مما لا شكّ فيه أنه لا استحقاقات في الحياة لأمة فرطت في رصيدها القيمي، وهدرت مخزونها من العزة، وباتت عاطلة، مشوهة، سادرة في الخمول، توطّنت فيها المهانة، بحيث لا تستجيب لتقلبات الزمن إلا بما يزيد من وهنها، “لا يتصور أن يتحقق نجاح عظيم أو الحفاظ على نجاح قد تحقق على يد أناس فقراء في قيمهم الإنسانية وضعفاء في شخصياتهم”.

لا يتصور أن يتحقق نجاح عظيم أو الحفاظ على نجاح قد تحقق على يد أناس فقراء في قيمهم الإنسانية وضعفاء في شخصياتهم.

وإن أساس النهضة وعمارة الأرض يتم بتفعيل الإنسان، وترميم شروخ روحيته، وإعادة صياغته نوعياً، على ذات الطراز النوعي الذي أرست معاييره البعثة النبوية، وجسّدت نفاذيته منجزات الصحابة ومَن لحق بهم من أجيال القرون الذهبية الأولى.

عُدّة النهضة في رؤية كولن

إن عُدّة النهضة في رؤية “كولن” وقوامها يتشكل من النخب والطلائع العاملة في ميدان الدعوة. وإن دورهم في بث ثقافة التنوير والانبعاث لحاسمة. من هنا طفق يشدد على خصوصية المثال المتكامل من السموّ الروحي والمعنوي الذي ينبغي أن يكونوا عليه، حتى يتأهّلوا للمهام الإحيائية التي يضطلعون بها.

يدرك “كولن” أن الأيديولوجية السياسوية إيمان عرضي لا يدوم ولا يَسلم من الانتكاسات لدى العثرات أو الصدمات والخيبات.

إنه يطمح إلى أن يكون الصفوة من الساعين على طراز أصيل من المتانة الروحية ومن التبتّل والخلوص القلبي. إن أعظم خَدَمَةِ الحياة هم مَن طلّقوها، وعملوا فيها لا لأنفسهم، وإنما وُكلاء عن الحق، مالك الملك سبحانه وتعالي، وبذلك نالوا السلطنة، وتوجتهم الجماهير ملوكاً أبَديّين، وكلّلتهم سجلات التاريخ، بالقار والمجادة.

إن الجهوزية المثمرة القادرة على تجاوز الأمة وضع السقوط المزمن الذي تعيشه، لا تتم إلا بالتسلح بالعلم والأخلاق المتوجة بالتزكية واكتساب حس الآخرة.

لقد بنى “كولن” تصوره للنهضة على تشكيل صفوة طليعية تستوفي شروط التكوين، من خلال اتصافها بالفتوة، وبالعلمية وبالاحتسابية. فالقاطرة التي تجر العربات هم النخبة التي تلقّت تكوينا عميقا في العلم الشرعي على يد الداعية، وتزوّدت بالاستنارة المعرفية العصرية، وتدرّبت على التمرس على التريض القلبي الذي يجعلها تستعذب الأداء وتستذيق ذاتيا مراءة البذل والتضحية. إذ ليس كمثل الدافع القلبي ضامنا لاسترسال الجهد والمواظبة على البناء وتقديم الخدمة.

كولن والأيدلوجيات السياسوية

يدرك “كولن” أن الأيديولوجية السياسوية إيمان عرضي لا يدوم ولا يَسلم من الانتكاسات لدى العثرات أو الصدمات والخيبات؛ فالأيديولوجية نار هشيم لا تتجدد ولا تبقى.. لذا يعول على استزراع القيم الروحية في وجدان الطليعة المتنورة، وحقن مفردات الروحانية في قلوب العاملين، وإن كتاباته في ذلك الاتجاه هي داعم تربويّ وبيداغوجي يندرج ضمن الرؤية التكوينية والترشيدية (الرسكلة) التي يراها لازبة، ولازمة، لإدامة عامل الاشتحان والحيوية والمضاء.

يعول “كولن” على استزراع القيم الروحية في وجدان الطليعة المتنورة، وحقن مفردات الروحانية في قلوب العاملين.

ولا غرابة والحال هذه، أنْ نراه يؤكّد أن صفة “العالم” لا يحوزها بجدارة واستحقاق إلا عالم الشرع، ذلك لأن “كولن” يدرك أهمّية الدين في تجهيز الفيالق، وفي إدارة المعركة، وحسم جولاتها، لذا تترجح عنده الأهلية الشرعية على ما سواها؛ فالعالم القمين بهذه الصفة، هو عالم الشريعة والدين، ولا ريب أن هذه النظرة هي التي سادت قديما عند المسلمين، فالعلم الحق كان يعني عندهم الفقه وثقافة الفتوى، ولئن بدا لنا اليوم ضيق وانحسار هذه الرؤية، فلأنها لم تراع التوازن في منظومة المعارف، الأمر الذي ترتب عنه التفريط في علوم الدنيا، والاستخفاف بعلوم المدَنية، وهو ما أودى بالحضارة الإسلامية، ذلك لأن الاعتداد بعلم الشرع وحده، جعل يتراخى باطراد هو أيضا، لأن الرثاثة التي سرت في المدنية بانبخاس المعارف، انتهت إلى المعرفة الشرعية، ونالت منها، فأضحت تتراجع وصارت نظميات ومختزلات، وضمرت روحية الأمة بجفاف معينها العاطفي والأخلاقي والقيَمي، وتعمّقت هوة الانفصال بين الإسلام والمسلمين، وبذلك حصل الخسران.

——————————-

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ104-106.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.