعد في القرآن والسنة، ولكن تاريخيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا لم نجد زعيمًا دينيًّا مشهورًا سبق كولن إلى مثل هذا الرأي المتميز في تأييده استمرار تعليم من لا يسمح لهن بارتداء الحجاب في المدارس.

إنه مفكر ثوريّ يرفع الحواجز التي تحول دون بلوغ الهدف الجوهري وهو تعليم البشر جميعًا بأي ثمن. نعم، إن آراء علماء الهنود المحافظين في قضية الحجاب تسببت في شيوع الأمية بين المسلمات في شبه القارة الهندية كلها؛ وكان لهذا أثر سلبي على التنمية الاقتصادية والسياسية الاجتماعية في هذه المنطقة[17].

ولطالما تحدثت قوى الاحتلال والاستغلال في العالم الإسلامي عن تعليم المرأة، وتمكينها في البلدان الإسلامية، غير أن سياساتها لا أثر لها من حيث الوقت والموارد المستخدمة، أما مدارس حركة الخدمة في تركيا وخارجها فقد حققت -بأي مقياس أردْتَ- إنجازًا رائعًا بشهادة الجميع؛ ورغم الوضع المشاكس والموقف البائس في كثير من البلدان الاشتراكية والعالم الثالث حققت مدارس تركية تستلهم أفكار كولن في الإيثار أهدافًا جديرة بالثناء في نشر العلم وتعليم العلوم الطبيعية والاجتماعية.

كثيرًا ما تسمع في الغرب أن المدارس الدينية حاضن رئيس لتنشئة الأصوليين، عشاق سفك الدم الغربي خاصة اليهود والنصارى، وكأن قتل هؤلاء سيمكنهم من القضاء على الحضارة الغربية قاطبة وإحلال الحضارة الإسلامية محلها! وهذا في النهاية هو صلب نظرية صراع الحضارات التي يروّج لها الإعلام الغربي المعادي للإسلام في العالم الإسلامي[18].

يُعد مفهوم التعليم المدرسي الحديث «اختراعًا» من المحتل الأوروبي، الذي هيمن على العالم الإسلامي كله سنين، وقسم التعليم على أساس الدين والعلمانية، وكان لهذا الخط الفاصل في طلب العلم آثار كارثية على التنمية الاقتصادية الاجتماعية في العالم الإسلامي[19].

أمّا الرؤية العالمية الإسلامية فلا تجيز تقسيم العلم إلى مقدس وعلمانيّ، ولا تفصل التعليم القائم على النصوص الدينية وتفسيراتها عن فروع المعرفة الأخرى والعلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد؛ وتعدّ الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية أساسًا للشؤون السياسية لأية حكومة، فلم يجرؤ حكام المسلمين على تقسيم التعليم وفقًا للمبادئ والقيم الاقتصادية وغير الاقتصادية.

ووجد كولن في مادتين من الدستور تنصان على علمانية البلاد وقوميتها أمرًا واقعًا، رأى في التعليم المكان الصحيح الذي يمكن فيه للمسلمين الأتراك أيًّا كان انتماؤهم أن يسهموا في إنشاء «جيلٍ ذهبيّ» يكرس نفسه لقضايا الأمة والعالم، وتنص ديباجة الدستور التركي على ما يلي:

“لا تجوز حماية الأفكار أو الآراء التي تعارض المصالح الوطنية التركية، أو مبدأ وحدة تركيا دولة وأرضًا، أو القيم التاريخية والأخلاقية التركية، أو القومية والمبادئ والإصلاحات والحداثة التي وضعها أتاتورك، ومبدأ العلمانية يحظر إقحام المشاعر الدينية المقدسة أيًّا كانت في شؤون الدولة والسياسة”.

في ظل نظام دستوري كهذا يعجب المرء كيف تمكن كولن من مواصلة أعماله القائمة على الدين، فهو لم يدخل في خلاف مع المسلّمات الأيديولوجية الدستورية في ظلِّ العلمانية أو القومية أو الأتاتوركية، بل جعل اهتمامه ينصب على التزكية الروحية والتنوير التربوي للتغلب على المشكلات، ويعد كولن بوصفه داعية إسلاميًّا في تركيا العلمانية قصة نجاح رائعة لجميع المعنيين بتحويل الأمة التركية إلى قوة ديناميكية مستقلة في العالم؛ ومن الاحتياجات الأساسية لأي مجتمع أو دولة تغذية الروح الإنسانية، ومن نتائج هذا صون مصالح الدولة والأمة والإنسانية، ولتحقيق هذا الهدف الحيويّ لا بد أن يوجَّه النظام التعليمي والمدرسي نحو تنمية الخصال الحميدة في قلوب الناس وعقولهم منذ النشأة حتى تُخمد نوازع الشر في الغريزة الإنسانية، وتتسع مساحة النفس الخيرة لنفع الآخرين أيضًا؛ ولتحقيق هذا الهدف الرئيس من أجل المجتمع كله؛ تبنت كثير من الشعوب والأيديولوجيات كثيرًا من التعاليم لتجسيدها في التعليم المدرسي، ولإعداد موارد بشرية أفضل، ومن المعلوم أن الصفات المكتسبة في المدرسة خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة تستثمر جيدًا في المراحل الأخيرة من الحياة خاصَّةً خلال حياتهم المهنية.

وسعى فلاسفة أمثال أفلاطون وكارل ماركس وغيرهما إلى حرمان النخب الحاكمة من كل أشكال الملكية والحياة الخاصة لئلا يستغلوا سلطة الدولة وثرواتها وعلاقاتهم الشخصية لمصلحتهم، وهذا ما لا تقره أية تعاليم إسلامية، لكنّ استغلال حقّ الملكيّة وصلات القربى بلغت نسبًا بالغة الخطورة في بلدان كثيرة، فما عاد لأي نظام قانونيّ أو لسيادة القانون أثر مفيد في حياة العامّة تقريبًا.

وفي ظروف كهذه يعمل كولن على تحسين المجتمع دون صدامٍ مع أيِّ نظام قائم، مراعيًا تضاريس الواقع والسياق العامّ، فمعرفته بالنظام القانوني والسياسي القائم تتيح له أن يعبِّر عن رؤيته في التغيير من أجل المجتمع كلِّه تعبيرًا يجعل أي عقل موضوعي يرى نقده لمجتمعه نقدًا بناءً.

“والضرورة تحكم بتواجد أهل الخبرة والاختصاص في المواضيع العلمية والفنية والهندسية المتعددة التي هي من مصالح المسلمين، زيادة على توافر المعاني والروح والعلوم الإسلامية، في الكبار المقدمين من أهـل الحل والعقد، وخصوصا في أيامنا، لتشابك الحياة وتحول كل مشكلة إلى مشكلة عالمية.

…ومهما تغيرت أشكال إجراء الشورى حسب الزمان والمكان والأحوال، فإن اتصاف الكبار المقدمين بالعلم والعدالة والدراية والنظر والخبرة والحكمة والفراسة ثابت لا يتغير، العدالة هي أداء الفرائض واتقاء المحرمات وتجنب ما يناقض القيم الإنسانية، والعلم هو الدرايـة والخبرة في الديـن والإدارة والسياسة والفن”[20].

ومعظم أنصار المفاهيم الإسلامية في عصرنا إما يسيؤون فهم أثر عملية العولمة في العالم الإسلامي أو يقللون من شأنها، وكثير من البلدان الإسلامية لم تستفد من العلوم والتكنولوجيا المتقدمة لجني فوائد العولمة، بل باتت تعاني عواقبها الوخيمة، وأولى بنا أن نعد تلك الظاهرة أمارة فشل عند المسلمين، فما يحتاجون فعله اليوم هو أن يبادروا لإصلاح مشكلاتهم الداخلية بأسرع ما يمكن، وأن يروا ضرورة الإسهام في النظم العالمية بكل السبل الإيجابية لجعل عالمنا عالمًا أفضل؛ لنحيا وننخرط في الأنشطة البناءة، وتجدر الإشارة هنا إلى تحليل «جيل كارول»:

“ولا توجد في نظر كولن طريقة أخرى لتنظيم المجتمع تستحق أن تسمى «إنسانية» وبالتأكيد لا توجد طريقة أخرى يمكن أن تسمى «إسلامية»، فالبشر يمتلكون بداخلهم الملكات اللازمة لتحقيق الكمال كبشر، ومن يستوعبون هذا الكمال ويحققونه في أنفسهم يجب أن يؤثروا في المجتمع، كحكام أو كمستشارين أو كزعماء للمجتمع على مستوى القاعدة، ولكي يحدث أيٌّ من هذا يجب تعليم الناس وتربيتهم بطريقة سليمة وهادفة. وتُعتبر مدارسُ حركة كولن العابرة للحدود مبادراتٍ معاصرةً في هذا الاتجاه، وهي تسعى لتعليم الشباب من جميع قطاعات المجتمع ليصبحوا أناسًا على مستوى عالٍ من التأهيل والفضيلة يؤثّرون -كرجالِ كونفوشيوس المتفوقين- في كل ما حولهم ومن حولهم بقوة ما لديهم من المعرفة والخير والجمال (أي الـ«تي»)”[21].

ويرِدُ على الذهن سؤالٌ جوهريٌّ عمّا يجعل الإنسان إنسانيًّا: هل يمكن لمن يؤمن بالمذهب الجبري أن يصبح مؤمنًا بالمذهب الإنسانيّ؟ إنه من الواضح أنّ القسر أو الإكراه لا علاقة له بالإسلام السياسيّ بوصفه أيديولوجيا أو رؤية عالميّة لكن كثيرًا من تفسيرات النصوص العقدية التي قدّمها علماء مسلمون وغيرهم تُوهِم أنَّ الإسلام شرع طريقة حياة جبرية شديدة، وتَرَكَ تخلُّفُنا في العلوم والتكنولوجيا وظهورُ أثره في الحياة المادِّيّة عقدةَ نقصٍ رهيبةً في قلوب ملايين المسلمين وعقولهم.

وخلافًا للأغلبية في الغرب فالمسلمون ما زالوا يميلون إلى الاعتقاد بوجود عناصر رئيسة تنتهك حقوق الفقراء والبسطاء، ففي بلدان كثيرة يعيش نصفُ السكان تحت خطِّ الفقر، واستمر هذا قرونًا لصالح الطبقة الغنية في الغرب، وكذا في العالم الثالث والبلدان الإسلامية.

وكولن في منتهى الحذر عندما يطرح المعضلة العالمية حول تخفيف تضارب المصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين الشعوب، ولا يلقي باللوم في معاناة المسلمين المآسيَ والشقاءَ على أيِّ أحدٍ إجمالًا، بل يحاول عرض تلك المشكلات عرضًا موضوعيًّا بالسعي لإيجاد علاج محلي ودولي دون استثارة الكراهية تجاه أي شخص أو دين.

“نحن نحسب أنفسنا في السبيل، قاصدي عالم مضيء كهذا، ومنذ سنوات طويلة، ومن دون تكهنات البحث عن أمارات الفجر حولنـا، ومن غير الانشغال بالأبحاث السحرية لأسرار دنيا الرياضيات، نقوم بتقييم كل شيء تشير بوصلة أرواحنا إلى صحتها وسلامتها حسب إرشاد الثوابت الإلهية، فنَجِدّ في استكشاف المشيئة الإلهية ونقاط التقائنا بما تعدنا به تلك المشيئة، وذلك بإرادتنا التي هي أعظم وسيلة تعلقٍ بمشيئة الحق، ثم نتقدم سعيًا في هذا السبيل كأبطال راهنوا بحياتهم ووجودهم كله وذلك من أجل إحياء نمط حياتنا المبارك”[22].

ولم يكن الغرب يجهل حقيقة الألوهية، ولكن وا أسفاه فعقليّته عادتْ طويلًا روحانياتٍ تنادي بالإيثار والفدائية، وبهذا الموقف -غير المكترث بالآخرين- انكشفت سوءته للعالم كلّه، ولا يمكننا أن نلوم الغرب
أو المحتلين الجدد إلى الأبد على ما نعانيه من شقاء وبؤس، فنحن أيضًا نستحق اللوم على مآسٍ كثيرة خلفناها لشعوبنا وأهلنا، فتركيا مثلًا بلد غنيّ بالثروات، ولا مسوِّغ لاستخذاء الاقتصاد التركي للدخلاء أو لنخبة صغيرة فاسدة من داخله[23]؛ والفساد في تركيا ليس بذاك القدر مقارنة ببلدان إسلامية كثيرة، ولكن إنفاقها العسكريّ في عضويتها بحلف الناتو وغيره محل تساؤل لأطراف كثيرة، وفَقَدَ الناتو كثيرًا من أهميته العسكرية، وغدَتْ للاتِّحاد الأوروبيّ أشكال من الأهمية في الاقتصاد والسياسة وتنمية الموارد البشرية في تركيا؛ ويستبعد أن تُقبَل عضويّة تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبيّ قريبًا، وعضويتها في الناتو ستظل خاضعة لأشكال من الفحص والدراسة من الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء.

“يجب أن نعتمد على أنفسنا وعلى قدراتنا نحن بغض النظر عما إذا كنا نعتقد أن تلك القدرات قد جاءتنا من الله -كما يعتقد كولن- أو لا -مثل سارتر- وأن نرفض أن ننتظر من أي شيء أو أي أحد غيرنا أن يقوم بعملنا بدلًا منا، فإلقاء مسؤوليتنا على عاتق الآخرين يعني الحياة «بسوء نية» على حد تعبير سارتر، الذي يتشابه -بشكل مثير للدهشة- مع تقويم كولن لمن لديهم إيمان ولكنهم يرفضون المسؤولية، بأنهم يعيشون «بسوء نية»”[24].

وغالب المشكلات في حياتنا الفردية والجمعية في رأي كولن سببها نظرتنا الأنانية للحياة، ويمكن للتعليم المبني على أساس القيم أن يعالج كثيرًا منها؛ وهو لا يتطلب نوعًا خاصًّا من التلقين المذهبي لأية أيديولوجية أو نظام سياسيّ قد يكون ناقصًا وغير ملائم لا يتفق مع روح العصر، فالتلقين المذهبي للتوجهات الاشتراكية أو الرأسمالية أو الدينية قد يكون خطرًا على حياة الفرد والمجتمع بل الدولة أيضًا؛ وصورة التلقين هذه لا يأذن بها الإسلام، وإنما للمسلمين أن يختاروا من المذاهب الفقهية ما شاؤوا، أما فرض طريقة تفكير ثابتة في علاج المشكلات الدنيوية فقد يؤدي إلى إفراز صعوبات لا لزوم لها، وهذا نقيض المبدأ القرآني القائل ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/286)، ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/185)؛ ويبدو أن نجاح كولن في تنوير أناس استلهموا أفكاره أخلاقيًّا وتربويًّا قد صار حقيقة واقعة بتطبيق هذه القاعدة الذهبية المستمدة من جوهر دين الفطرة، يقول كولن:

“إن بعض الناس ينظر إلى الإسلام بوصفه أيديولوجيا سياسية، إذ كان أكبر قوة محركة في حروب الاستقلال التي خاضها المسلمون، فصار يعد أيديولوجيا للاستقلال، والأيديولوجية تميل إلى الفصل، أمّا الدين فهو -فضلًا عن الإيمان والرضا وسكينة القلب ويقظة الضمير- تنوير العقل للإدراك عن طريق الخبرة العملية، فالدين بطبيعته يتعمّق في الفضائل الأساسية كالإيمان والمحبة والرحمة والشفقة، فاختزالُ الدّين في أيديولوجيا سياسيّة صارمة وأيديولوجية استقلال جماهيرية نتجت عنه حواجزُ بين الإسلام والغرب وسوءُ فهمٍ للإسلام”[25].

كثيرٌ من المبادئ الإسلامية لها تأويلات سياسية متنوعة، ولكن هذا لا يختزل الإسلام في أيديولوجيا سياسية، فالركن الأساس في منظومة العقائد الإسلامية والأعمال القائمة عليها هو توجه البشر نحو الروحانيات، وتكريس أنفسهم لقضايا الإنسانية والسلام وتعظيم الله وتبجيله.

 

[1]  السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف أ.د. زكي ساري توبراك، ص 124، دار النيل – 2014م.

[2]  Jill Irvine, «The Gülen Movement and Turkish Integration in Germany,» Muslim Citizens of the Globalized World. Robert A. Hunt and Yuksel A. Aslandogan (eds.), New Jersey: The Light, 2007, p. 64.

[3] Yuksel A. Aslandogan and Muhammed Cetin, «Gülen›s Educational Paradigm in Thought and Practice,» Muslim Citizens of the Globalized World. Robert A. Hunt and Yuksel A. Aslandogan (eds.), New Jersey: The Light, 2007, pp. 34–35.                                                                                                                                                     

[4]  الضوابط الصارمة المفروضة على التعليم الديني في تركيا تشبه إدارة التعليم الديني في الجمهوريات السوفييتية وسط آسيا أيام الحكم الشيوعي، وينص الدستور التركي على أن «إدارة التعليم والتدريس الديني والأخلاقي تحت إشراف الدولة وسيطرتها» (المادة 24/4).

[5]  Ihsan Yilmaz, «State, Law, Civil Society and Islam in Contemporary Turkey,» The Muslim World, Hartford, Vol. 95, Number 3, July 2005.

[6]  في 12 مارس/آذار 1971م، ألقي القبض على فتح الله كولن للاشتباه بأن له علاقة ما بأعمال تخريبية ضدّ الحكومة، ثم تبين بعد ستة أشهر أنه بريء، فأطلق سراحه بحكم محكمة، وأعيد لوظيفته الرسمية واعظًا عصريًّا يدعو الناس إلى الإسلام وروحانياته.

[7]  Ihsan Yilmaz, «State, Law, Civil Society and Islam in contemporary Turkey,» The Muslim World, Hartford, Vol. 95, Number 3, July 2005, p. 399.

[8]  Yuksel A. Aslandogan and Muhammed Cetin, «Gülen›s Educational Paradigm in Thought and Practice,» Muslim Citizens of the Globalized World, Robert A. Hunt and Yuksel A. Aslandogan (eds.), New Jersey: The Light, 2007, p. 35.

[9]  Yuksel A. Aslandogan and Muhammed Cetin, Ibid.

[10]  أسماء سير سيد أحمد ومولانا أبو الكلام أزاد وإخوان علي نماذجُ يسيرة لقائمة طويلة ممن اختاروا نهج التوفيق بين التعليم الديني والتعليم الحديث.

[11]  Lester R. Kurtz, «Gülen›s Paradox: Combining Commitment and Tolerance,» The Muslim World, Hartford, Vol. 95, Number 3, July 2005, pp. 380–381.

[12]  Gülen, Advocate of Dialogue, compiled by Ali Unal and Alphonse Williams. Virginia: The Fountain, 2000, p.151.

[13]  Ibid.

[14]  «بدأت أولى الحملات الصليبية زحفها نحو الشرق سنة 1096م، وفي سنة 1098م استولت على المدينتين الكبيرتين إذيسا وأنطاكية وكثير من الحصون، وفي سنة 1099م سيطر المسيحيون على القدس؛ وخلال السنوات القليلة اللاحقة 1110م وقع الجزء الأكبر من فلسطين وساحل سوريا وطرطوشة وعكا وطرابلس وصيدا في أيدي الصليبيين، واكتملت سيطرتهم بغزو صور سنة 1124م، وكان هذا التوقيت مناسبًا لنجاح الغزو الأوروبي للمنطقة، فالجيل السابق كان السلاجقة فيه قوة لا تهزَم، والجيل اللاحق كان فيه نور الدين الزنكي الذي ثبت أقدامه على عروش سورية، فلو غزاه أحد لرمى به في البحر، وحالف المبشرين في الحملة الصليبية الأولى الحظ في استغلال فرصة لم يكونوا يدركون مدى أهميتها، فاختار بطرس الناسك وأوربانوس الثاني اللحظة المواتية بذكاء ودقة كما لو كانا قد أجريا دراسة متعمقة للأوضاع السياسية في آسيا، واخترقت الحملة الصليبية الأراضي العربية كوتدٍ دُق بين الخشب القديم والحديث، وبدا أنها ستفتت جسم الإمبراطورية الإسلامية أجزاء متناثرة» (Stanley Lane-Poole, History of Egypt in the Middle Ages, 1968:163–164).

[15]  Imam Khomeini, Prablenie Fakixa: Islamskoe Problenie, Tehran: Institute of Learning and Publication of the Works of Imam Khomeini, 2003, pp. 29-30.

[16]  حوار صحفي مع فتح الله كولن أجراه أَرْطُغْرُلْ أُوزْكوكْ: صحيفة حُرِّيَّت، 27 يناير، 1995م.

[17]  ما زال 40% من المسلمين في شبه القارة الهندية يحتفظون بتراث إسلامي وثقافة إسلامية غاية في الثراء.

[18]  See Conn Hallinan, «Politics By Other Means: Religion and Foreign Policy,» Counterpunch, Issue 2, October, 2007, http://www.counterpunch.org/hallinan10022007.html.

[19]  في العالم العربي الغني بالنفط ما زال واحد من كل خمسة من العرب يعيش بأقل من دولارين في اليوم، وهذه ليست ظاهرة منفصلة، فعلى مدار السنوات العشرين الماضية كان النمو في دخل الفرد -الذي يبلغ معدله 0.5% سنويًّا- أقل من أي منطقة أخرى في العالم عدا القارة السوداء؛ ورغم الكلام الكثير عن النمو الاقتصادي والتنمية في باكستان ما زال 40% من الأراضي في أيدي 23 أسرة؛ ولم تعد هذه الظاهرة قاصرة على المسلمين وحدهم، بل أصبحت كارثة اقتصادية مستفحلة على نطاق خطير في الكرة الأرضية التي يعيش فيها 1.3 مليار نسمة على أقل من دولار واحد في اليوم، ويعيش 3 مليارات آخرين على أقل من دولارين في اليوم، ومن بينهم 1.3 مليار لا يتوافر لهم الماء النظيف، و3 مليارات ليس لديهم صرف صحي، وملياران محرومون من الكهرباء، ونجد أن بضعة آلاف من البليونيرات يسيطرون على اقتصاد العالم ويفرضون على معظم الحكومات أن تدمر النظام البيئي والإيكولوجي بأكمله في العالم أجمع من أجل مصالحهم ومكاسبهم المالية. انظر: http://www.economist.com/displaystory.cfm?story-id=121339222

[20]   فتح الله كولن: ونحن نقيم صرح الروح، ص 54.

[21]  د. جيل كارول:  محاورات حضارية، ص 130، دار النيل – 2011م.

[22]  فتح الله كولن: ونحن نقيم صرح الروح، ص 134-135.

[23]  يعيش حوالي 20% من سكان تركيا الذين يتجاوز عددهم 70 مليون نسمة في فقر رغم أنها من أكبر دول العالم في الإنتاج الزراعي، فمنذ مارس/آذار 2007م صارت تركيا أكبر منتج في العالم للبندق والتين والمشمش والتوت والسفرجل والرمان، وثاني أكبر منتج للبطيخ والخيار والحمص، وثالث أكبر منتج للطماطم والباذنجان الرومي والفلفل الأخضر والعدس، ورابع أكبر منتج للبصل والزيتون، وخامس أكبر منتج للبنجر، وسادس أكبر منتج للتبغ والشاي والتفاح، وسابع أكبر منتج للقطن والشعير، وثامن أكبر منتج للوز، وتاسع أكبر منتج للقمح والجاودار والجريب فروت، وعاشر أكبر منتج لليمون. انظر: http://ntvmsnbc.com/news/403824.asp

[24]  د. جيل كارول:  محاورات حضارية، ص 163، دار النيل – 2011م.

[25]  Gülen, Advocate of Dialogue, p. 244.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.